الفصل الأول

المعيار التقليدي: المنهج الاستقرائي

(١) الاستقراء معيار تمييز العلم

(١) تطبيق المنهج الاستقرائي في العلوم التجريبية، ومراعاة قواعده مراعاة دقيقة، يعتمد بوصفه الفيصل الحاسم بين العلم واللاعلم، ويعتبر ذلك من المسلَّمات التي تعلو فوق النقاش.

فانظر إلى هذه المقتبسات:
  • تعريف العلم على أساس منهجه، أمر يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب فسأستعمل كلمة علم للدلالة على مجمل المعرفة التي يصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي.١
  • ومنهج تأسيس العبارات العامة على الملاحظات المتراكمة لحالة معينة يُعْرَف بالاستقراء، ويُنْظَر إليه على أنه سمة العلم، بعبارة أخرى فإن استخدام المنهج الاستقرائي، يعتبر معيار التمييز بين العلم واللاعلم، وبذلك تتعارض العبارات العلمية القائمة على أدلة ملحوظة تجريبيًّا — أي القائمة باختصار على حقائق — مع أية عبارات من نوع آخر، سواء قامت على النفوذ أو العاطفة أو التقاليد أو التأمل أو الانحياز أو العادة، أو أي أساس آخر.٢
  • تُطْلَق العلوم الطبيعية على كل دراسة تتناول الظواهر الجزئية بمناهج الملاحظة والتجربة والاستقراء.٣
  • الالتزام بالمنهج العلمي في أية دراسة؛ أي اتباع الموضوعية، والاستناد إلى الملاحظة الدقيقة، والاعتماد على الاستقراء السليم، وإجراء التجربة المنضبطة؛ يجعل الدراسة بحقٍّ علمًا.٤
  • مجتمعات كثيرة من البشر تجهل أو ترفض قاعدة العلم — أي الاستقراء — ومن بين هؤلاء: أعضاء المجتمعات المناهضة للتطعيم، والمعتقدون في التنجيم، وأية مناقشة مع هؤلاء بغير جدوى، لا يمكن قسرهم على قبول نفس المعيار، الاستقراء السليم، الذي نؤمن بأنه شريعة القوانين العلمية.٥
ويقدم ستانلي بيك تعريفًا للعلم هو: «ضرب من المعرفة الموضوعية المختبرة، نكتسبه ونبعث الوحدة فيه — من حيث المبدأ — بالمناهج الاستقرائية.»٦

(٢) اختصارًا للقول، فإننا لا بد وأن نلقي قولًا يحمل مثل هذا المعنى، تقريبًا في كل كتاب يتعرض لهذه المواضيع؛ إذ وجد العلماء فيه ضالتهم المنشودة، التي تحقق بغيتهم في تأكيد المعارف العلمية تأكيدًا يميزها عن غيرها، إلا أنه رغم كل شيء لم يكن تأكيدًا ممهدًا، بل ملغمًا بلغم خطير فجره هيوم فيما يعرف بمشكلة الاستقراء.

وكيف يعود الفضل كل الفضل في تقدم العلوم الطبيعية إلى هذا المنهج الاستقرائي، وكيف شكَّل مفتاحًا ذهبيًّا لفض مغاليق أسرار هذا الوجود، ولحل مشاكل البشر العلمية والعملية وكيف ميز العلم الطبيعي تمييزًا، وحدده بسياج ذهبية جعلته يتقدم المسيرة المعرفية، وكيف أنه رغم كل ذلك مقلقل مضطرب مزعزع، بفعل شكاك أسكتلندا المثير للمتاعب، ويفيد هيوم … حول هذا تكاد تنحصر الأحاديث التقليدية التي لا بد وأن نسمعها تتردد في كافة أحاديث فلسفة العلوم ومناهج البحث التقليدية.

لكن ماذا عسى أن يكون هذا المنهج، وماذا عسى أن تكون مشكلته.

(٢) التعريف بالمنهج الاستقرائي

(١) المنهج هو الطريقة، بمعنى الطريق الواضح المستقيم الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى غاية معينة،٧ ويوضع اصطلاح «المنهج» في اللغة العربية كترجمة للاصطلاح الأوروبي Method في الإنجليزية، وMethodè في الفرنسية، وMethode في الألمانية، وسائر البدائل في اللغات الأوروبية الأخرى، «وكلها تعود في النهاية إلى الكلمة اليونانية Mἐθoaδ، وهي كلمة يستعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر أو المعرفة، كما نجدها كذلك عند أرسطو وأحيانًا كثيرة بمعنى «بحث»، والمعنى الاشتقاقي الأصلي لها يدل على الطريق أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.»٨

فاصطلاح «المنهج» في أشد معانيه عمومية، هو وسيلة تحقيق الهدف، وهو الطريق المحدد لتنظيم النشاط، أما معناه الفلسفي على وجه الخصوص فهو وسيلة المعرفة، فالمنهج هو طريق الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، هو الطريقة التي يتبعها العقل في دراسة موضوع ما، للتوصل إلى قانون عام أو مذهب جامع، أو هو فن ترتيب الأفكار ترتيبًا دقيقًا بحيث يؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة.

(٢) أما المفهوم الفلسفي لمصطلح المنهج العلمي خصوصًا، أي قواعد الوصول إلى الحقيقة في العلم بالذات فهو لم يظهر مستقلًّا إلا منذ عصر النهضة، ومثله مثل٩ جُلِّ المفاهيم الفلسفية قد اتخذ عبر العصور معانيَ عدة متقاربة غير متباينة، تتحدد تبعًا لروح التفلسف العلمي في العصر، والحديث التاريخي عن مفهوم المنهج العلمي يمكن إجماله على النحو التالي:
  • (أ)

    هو مجموعة القواعد التي توضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفة عامة (الفلسفة القديمة).

  • (ب)

    هو مجموعة القواعد التي توضع كتنظيم لعملية اكتساب المعرفة الطبيعية، التي تُعْرَف بوصفها معرفة علمية (بدايات الفلسفة الحديثة).

  • (جـ)
    هو المبادئ التي نجردها من الممارسات العملية للأفراد الذين عملوا بنجاح في عملية اكتساب المعرفة العلمية (المائة سنة الأخيرة) وهذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل إنه يتضمن تقييمًا للمغزى Significance الذي يدل عليه هذا السلوك، كما عبر عنه بوبر قائلًا هو تقييم للعبة العلوم التجريبية،١٠ هذا هو أقصى تطور وصل إليه مفهوم المنهج.
(٣) والواقع أن العلماء لهم أساليب عدة في ممارسة بحوثهم؛ فهذه أساليب لعالم الفيزياء، تخالف تلك التي ينتجها عالم البيولوجيا، تناقض تلك التي يمارسها عالم التاريخ، بل إننا نجد داخل العلم الواحد أكثر من منهج؛ إذ يستعمل الباحث لكل مشكلة المنهج الذي يلائم طبيعتها، وفي ذلك ضرورة لإضفاء المرونة على البحث العلمي، غير أن العرف قد جرى على حصر المناهج في فرعين:
  • المنهج الاستنباطي: تسير فيه من فروض أولية إلى نتائج تلزم عنها بالضرورة، متبعين في ذلك قواعد المنطق، دون التجاء إلى التجربة، هذا هو منهج العلوم الصورية، أي الرياضة والمنطق على وجه الخصوص، ويفيد أيضًا في علوم الشريعة والقانون، وبعض المباحث اللغوية.
  • المنهج الاستقرائي: أي المنهج الذي نبدأ فيه بجزئيات تجريبية غير يقينية غير ضرورية، لكي نصل إلى قضايا عامة كلية، هذا هو منهج العلوم الطبيعية، وما تحاوله العلوم الإنسانية من احتذاء حذوها، وطالما نتحدث الآن حديثًا تقليديًّا فلا بد وأن نطابق بين منهج العلوم التجريبية وبين الاستقراء.
بالطبع هناك مناهج فرعية ثانوية أخرى كالمنهج الاستردادي الذي نسترد فيه الماضي تبعًا لما تركه من آثار، وهو منهج العلوم التاريخية والأخلاقية، والمنهج الجدلي الذي يحدد مناهج التناظر والتحاور بين الجماعات العلمية١١ في نتائج المناهج السابقة، والأهم من كل هذا نظريات المنهج التجريبي الحديثة، لكننا الآن مَعْنِيُّون بالاستقراء فقط، فما هو هذا المنهج الاستقرائي:
(٤) الاستقراء في اللغة هو التتبع، من استقرأ الأمر فقد تتبعه لمعرفة أحواله، وعند التطبيقيين هو الحكم على الكلي لثبوت الحكم في الجزئي،١٢ إما باستقراء جميع الجزئيات أو بعض منها، والمقصود بالمنهج الاستقرائي هو «عملية الانتقال من حالات جزئية ملاحظة تجريبيًّا إلى صيغة كلية فرض أو نظرية؛ وذلك بأن يقوم الباحث بملاحظة مجموعة من الجزئيات المتماثلة أو المتشابهة، إما بملاحظتها كما هي في الطبيعة، وإما باصطناعها في المعمل وإجراء التجارب عليها؛ بغية اكتشاف ما تسببه العلل فيها من معلولات، وفقًا للواقع المحسوس، ثم يخرج من ملاحظة هذه الجزئيات بتعميم لها في صيغة كلية على هيئة قانون عام يحكم جميع الحالات المتماثلة أينما وقعت ووقتما وقعت حتى إذا وقعت العلة تنبأ الباحث بوقوع المعلول؛ أي إذا حدثت الظروف التي لاحظ أنها توجب وقوع الظاهرة؛ أمكنه التنبؤ بوقوعها.
فالاستقراء إذن هو الطريق: أي المنهج إلى وضع قوانين عامة تفسر الظواهر الطبيعية، وهي طبعًا مستحيلة اليقين أي احتمالية، ولكنها تعميمات تصنع تقدُّم العلم من ناحية، وأساس سير الحياة العملية من الناحية الأخرى، ومن المعروف أن عملية التعميم هذه يبررها قانونان:
  • (أ) قانون السببية Law of Causality: وهو الاعتقاد بأن لكل ظاهرة علة سببتها، ولكل علة معلول ينشأ عنها، فحوادث هذا الكون تسير في عملية تسلسل على كل ظاهرة علة للظاهرة التي تليها، ومعلول للظاهرة التي سبقتها.
  • (ب) قانون اطراد الطبيعة Law of Uniformity of Nature: وهو الاعتقاد بأن ظواهر الطبيعة تجري بشكل مطرد على وتيرة واحدة لا تتغير، ما حدث اليوم سوف يحدث في الغد وإلى الأبد، فكل شيء حدث وسوف يحدث هو مثال لقانون عام١٣ لا يعرف الاستثناء، طالما أنه محكوم بعلاقة عليه ضرورية.

ووظيفة العلم التقليدي، هي الكشف عن هذه العلاقات السببية التي تحدد قوانين اطراد الكون، وذلك الكشف بالطبع عن طريق المنهج الاستقرائي، وجدير بالذكر أن هذين القانونين ليس لهما ما يبررهما.

(٣) تناول تاريخي للاستقراء

(١) وترجع نشأة الاستقراء بوصفه منهج العلم، إلى الحين الذي ضاق البحاث فيه بعقم وإجداب المنطق الأرسطي بوصفه المنهج، ذلك الذي هيمن هيمنة غريبة على الفكر البشري شرقًا وغربًا طوال العصور الوسطى بعد أن قدَّم توما الأكويني Thomas Aquinace (١٢٢٥–١٢٧٤م) كتابه «الخلاصة اللاهوتية» أو المجموعة اللاهوتية، موفقًا فيه بين العقل والدين ومقدمًا تفسيرًا عقليًّا لمشكلات العلم الإلهي والعلم الإنساني والسببية والقضاء والقدر، والمشيئة الإلهية وحرية الإرادة، وفكرة الوجود والعدم والخلق المستمر المرتبط بالحفظ الإلهي للكون، وغيرها من العُقَد التي كانت أزمة الفكر الديني في المسيحية، ولما كانت حلوله لهذه المشاكل مستمَدَّة من فلسفة أرسطو بالإضافة إلى ما قدمته هذه الفلسفة من براهين عقلية بحتة على وجود «آلة» مفارق للكون، محرك له، فقد اعتمدت الكنيسة فلسفة أرسطو فلسفة رسمية لها، حتى إذا وصل الباحث إلى فكرة تخالف مثيلتها عند أرسطو، أو حتى لم يقل بها أرسطو وجب أن يتغاضى عنها، وإلا تعرض لهلاك محاكم التفتيش بوصفه كافرًا زنديقًا، فالكنيسة اعتبرت فلسفة الحقيقة الحقة، أما منطقه القياس فهو المنهج المفضي إلى اليقين؛ لأن هناك كتابًا منزلًا أو كتبًا منزلة، تنطوي على حقائق مُسَلَّم بصحتها، يمكن أن نأخذها كمقدمات في القياس، ثم نتوصل إلى نتائج ضرورية الصدق على أساس المقدمات اليقينية الإلهية بواسطة قياس المنطق الأرسطي.

ولنفس هذا السبب اعتبره فقهاء الإسلام، ومنهم الغزالي نفسه، معيار العلم ومحك النظر والقسطاس المستقيم، وفيصل التفرقة بين الخطأ والصواب وآلة العلوم وعلم قوانين الفكر الثابتة؛ فالأصوليون قد انتفعوا به كثيرًا في استنباط الأحكام الشرعية، هكذا كان المنطق الأرسطي هو منهج البحث الوحيد طوال عشرين قرنًا.

وغني عن الذكر ما يتسم به هذا المنطق وقياسه، من دوران منطقي ومصادرة على المطلوب وتحصيل لحاصل … إلى آخر ما قيل في نقده، غير أن الذي عابه على وجه الخصوص هو مجافاته للواقع، فهو لا يُعْنَى إلا باتساق النتائج مع المقدمات، فحتى وإن كانت نتائجه صادقة على الواقع، فهي ولا بد وأن تكون متضمنة قبلًا في مقدماته، أي إننا نعرفها سلفًا، أما إذا أردنا أن نكتسب أدنى إخبار عن الواقع أو فهمًا أكثر للطبيعة المتأججة من حولنا، فإن هذا شبه مستحيل باتخاذ هذا المنطق وقياسه منهجًا، فإن انتهجناه سنين عدة — كما حدث طوال العصور الوسطى — ألفينا أنفسنا نلف وندور في دائرة مفرغة، فينتهي بنا المطاف إلى حيث بدأنا ولا جديد البتة، ومن أين الجديد والعملية كلها انتقال من معلوم كلي إلى معلوم جزئي، ولا مساس إطلاقًا بآفاق المجهول الرحيبة.

وقد بلغ هذا الضيق أوج مداه في نهايات عصور النهضة، وبدايات العصر الحديث؛ إذ تطور العلم تطورًا ملحوظًا وتوصل العلماء إلى قوانين فَسَّرت الطبيعة تفسيرًا عقليًّا واقعيًّا مكنهم من فهمها وبالتالي من السيطرة عليها، واكتشفوا أشياء رائعة كالقارات والكواكب والأجهزة العلمية والفلكية والطباعة، ومن ثم أصبح هَمُّ الفلاسفة الأول هو البحث عن منهج جديد يلائم الروح الجديدة للعصر، فكان القرن السابع عشر بحق هو قرن المناهج «منهج ديكارت — مالبرانش: البحث عن الحقيقة — فلاسفة بور رويال: فن التفكير، اسبينوزا: رسالة في إصلاح العقل — ليبنتز: يحلل ويبحث في فكرة منهج رياضي»، ولكن الجدير بالاعتبار من بين كل هؤلاء هو فرنسيس بيكون الذي يتصدر قائمة طويلة من الفلاسفة ذوي العقول العلمية، أولئك الذين أكدوا أهمية الاستقراء كنقيض للاستنباط»١٤ وما يدخل في حوزة هذا الاستنباط من قياس أرسطي، وعلى مدى عصور العلم الحديث حتى بداية القرن العشرين، تلا بيكون العديد من المَعْنِيين بالمنهج العلمي؛ لينكبُّوا على تأكيد الاستقراء، وتخليصه من الشوائب التي شابت محاولة بيكون وبلورته، نذكر منهم: كلود برنار Clauide Bernard (١٨١٣–١٨١٨م) ووليم ويول Wè Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦م)، وجون ستيورات مِل الذي يُعَدُّ بحق أكثر الاستقرائيين استقرائية حتى استقام المنهج الاستقرائي في صورة خطوات محددة، على العالم اقتفاؤها، فيصل في النهاية إلى القانون ويضيف لحصيلة العلم.
(٢) لكن والحق يقال — رغبة الباحثين في العود إلى الطبيعة، واستخلاص المعرفة بها عن طريق جزئياتها الحسية، قديم قدم الفكر البشري، فقد عرفت البشرية روادًا عدة مهَّدوا لهذا المنهج الاستقرائي، منهم أرسطو نفسه الذي فطن إلى أهمية الحواس بوصفها أبواب المعرفة، بل إن إيمانه بالاستقراء يبلغ درجة إيمانه بالقياس، فكما أن القياس هو الوسيلة اليقينية لربط الحد الأصغر بالحد الأكبر عن طريق الحد الأوسط، فإن الاستقراء هو الوسيلة اليقينية، بل والوحيدة لتكوين المقدمات الكبرى، أي لا مقدمات بغير استقراء ولا قياس بغير مقدمات، إذن لا قياس بغير استقراء، هكذا كان أرسطو استقرائيًّا كبيرًا، وأكثر من ذلك فهو صاحب مصطلح الاستقراء نفسه «إيباجوجي Epagogya١٥ وإن استخدمه بأكثر من معنى:
  • (أ)
    الاستقراء التام Complete Induction: وهو عملية إحصاء تام Complete enumeration ليجمع الأمثلة الجزئية التي تنطوي تحت الحكم الكلي، وهذا ما يسميه بعض المناطقة بالاستقراء التلخيصي Summary Induction،١٦ ومن الواضح أنه مجرد عملية عد ساذجة.
  • (ب)
    الاستقراء الحدسي Intuitive Induction: وهو الانتقال الحدسي من مثالي جزئي واحد أو عدد بسيط من الأمثلة إلى حكم كلي عام، وواضح أن هذا هو القريب من المعنى المعاصر للاستقراء العلمي.
  • (جـ)

    الاستقراء الجدلي: وهو لا يبدأ من عدد كلي أو عدد بسيط من الأمثلة، لكنه يبدأ من مقدمات مشهورة أو ظنية أو شائعة؛ لهذا فهو قياس نتائجه ليست يقينية بل موضعًا للشك والاحتمال والجدل.

