حل مشكلة الاستقراء
مقدمة
المثل تمامًا فعله بوبر بشأن فرض الاستقراء؛ فقد حل مشكلته بأن عرضها عرضًا منطقيًّا، يخرج منه بأسس لمنطق العلم لا أثر لاستقراء فيها البتة لكي يحكم حياتنا العلمية أو حتى العملية، وبالتالي يتخلص من الاستقراء ومشاكله، ويسجل نصرًا فلسفيًّا مؤداه حل مشكلة الاستقراء.
(٢) ولكي يثبت بوبر هذا، يبدأ تناوله للمشكلة بأن يبسطها على صورتها التقليدية، مبينًا عيوب هذه الصورة وجذورها، وكيف ظلت آمادًا طويلة مسلمًا بها، وحتى جاء هيوم، وإذا وصل بوبر إلى هيوم، يطرح مشكلته طرحًا مميزًا بين عنصريها المنطقي والسيكولوجي، مبينًا أخطاءها وأخطاء هيوم الكبيرة، ثم يعيد بوبر صياغة مشكلة الاستقراء، صياغة ترضى عنها نظريته السابق عرضها في موضوعية المعرفة، وتستبعد أخطاء المحاولة الهيومية السابقة، وتحل المشكلة تمامًا حلًّا ذا نتائج جمة.
لم يعالج بوبر الموضوع بهذا الترتيب، بل عالج نقطة هنا وأخرى هناك، غير أن أفضل عرض نسقي لأفكاره، إنما هو كالآتي؛ أي كما سنعرضه بهذا التنسيق.
(١) نقد المشكلة في صورتها التقليدية
(١) أولًا وقبل كل شيء، المشكلة في صورتها التقليدية التي عرضها الفصل الأول، قسم (٥)، خاطئة، فإذا كانت صياغتها تتمثل في: ما هو تبرير الاعتقاد الواسع بأن الماضي سوف يشابه المستقبل؟ أو: ما هو تبرير الاستدلالات الاستقرائية؟

بصفة عامة نظرية الحس المشترك في المعرفة قريبة جدًّا من نظريات التجريبية الإنجليزية التقليدية؛ أي من باركلي ولوك وهيوم، وعلى أية حال، فنحن نجد الفكرة الشائعة هي أن عقولنا فعلًا فيها توقعات، نحن نعتقد بعمق في اطِّرادات معنية، أي قوانين للطبيعة، وهذا يقودنا إلى مشكلة الحس المشترك في الاستقراء: كيف نشأت هذه التوقعات والاعتقادات؟
ببساطة يسلِّم الحس المشترك بكل هذا، ولا يفكر في إثارة أية مشاكل، وكان هذا هو الموقف الذي تشبث به الفلاسفة الاستقرائيون منذ أرسطو وشيشرون، كما أوضح الفصل الأول، لم يفكر أحد في مناقشتها مناقشة جدية حتى جاء هيوم.
-
المشكلة المنطقية: المتعلقة بتبرير صحة الاستقراء: هل لدينا التبرير الكافي للانتقال من الحالات المتكررة التي وقعت في خبرتنا إلى الحكم على (الاستنتاجات) الحالات التي لم تقع في خبرتنا؟
وقد أجاب هيوم على هذا بالنفي مكونًا مشكلة الاستقراء المنطقية.
-
المشكلة السيكولوجية: المتعلقة بالتكرار وأثره السيكولوجي: لماذا نتوقع جميعًا — وبمثل هذه الثقة العظيمة — أن الحالات التي لم تقع في خبرتنا سوف تطابق تلك التي وقعت، ونعتقد في ذلك؟
وقد أجاب هيوم على هذا بسبب العادة habit أو التعود custum اللذين ينشآن عن التكرار، فنحن مزوَّدون بميكانيزم Mechanism (أسلوب عمل) سيكولوجي، هو ميكانيزم ربط الأفكار عن طريق التكرار، فالنتيجة إذن هي أن التكرار هو الحجة التي تحكم حياتنا المعرفية، لكنه في واقع الأمر ليس بحجة على الإطلاق، أي إن المعرفة العلمية ليست قائمة على حجة، أي لاعقلانية إذن إما نتخلى عن العلم، وإما عن مطلب العقلانية.٧
موقف محرج حقًّا أدى إلى هذه المشكلة المتفاقمة؛ مشكلة الاستقراء.