وواضح أن النوعين الأولين يحملان الفحوى الحديثة للاستقراء، أي الوصول إلى الحكم الكلي أو القانون العام عن طريق الاستقراء الحسي لجزئياته، ويُلَقَّب هذا الاستقراء الأرسطي عادةً بالاستقراء القديم.

غير أن الظروف الفكرية الإغريقية لم تكن تسمح لأرسطو أن يمارس هذا الاستقراء جديًّا، أو أن يتوقف لينتظر نتائج التجربة، فعاقه هذا كثيرًا كثيرًا عن أن يكون مؤسسًا للمنهج، أو حتى داعية له، وعاق أكثر البشرية بأسرها معه.

(٣) وبخلاف أرسطو فإنا نَلْقى نفرًا من مفكري العرب — لا سيما الكيمائي جابر بن حيان (المتوفى عام ٨١٣م)، وعالم البصريات الحسن بن الهيثم (المتوفى عام ١٠٣٩م) — بشروا بهذا المنهج بل ومارسوه.

وهناك أيضًا نفر من مفكري العصور الوسطى ذاتها لا سيما روجرز بيكون R. Bacon (١٢١٤–١٢٩٤م) — جد فرنسيس بيكون — الذي لُقِّب بأمير الفكر في العصور الوسطى؛ لأنه مارس التجريب ووصل به إلى نتائج علمية باهرة، لا سيما في طب العيون والفلك والكيمياء، بل ووضع تنبؤات علمية حدثت بالفعل في ميادين الفلك والميكانيكا والجغرافيا، وكان هذا مدعاة للنقمة عليه، ومثارًا لمتاعب كبيرة في حياته بوصفه راهبًا فرنسيسكانيًّا، فكيف يدعو إلى التجريب العلمي بل ويمارسه.
(٤) (أ) أما فكرة الاستقراء بوصفه منهجًا محدد المعالم، ينبغي على العالم أن يقتفي خطاه في بحوثه، فتعود في ميلادها بصورة كاملة مهيئة للنمو والنضوج إلى فرنسيس بيكون Francis Bacon (١٥٦١–١٦٢٦م)، الذي يُعَدُّ بحق ذا الأهمية العظمى كمؤسس للمنهج الاستقرائي الحديث والرائد في محاولة التنسيق المنطقي لمسار الإجراءات العلمية.»١٧ هذا بصرف النظر عن أن فلسفته بصورة عامة لم تكن مرضية إلى حد كبير، ولكن كفاه فخرًا ذلك الكتاب الذي وضعه وأسماه «الأورجانون الجديد» Novum Drganum نُشِرَ عام ١٦٢٠م أي الآلة الجديدة، منوهًا بذلك إلى أن منطق أرسطو قد أصبح آلة بالية قديمةً عفا عليها الدهر، وها هو ذا يقدم لنا الآلة الجديدة الفعالة المناسبة لاحتياجات العصر، وما هذه الآلة سوى المنهج الاستقرائي.

(ب) منهج بيكون

يبدأ بيكون وضعه لهذا المنهج، بأن ينبه الباحثين إلى أن العقل «أداة تصنيف وتجريد مماثلة.»١٨ وإنه ليقع في أخطاء عظمى، لا سيما إذا سار معتمدًا على نفسه بغير ما تعويل على التجربة، وهذه الأخطاء قد تتحكَّم فيه تحكمًا رهيبًا، وتحجبه عن جادة الصواب فتكون بمثابة أصنام يعبدها أو أوهام يتشبث بها.

وبعد أن ينبهنا إلى الأخطاء — كيما نتجنبها — يوضح المنهج الذي ينبغي اتباعه في البحث عن المعرفة، وعلى هذا يقسم عادة منهج بيكون إلى قسمين؛ قسم سلبي وقسم إيجابي.

القسم السلبي

وهو المختص بالتنويه إلى الأخطاء ولكن يوضحها بيكون يقوم بتقسيمها إلى أربعة أنماط على النحو التالي:
  • (١)
    أوهام الجنس أو القبيلة Idols of Tribe: وهي التي يقع فيها الجنس البشري عامة، أو القبيلة بأسرها؛ أي إنها أخطاء مفطورة في الإنسان بصفة عامة وليست خاصة بفئة معينة، ومن أمثلتها:
    • (أ)
      التعميمات السريعة وسرعة التوصل إلى الأحكام العامة، دون أن نتأكد من الأساس الذي أقمنا عليه هذه التعميمات،١٩ وهذا من شأنه أن يقودنا إلى تعميمات خاطئة، إذن لا ينبغي أن نتسرَّع في عملية التعميم.
    • (ب)

      سيطرة فكرة معينة على الذهن سيطرة تجافي النزاهة، فنختار من الأمثلة والوقائع ما يؤيدها ونغض البصر عما ينفيها، وهذا من شأنه أن يثبت الأفكار الخاطئة، ينبغي إذن توخي النزاهة.

    • (جـ)

      افتراض الانتظام والاطراد في الطبيعة أكثر مما هو متحقق فيها حتى إذا صادَفَنَا مثال شارد حاولنا إدخاله بأية طريقة في أي قانون إدخالًا قد يكون خاطئًا، لا ينبغي إذن أن نفترض أكثر مما هو متحقق.

    • (د)

      ما يميل إليه عقل الإنسان من تجريد، وإضفاء معنى الجوهر والحقيقة الواقعية على الأشياء الزائلة، وهذا يقود إلى عدم التمييز بين طبائع الأشياء ومظاهرها.

  • (٢)
    أوهام الكهف Idols of the Cave: المقصود بالكهف … البيئة التي نشأ فيها الفرد، فيكون لعوامل مكوناتها وثقافتها تأثير كبير عليه يجعله يقصر جهوده المعرفية على إثبات الأفكار التي تلقاها في كهفه أو بيئته فيَحُول هذا بينه وبين اقتفاء جادة الصواب، هذه إذن نوعية من الأوهام خاصة بالفرد المعين الذي نشأ في بيئة معينة، بخلاف أوهام الجنس العامة.
  • (٣)
    أوهام المسرح Idols of the Theatre: كتلك التي يقع فيها المتفرجون على مسرح، حين يأسرهم الإعجاب بالممثلين، يأسر الإنسان الإعجاب بممثلي الفكر السابقين، إعجابًا ينزل أفكارهم منزلة التقديس نوع من الدوجماطيقية المرضية والتعصب الذي يعمي الإنسان ويصرفه عن اكتشاف الجديد من الواقع، ولما جناه الفكر الأرسطي من سيطرة على البشرية طوال العصور الوسطى، سيطرة جعلتها عصورًا مظلمة، خير مثال على هذا النوع من الأوهام، أوهام المسرح.
  • (٤)
    أوهام السوق Idols of the Market: يرتفع في الأسواق ضجيج يحجب الإنسان عن الإدراك الواضح لما يسمعه، أي للغة، فأوهام السوق إذن هي الأوهام التي يقع فيها الإنسان نتيجة لسوء استخدام اللغة، فيأخذ اللغة وكأنها غاية، بدلًا من أن يعتبرها — كما هي في الواقع — مجرد وسيلة في التعبير Expression Communication والتوصيل.
    وقد قَسَّم بيكون هذا النوع من الأخطاء إلى قسمين:
    • (أ)

      أسماء لأشياء لا وجود لها، ثم نتصور نحن وجود هذه الأشياء الزائفة.

    • (ب)

      أشياء تركنا بلا أسماء نتيجة لنقص في الملاحظة.

    • (جـ)

      ويحذرنا بيكون من محاولة تلافي هذه الأخطاء عن طريق التعريفات اللفظية، فذلك من شأنه أن يجعلنا ندور في متاهات لغوية، بل نصلح الأخطاء عن طريق الرجوع دائمًا إلى الواقع والتعويل عليه.

    ولأننا قد عرفنا ما هي الأخطاء التي تعيقنا عن التقدم المعرفي؛ وجب علينا إذن تجنبها ونحن نبحث عن الحقيقة باستخدام المنهج السليم، الذي يستقرئ الحقائق بالاعتماد على التجربة الحسية، ووضع بيكون لقواعد هذا المنهج هو ما يُعْرَف بالجانب الإيجابي في منهجه.

القسم الإيجابي

كان بيكون بحق هو أول من وضع القواعد الحقيقية لجمع المعلومات عن طريق إجراء التجارب وقد سمى بيكون هذه القواعد باسم «صيد بان»٢٠ … وبان هو آلة الصيد والقنص والبراري والطبيعة عند الإغريق، وكانت الأساطير القديمة في الميثولوجيا الإغريقية تصور أن صيد بان يبلغ من البراعة والمهارة حدًّا يجعل من يمارسه أو يحاكيه يقتنص شوارده من الطيور لم يكن يقصد إليها من البدء، بيكون إذن يقصد من هذه الاستعارة التعبير المجازي عن أن ممارسة هذا المنهج تشبه ممارسة صيد بان؛ أي ييسر لنا اكتشاف أشياء في الطبيعة، لم نكن نفكِّر قبلًا في اكتشافها، ولم نسع قصدًا إلى هذا الاكتشاف.
لا بد وأن نتنبه جيدًا إلى أن بيكون كان يهدف من الاستقراء هدفًا مغايرًا تمامًا للمفهوم الحديث لهدف العلم الطبيعي؛ فبيكون يريد من هذا المنهج أن يفضي به إلى معرفة الصور Form صورة الطبيعة البسيطة Simple Nature فهو يرى أن كل شيء في هذا العالم يمكن ردُّه إلى مجموعة من الطبائع البسيطة، عددها ١٢ طبيعة، كالضوء والوزن والحرارة … إلخ، ومن اجتماع هذه الطبائع وتفرقها تتكون سائر الموجودات، وهدف للعلم الطبيعي هو اكتشاف أسباب وقوانين هذه الطبائع — أي صورها — فالصورة إذن ليست تجريدًا أو فكرة مثالية، بل هي شرط فيزيائي للطبيعة، وأساس لها مباطنة فيها، فهي تمثل علة، ومعلولها هو الطبيعة البسيطة.

والسبيل الوحيد إلى معرفة هذه الصور هو تطبيق المنهج الاستقرائي، بأن نُجْرِي سلسلة من التجارب على الظواهر في المواد والجزئيات التي تتبدَّى فيها الطبيعة البسيطة، ثم نقوم بتسجيل نتائج هذه التجارب تسجيلًا تصنيفيًّا في قوائم ثلاث تنظم لنا المعلومات تنظيمًا يتيح لنا معرفة صور هذه الطبيعة البسيطة.

أولًا: مرحلة التجريب

هذه المرحلة تتناول وضع أنواع ودرجات التجريب وهي:
  • (١)

    تنويع التجربة: فإما أن تنوع مواد التجريب، فإن عرفنا مثلًا أثر عامل معين على مركب كيميائي معين، نحاول أن ننوع المادة؛ لنرى إن كان لهذا العامل نفس الأثر على مركب كيميائي آخر، وإما أن ننوع مصادر الدراسة، فإذا عرفنا مثلًا أن المرايا المحرقة تستطيع أن تركز أشعة الشمس نحاول أن نعرف هل من الممكن أن تركز أيضًا أشعة القمر.

  • (٢)
    تكرار التجربة: مثل تقطير الكحول الناتج عن تقطير أول.٢١
  • (٣)

    إطالة التجربة: أي مدها، فنحاول أن نجعل المؤثر يؤثر لأطول فترة زمانية ممكنة لنعرف هل طول التأثير من شأنه أن يخلق ظواهر جديدة.

  • (٤)

    نقل التجربة: أي إجراؤها في فرع آخر من فروع العلم، لعل هذا يكشف عن خواص أخرى في مجال جديد.

  • (٥)

    قلب التجربة: أي جعلها في وضع مقلوب؛ فمثلًا لدراسة أثر التسخين على قضيب نجعل مصدر الحرارة من أعلى ثم نجعله من أسفل، فنجد مثلًا أن الحرارة تنتقل من أعلى إلى أسفل، أكثر مما تنتقل من أسفل إلى أعلى.

  • (٦)

    إلغاء التجربة: أي طرد أو استبعاد الكيفية المراد دراستها لمعرفة أثر غيابها.

  • (٧)

    تطبيق التجربة: أي استخدامها في اكتشاف ما ينفع، وهذا قريب من مفهوم التكنولوجيا.

  • (٨)
    جمع التجارب: أي الزيادة في فاعلية مادة ما؛ فالجمع بينها وبين فاعلية مادة أخرى، مثل خفض درجة التجميد بالجمع بين الثلج والنطرون.٢٢
  • (٩)

    صدف التجربة: أي جعلها مجرد مصادفة، فهنا لا نُجْرِي التجربة للتأكيد من حقيقة، بل فقط لأنها لم تجر من قبل، ولا يُعْرَف ماذا عسى أن ينشأ من إجرائها.

تلك هي مرحلة التجريب كما صوَّرها بيكون، وهي — كما نرى — مجرد مجموعة من الإرشادات إن اتبعها الباحث، حقَّق التجارب على نحو أوفى وأكمل.٢٣

ثانيًا: مرحلة التسجيل

وهنا يرشد بيكون الباحث إلى الكيفية، التي يسجل بها ما يكون قد أجراه من تجارب تسجيلًا تصنيفيًّا في ثلاث قوائم:
  • (١)
    قائمة الحضور والإثبات: ويسميها أحيانًا بالقائمة الجوهر، فهنا الباحث يضع جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، موضوع الدراسة تتبدَّى فيها.
  • (٢)
    قائمة الغياب أو النفي: يسجل فيها الحالات التي تغيب فيها الظاهرة أو الطبيعة البسيطة، ومن الواضح أن محاولة حصر جميع حالات غياب ظاهرة ما أمر شبه مستحيل، فضلًا عن أنه نوع من العبث الذي لا يُجْدِي، إنما المقصود «أن نأتي في مقابل كل حالة من حالات الحضور بالحالة التي لا تحدث فيها الظاهرة بالنسبة إلى هذه الحالة عينها، سواء أكانت حالة غياب واحدة أو أكثر من واحدة.»٢٤ فمثلًا: إذا كان موضوع الدراسة هو أثر ضوء الشمس على نمو النبات، نحاول أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، لا أن نعرف جميع الأحوال التي يغيب فيها ضوء الشمس.
  • (٣)
    قائمة التفاوت في الدرجة: حيث يسجل الباحث الدرجات المتفاوتة لحدوث الظاهرة أو الطبيعة البسيطة موضع الدراسة، وهنا تنويه لأهمية التكميم في العلم، لكن بصورة ضعيفة.
وقد أكد بيكون على أهمية القوائم، فيقول: إن الجزئيات والأمثلة أشبه بجيش كبير العدد مبعثر ومتفرق؛ مما قد يؤدي إلى تشتُّت الفكر واضطرابه، والأمل قليل في العثور على الأمثلة النافية وإذا لم تنتظم الجزئيات المتعلقة بموضوع البحث، فقد ينحرف مسار الفكر؛ ولذا فمن المفيد استخدام الوسائل الموضحة في قوائم الكشف، فعن طريقها يمكن تصنيف الجزئيات وتحديدها، وترتيب آثارها ودرجاتها؛ مما يساعد الإدراك الذي يعمل حينئذٍ وفقًا لما تمده به هذه القوائم.٢٥

ومن المعروف أن بيكون قد طَبَّق المنهج السالف على الطبيعة البسيطة؛ الحرارة، محاولًا استكشاف صورتها، فانتهى إلى أن صورتها هي الحركة.

(ﺟ) تقييم

هذه خلاصة المنهج الاستقرائي، كما وضعه إمامه الرسمي فرنسيس بيكون أعظم رواد الحضارة المعاصرة، والذي يُوضَع في مقدمة المسئولين عن نهضة العلم.

ويقول ول ديورانت عن فلسفة بيكون: إنها كانت مشروعًا عظيمًا، لا مثيل له في تاريخ الفكر باستثناء أرسطو؛ وهي تختلف عن كل فلسفة أخرى بالاتجاه إلى الناحية العلمية أكثر من الناحية النظرية؛ حيث تقوم على إنتاج متماسك خاص أكثر من قيامها على تناسق الفكر والتأمل، وأن المعرفة قوة، وليست نقاشًا أو زينة، وليست فكرة نتمسك بها، بل عملًا علينا عمله، وكان بيكون يعمل لوضع أساس، لا لمذهب أو مبدأ، ولكن لفائدة وقوة، لكل ذلك كان صوته أول نغمة جديدة للعلم الجديد.٢٦

فقد كان بيكون نازعًا بصدق نحو الاتجاه العلمي، يرغب في التخلص من كلمة مصادفة تمامًا، ويحلم بمجتمع للعلماء، ينظمهم فيه التخصص، ويجمعهم التعاون والاختلاط الدائم، على أساس نهج العلم السليم؛ الاستقراء.

وإن نظرية بيكون العلمية المتطورة واسعةٌ بطريقة جديرة بالإعجاب حقًّا؛ إذ يقول في الأورجانون الجديد: «كما أن المنطق القائم الآن لا يقتصر بأقيسته على العلم الطبيعي وحده بل يشمل جميع العلوم، فمنهجنا الاستقرائي — بالمثل — يمتد لكل العلوم، فإننا نعتزم تجميع تاريخ وقوائم الاكتشافات المتعلقة بالغضب والخوف، وما شابهها، بالحياة المدنية، وبعمليات الذاكرة والتركيب والتقسيم، واتخاذ القرارات والامتناع عنها، بنفس المقدار الذي نجمع به تاريخ وقوائم الحرارة والبرودة، والضوء والنباتات وما إليها.»٢٧

وربما كان هذا هو المنطلق، الذي قال منه ول ديورانت عن بيكون: إنه من أول المبشرين بأحدث العلوم؛ السلوكية في علم النفس، وعلم النفس الاجتماعي.

بل وإنه — أي بيكون — أحد مؤسسي علم مناهج البحث، أي فلسفة العلوم؛ إذ توصَّل في نهاية بحثه إلى أن العلم في حد ذاته لا يكفي، حيث ينبغي إيجاد قوة ونظام خارج العلوم لتنسيقها وتوجيهها إلى هدف، فالعلوم تحتاج إلى الفلسفة لتحليل الطريقة العلمية؛ أي المنهج وتنسيق الأهداف والنتائج العلمية. وكل علم بغير هذا يكون سطحيًّا.٢٨

وبعد كل هذا لا بد وأن نسجِّل لبيكون بلاغة أسلوبه؛ إذ تُعدُّ أعماله من قمم النثر الإنجليزي اللاتيني. والأهم من ذلك قدرته الفائقة على تركيز العبارة، وتكثيف الأسلوب؛ بحيث لا تتسلل كلمة واحدة زائدة.

إلا أن بيكون تعرَّض لانتقادات شديدة، ونقد أشد، ربما لما شاب سيرته من فضائح أخلاقية؛ كالغدر بالأصدقاء وتملق ذوي السلطان، وتقاضي الرشاوى والاختلاس، وربما لأنه لم يكن عالمًا ولا حتى ملمًّا بتقدم العلوم، فرغم أن العلم كان يسير بخُطًا حثيثة في عصره، فإنه لم يهتم بأبحاث فيساليوس Visaliud (١٥١٤–١٥٦٤م) رائد علم التشريح، ولا وليم هارفي William Harvey (١٥٧٨–١٦٥٧م) مكتشف الدورة الدموية، بل ولم يرضَ عن أبحاث كوبرنيقوس (١٤٧٣–١٥٤٣م)، فهو إذن لم يعرف حق قدرها، وبخس قيمة أبحاث وليم جلبرت William Gilbert (١٥٤٤–١٦٠٣م) في المغناطيسية والكهرباء، كانت ثقافة بيكون العلمية ضحلة، فلم ينتفع بمنهجه في خلق إضافة تُذْكَر إلى تقدم العلم، ويعود ذلك أيضًا إلى أنه لم يفهم الاستقراء الفهم الحديث له، أي على أنه منهج لاكتشاف القوانين الطبيعية وتعلُّق الظواهر الطبيعية ببعضها تعلقًا عليًّا، بل وضعه لتحقيق غاية ميتافيزيقية أسماها تصور الطبائع البسيطة، فقد اعتقد أن ما بالكون من مركبات، إنما هي مؤلَّفة بدرجات متفاوتة من عدة طبائع محدودة العدد، وهذا بالطبع اعتقاد ساذج، والكون أكثر تعقيدًا مما تصوَّر بيكون،٢٩ هذا بالإضافة إلى أن تسليمَه بالعلية كان مستمدًّا من فلسفة أرسطو التي أراد أن يطيح بها.
غير أن النقد قد يمتد ليشمل أصالة المنهج ذاته، فهذا توماس بابينجتون ماكولي T. B. Macaulay (١٨٠٠–١٨٥٩م)، الكاتب والسياسي الإنجليزي الكبير وأشهر مؤرخي القرن التاسع عشر،٣٠ قال عن بيكون: إن شهرته طغَت على شهرة والده الذي لم يكن شخصًا عاديًّا، لكنه أنكر عليه كل ريادة وأصالة، وقال: إن منهجه هذا هو طريقة الناس في التفكير في كل زمان ومكان.
لكن النقد الجدير بالاعتبار حقًّا هو ما يشوب منهجه من نقائص خطيرة، فهو لم يفطن إلى أهمية التسلح باللغة الرياضية، في حين أن قوة العلم — لا سيما الطبيعي منه — تكمن في استخدامه لهذه اللغة، والأخطر من ذلك أنه لم يفطن إلى أهمية الفروض والنظريات، بل وحذر منها، وكان يسمِّيها استباق الطبيعة Anticipation of Nature أي الإدلاء بآراء غير تجريبية، نظن أنها تفسيرٌ لما أمامنا من وقائع تجريبية، في حين أنها سر تقدم العلم إن لم تكن هي العلم نفسه. وبغير وضع الفروض واختبارها لما تمكن العالم إطلاقًا من إضافة أي جديد، ولما اختلف العالم عن دارس العلم فضلًا عن أن بيكون — بعد إنكار الفروض — كان هو نفسه يستخدمها ولا يدري، وإلا فكيف توصَّل إلى أن الحركة علة الحرارة؟ وليست الحركة هي الظاهرة التي بحثها وإنما كان يبحث ظاهرة الحرارة، ولم تكن الحركة مذكورةً في أي من القوائم الثلاث؛ فالحركة اقتراح، أي فرض، لتفسير تلك القوائم،٣١ بخس قيمة الفرص كان أعظم أخطاء بيكون قاطبة.

لكن كل هذا لا يبخس فضل بيكون العظيم في التنويه إلى أهمية التجربة، والتعويل عليها في اكتساب المعارف بالواقع المحيط بنا، وكان تنويهًا حقق مأربه العظيم في تحطيم سيطرة منطق أرسطو كمنهج، بالإضافة إلى هذا، كان منهجه رحبًا مرنًا، يرشد الباحث ويدله، بغير أن يقيده تقييدًا ملزمًا، وبغير أن يدَّعيَ أنه يفضي به إلى البرهان القاطع.

(٥) من أبرز من صححوا أخطاء بيكون: ألفرنس كلود برنار Claud Bernard (١٨١٣–١٨٧٨م) وذلك في كتابه الشهير: مقدمة لدراسة الطب التجريبي Introduction to the Study of Empirical Medtcine الذي يعد بحق درة الدراسات المنهجية في القرن التاسع عشر وإن كان قد كُتِبَ خصِّيصى لباحثي العلوم الطبية.
وكلود برنار فيلسوف علم ومناهج بحث أصيل؛ إذ يرى أن «فن البحث العلمي هو حجر الزاوية من كل العلوم التجريبية»،٣٢ ولكن قيمة برنار العالية في فلسفة العلم تأتي أولًا من كونه عالمًا رفيع الشأن في ميدان العلوم الطبية، خصوصًا الفسيولوجي (علم وظائف الأعضاء)، الباثولوجي (علم الأمراض)، ثم شعر أثناء بحوثه العلمية الثمينة، بضرورة الوقوف هنيهة، وإعادة النظر في أسس العلم العقلية والتجريبية، وفي صلة العلوم ببعضها، وفي القوانين من حيث يقينها ومن حيث هي عنصر من عناصر تفسير الكون بأسره، وقد ضمَّن برنار آراءه في هذه المشاكل الفلسفية، في عدة مقالات وفي كتابه السالف الذكر.
ويرى برنار أن عماد البحث العلمي شقان هما التجريب والفرض؛ لذلك هاجم الذين عابوا استخدام الفروض والأفكار السابق تصورها أثناء البحث العلمي، وأوضح أنهم خلطوا بين ابتداع التجربة وبين تسجيل نتائجها. «وصحيح أنه من الواجب تسجيل نتائج التجربة بذهن خلا من الفروض وتجرَّد من الأفكار السابق تصورها، لكن واجب المجرب في الوقت نفسه أن يحذر العدول عن استخدام الفروض والأفكار، حين يكون الأمر خاصًّا بوضع التجربة أو تصور وسائل الملاحظة، وعلى المرء أن يفعل عكس هذا فيطلق لخياله العنان، ذلك أن الفكرة هي أصل كل استدلال واختراع، وإليها يرجع الفضل في البدء، ولا يجوز للمرء وأدها أو استبعادها بحجة أنها قد تضر، وكل ما يقتضيه الأمر هو تنظيمها وإخضاعها لمقياس.»٣٣ وإن الفروض، وحتى ولو كانت فاسدة، تفيد في اهتدائنا إلى الاكتشافات، وينطبق هذا الحكم على جميع العلوم؛ فقد أسَّس كيمائيو العصور الوسطى علم الكمياء بمحاولتهم لحل مسائل وهمية متعلقة بالسيمياء؛ أي تحويل المعادن الأخرى إلى ذهب؛ لذلك لا يمكن إطلاقًا الاستغناء عن الفروض، وإن فائدتها ترجع إلى أنها تجعلنا نتجاوز حدود الواقع ونسير بالعلم إلى الأمام، فليس من شأن الفروض أن تسمح لنا بالقيام بتجارب جديدة فحسب، بل كثيرًا ما تجعلنا نكتشف وقائع جديدة لا يمكن لنا أن نلحظها بدونها، وقد يكون الفرض مستنبطًا منطقيًّا من نظرية ما، غير أن هذا الاستنباط لا يخرج عن كونه فرضًا يجب التحقق من صحته بواسطة التجربة، فالنظريات في هذه الحالة لا تخرج عن كونها وقائع سابقة يستند إليها الفرض، لكنها لا تغني عن التحقُّق التجريبي.

أي إن برنارد هنا يعني أن الاتساق المنطقي لا يُغني عن وقائع التجريب.

وعلى أساس كل هذه الأهمية للفرض، يفرق كلود برنار تفريقًا حاسمًا قاطعًا بين الملاحظة والتجربة، وبين العلوم القائمة على الملاحظة، والعلوم القائمة على التجربة، بين الطب القائم على الملاحظة — أي على محض تراكم وقائع الخبرة — وبين الطب التجريبي الذي يطمح في معرفة قوانين الجسم السليم والمريض؛ بحيث لا نتمكن من توقع حدوث الظواهر فحسب، بل ونتمكن أيضًا من تنظيمها وتعديلها في حدود معينة، كل هذا الفارق بين الملاحظة والتجربة يعود إلى الفرض.

إذن فقد صحَّح برنار خطأ بيكون الكبير في إغفال أهمية الفرض، وصحح خطأ أكبر حين رفض النظرة البيكونية إلى العالِم المجرِّب على أنه طفلٌ يجلس بين يدَي الطبيعة، يتعلَّم منها ما تُمليه عليه؛ إذ يقول برنار: إن العالِمَ المجرِّب هو — من وجهة ما — قاضٍ يحقِّق مع الطبيعة، وإن كان لا يواجه أفرادًا يضللونه بالشهادات الكاذبة، بل يتناول ظواهر طبيعية هي بالنسبة له بمثابة أشخاص يجهل لغتهم وطباعهم، يعيشون وسط ظروف يجهلها، ويريد من ذلك أن يعرف أغراضهم ومراميَهم، وهو يستخدم من أجل ذلك كل ما يستطيعه من حيل.٣٤
ويبدو عمق تفكير برنار في دعواه الملحَّة بضرورة اعتبار الظواهر الحيوية تمامًا مثل الظواهر الفيزيائية الكيميائية، نخضعها لنفس المنهج؛ أي التجريب؛ بغية تحقيق نفس الهدف؛ أي اكتشاف العلل القريبة؛ فالمنهج التجريبي ومبادئ البحث والتفكير واحدة في ظواهر الأجسام الجامدة، وظواهر الأجسام الحية على السواء. وقد تبدو هذه الدعوة مألوفة بل ومُسَلَّم بها الآن، غير أنها لم تكن هكذا أيام برنار، بل كانت الغلبة لفريق الحيويين، الذين يرَوْن وجود قوة حيوية في الأجسام الحية لا تنفكُّ تصارع القوى الفيزيوكيمائية، وإلا فكيف يحتفظ الحيوان بحرارته في الجو البارد مثلًا، وكان كوفييه هو أبرز الحيويين المناهضين لبرنار، وكان تبعًا لهذا يرى أن الفسيولوجي فقط علم ملاحظة واستنتاج تشريحي، ويقول: إن جميع أجزاء الجسم الحي مرتبطة وهي لا تعمل إلا متضامنةً معًا، والرغبة في فصل جزء من أجزاء الجسم معناها إرجاعه إلى نظام المادة الميتة، أي تغيير جوهره تغييرًا كليًّا.٣٥ برنار بالطبع يؤكد الترابط المتسلسل في وظائف الجسم الحي، لكنه يرى أن هذا الترابط ذاته يمكن دراسته بالمنهج التجريبي كمادةٍ محضة.
ولم يَفُتْ كلود برنار أن يدعوَ إلى التكميم والإحصاء، فأكد أن القانون لن يكون علميًّا ما لم يثبت عدديًّا علاقات الشدة الموجودة بين الظواهر وبعضها، وذلك في سياق ما أسماه «بالتجريب المقارن»؛ إذ يرى برنار أن جميع الأخطاء التجريبية تقريبًا تنشأ من إهمالنا الحكم على الوقائع حكمًا مقارنًا، أو من اعتقادنا بأن حالات معينة يمكن مقارنتها في حين أنها في الحقيقة مما يتعذَّر مقارنته.٣٦
ويُتِم برنار نظراته الثاقبة بتوضيح الفارق بين الفلسفة والأدب وبين العلم؛ فالفلسفة معبرة عن طموحات العقل البشري، من حيث هو عقل في أي زمان ومكان، والأدب يعبر عن عواطف غير قابلة للتغير؛ لذلك فهما من آيات التراث الإنساني، التي تظل إلى الأبد جديرةً بالبحث والدراسة، ولكن العلم أمره مختلف؛ إذ هو يعبِّر عن حقائق، عن وقائع تجريبية تكشَّفت أمام الباحث، ولما كانت هذه الوقائع في ازدياد مستمر، كان العلم في تقدُّم مستمر وكان علم الأمس غير ذي جدوى لنا اليوم؛ لذلك يحذر برنار الطلبة من إضاعة أي وقت في البحث في كتب الأقدمين، ويؤكد لهم أن العالم في صعود مستمر في بحثه عن الحقيقة، وإذا قُدِّرَ له ألَّا يجدها أبدًا كاملة، فإنه يكتشف منها أجزاء هامة جدًّا، وهي تلك الأجزاء المقتبسة من الحقيقة الكلية التي تكوِّن العلم؛ أي تبلَّج أمام برنار قبس من أحدث الاكتشافات المنهجية، وهي أن العلم لا يصل إلى نهاية الحقيقة أبدًا؛ فقد أكد أن النظريات ليست سوى فروض، أثبتتها عدد قليل أو كثير من الوقائع، غير أن هذه الفروض لن تكون أبدًا نهائية، فلا يجب أن نثق في صحتها بطريقة مطلقة، ولا يجب أن نهتم إلا قليلًا بالفروض والنظريات، وأن نكون دائمًا في حالة يقظة وفطنة لملاحظة كل ما يظهر أثناء التجربة.٣٧

كل هذا يؤكد كم كان برنار كسبًا عظيمًا للدراسات المنهجية ولا يزال وسيزال دائمًا.

أما عن أهم المآخذ التي نأخذها على برنار، فتتمركز في أنه للأسف من أبرز ممثلي النظرية المنهجية التقليدية من حيث كونها استقراء يوضح الروابط العلية الضرورية الحتمية التي لا تحتمل أدنى استثناء، بل وحتى حين يدعو الباحث دعوة متبصرة بأن يتسلَّح بروح النقد؛ لأن الحالة الراهنة لعلم الحياة لا تمثل إلا حقائق محدودة غير ثابتة مصيرها إلى الزوال، يعود فيقول: إن النقد التجريبي يشك في كل شيء، ما عدا مبدأ الحتمية العلمية والعقلية المسيطر على الوقائع.٣٨ وفعلًا «مقدمة لدراسة الطب التجريبي» من أبرز المراجع التي تؤكد الحتمية، وصحيح أننا عرفنا اليوم أنها خرافة، غير أن برنار لا حيلة له في ذلك، فقد عاش في القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للحتمية.
(٦) أما الفيلسوف الإنجليزي وليام ويول William Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦م) فهو أيضًا من أبرز الرواد في حقل الدراسة الفلسفية للمنهج العلمي، مؤكدًا أنه الاستقراء والإضافة الحقيقية لويول هي تأكيده للنقطة الغامضة Mysterious step في الانتقال من الملاحظة إلى القانون، وعلى أساس هذه الخطوة طوَّر ما أسماه بالمنهج الغرضي الاستنباطي hypothetico-deductive Method، وهو تشكيل عدة فروض للاختيار بينها،٣٩ لقد كان تفكير ويول متقدمًا بدرجة معجزة، «وكان أسبق من عصره بكثير فقد صحبه شعور في السنوات الأخيرة من عمره بضرورة إسقاط الاستقراء؛ لذلك نادى بالمنهج الفرضي الاستنباطي، أحدث النظريات المنهجية، لكن عصر ويول لم يكن يسمح له بالتخلِّي عن الاستقراء؛ لذلك اكتفى بالقول: «إن الاستقراء والاستنباط يصعدان ويهبطان نفس الدرج»،٤٠ يعني بذلك نفس ما يعنيه عالم المنطق الكبير ستانلي جيفونز William Stanely Jevons (١٨٣٥–١٨٨٢م) الأستاذ في جامعة لندن بقوله: إن كل استدلال استقرائي ليس إلا تطبيق استدلال استنباطي معكوس.»٤١
ولقد تعرض ويول لنقد عنيف من «مل»،٤٢ الذي اعتبر فكرة الفرض عند ويول نزوعًا منه نحو المثالية الألمانية، وتأثرًا بفلسفة كانط، وكانت هي وسائر الفلسفة الألمانية في نظر مل كتابًا مغلقًا بسبعة أختام، لم يجد في نفسه أدنى رغبة لفتحه، ولكن لا نقد ولا نقد غيره، ينفي عن ويول الفضل العظيم في التأكيد على أهمية الفرض، وذلك في كتابيه الشهيرين: «تاريخ العلوم الاستقرائية» الذي صدر عام ١٨٣٧م، ثم «فلسفة العلوم الاستقرائية».
(٧) أما عن جون ستيورات مِل John Stiwart Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م) فهو تجريبي شهير، متطرِّف في تجريبيته؛ فقد بلغ إيمانه بالاستقراء مبلغًا لم يبلغه أحدٌ لا من قبله ولا من بعده؛ فهو — في نظره — الطريق الأوحد، الذي لا طريق سواه، إلى أية معرفة حقيقية صحيحة، فكل المعلومات والمبادئ والأفكار والمفاهيم … باختصار كل مكونات الذهن ومحتوياته مجرد تعميمات استقرائية، لا يُستثنى من ذلك شيء البتة، حتى قوانين الرياضة البحتة مثل القضية: (٢ + ٢ = ٤)، بل وحتى قوانين الفكر الصورية كالذاتية والهوية وعدم التناقض، كلها ليست إلا تعميمات استقرائية لكثرة ما لاحظته حواسنا من أن اقتران ٢ و٢ ينتج عنه دائمًا ٤، ومن أن «أ» هي دائمًا «أ»، فهذا لا يعني أكثر من تقرير ما نفعله في خبراتنا التي هي أولًا وأخيرًا حسية، فمصدرها فقط هو الذاكرة، وتُفَسَّر فقط على أساس قوانين تداعي المعاني؛ لذلك يبدو طبيعيًّا أن «يعتبر مل المنطق الاستقرائي هو الأصل، والمنطق الصوري فرعًا منه.»٤٣
ومن زاوية الحديث المنطقي، فإن أعظم ما يسجَّل لمل هو نقده المعروف للقياس الأرسطي، وعلى الرغم من أن مل قد عاش قبل ثورة المنطق العظيمة؛ الثورة الرياضية الرمزية، التي تفجَّرت تمامًا مع جورج بول George Boole (١٨١٥–١٨٦٤م)، وعلى الرغم من أن المنطق أيامه كان لا يزال يعني منطق أرسطو،٤٤ فإن مل في مقدمة الثائرين الرافضين لهذا المنطق؛ فأكد على ضرورة وضع منطق الحقيقة Logic of Truth كما وضع أرسطو منطقًا للاتساق؛ إذ رفض مل اعتبار المنطق متعلقًا بالبرهنة أو إقامة الحجج؛ لأن هذه هي النظرة الأرسطية، أما هو فالمنطق في عُرْفِه متعلقٌ بالبحث عن الحقائق، وتعقُّبها في الواقع التجريبي، والذي لا واقع سواه، على أن تكون هذه الحقائق نتائج الاستدلال — الاستدلال الاستقرائي بالطبع — وليست البتة حقائق حدسية،٤٥ فالاستقراء هو منطق العلم، وهو ذاته منطق العمل والحياة،٤٦ وهو يعني استدلالًا حقيقيًّا، أما منطق أرسطو فمجرد استدلال ظاهري وليس حقيقيًّا؛ فهو لا يتضمَّن أية إضافة، النتيجة لا بد وأن تكون موجودة سلفًا في المقدمة الكبرى؛ لذلك فهو تحصيل حاصل ومصادرة على المطلوب ودوران منطقي … إلى آخر ما قاله مل في نقده المعروف للمنطق الأرسطي، والذي انتهى منه إلى أن هذا المنطق أسلوب تفكير لا يناسب إلا الله، الذي يعلم كل شيء، فيستنبط من هذا العلم الشامل ما يريد، أما نحن فبحاجة إلى معرفة جديدة، وهي معرفة لن تكون إلا بالاستقراء.٤٧
ومعروف عن مل إخلاصه وتفانيه في البحث والعمل؛ لذلك استفاد من أبحاث سابقيه؛ أولهم ريتشارد ويتلي Richard Whately (١٧٨٧–١٨٦٣م) رئيس أساقفة دبلن؛ إذ نشر عام ١٨٢٦م «كتابه عناصر المنطق Elements of Logic»، ورغم أنه كتاب مدرسي في المنطق الأرسطي، إلا أنه هو الذي نمَّى في مل النزوع إلى المنطق والانشغال ببحوثه،٤٨ وأهم من ويتلي بحوث الموسيقار والعالم الفلكي الألماني البارز سير وليام هرشل William Herschel (١٧٣٨–١٨٢٢م) الذي صنع بنفسه وبمعاونة شقيقته كارولين هرشل مرصدًا يحوي عديدًا من التلسكوبات المحسنة، وهو وصل إلى العديد من الاكتشافات الفلكية الخطيرة، على رأسها كوكب أورانوس (في ١٣ / ٣ / ١٧٨١م) واكتشف أقماره، كما اكتشف القمرين السادس والسابع لزحل، وقد تميز هرشل بأنه استقرائي كبير، فزوَّد المهتمين بالاستقراء بثروة من المادة مستقاةً من العلوم الطبيعية، وقد أصدر كتابًا بعنوان: مقال تمهيدي لدراسة الفلسفة الطبيعية Preliminary Discourse on the Study of Natural Philosophy، وضع فيه إرشادات تشبه المناهج التي وضعها مل في كتابه الشهير «نسق المنطق»، وفي هذا الكتاب لا يمكن إغفال ألكسندر بين Alexander Bain (١٨١٨–١٩٠٣م)، أبرز تلاميذ مل وأقرب أصدقائه، فقد وافق على مراجعة الكتاب بأسره مع تركيز خاص على الاستقراء، وقد نفَّذ مل كثيرًا من مقترحاته حرفيًّا.٤٩
وهذا هو الكتاب، الذي حاول مل أن يحقق فيه حلمه بأن يكون نبي الاستقراء مثلما كان أرسطو نبي القياس، وكما وضع أرسطو للقياس أشكالًا وضروبًا، فقد وضع مل للاستقراء مناهج أو لوائح خمسًا، يمكن للباحث عن طريقها التحقق من صحة الفروض التي افترضها؛ بغية اكتشاف العلاقات العِلِّية التي تحكم الظواهر الطبيعية، ومعروف أن العِلِّية هي محور تفكير مل، فهو من أبرز من آمنوا بالعلية وبضرورتها وبحتميتها التي لا تقبل أدنى استثناء، ولا حتى نقاش واهتمامه الأساسي بالمنطق مُنْصَب على خصائص القوانين العلية العمومية، وشرح المناهج التي يمكن أن تقيمها،٥٠ والتي هي مناهج الاستقراء، وهذه المناهج هي:
  • (١)
    منهج الاتفاق Method of Agreement:
    أي التلازم في الوقوع، وهو ينص على أنه إذا اتفق مثالان أو أكثر للظاهرة المطروحة للبحث، في نفس الظرف كان هذا الظرف الذي تتفق فيه كل الأمثلة علة (أو معلولًا) لهذه الظاهرة.٥١

    يقوم هذا المنهج على أساس تلازم العلة والمعلول في الوقوع؛ بحيث إذا حدث الأول تبعه الثاني، والعكس بالعكس، ويستلزم هذا المنهج جمع أكبر عدد ممكن من الحالات التي تبدو فيها الظاهرة والمقارنة بين عناصرها؛ أي البحث عما هو السابق واللاحق في حدوث تلك الظاهرة، فالسابق هو العلة واللاحق هو المعلول.

    ويمكن التعبير عنه رمزيًّا كما يلي:

    الظاهرة:
    • «أ»١ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ﺟ. د. ﻫ.

    • «أ»٢ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. و. ز. ﺣ.

    • «أ»٣ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ط. ي. ك.

    • «أ»٤ أعقبتها أو اقترنت بها ظواهر: ب. ل. م. ن.٥٢

    وهذا المنهج يعبر عن طريقة شائعة الاستعمال في الحياة اليومية، أكثر منها في البحوث العلمية، ونقدها أظهر من أن يُذْكَر؛ فالظواهر الطبيعية ليست بهذه البساطة بحيث يظهر دائمًا العامل الواحد الذي لا يتغير، فالظروف متشابكة تختلط ببعضها، والعنصر قد يتضافر هو وعنصر آخر في جميع الأحوال، دون أن يكون هذا العنصر علة حقيقية له إنما يوجد بالعرض دائمًا.

    لذلك شأن هذا المنهج يشجع مغالطة أخذ ما ليس بعلة على أنه علة؛ فقد يكون توالي حدوث العامل ليس بعلة بل مجرد مصادفة.

    ويعضد هذا النقد الكشف الحديث من أنه لا حتمية في العلم، ومن إعطاء الدور الأكبر للمصادفة — أي للاحتمال — في القوانين العلمية، بينما كان مل، وعصر مل مشبعًا بالحتمية حتى النخاع، حتمية اقتران العلل بالمعلولات والظروف ببعضها، وهو على أية حال منهج ضعيف، حذَّر كلود برنار من الاعتماد عليه، وإن كان من الممكن تقليل خطورته بتنويع التجارب قدر المستطاع، كما نصحنا فرنسيس بيكون من قبل.

  • (٢)
    منهج الاختلاف Method of Difference:
    أو التلازم في التخلُّف والافتراق، وهو نوع من البرهان العكسي الذي حبَّذه كلود برنار، وينص على أنه إذا حدث مثال تقع فيه الظاهرة المطروحة للبحث، ومثال آخر لا تقع فيه هذه الظاهرة، واتفق المثالان في كل شيءٍ إلا في ظرف واحد، وهو الذي يظهر فيه المثل الأول وحده دون سواه، كان الشيء الذي يختلف فيه المثالان معلولًا لهذه الظاهرة أو علة لها، أو جزءًا ضروريًّا من علتها.٥٣

    فالعامل المختلف هو علة اختلاف النتيجتين، في الحالة الأولى سبب ظهوره حدوث الظاهرة، وفي الحالة الثانية كان هذا العامل الوحيد الغائب هو العلة إذ غاب معلولها بغيابها.

    وواضح أن مل استفاد في هذا المنهج بمنهج الحذف والاستبعاد الذي نادى به فرنسيس بيكون،٥٤ وهو يحوي نفس خطأ المنهج السابق؛ أي منهج الاتفاق؛ فقد يكون اختلاف العاملين مجرد تصادف، هذا بالإضافة إلى صعوبة تحقيقه؛ إذ يصعب بعض الشيء استبعاد العلة المؤثرة، فهذا قد يعني استبعاد الظاهرة بأسرها، لكن الوسائل التحليلية التفتيتية التي توصل إليها العلم الآن، تغلَّبت على هذه الصعوبة كثيرًا، وهذا المنهج هو أهم المناهج الخمسة، وفكرته الأساسية بصفة عامة خصبة، وعلماء المناهج منذ بيكون حتى بوبر ما فتئوا يؤكدون أهميته.
  • (٣)
    منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف Joint Method of Agrement and Difference:
    وينص على أنه إذا حدثت ظاهرةٌ ما في مثالين أو أكثر، واختلف هذان المثالان في كل شيء ما عدا شيئًا واحدًا دون سواه، وكان هناك مثالان آخران (أو أمثلة أخرى) لا يحدث فيها هذه الظاهرة، ولا يشتركان إلا في غياب الشيء الذي وُجِدَ في المثالين الأولين (أو الأمثلة الأولى)، استنتجنا أن الشيء الذي يشترك فيه هاتان الفئتان من الأمثلة (وهو الذي يوجد في المثالين الأولين، ويختلف في المثالين الآخرين) هو معلول الظاهرة أو علة لها أو جزء ضروري منها.٥٥

    وواضح أن هذا المنهج لا يعني أكثر من الجمع بين الطريقتين السابقتين، أي محاولة التحقُّق من ظهور المعلول بظهور العلة واختفائه باختفائها، أو ما أسماه الإسلاميون: دوران العلة مع معلولها وجودًا وعدمًا، وهذا تأكيد أكثر للعلاقة السببية التي نبحث عنها.

  • (٤)
    منهج البواقي Method of Residues:
    وهو منهج لوضع الافتراض أكثر منه لتحقيقه، وهو ينص على أنه إذا كان لدينا ظاهرة ما لها عناصر عدة، عرفناها بالعمليات الاستقرائية السابقة على أنها علة لمعلولات لاحقة معينة، فإن ما يتبقَّى من عناصر تلك الظاهرة هو علة لما يتبقى من معلولاتها اللاحقة.٥٦

    ويمكن التمثيل لهذا المنهج على النحو التالي: لو كان لدينا حالتان: «أ» و«ب»، وكانت «أ» هي علة «ب»، وتبينا في «أ» عدة عناصر هي «س»، «م»، «ق»، وتبينا في «ب» عدة عناصر هي «ص»، «ل»، وإذا عرفنا أن «س» هي علة «ص»، و«م» هي علة «ل»، فإننا نفترض أن العنصر المتبقي في «أ» وهو «ق»، لا بد وأن يكون علةً لعنصر آخر في «ب»، فنفترض وجود هذا العنصر، وليكن مثلًا «ك» ونعتبره نتيجة للعلة «ق» أي معلولًا لها.

    ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيًّا كما يلي:٥٧
    وقد نوَّه مل إلى أن هذا المنهج يستحيل أن يستقل عن الاستنباط، ورغم أنه يتطلَّب هو الآخر خبرات معينة، فإننا لا نستطيع اعتباره من بين مناهج الملاحظة المباشرة والتجريب إلا بشيء من التجاوز،٥٨ وواضح أنه منهج يعتمد أساسًا على نتائج الممارسات السابقة لبقية المناهج الأخرى؛ لذلك كان من الألْيَق أن يأتيَ هذا المنهج في مؤخرة قائمة المناهج، غير أن مل وضع المناهج في «نسق المنطق» بهذا الترتيب.
  • (٥)
    منهج التغير النسبي Method of Concomitant Variation:
    أو منهج التلازم في التغير، أو بمصطلح أدق: منهج التغيرات المساوقة المتضايفة أو التغيرات المساوقة النسبية،٥٩ وهو ينص على أنه إذا تغيرت ظاهرة ما بطريقة معينة، وصاحَبَ هذا التغير في ظاهرة معينة أخرى بنفس الطريقة المعينة، كانت تلك الظاهرة علةً للثانية أو معلولة لها، أو مقترنة بها اقترانًا عِليًّا من ناحية ما.٦٠

    أي إن هذا المنهج للكشف عن العلاقة الكمية بين العلة والمعلول، عن التناسب الطردي بين شدة العلة وبين شدة معلولها، فإذا كان هناك تغير فيما نفترضه من عوامل الظاهرة يتبعه تغير وبنفس النسبة في نتيجتها، كان ذلك تثبيتًا للعلاقة العِليَّة التي افترضناها.

    ويمكن التعبير عن هذا المنهج رمزيًّا هكذا.٦١
    في العلاقة الطردية (الاتفاق):
    • أ + ٠ ب + ٠
    • أ + ١ ب + ١
    • أ + ٢ ب + ٢
    في العلاقة العكسية (الاختلاف):
    • أ + ٠ ب − ٠
    • أ + ١ ب − ١
    • أ + ٢ ب − ٢

    هذا المنهج أسهل المناهج الخمسة عمليًّا وأدقها؛ لأنه يأخذ في الاعتبار التكميم؛ أي إن مل ينبِّه فيه إلى سر التقدُّم العلمي.

(ب) تقييم

هذا هو الاستقراء بالصورة المنهجية التي وضعها مل، وهو يختلف عن بيكون في أنه يلزم الباحث إلزامًا مقيدًا، ويدَّعي أنه يفضي به إلى البرهان، وهو لا يريد للباحث أن يتخطَّى حدوده أبدًا إذ يقول مل: إن هذه هي — وهي فقط — أساليب البحث التجريبي ومناهج الاستقراء المباشر، وإنه لا يعرف ولا حتى يستطيع أن يتخيَّل سواها،٦٢ بالطبع هذه نظرة غاية في القصور، أن يتصور أن علم مناهج البحث قد وصل إلى ذروة المنتهى على يديه، وبصفة عامة، فإن فلسفة مل المنهجية مليئةٌ بأوجه القصور، فهو مثلًا خلط بين اكتشاف الفروض؛ أي اختراعها، وبين تأييدها، ودافع مل عن هذا بأن القانون العلمي ليس فرضًا، بل هو حقيقة نريد أن نثبتها، وهو قد وضع مناهجه لتوضيح كيف يمكن التثبت من أنها فعلًا قوانين،٦٣ وبالطبع مل على خطأ بيِّن، ليست الفروض هي التي في جوهرها قوانين، بل إن القوانين هي التي في جوهرها وفي مظهرها فحص فروض، كما سيثبت هذا البحث.

ثم إن مل قال: إنه سيأتينا بأربعة مناهج، ثم أتانا بخمسة، وبعد أن شرحها ظل مصممًا على أنها أربعة! وقد اختلف الباحثون؛ أية الطرق هي الزائدة؟ ترى سوزان ستبنج أن البواقي هي الزائدة، أما جوزيف فيرى أن منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف هو الزائد، بينما يذهب وليم نيل إلى حذف طريقتي البواقي والتغير النسبي.

لكن ثمة تحليلًا معقولًا، خلاصته أن منهجَي البواقي والتغير النسبي يعتمدان على المناهج الثلاثة الأولى، في حين أن المنهج الثالث — منهج الجمع بين الاتفاق والاختلاف — مجرد تكرار للمنهجين الأول والثاني معًا، زد على ذلك أنه يمكن رد المنهج الأول إلى المنهج الثاني؛ لأن الوقائع لن تكشف لنا بطريقٍ مباشر أن الحادثة «أ» مثلًا علة الحادثة «س»، وإذا لوحظت عدة وقائع تُثبت أن «أ» علة «س»، فإن تلك الملاحظات لا تقدم دليلًا على أن «أ» علة «س»، بل يجب أن نتثبت أنه لا يوجد علة للحادثة غير الحادثة «أ»، ذلك يستلزم القيام بتجارب سالبة؛ أي منهج الرفض أو الاختلاف، وهو المنهج الثاني، وبذلك ننتهي إلى أن هذا المنهج الثاني هو فقط الأساس، ومع ملاحظة أن فرنسيس بيكون قد سبقه إليه، ننتهي إلى أن مل لم يأت البتة بأي شيء جديد لم يقله أحد من قبله.

ويمكن أن نضيف إلى هذا أن المنهج الأساسي — أي التخلف — هو في جوهره قياس شرطي منفصل، يتخذ الصورة:
  • علة «س» إما أن تكون «أ» أو «ب» أو «ﺟ».

  • لكن علة «س» ليست «ب» أو «ﺟ».

  • لكن علة «س» هي «أ».٦٤
بالإضافة إلى أنه يمكن إثبات المقدمة الصغرى في هذا القياس بأقيسة شرطية متصلة؛ مما يجعل موقف مل محرجًا؛٦٥ لأنه لم يقدم منهجه إلا لدحض القياس الأرسطي كمنهج، والآن هذا الدحض سوف يعني بدوره دحض منهج الاختلاف؛ مما يؤدي إلى دحض بقية مناهج مل.

الحق أن هذا النقد فيه شيء من السفسطة؛ لأن القياس الأرسطي يدور حول قوانين الفكر الصورية؛ لذلك من السهل جدًّا إثبات دخوله بطريقة أو بأخرى في شتَّى أنواع الاستدلال.

أما النقد الجدير بالاعتبار حقًّا، فإنه للعِليَّة التي جعلها مل محور تفكيره، بينما لم يقدم لها أي إثبات، وأصرَّ على أنها تقوم على أساس الخبرة الإنسانية، فلم يزدْ موقفه في هذا عن موقف رجل الشارع، ثم إن العِليَّة بالصورة التي آمن بها مل كانت تحتاج إلى استقراء تام لأحداث الكون تقتضينا أن ننتظر حتى نهاية العالم، إن مل رأى فعلًا أنه من الممكن رد حادثة واحدة إلى عدة علل اشتركت في أحداثها، لكن مناهجه — خصوصًا منهجي الاتفاق والاختلاف — كانت تشير بوضوح إلى أن لكل معلول علةً واحدة، وهذا بالطبع خطأ، كما أن التفسير العلمي ليس هو كل التفسير العلمي، وليست القوانين العلمية دائمًا قوانين الربط العلمي فقط.٦٦
لقد كان مل عظيمًا عظيمًا بوصفه إنسانًا وبرلمانيًّا، وما هكذا بوصفه فيلسوفًا وميثودلوجيًّا، فقد كان رفيع الخلق جَمَّ الفضائل مرهف المشاعر، نموذجًا للباحث الجاد والمفكر الملتزم، يبذل قصارى ما يستطيعه، مهدرًا الكثير من حقوقه الخاصة، غير أنه لم يكن يستطيع الكثير، فلا هو ذو مقدرة عقلية غير عادية، ولا هو ذو طاقة إبداعية، ولا حتى حس فني أو قدرات جمالية، وفي تذوقه للفنون كان يبحث فيها عن المضمون ولا يُلقي بالًا إلى القيم الجمالية؛ لذلك فنصوصه الكثيرة ثرية ولكنها جافة، لكل ذلك ليس غريبًا أن يبلغ إيمانه بالتجريبية وبالاستقراء هذا المبلغ، والحق أن مبلغ هذا الإيمان كفيل بأن يُفقد أبحاثه المنطقية والميثودولوجية والإبستمولوجية أية قيمة لها، فستانلي جيفونز بعد أن درس كتابه «نسق المنطق» عشر سنوات — كما يقضي برنامج الجامعة — صرَّح بأن هذا الكتاب يُسيء إلى تكوين عقلية الطالب ونمو تفكيره المنطقي، بل وإن عقلية مل ليست عقليةً منطقية، وإنه استعار طرق البحث العلمي من بيكون، وسلب المادة التي بنى عليها فصوله في الاستقراء من سابقيه ويول وهرشل؛٦٧ ولذلك أيضًا قال عنه برتراند رسل: «ناطحات السحاب لا يمكن بناؤها في لندن؛ لأنها تقتضي أساسًا صخريًّا، وكذلك آراء مل كانت كناطحات سحاب مقامة على أساس من الطَّفْل، تظل مهزوزة لأن أساسها غائر على الدوام»،٦٨ وأيًّا ما كان يعنيه رسل بهذا الطفل من خضوعه لتأثير والده وإتيانه في مرحلة تحول فلم يضف جديدًا إلى السابقين، وعزف عنه اللاحقون … فإنا نشير به ها هنا إلى التجريبية المتطرفة؛ أي الاستقراء المباشر.

وأخيرًا فإن هذا المثلب التجريبي لمل، لا يشفع فيه إلا شيء واحد، هو أنه من أوائل من نادَوا — في الأمة الإنجليزية — بضرورة إخضاع العلوم الأدبية والعقلية — خصوصًا علم النفس — للمنهج التجريبي، وكان يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت، وقد قوبل باستنكار ورفض شديدين، ولكننا بالطبع أصبحنا اليوم ندرك قيمة هذه الدعوة.

(٨) تلك هي الخطوط العريضة في تاريخ المنهج الاستقرائي؛ إذ لم يتعرض الاستقراء إلى إضافة تُذْكَر بعد مل، بل اتخذ مفهوم المنهج العلمي طريقًا مغايرًا، بلغ أوج انحرافه على يد بوبر.

السالف ذكرهم هم الأعلام الذين مكنوا من عقيدة الاستقراء كل هذا التمكين.

ومن هذا العرض التاريخي، نخرج إلى استعراض خطوات المنهج الاستقرائي.

(٤) خطوات الاستقراء

أما عن خطوات الاستقراء، فقد يختلف الباحثون اختلافًا يسيرًا في ترتيب خطوة أو أخرى ولكن الترتيب التالي هو الأمثل:

(١) الملاحظة والتجربة Observation and Experiment

يبدأ الباحث عمله بملاحظة عدة أمثلة للظاهرة موضوع الدراسة ملاحظة دقيقة، مقصودة ومنتقاة وهادفة، أي مقصورة فقط على ما يخص الظاهرة موضوع الدراسة، وقد فرَّق كلود برنار بين الملاحظة البسيطة وهي بالحواس المجردة وبين الملاحظة المسلحة، وهي التي يستعان فيها بالأجهزة الدقيقة التي تمكن الحواس من عملية الملاحظة بكفاءة أعلى ودقة أكثر.

والملاحظة العلمية يجب أن تكون متواترة ومرتبة، وإذا كانت متعلقة بظواهر تستغرق حيزًا زمانيًّا واسعًا كمسارات الأفلاك، أو دورات الحياة مثلًا، تكون الملاحظة فيها متصفةً بالتعاقب الاستمراري.

وبديهي أن الملاحظة العلمية يجب أن تتصف بالدقة والنزاهة وتوخِّي الموضوعية، وأن تستند على الدقة التي توجب استخدام الأجهزة المذكورة آنفًا، أما النزاهة والموضوعية فيوجبان: التجرد عن كل هوى شخصي، والتعبير الكمي القياسي عن الملاحظة.

ولكن بعض الظواهر — وبالذات الظواهر الكيميائية — لا ينتظر الباحث فيها أن تحدث الظاهر فيلاحظها، بل يصطنعها أمامه في المعمل، فتكون الملاحظة هنا بالتجريب، وهذه التجربة تسمى التجربة الابتدائية Elementary Experiment٦٩ أو العابرة، أي التي تجري فقط لتحقيق الملاحظة وجمع المعلومات عن مسار الظاهرة فهي بغير فروض تحققها، بل إنها تُجْرَى للتوصُّل إلى هذا الفرض.

على ذلك فالخطوة الأولى التي هي جمع المعلومات، قد تكون إما بالملاحظة وإما بالتجريب الابتدائي حسب طبيعة العلم:

فهناك علوم تعتمد فقط على الملاحظة؛ لا سيما الفلك والجيولوجيا.

وهناك علوم تعتمد فقط على التجريب؛ لا سيما الكيمياء والطبيعة.

وهناك علوم تجمع بين الاثنين؛ لا سيما علوم الطب والحياة.

هذه هي المرحلة الأولى: مرحلة العيان الحسي، الذي نجمع به الحقائق التمهيدية عن الظاهرة موضوع الدراسة.

(٢) التعميم الاستقرائي Inductive Generalization

ومن الأمثلة التي لاحظها الباحث أو جرَّبها، يخرج بتعميم مطلق لنتيجة الملاحظة، تعميم يطبق فيه الباحث ما رآه، على ما لم يره من جميع الحالات المماثلة للأمثلة موضوع ملاحظته، تلك التي حدثت والتي تحدث الآن، والتي سوف تحدث، فمثلًا إذا لاحظ الباحث أن بعض قطع من الخشب كلما تعرضت للهب اشتعلت؛ خرج بتعميم استقرائي ينطبق على جميع قطع الخشب في كل زمان ومكان وهو «الخشب قابل للاشتعال»، أو مثلًا كما لاحظ باستير من تجاربه على بعض عينات لمواد قابلة للفساد، ملاحظة خرج منها بتعميم استقرائي هو «لا تفسد المواد القابلة للفساد إلا إذا تُرِكَت مكشوفة.»

(٣) افتراض الفرض Hypothesis

ثم يحاول الباحث افتراض فرض يعلل به ما وصل إليه من تعميم استقرائي، كأن يفترض أن الخشب قابل للاشتعال لأنه يتحد بالأكسجين، أو كما فعل باستير حين افترض أن الهواء يسبب الفساد؛ لأنه يحتوي على كائنات دقيقة، الفرض إذن هو محاولة اكتشاف العلاقة العِليَّة التي تحكمها في كل زمان ومكان، هو — على حد تعبير إرنست ماخ — تفسير مؤقت للظاهرة.

أما عن نشأة الفرض فهي تقوم على عوامل خارجية وأخرى باطنية؛ العوامل الخارجية هي الخطوة الأولى التي جمع الباحث فيها الملاحظات، وعليها يتأسس الفرض، وقد يلقى الفرض فيها مصادفة؛ أما العوامل الباطنية فهي نصيب العالِم من الذكاء وحصيلته المعرفية، وبتفاوت قدرات العلماء تتفاوت قيمة فروضهم.

والفروض على نوعين؛ فهي إما فروض جزئية متعلقة بأحوال معينة لأحداث معينة، وإما هي فروض عامة، والفروض العامة على قسمين؛ المبادئ والنظريات.

المبادئ هي الروابط العامة التي تربط بين جملة قوانين؛٧٠ أي إنها قوانين مفرطة في الكلية، شديدة العمومية، أما النظريات فهي التي تفسر مجموعة من الظواهر تدخل في نظام واحد، أما عن شروط الفرض لكي يكون علميًّا فهي:
  • (أ)

    يقوم على أساس الملاحظة والتجريب، فلا يكون فرضًا خياليًّا، ولا يكون مجرد ربط منطقي بين الأفكار، فمثلًا قانون الديناميكا الحرارية يقول: إن الحرارة تنتقل من الأجسام الأكثر سخونة إلى الأجسام الأقل سخونة في حالة التَّمَاس بينهما، في حين أن التفكير المنطقي الخالص لا يمنع افتراض أن الجسم الأسخن هو الذي يسحب الحرارة فتزداد حرارته، ويزداد الجسم الملامس له برودة.

  • (ب)
    ألَّا يكون متناقضًا،٧١ لا مع نفسه ولا مع الوقائع المُسَلَّم بها.
  • (جـ)

    أن يقبل التحقق، فيمكن للتجربة أن تثبت صحته أو خطأه، وهذا شرط غاية في الأهمية؛ لأنه هو الذي يكفل استمرار الإجراءات الاستقرائية، حتى نصل في النهاية إلى الهدف، وبعد أن يضع العالم على هذا النحو فرضًا مستوفيًا لهذه الشروط، ينتقل للخطوة التالية.

(٤) التحقُّق من صحة الفرض Verification of Hypothesis

وهنا تبرز أهمية التجريب، فيلجأ العالم إلى التجربة لكي تحسم له القول في صحة أو خطأ ما افترض من فروض، والتجربة هنا مخالفة للتجربة الابتدائية التي لجأ إليها العالم في الخطوة الأولى، التجربة هنا علمية حقيقة، يصطنعها العالم من أجل التحقق من فكرة معينة في ذهنه وهي افتراضه.

وبعض الباحثين يميلون إلى تقسيم خطوة التحقق إلى قسمين:
  • الجانب السلبي: يمارس فيه الباحث ما أسماه كلود برنار: منهج برهان الضد أو شاهد النفي؛ إذ يحاول الباحث أن يأتي ببرهان مضاد للحالة التي يفترضها الفرض، ففي امتحان العكس إثبات للأصل.
  • الجانب الإيجابي: يحاول فيه الباحث التثبت من صحة الفرض في الأحوال المتغيرة على قدر الإمكان.٧٢

وهذه الخطوة هي أهم خطوات البحث العلمي، فهي الخطوة الفاصلة، وعليها سيتوقف ما إذا كان العالم سيضيف إلى المعرفة العلمية، أم أن جهوده العلمية ما زال عليها استئناف المسير.

ولا ينبغي الإطناب أكثر من ذلك، فالتناول التاريخي في الحديث عن مل، لم يكن إلا حديثًا عن كيفية التحقُّق من صحة الفرض.

(٥) البرهان أو الدحض Proof or Disproof

وتلك هي المحصلة الطبيعية للخطوة السابقة، فإما أن تنتهي إلى إدخال الفرض في نطاق الحقائق العلمية إذا ما ثبتت صحته، وإما أن ننتهي إلى دحضه، فنتركه ونلجأ إلى غيره إذا ثبت خطؤه، ومن هنا يتضح كيف أن الفرض من شأنه أن يوحي بتجارب وملاحظات جديدة.

ولا بد على العالم أن يترك فرضه إذا ثبت خطؤه، وليس ذلك باليسير فالعالم يعتز بالفرض الذي توصل له يسعد به فيتمسك به، ويتغاضى عن الوقائع التي تدحض هذا الفرض، يجب على العالم أن يتخلَّى عن الفرض سريعًا ويحاول أن يضع غيره، ولا يعلن أن فرضه قد تم البرهان عليه إلا إذا كان هذا البرهان مراعيًا لأدق دقائق الموضوعية والنزاهة الكاملة.

وإن أثبتت التجارب صحة الفرض على هذا النحو، فقد أصبح قانونًا ويكون الباحث قد وصل إلى الخطوة الأخيرة.

(٦) المعرفة Knowledge

وهذه بالبداهة هي غاية البحث العلمي، فماذا يبغي العالم من كل ما سلف إلا الإضافة إلى بنيان المعرفة، وزيادة عدد القوانين الطبيعية التي ظفر بها الإنسان قانونًا وإزاحة حدود الجهل خطوة إلى الوراء، وتقديم حدود العرفان خطوة إلى الأمام.

ذلك هو الاستقراء وخطواته، فما هي مشكلته تلك التي ما فتئ فلاسفة العلوم ومناهج البحث والمناطقة يثيرونها في كل مناسبة وبغير مناسبة؟

(٥) مشكلة الاستقراء

(١) لقد اتضح الآن أن العلوم التجريبية هي — من الوجهة التقليدية — علوم استقرائية؛ أي عمليات تعميم استقرائي يقوم بها الباحث، وقد اتضح ما هو الاستقراء، وكيف تطور على يد الأعلام الذين مكنوا له.

لكن أوَلَيس لنا الحق بوصفنا باحثين في الأسس المنطقية للمعرفة العلمية أن نتساءل عن مبدأ هذا الاستقراء، و«هذا التساؤل ليس إثارة لكشف جديد، فأرسطو أول مَنْ لاحظ الاختلاف بين الحجة الصورية والحجة الاستقرائية، وأن الأخيرة ليست مبرهنة non demonstrative٧٣ والمقصود بمبدأ الاستقراء Principle of Induction «عبارة تمكننا من وضع الاستدلالات الاستقرائية في صورة مقبولة منطقيًّا.»٧٤ فهو تساؤل عن مصدر الاستقراء، كيف أتينا به ولماذا نأخذ به، وكيف لنا أن نقيمه كأساس للعلم؟ في الإجابة على هذا، هناك اتجاهان:

الاتجاه التجريبي

العقل لا يعرف ولا يصل إلى المبادئ أو غيرها إلا عن طريق التجريب، فالاستقراء مردود إلى السببية، والسببية توصلنا إليها عن طريق التجريب كما توصلنا إلى كل شيء في عقولنا، فتجاربنا قد دلتنا على أن الظواهر ترتبط ببعضها ارتباطًا ضروريًّا، هو — بلا شك — ارتباط العلة بالمعلول، وعلى أساس السببية نُقِيم الاستقراء ومبدأه إقامةً تجريبية، وأهم الممثلين لهذا الاتجاه جون ستيورات مِل.

ونلاحظ أن الدوران المنطقي هنا شديد الوضوح، فمبدأ الاستقراء قد أتينا به من نفس الاستقراء، من التجريب الذي دلنا على السببية، وهو على هذا مرفوض بالطبع؛ لأنه يقود إلى ارتداد لا نهاية له Infinite Regress، نقيم الاستقراء بمبدأ استقرائي نبحث له عن أساس فنأتيه بأساس استقرائي نبحث له عن أساس … وهكذا.

الاتجاه العقلي

وهو يتفق مع الاتجاه السابق في أن الاستقراء يعود إلى السببية ولكن السببية مبدأ عقلي سابق على التجربة، إذن مبدأ الاستقراء كامنٌ في الذهن سلفًا، ولم نشتقه من التجريب الاستقرائي، أهم الممثلين لهذا الاتجاه: إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤م) وبرتراند رسل.

وهذا الاتجاه مرفوض بدوره؛ لأنه يقود إلى الأولية Apriorism أي الإيمان بمبادئ أولية، تدَّعي أنها كامنة في الذهن سلفًا، وهم في العادة يلجئون إلى هذا الادعاء حين يستحيل عليهم العثور على مصدر معقول لهذه المبادئ، لكن المبادئ العقلية لا تكون إلا تحصيل حاصل؛ فالعقل لا يستقل بنفسه إلا في التعامل مع العلوم الصورية التحليلية كالمنطق والرياضة، فيكاد يقتصر عمله على فك الرموز وإعادة تركيبها دون أن يأتينا بفتوى عن الواقع، لكن من الواضح أن قانون السببية قضية إخبارية تركيبية، فكيف للعقل الخالص أن يكون مصدرها كما ادعى كانط ورسل؟
إذن مصدر المبدأ لا يمكن أن يكون العقل، وقد سبقت استحالة أن يكون مصدره التجربة، هكذا فإن أية محاولة لوضع مبدأ الاستقراء، إما أن تقود إلى ارتداد لا نهاية له، وإما أن تقود إلى الأولية،٧٥ لقد استحال تأسيس الاستقراء على مبدأ، فكيف إذن نقيم العلم على غير ذي مبدأ؟ لقد أصبح هذا المنهج موضع شك كبير ومشكلة تؤرق الفلاسفة تُعْرَف باسم مشكلة الاستقراء.

(٢) وهذه المشكلة لا تقتصر على البحث عن مبدأ، بل هي أساسًا قائمة في صلب الاستقراء، وإن كانت نتيجة لمشكلة أخرى هي مشكلة السببية والاطراد، اللذين يبرران الاستقراء.

فقد أتانا ديفيد هيوم David Hume (١٧١١–١٧٧٦م) في أواسط القرن الثامن عشر حاملا معه تساؤلات واعتراضات جد خطيرة، خطيرة حول المبررات المنطقية للاعتقاد في هذين القانونين، وبالتالي في صحة الاستقراء الذي يستند عليهما:

مشكلة السببية

إذا كان الاستقراء منهجًا يحقق هدف العلم الطبيعي من الكشف عن العلاقات العلية، فهو إذن يفترض مسبقًا فكرة العلية أو السببية، والسببية بدورها راسخة رسوخ البداهة في التفكير الفلسفي قبل التفكير العلمي، وفي تفكير الحياة اليومية قبلهما؛ فالحس المشترك والفلسفة والعلم التقليديان يعتبران ترتب ظاهرة على أخرى ترتبًا متكررًا مطردًا مرجعه إلى السببية التي تجعل الظاهرة الأولى علة والثانية معلولًا لها.

وتعود الأصول الأولى للسببية إلى افتراض الفلاسفة الميتافيزيقيين أن كل ما يحدث في الطبيعة يمكن أن ينحلَّ إلى حوادث منفردة قد تتجمع أزواجًا أزواجًا على صورة تكون فيها حوادث كل زوج متصلة بعلاقة العلة والمعلول،٧٦ وحين جاء أرسطو فسَّر فكرة السببية تفسيرًا يوائم العقلية الميتافيزيقية الإغريقية؛ إذ اعتبرها، بمبادئها الأربعة؛ المادية والصورية والفاعلة والغائبة، فكرةً أولية سابقة على الوجود ومسببة له، فهي إذن إحدى الأفكار التي يتوصَّل إليها العقل الخالص معتمدًا على نفسه، ثم يفهم الوجود عن طريقها؛ ولذلك اعتبر أرسطو هدف العلم الطبيعي هو الكشف عن علل التغير في الكون، وجاء المدرسيون من فلاسفة العصور الوسطى، فسلموا بالسببية تسليمًا يوائم الدين، حين قبلوها بمعنى العلة الفاعلة الأرسطية أحيانًا، بمعنى القوة الخفية التي تنتج الظواهر أحيانًا أخرى، وبالمثل افترضت الفلسفة الديكارتية العلاقة العلية بوصفها علاقة ضرورية، إلى أن جاء فرنسيس بيكون فكان أول من ذهب من المحدثين إلى تفسير معنى السببية على أنها علاقة توضح معنى الاطراد في ظواهر الطبيعة،٧٧ وكان هذا هو التفسير الذي لزم العلم الطبيعي، وثبته وقواه مل حين وضع مناهج اكتشاف العلل.
وأول متحدٍّ ظهر لهذا الافتراض الراسخ هو توماس هوبز Thomas Hobbes (١٥٨٨–١٦٧٩م)، وهو تلميذ لفرنسيس بيكون ومساعد له، نظر في منهج أستاذه فرضي تمامًا عن اعتبار التجريب الحسي مصدرًا للمعرفة، غير أن الحواس لا تعطينا ذلك الكائن الغيبي المسمى بالسببية، فكيف نربط بين المعطيات الحسية عن طريقها، بل وربطًا معممًا؟ لكن هوبز على الرغم من ماديته وتجريبيته بل ونزعته العلمية المتطرفة، كان شديد الإعجاب بالرياضيات؛ لذا لم يؤمن أبدًا بجدوى الاستقراء، وبالتالي لم يتوقف كثيرًا عند السببية، فكان أول متحدٍّ ذي خطر لها هو هيوم الذي بدأت معه الفلسفة الحديثة للسببية.

وهيوم هذا تجريبي شديد التطرف، لا يعترف بمصدر للمعرفة إلا انطباعات الحس التي تخلف وراءها الأفكار، وكل ما يخرج عن المنطق والرياضة لا بد وأن يرتد إلى انطباعات الحس، وإلا كان حديث خرافة، والسببية ليست علاقة منطقية، فلا بد إذن أن نبحث عن أصولها في الخبرة الحسية، غير أن الحواس لا تعطينا إلا سلسلة من الأحداث متعاقبة زمانيًّا ومتجاورة مكانيًّا، وكل ما أدركناه هو وقوع هذه الأحداث في هذا الآن وعلى هذا النحو، ولم يصل إلى انطباعاتنا للحسية ما يفيد بالعلاقة العلية بينهما، فمن أين أتينا إذن بالاعتقاد في السببية؟ هذا اعتقاد ليس له ما يبرره لا تجريبيًّا ولا منطقيًّا.

وقد أثار هيوم مشكلة السببية في الصورة الآتية: لماذا نستنتج أن المؤثرات المعينة سوف يكون لها بالضرورة تلك الآثار المعينة؟ ولماذا نستدلُّ من الواحدة على الأخرى؟ ثم اتخذت المشكلة فيما بعدُ صورة تساؤل أكثر عمومية هو: لماذا نخرج من الخبرة بأي استنتاجات تتجاوز الحالات الماضية التي مرت بخبرتنا؟ أي لماذا نمارس الاستقراء؟

وهي أسئلة بغير إجابة، فقد أوضح هيوم أن أي إجابة سوف تلتجئ إلى مبدأ عام يحكم بأن الحالات التي لم تمر بخبرتنا لا بد وأن تماثل تلك التي مرت، وأن مسار الطبيعة يسير دائمًا بصورة مطردة،٧٨ غير أن الاطراد بدوره ليس له ما يبرره.

مشكلة الاطراد

حين نلاحظ أن الحادثة «أ» قد أعقبتها في أكثر من مرة أو حتى في كل المرات الحادثة «ب»، فإننا لا نستطيع الاعتقاد بأن ذلك قد نشأ لأن «أ» علة معلولها «ب» — فقد رفضنا السببية — بل لأن «أ» قد أعقبتها «ب» فحسب، وليس لدينا ما يبرِّر توقع الحادثة «ب» حين نرى الحادثة «أ» مرة أخرى، فتوقُّع الاطراد عادةً مسألة سيكولوجية بحتة وليست منطقية حتى نأخذها أساسًا للمعرفة، وينطلق هيوم مستغرقًا في تحليلات سيكولوجية للاعتقاد وأبعاده وأثر التكرار، تحليلات يخرج منها بأن افتراض الاستقراء وهو فقط تكويننا السيكولوجي ولا نملك أن نحيد عنه، التكرار يرسخ في الذهن الاعتقاد في قانون الطبيعة.

وإن تكرار الخبرة التي يقع فيها «ب» بعد «أ» تخلق في الإنسان عادة لتوقع «ب» كلما رأى «أ»، وليس في الإنسان فحسب، بل — كما يقول رسل — وفي الحيوان أيضًا، والحيوانات المنزلية تتوقع الطعام حين ترى الشخص الذي يُطعمها عادة،٧٩ ولكن أوَليس قد يأتي يوم يطيح فيه برقبة الدجاجة نفس الشخص الذي اعتادت الدجاجة أن تتلقى منه الطعام كل يوم؟ ذلك يعني أن تكرار الخبرة لا يعني شيئًا، فمن أدرانا أن الطبيعة لن تفعل بنا ذلك في الغد، فتسممنا ثمرة فاكهة اعتدنا أنها شهية، وإذا كان الاطراد هكذا بلا أساس، فلا بد وأن ينهار الاستقراء؛ لأن التنبؤ هو هدفه؛ إذ يمكن أن نضع الاستقراء على الصورة الآتية: «عمم الاطراد المكتشف في الأحداث الملاحظة، وضعها كاطراد يحكم كل الأحداث من نفس النوع.»٨٠ حكمًا يتنبأ بوقوعها في كل مكان وزمان، والآن كيف يمارس العالم التنبؤ، وهو سر الروعة الأخَّاذة للعلم، طالما أن اطراد الطبيعة افتراض وجب استبعاده، مثله مثل السببية، فهما مرتبطان بعلاقة تبادلية، وقد سقطا معًا على أي حال.
(٣) وفي إطار الحديث عن انهيار السببية والاطراد تلوح مشكلة شهيرة في فلسفة العلم، جديرة حقًّا بالذكر، وهي مشكلة انهيار الحتمية Determinism،٨١ والحتمية هي المذهب الذي يرى أن كل ما يقع في الكون من أحداث نتيجة حتمية للأحداث التي سبقتها ومقدمة ضرورية للأحداث التي ستلحقها ولا استثناء، فهذا الكون نظام مغلق صارم يؤذن حاضره بمستقبله، وتخضع سائر أجزائه لقوانين صارمة يكتشفها العلم، إنها تتحدث عن كونٍ مثاليٍّ لممارسة التعميمات الاستقرائية.

وقد اعتمدت الحتمية على الصورة الميكانيكية التي رسمها نيوتن للكون، على أنه كتل تتحرَّك على السطح المستوي عبر الزمان المطلق في اتجاهه من الماضي إلى المستقبل، لتغدو كل حركة قابلة للتحديد والتنبؤ الدقيق.

لكن ظهرت نظرية النسبية لآينشتين التي تحطم هذه الخلفية المفترضة والضرورية للحتمية؛ أي فكرتي الزمان والمكان المطلقين، وظهرت نظرية الكوانتم، فلم نجد في عالم جسيمات الذرة الدقيقة أية مقدمات ضرورية ولا نتائج حتمية، ولا عِلِّية ولا اطراد على وجه الإطلاق، فانهارت الحتمية بعد أن كانت هي نفسها حتمية ورفضتها الغالبية العظمى من الفلاسفة والعلماء المعاصرين، وتشبثت بها قلة.

لكن الغلبة بلا شك لأساطين العلم الرافضين، وبالطبع ينضم إليهم بوبر، فهو يعتبر الحتمية كابوسًا مزعجًا ويحمد الله كثيرًا لأنه خلص البشرية منها.٨٢

(٤) وبعد انهيار السببية والاطراد ثم الحتمية، أصبح الاستقراء مبدأ لاعقلانيًّا، بل ليس بمبدأ البتة، فإذا سئلنا مثلًا: لماذا نعتقد أن الشمس سوف تشرق غدًا؟ سنجيب: لأنها في الماضي أشرقت كل يوم، وهذا مثل أي تعميم استقرائي ليس له ما يبرِّره.

«إلا أن أحدًا قد يقول: لكننا في الواقع نستطيع التنبؤ بالوقت الدقيق الذي سوف تُشرق فيه الشمس غدًا؛ وذلك بواسطة القوانين الثابتة في الفيزياء كما تنطبق على أحوال مثل تلك التي نعيشها هذه اللحظة، غير أن هذا يمكن الرد عليه مرتين، فأولًا حقيقة أننا قد وجدنا أن قانون الفيزياء يصح في الماضي لا يستتبع ذلك منطقيًّا أن يستمر في الصحة في المستقبل، ثانيًا أن قوانين الفيزياء هي نفسها عبارات عامة لا تتضمنها منطقيًّا وقائع الملاحظة التي تساندها مهما كثرت وتعددت» …٨٣ إنها هي نفسها قائمة على أساس الاستقراء الذي جئنا بها لتقيمه، وقد يستمر الجدل والنقاش فندَّعي أننا نملك السبب الذي يعلل أن المستقبل سوف يماثل الماضي؛ ذلك لأن كل المستقبلات الماضية قد شابهت كل الماضيات الماضية إلا أن الخبرة التي لدينا هي بالمستقبلات الماضية،٨٤ ها نحن ذا ما زلنا نحتاج إلى تعميم أحداث الماضي على المستقبل على أساس الاستقراء، وهذا الدوران المنطقي ينطبق على شق المشكلة الأول الخاص بالسببية، فكلما تكرر توالي «ب» ﻟ «أ» استنتجنا أن «أ» علة ﻟ «ب»، لماذا نعتبر «أ» علة ﻟ «ب»؟ لأن «ب» تتبع «أ» دائمًا، ولماذا تتبع «ب» «أ» دائمًا؟ لأن «أ» علة «ب».
(٥) هكذا تعقدت مشكلة الاستقراء واستعصت على الحل، وهذا رسل يصفها بأنها واحدة من أصعب المشاكل الفلسفية وأكثر إثارة للمناقشة والجدل،٨٥ فقد حيرت الفلاسفة منذ هيوم وحتى الآن، وحين عجزوا عن حلها وقفوا منها عدة مواقف، هاك أمثلة لها:
  • (أ)
    المنطق الأرسطي، وقد كان متضمنًا لباكورة الاستقراء، قد حل هذه المشكلة بادعاء أن كل استدلال استقرائي يحتوي على مقدمة كبرى عقلية قبلية مؤداها أن الصدفة لا تتكرر دائمًا ولا حتى كثيرًا، ومقدمة صغرى هي «أ» و«ب» اقترنتا في كل الحالات المستقرأة، إذن «أ» علة ضرورية ﻟ «ب».٨٦
    وواضح أن هذا لا يحل المشكلة بل يؤكدها، يؤكد وقوعها في الأولية Apriorism وما زالت المشكلة قائمة، من أين أتينا بهذه المقدمة الكبرى؟
  • (ب)

    التجريبيون المتطرفون التقليديون قالوا: لا داعي لإثارتها، فالعلم يتقدم سواء حُلَّت هذه المشكلة أم لا، وهم بهذا دعاة لما يمكن أن نسميه باللاعقلانية التجريبية.

    إنهم الاستقرائيون المتعصبون تعصبًا هو الذي قادهم اللاعقلانية، أبرز ممثليهم في الوقت الحاضر ستراوسون، الذي يرى أن الاستقراء ليس بحاجة إلى تبرير، تمامًا كما أن الاستنباط ليس بحاجة إلى تبرير؛ لذلك فالاستدلال الاستقرائي صحيح تمامًا، كما أن الاستدلال الاستنباطي صحيح.٨٧
    وقد ذهب الباحث فارهانج تسابيه Fahrhang Zabeeh مذهب الفيلسوف ستراوسون، فقد رأى أن الاستقراء تمامًا كالاستنباط هو منهج لتبرير المعتقدات، المنهج نفسه لا يمكن أن يُبَرَّر، وإن كان من الممكن تحسينه،٨٨ وأكثر من هذا فقد اتخذ تسابيه من رأي بوبر نفسه في خرافية الاستقراء معينًا له … فقد أثبت بوبر أن الباحث يفترض قبل التجريب فرضًا، ثم يجرب فقط لكي يمتحنه، فيكون القانون ليس مشتقًّا من الوقائع المستقرأة، وبالتالي لا استقراء البتة — كما سنرى بالتفصيل — لقد راح تسابيه يناظر هذا الافتراض السابق على التجريب بمقدمات الاستدلال الاستنباطي … كي يثبت أن مكانة الاستقراء تكافئ منطقيًّا مكانة الاستنباط، رغم أنه أوضح أن بوبر يقصد بهذا استحالة الاستقراء وخرافيته، بل وأوضح أيضًا أن بوبر في هذا الموقف قوي متماسك!٨٩
    بالطبع مضاهاة الاستقراء بالاستنباط قول أجوف، وإلا فأين مشكلة الاستقراء التي تكاد تكون الفكرة الفلسفية الوحيدة المقبولة من الجميع، والتي تحكم حكمًا لا جدال فيه بأن الاستقراء غير صحيح invalid.
  • (جـ)
    الاستقرائيون المحدثون، سلَّموا بمشكلة الاستقراء، فقد أكد رايشنباخ فضل هيوم الكبير على الاستقراء بتأكيده استحالة وضع تبرير حاسم له،٩٠ لكنهم كانوا ليتركوا الاستقراء لو أنهم يبحثون به عن اليقين، لكن طالما أن جميع القوانين العلمية احتمالية، فلا بأس أن يكون أساس الاحتمال ليس ثابتًا، أبرز مَنْ حاولوا تبرير الاستقراء على أساس الاحتمال كينز Keynes وبيرس ورايشنباخ.٩١
    لكن أبسط ما يقال لهم هو قول بوبر: إن الاحتمالية لن تنقذ الاستقراء، فإذا أسندنا درجة الاحتمالية للقضايا القائمة على استدلال استقرائي، فلا بد من تبرير درجة الاحتمالية عن طريق مبدأ استقرائي جديد، وهذا المبدأ الجديد لا بد من تبريره وهكذا …٩٢ لا نلقى مناصًّا من الارتداد الذي لا نهاية له والذي يوقعنا فيه الاستقراء، إنهم لم يفعلوا شيئًا أكثر من سحب السمة اللاعقلانية من القوانين اليقينية لتغطي أيضًا الفروض الاحتمالية، والمحصلة أن العلم، سواء كان يقينًا أم احتماليًّا، هو لاعقلاني.
  • (د)

    من المدارس التي استطاعت بحق حل المشكلة: المدرسة الأداتية التي ترى في العلم مجرد نسق منطقي من عبارات هي دالات منطقية؛ لأنها لا تعدو أن تكون محض أدوات تستنبط منها العبارات التي تعين على فهم العالم وتحقيق الهدف التكنولوجي للعلم.

    وبهذا تنتهي مشكلة الاستقراء، فإذا كانت العبارة العلمية دالة وليست إخبارية فإنها لن تكون مجرد حصر لجميع الحالات التي وقعت في الخبرة، فتكون تحصيل حاصل، وهذا خلف لأنه مناقض للطبيعة الإخبارية، ولا هو قياس على الشاهد فتواجهنا مشكلة الاستقراء أن دالة القضية المنطقية تعفي نفسها من اختبار الصدق والكذب٩٣ ومن الاعتماد على الوقائع المستقرأة، الدالة المنطقية مقولة مبهمة غير محددة معفاة من أي قيود سببية أو استقرائية، فهي إذن بلا مشاكل.

    هذا موقف متماسك فعلًا، لكن المشكلة هي صعوبة التسليم معهم بافتراضهم الأولي من أن العبارات العلمية محض أدوات، فالغالبية العظمى ترى في العلم عبارات تركيبية إخبارية لها محتوى معرفي عن الواقع تعرقله مشكلة الاستقراء.

  • (هـ)
    والجدير بالذكر حقًّا أن الوضعية المنطقية اضطرت إلى الالتجاء لهذا الملجأ الأدائي لكن فقط بالنسبة للقوانين الكلية، فاعتبروها محض قواعد أو أدوات للاستدلال على العبارات الجزئية٩٤ الإخبارية، فهي بغير محتوى معرفي تقيم حوله دلالته الإخبارية مشاكل استقرائية، بالطبع الرد عليهم نفس الرد السابق.
  • (و)
    أما البراجماتيون فقد قالوا: ليكن الاستقراء مجرد عادة كما قال هيوم، إلا أنها ليست عادة مرذولة، بل هي عادة حسنة تفضي بنا إلى حصاد هائل، فلماذا لا نبقي عليها طالما أنها مفيدة، وقد وقف بجانب البراجماتيين رايشنباخ، فهو استقرائي متطرف، يحاول تبرير الاستقراء بكل الطرق، و«على أساس أنه أفضل الوسائل للوصول إلى معرفة عن الطبيعة، هذا الموقف مقبول على نطاق واسع إلا أنه بالطبع غير حاسم.»٩٥ فهو لم يفعل من تبرير اللاعقلانية بأنها مفيدة، والمنطق ليس مرابيًا يتغاضى عن حقوقه نظير الفائدة المادية.

    وبالإضافة لهذه المدارس فهناك فلاسفة آخرون حاولوا أيضًا حل المشكلة بصورة مستقلة.

  • (ز)
    المنطقي المعاصر وليام نيل William Kneale، حلها بالتمييز بين أربعة أنواع من الاستقراء:
    • الاستقراء التلخيصي، وهو الذي سماه أرسطو بالاستقراء التام، وهو مجرد عملية حصر الوقائع.

    • الاستقراء الحدسي، أو التجريبي، وهو موضع المشكلة، فهو إقامة مبدأ كلي عام اعتمادًا على حالات محددة،٩٦ وقد اعترف نيل بأننا لن نستطيع تبرير الاستقراء على أساس احتمالية نتائجه ولا على أساس صدقها، فلا صدق الآن، ولكن يمكن تبريره فقط بالنظر إليه على أنه خطة معقولة (Policy) على أنه النهج الوحيد الذي يوصلنا إلى تنبؤات صحيحة صادقة صدق مؤقت، أي معرض للمراجعة والحساب في المستقبل،٩٧ ومن هذا المنظور ينبغي التمييز بين نوعين من الاستقراء:
      • الاستقراء الأولي Primary Induction، ينصبُّ على اكتشاف القوانين المعبرة عن اطرادات موجودة في الطبيعة، كما اتفقنا في الخطة الاستقرائية، واستمرارنا فيها يكون من أجل الحصول على بينات مخالفة Counter-Evidence، ليمكن رفض الفروض الخاطئة، ولا يبقى في النهاية إلا أرسخ الفروض.
      • الاستقراء الثانوي Secondary-Induction، يهتم بالنظريات الكلية التي هي مجموعة من القوانين المترابطة؛ أي بالفروض الصورية ذات الطابع التفسيري الذي ينطوي على تبسيطات فتكون النظرية تقترح علينا موضوعات نبحثها بالاستقراء الأولي.٩٨

    والحق أن هذه محاولة جادة من نيل للإبقاء على كيان عزيز وغالٍ يسمونه الاستقراء، لكنها لا تعدو الإقرار الواقعي الصريح باحتمال إتيان الخطأ في غضون المستقبل، حتى لا يتسرَّب خفية، فيمثل مشكلة الاستقراء التي لا تُحَل أبدًا.

  • (ﺣ)
    من قبل نيل كان فيلسوف العلم الكبير وايتهد استطاع أن يحل المشكلة على أساس نظريته الشهيرة: النظرة العضوية للطبيعة، التي ترفض النظر إلى الطبيعة على أنها واقعة سكونية آلية، بل تنسب إليها نوعًا من الحياة وتراها مترابطة٩٩ ارتباط التعضون، بواسطة العلاقات الداخلية التي يمكنها أن تبرر الاستقراء، فالارتباط الداخلي بين الحوادث يجعل إدراكنا الحسي للحوادث كافيًا لاستبصار ما بينها من علاقات سببية ضرورية،١٠٠ وقد أوضح وايتهد أولًا أنه يختلف مع هيوم في أن الأمثلة متشابهة لا تنطوي أي منها على أكثر مما في بقيتها من مضمون، كلا هذه الأمثلة ليست بهذه البساطة المتناهية والانفصال عن بعضها كما اعتقد هيوم، وحينئذٍ نكون مضطرين بالفعل إلى ضرورة عقلية للربط بينها؛ فالتحليل في حد ذاته ضروري للفهم، ولكن الوقوف عند نهاياته والزعم بأنها تمثل الحقيقة هو جريمة في حق الطبيعة العضوية، فالأمثلة الجزئية هي الحوادث وهي ليست مفككة، بل يمتد بعضها فوق البعض الآخر في متواليات تزداد تركيبًا وعينية، ومغزاها وضرورتها لا يتضمان إلا في تلاحمها على هذا النحو، بحيث نعطي لأنفسنا الحق في التنبؤ بما سيكون قياسًا لما كان، وتستطيع الفلسفة أن تهدأ بالًا من مشكلة الاستقراء التي أرَّقتها زمنًا طويلًا.١٠١

    الآن هذا قول لا بأس به، ولكن عضوية الطبيعة وعلاقاتها الداخلية محض افتراض ميتافيزيقي ليس لوايتهد أن يلزمنا به، والحق أنه في حد ذاته ليس مقنعًا، فكيف نقيم أساس العلم؛ منطقه ومنهجه على افتراضات ميتافيزيقية، يمكن أن نقول عنها: إنها ذاتية، أساس العلم يجب أن يكون مثله موضوعيًّا ثابتًا.

  • (ط)
    فتجنشتين حاول هو الآخر تبرير الاستقراء تبريرًا سيكولوجيًّا فقال: إن العملية على أية حال ليس لها أساس منطقي ولكنَّ لها أساسًا سيكولوجيًّا، فمن الواضح أننا لا نجد أساسًا للاعتقاد بأن أبسط تسلسل للأحداث يصلح للاعتماد عليه،١٠٢ لكننا مدفوعون سيكولوجيًّا إلى هذا، من الواضح أن فتجنشتين أكد خطورة المشكلة، كيف نسمح بإقحام دوافع سيكولوجية في منطق العلم.
  • (ي)
    النظرة الشاملة لكل هذه المواقف، تجعلنا نقول قول جيرولد كاتز من أن طرق الإحاطة بمشكلة الاستقراء ثلاثة:
    • محاولة وضع تبرير للاستقراء، ولكن هذا مستحيل.

    • محاولة توضيح أن الاستقراء غير ذي مشكلة حقيقية، وأن المشكلة تقوم على خلل في استعمال المفاهيم، فالخطأ هو محاولة البحث عن تبرير للاستقراء.

    • أن يوضح الباحث استحالة الانتهاء إلى أي تبرير للاستقراء، كما فعل كاتز الذي راح في فصل مسبب يوضح هذا، ويوضح أن أي تبرير كان لأي شيء كان لا بد وأن يقود إلى ارتداد لا نهاية له؛١٠٣ لذلك فقد حل المشكلة عن طريق إثبات أن الحل الموجب لها مستحيلٌ منطقيًّا، ويمكن الحل فقط بالأخذ بجوانب الاحتمال والبساطة وما إليها؛ لذلك كان حله — كما يقول هو — حلًّا سالبًا لا بد وأن يلزم عنه المشكلة الملحَّة، وهي أن الاستقرار طالما بغير تبرير، سيبدو التميز والفصل بين الاستدلال السليم والاستدلال غير السليم invalid، أيضًا غير ممكن.١٠٤

    لم يفعل كاتز في النهاية أكثر من تأكيد استحالة حل المشكلة.

  • (ك)

    وأخيرًا فإن الموقف السليم هو — وهو فقط — موقف التجديديين الذين يرَوْن أن الثقة قد سُحِبَت من الاستقراء، فهو لا يصلح إطلاقًا مبدأ للعلم، وألحوا على ضرورة البحث عن مبدأ جديد، وأقوى من تبنِّي هذه الدعوى إيجابيًّا هو كارل بوبر، كما سيثبت في غضون هذا الباب.

(٦) لكن حتى الآن بدا الحل شبه مستحيل، وأصبحت القوانين العلمية تفتقر شديد الافتقار إلى الأسس العقلانية المطمئنة، فما لها من هذه الأسس شيء، لا في المنطق ولا في الخبرة، طالما أن أي قانون علمي — وهو عام عمومية غير مقيدة، يتجاوز كليهما،١٠٥ وفي هذا الشأن قال وايتهد: إن الموضة المستحدثة في العلم منذ وقت هيوم قد أصبحت إنكار عقلانية العلم؛١٠٦ لذلك فهو يسمي المشكلة يأس الفلسفة Despair of Philasophy، كما يسميها برود C. D. Broad، فضيحة الفلسفة Scandal of Philasophy،١٠٧ فيا لها من مشكلة خطيرة أن يصبح العلم التجريبي بجلال قدره مزعزعًا، وأن المشكلة أشمل من العلم التجريبي، فهي تصدع في بناء المعرفة بالعالم بأسرها، والمفروض أنها أوثق المعارف، مما يؤكد ذلك «أن كلمة الاستقراء التي يستخدمها بيكون ولوك، لم تظهر في نصوص هيوم إلا عن طريق التصادف، وبدلًا من الاستقراء كان هيوم يستخدم اصطلاح استدلال Inference أو الحجج المحتلة Probable Arguments أو التعقُّل من الخبرة Reason from Experience، وقد ركز هذه المصطلحات في إصلاح الدليل البين Demonstrative أو الحجج الاستنباطية Deduetio Arguments١٠٨ والدلالة الفيلولوجية والفلسفية لكل؛ لذا هي شمولية المشكلة وخطورتها على معرفتنا بالعالم بأسرها، لقد أصبح على الجميع — سواء رضوا أو أبوا — أن يعترفوا بأن القوانين العلمية تفتقر إلى البرهان المثبت، مهما كان عدد الحالات التي تؤيدها، وهذا الانهيار المريع في بناء المعرفة حوَّل الكثير من الفلاسفة التجريبيين إلى شُكَّاك أو لاعقلانيين أو متصوفة، وقاد البعض إلى الدين،١٠٩ فلا عجب إذن أن يدين رسل هيوم بأنه المسئول عن الشيزوفرينيا (انفصام الشخصية) التي أصابت التجريبيين والعلميين وعن اللاعقلانية التي أصابت الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر، وفي هذا كتب رسل يقول:
لقد أثبت هيوم أن التجريبية المحضة لا تشكل أساسًا كافيًا للعلم، لكن إذا سلَّمنا بهذه القاعدة الوحيدة — أي الاستقراء — فأي شيء بعد ذلك يتلاءم مع النظرية القائلة: إن كل معرفتنا قائمة على التجربة. ويجب التسليم بأن هذا افتراق خطير عن التجريبية المحضة، فقد يتساءل بعض التجريبيين: لماذا نسمح بالخروج عن نطاق التجربة في هذه النقطة بالذات ونمنع في غيرها، وهذه على أية حال تساؤلات لا تثيرها مناقشات هيوم بصورة مباشرة، ولكن ما تُثبته هذه المناقشات — ولا أعتقد أن هذه الحجة يمكن معارضتها — هو أن الاستقراء كقاعدةٍ منطقيةٍ مستقلة، لا يمكن أن نستدل عليها من التجربة ولا من قواعد منطقية أخرى، إنه بغير هذه القاعدة يصبح العلم مستحيلًا.١١٠

(٧) هذا هو الاستقراء، الذي سيطر على الأذهان كمعيار للعلم، وتلك هي مشكلته ومدى خطورتها على البنيان المعرفي، فماذا فعل كارل بوبر بإزاء كل هذا؟

(٦) موقف بوبر

«وكان المقصود بكتابة «منطق الكشف العلمي» أن يمدنا بنظرية المعرفة وفي نفس الوقت يبحث في المنهج؛ منهج العلم، وكان هذا الربط ممكنًا لأني أنظر إلى المعرفة الإنسانية بوصفها مكونة من نظرياتنا وفروضنا، والمعرفة بهذا المعنى موضوعية، وهي فرضية أو افتراضية حدسية.١١١

هذه الطريقة في النظر إلى المعرفة، مكنتني من إعادة صياغة مشكلة هيوم في الاستقراء.

بهذه الصورة الجديدة أصبحت المشكلة قابلةً للحل، وهذا الحل أعطانا نظريةً جديدة في منهج العلم.»١١٢

(١) الفلسفة هي البحث في الأسس النظرية العميقة التي تكمن خلف موضوع البحث، فتكون فلسفة العلم هي البحث في الأسس المنطقية للعلم كما هو معروف، ولما كان العلم هو أنساق من النظريات كانت فلسفته التي هي منطقه؛ نظرية في هذه النظريات، والمشكلة المطروحة هنا هي: نظرية تميزها عن غيرها من الأنساق قد تختلط بها.

ولكن هل تكون المعرفة العلمية متبوئة عرش السيادة، وجديرة بالعناية الدقيقة بتميزها، بعد أن رأينا هيوم يصفها باللاعقلانية، واهتراء الأساس والافتقار إلى المبررات المنطقية وما إليه، بحيث إن من يعتبر عقله يرفض التسليم بها بوصفها معرفة على الإطلاق، فضلًا عن أن تكون في طليعة المسيرة المعرفية.

(٢) إن بوبر فيلسوف العلم الأول، وأحد العوامل التي خوَّلت له هذه الأولوية هي حله لمشكلة الاستقراء وإخراجه منطقًا عقلانيًّا راسخًا للعلم، فيكون محقًّا في اعتباره المعرفة العلمية أرفع ضروب المعرفة وأكثرها تقدمًا ونجاحًا، وأقدرها على حل المشاكل، وبالتالي من الضروري تمييزها عن غيرها من المعارف؛ إذ إنها جميعًا موضوعية.

والأهم أن هذا الحل يمثل الوجهة المنطقية لضرورة حذف الخرافة الاستقرائية، فنرى أمامنا المنهج الحقيقي للعلم، وهذا من شأنه أن يعود بنا إلى لب المشكلة المطروحة في هذا الباب، الفصل في الزعم الشائع من أن الاستقراء هو المعيار الذي يميز العلم.

(٣) لكن كيف نعرض كل هذه الأفكار المتداخلة المتشابكة عرضًا منهجيًّا منسقًا؟ الواقع أن الفقرات المقتبسة المستهل بها، توفر الكثير من عناء المحاولة لاستيضاح الطريق.

فإننا إذ نعرض لنظرية بوبر في موضوعية المعرفة التي تحررها من أي بُعْد ذاتي، وتجعلها نسقًا من العبارات المحكومة بالعلاقات المنطقية، الخاضعة للمناقشة النقدية، سنجدها تقودنا إلى إعادة صياغة مشكلة هيوم، صياغة تجعلها موضوعية، فلا تعود مشكلة لمعتقداتنا أو لعقلانية معتقداتنا، بل مشكلة العبارات الكلية أو النظريات، وكيف يمكن قبولها أو رفضها على أسس منطقية عقلانية، وعن طريق هذه الصياغة، تمكَّن بوبر من حل المشكلة، وحينما حُلَّت وجدنا أمامنا منهجًا جديدًا سليمًا للعلم لا أثر لاستقراء فيه البتة، أي سار بوبر على النهج التالي: نظرية في موضوعية المعرفة إعادة صياغة مشكلة الاستقراء وحلها علم بلا استقراء البتة منهج جديد للعلم.

(٤) على هذا نخصص الفصل الثاني من هذا الباب؛ لعرض نظرية بوبر في أن «المعرفة موضوعية»، وفي الفصل الثالث تستغل هذه النظرية في «حل مشكلة الاستقراء»، وحينما تُحَل لن نجد مناصًا من اعتبار «الاستقراء خرافة»، ولكننا رأيناه في الفصل الأول وثنًا أعظم، تفانى في عبادته العلماء وفلاسفة العلم، على هذا نخصص الفصل الرابع لتأكيد أن الاستقراء محض خرافة، ولكن ما هو المنهج العلمي إذن؟ موضوع الفصل الخامس هو: «منهج العلم»، وفي نهاية هذا الباب فصل سادس لتقييم كل هذا تقييمًا نقديًّا، نناقش بوبر لنرى ما له وما عليه وإلى أي حد يؤدي كل ما سلف إلى حل المشكلة المطروحة للبحث: كيف يمكن تمييز المعرفة العلمية؟

١  جون كيمني، الفيلسوف والعلم، ترجمة د. أمين الشريف، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت سنة ١٩٦٩م، ص٢٥٨.
٢  Bryan Magee, Karl Popper, p. 12.
٣  د. توفيق الطويل، أسس الفلسفة، دار النهضة العربية، القاهرة، ١٩٧٦م، ص١٣٣.
٤  د. محمد فتحي الشنيطي، المنطق ومناهج البحث، دار الطلبة العرب، بيروت، ١٩٦٩م، ص١٧٦.
٥  Max Born, Natural Philosophy of course and chance, Oxford, 1964, p. 6.
٦  ستانلي بيك، بساطة العلم، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. عبد الفتاح إسماعيل، ص١٦١.
٧  د. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى، سنة ١٩٧٣م، الجزء الثاني، ص٤٥٣.
٨  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، الطبعة الثالثة.
٩  د. توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص١٤٠.
١٠  Encyclopeaia for Philosophy, Volume, 7, p. 340.
١١  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٨-١٩.
١٢  جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، ص٧١.
١٣  Bertrand Russell, Problems of Philosophy, Oxford University Press, London, 1974, pp. 35-36.
١٤  Bertrand Russell, History of Western Philosophy, Brothers working, London, 1954, p. 564.
١٥  بوبر يؤكد أن سقراط هو صاحب مصطلح الاستقراء، انظر ضمن هذا البحث.
١٦  وليم استبيلايندا، رجال العلم واكتشافاتهم، ترجمة أحمد مصطفى النمر، مراجعة د. جمال الدين الرمادي، مذاهب وشخصيات، العدد ١٢٧، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، سنة ١٩٦٦م، ص١٨–٢١.
١٧  B, Russell, op, cit.. p. 563.
١٨  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف بمصر، الطبعة الخامسة، سنة ١٩٦٨م، ص٤٨.
١٩  د. عزمي إسلام، مقدمة لفلسفة العلوم الطبيعية والرياضية، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، الطبعة الأولى، سنة ١٩٧٧م، ص٧٦.
٢٠  عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٥٨.
٢١  يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص٤٩.
٢٢  المرجع السابق، ص٥٠.
٢٣  انظر الأورجانون الجديد، ترجمة عربية ملحقة برسالة الماجستير «معنى الصورة عند فرنسيس بيكون» غير منشورة، إعداد فكري زكي أبو الخير، إشراف د. عبد الغفار مكاوي، جامعة القاهرة، سنة ٧٧-١٩٧٨م.
٢٤  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٦٠.
٢٥  فرنسيس بيكون، الأورجانون الجديد (الترجمة العربية)، فقرة ١٠٢، ص٨٠.
٢٦  ول ديورانت، «قصة الفلسفة»، ترجمة د. فتح الله محمد المشعشع، منشورات مكتبة المعارف بيروت، الطبعة الرابعة، سنة ١٩٧٩م، ص١٥٢.
٢٧  فرنسيس بيكون، الأورجانون الجديد، (الترجمة العربية) فقرة ١٢٧، ص٩٨.
٢٨  ول ديورانت، قصة الفلسفة، ص١٥٤–١٥٧.
٢٩  د. محمود زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية، الطبعة الرابعة، سنة ١٩٨٠م، ص٦٩.
٣٠  The McGraw-Hill Encyclopedia of World Biography, Mc-Graw Hill New York, 1973, Volume 6, p. 54.
٣١  د. زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، ص٧٠.
٣٢  كلود برنار، مدخل إلى دراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد، والأستاذ حمد الله سلطان، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة سنة ١٩٤٤م، ص١٢.
٣٣  المرجع السابق، ص٢٣.
٣٤  المرجع السابق، ص٣١.
٣٥  المرجع السابق، ص٩١ وما بعدها.
٣٦  المرجع السابق، ص١٣٥.
٣٧  المرجع السابق، ص١٧٤-١٧٥.
٣٨  المرجع السابق، ص١٨٠–١٨٣.
٣٩  Thomas Kicrman, Who’s Who’s, In the History of Philosophy, Philosophical Library, New York, 1965, p. 176.
٤٠  Peter Medwar, Hypothesis and Imagination, in The Philosophy of Karl Popper, P. A. Schitpp (ed.), volume one, pp. 274–291, p. 276.
٤١  Ibid, p. 276.
٤٢  See: J. S. Mill, System of Logic, Books I-edited by J. M. Robson, University of Toronts Press, Routledge and Kegan Paul, London. 1973. pp. 294–302.
٤٣  د. توفيق الطويل، جون ستيوارت مل، سلسلة نوابغ الفكر الغربي، العدد رقم ٦، دار المعارف بمصر، القاهرة، بغير سنة للنشر، ص١٤١.
٤٤  Alan Ryan, J. S. Mill, Routledge and Kegan Paul, London 1974, p. 70.
٤٥  John Stiuart Mill, System of Logic, p. 7.
٤٦  See: Ibid, pp. 284–287.
٤٧  Atan Reyan, J. S. Mill, p. 71.
٤٨  د. توفيق الطويل، جون ستيورات مل، ص١٣٣-١٣٤.
٤٩  Eugene August, John Stuart Mill: A Mind of Large, Charles Scribner’s Sons, New York, 1975, p. 93.
٥٠  Alan Ryan, S, Mill, pp. 75–78.
٥١  John Stwart Mill, System of Logic, p. 390.
٥٢  د. توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ص١٦٦.
نلاحظ أن مل وضح أيضًا تعبيرًا رمزيًّا عن هذا المنهج، غير أنه مختصر وموجز يحتاج إلى شرح، وتعبير د. توفيق الطويل أوضح.
٥٣  John Stiwart Mill, System of Logic, p. 391.
٥٤  د. محمود زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، ص٩٥.
٥٥  J. S. Mill, op. cit., pp. 393-394.
٥٦  John Stiuart Mill, System of Logic, p. 398.
٥٧  د. عزمي إسلام، مقدمة لفلسفة العلوم الفيزيائية والرياضية، ص٩٤.
٥٨  John Stiuart Mill, System of Logic, p. 402.
٥٩  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٦٨.
٦٠  John Stiuart Mill, System of Logic, p. 401.
٦١  هذا التعبير الرمزي مأخوذ من: د. عزمي إسلام، مقدمة لفلسفة العلوم الفيزيائية والرياضية، ص٩٣.
٦٢  John Stiuart Mill, System of Logic, p. 402.
٦٣  Alan, Ryan, J. S. Mill, p. 80.
٦٤  د. محمود زيدان، الاستقراء والمنهج العلمي، ص٩٧، ٩٨.
٦٥  المرجع السابق، ص٩٨.
٦٦  المرجع السابق، ص٨٨، وما بعدها.
٦٧  د. توفيق الطويل، جون ستيوارت مل، ص١٥٤.
٦٨  برتراند رسل، العقل والمادة ومقالات أخرى، ترجمة أحمد إبراهيم الشريف، مراجعة دكتور زكي نجيب محمود، مكتبة المتنبي، القاهرة، سنة ١٩٧٥م، ص١٦٣.
٦٩  د. عزمي إسلام، مقدمة لفلسفة العلوم، ص٧٠.
٧٠  د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٥٠.
٧١  د. عزمي إسلام، مقدمة لفلسفة العلوم، ص٧٤.
٧٢  انظر في هذا: د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ص١٥٦.
٧٣  Jerrold, J. Katz, The Problem of Induction and its Solutions, The University of Chicago Press, 1962, p. 5.
٧٤  Karl Popper, Logic of Scientific Discovery, Huthinson and Co., London: Bagle Books Inc. New York, 1975, p. 28.
وسنرمز لهذا الكتاب فيما بعد بالرمز: K. P. L. S. D.
٧٥  Ibid., p. 29.
٧٦  د. محمد مهران، د. عبد الحميد حسن، في فلسفة العلوم ومناهج البحث، ص٢٢٢.
٧٧  د. عزمي إسلام، مقدمة فلسفة العلوم الطبيعية والرياضية، ص١٨٣.
٧٨  Fahrhang Zabeeh, Hume’s Problem of Induction, in Hume: A Re-evaluation, ed. by Donald, W. Livingston and James, T. King Fordhamll University Press, New York, 1976 p. 74.
٧٩  Bartrand Ruesell. Problems of Philosophy, p. 35.
٨٠  Jerrold, J. Katz, The Problem of induction and its solutions, pp. 5-6.
٨١  انظر في تفصيل هذه القضية كتابنا: «العلم والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، سنة ١٩٨٧م، وفيه مناقشات أعمق لمشكلة السببية والاطراد، في أصولها وتطوراتها ومآلها.
٨٢  في الفصل التالي سيؤكد بوبر على موضوعية المعرفة واستبعاد أي عنصر ذاتي، ولما كانوا في القرن الماضي يُؤَولون كل حالة تخرج عن نطاق الحتمية على أنها جهل، كان رفض بوبر للحتمية متسقًا، من هذا الوجه ضمن وجوه أخرى عديدة، مع رفضه لأي اعتبار للحالات الذاتية من جهل أو شك أو اعتقاد، على العموم هذه مجرد وجهة نظر أو تأويل لي، انظر موقف بوبر من الحتمية بالتفصيل: Indetcrminism in Quantum Physico and id Classical Physics, The British Journal for the Philosophy of science, Vol. I, J. Nos. 2-3, Of Clouds and clock: An Approach to the Problem og Rationality and the Freedom of Man. in Objectie Knowledge, pp. 206–255.
٨٣  Bryan Magee, Karl Popper, p. 12.
٨٤  Bertrand Russell, Problems of Philosophy, p. 36.
٨٥  Ibid. p. 39.
٨٦  محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، دار الفكر، بيروت، الطبعة الرابعة، سنة ١٩٧٢م، ص١٢٦.
٨٧  K. P. Reolies, pp. 1014-1015.
٨٨  Fahrhang Zabeeh, Hume’s Problem of Induction, in Hmue A. Revolution, p. 81.
٨٩  Ibid, p. 39.
٩٠  Jerrold J. Katz.
Ibid, p.17.
٩١  The Problem of Induction and its solutions, p. x.
٩٢  K. P. LSD, p. 28.
٩٣  محمد فرحات عمر، طبيعة القانون العلمي، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة سنة ١٩٦٦م، ص٢٠٩-٢١٠.
٩٤  K. P. L. S. D., p. 312.
٩٥  Jerrold J. Katz, op. cit., p. XI.
٩٦  د. ماهر عبد القادر محمد علي، فلسفة العلوم الطبيعية المنطق الاستقرائي، دار المعرفة الجامعية الإسكندرية، سنة ١٩٧٩م، ص٣٠٩-٣١٠.
٩٧  المرجع السابق، ص٢١٢–٢١٤.
٩٨  المرجع السابق، ص٢١٤–٢١٧.
٩٩  د. زكريا إبراهيم، دراسات الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر المعاصرة، الطبعة الأولى، سنة ١٩١٨م، ص١٧٨ وما بعدها.
١٠٠  بدوي عبد الفتاح، وايتهد وفلسفة في العلوم الطبيعية، رسالة ماجستير غير منشورة بإشراف الدكتور يحيى حامد هويدي، جامعة القاهرة، سنة ١٩٧٩م، ص١٨١.
١٠١  المرجع السابق، ص٤١.
١٠٢  J. Katz, Problem of Induction And its Solutions, S. p. 17.
١٠٣  Ibid. See. pp. 24–37.
١٠٤  Ibid., See: 80–103.
١٠٥  Bryan Magee, Karl Popper, p. 16.
١٠٦  A. N. Whitehead Science and Modern World, William Collins Sons and Co. Ltd. Glasgow; Great Britain, 1975, p. 17.
١٠٧  Jerrold. J, Katz, Problem of Induction and its Solutions, p. 17.
١٠٨  Fahrhang Zabeeh, Hume’s Problem of Induction, pp. 69-70.
١٠٩  Brgan Magee, Karl Popper, p. 16.
١١٠  Bertrand Russell, History of Western Philosophy, pp. 699-700.
١١١  K. P., U. Q. pp. 85-86.
١١٢  K. P. L. S. D. p. 59.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