لكن رغم هذا الانفجار المدوي الذي فجَّره هيوم في بهو الفلسفة، فإن فلسفته هو الاستقرائية ذاتية مهلهلة، غاية في الاهتراء، ولا ينبغي أن نترك هذا الجانب من فلسفة هيوم، بغير أن نعرضه لمنظار النقد، فبوبر فيلسوف النقد.
(٤) نقد هيوم
أولًا: النقد العلمي التجريبي
- (أ) نفس النتيجة بالضبط Typical Result للتكرار:لقد انتهى هيوم إلى أن التكرار قد خلق فينا عادة الاعتقاد في قانون، غير أن هذا خطأ والعكس تمامًا هو الصحيح؛ فالتكرار يحطم الوعي بالقانون ولا يخلق اعتقادًا فيه، فمثلًا في حالة عزف قطعة موسيقية صعبة على البيانو، يبدأ العازف مركِّزًا وعيه وشعوره، وبعد قدر كافٍ من التكرار يتم العزف بلا انتباه لقانون، وحين البدء في قيادة الدراجة نتعلم أن ندير الدفة في الاتجاه الذي نخشى السقوط فيه، وتبدأ المحاولات الأولى للركوب وأذهاننا مركزة تمامًا على هذا القانون، ولكن بعد قدر كافٍ من التكرار ننسى تمامًا هذا القانون وتصبح عملية القيادة بغير تركيز، هكذا يتضح أن التكرار يحطم الوعي بالقانون، فنحن لا نشعر بدقات الساعة المنزلية، ولكن نشعر أن الساعة قد توقفت.٩
وقصارى ما يمكن قوله هو أن التكرار يخلق عادة متعلقة فقط بأسلوب أداء العمل أداءً آليًّا أكثر سهولة ومرونة، ولكنه — كما رأينا — لا يحمل أي بُعْد لخلق قانون، بل يحطم مثل هذا البعد.
- (ب) نشأة العادة Genesis of habit:
ممارسة السلوك قد يسمى عادة فقط بعد التكرار، لكن ليس بسببه، فهو ينشأ أولًا ثم يتكرر ثانيًا، إذن لا يمكن أن نعزوَ نشأة العادة إلى التكرار كما فعل هيوم.
- (جـ)
خاصية الاعتقاد في قانون:
وهو شيء، والسلوك الذي ينمُّ عن توقع لما يشبه القانون في تسلسل الأحداث شيء آخر، قد يكونان وثيقَيِ العلاقة بدرجة تكفي لكي نعاملها معاملة واحدة،١٠ ولنرضي هيوم أكثر فلنقر أنهما قد يحدثان — في بعض الأحيان — كنتيجة للتكرار.لكننا في معظم الأحيان نجد أمامنا واقعة غير مرغوب فيها بالنسبة لهيوم؛ وهي: أن الاعتقاد في قانون أو التوقع له قد يكون نتيجة لملاحظة واحدة ملفتة للنظر (ملاحظة واحدة تعني عكس التكرار)، وهذه واقعة حاول هيوم أن يستبعدها؛ لأنها بالطبع مهدِّدة لنظريته بأن أرجعها إلى العادة الاستقرائية، التي تكوَّنت كنتيجة لعدد كبير جدًّا من سلسلة تكرارات طويلة، والتي وقعت في فترة مبكرة من الحياة.
إلا أن هذه المحاولة الهيومية فاشلة، يؤكد فشلها تجارب عالم النفس بيجيه Bage فهو قد أمسك بسيجارة مشتعلة قريبًا من أنوف جِرَاء صغيرة، وفي الحال استنشقتْها ثم أدارت ذيولها، ولا شيء بعد ذلك جعلها تعود إلى مصدر الرائحة أو تستنشقها مرة ثانية، وبعد أيام قليلة كان لها نفس رد الفعل لمجرد منظر السيجارة، أو حتى قطعة ورق بيضاء مبرومة عن طريق القفز بعيدًا أو العطس، وبالطبع فإن عادة هيوم الاستقرائية، والتي تكونت في فترة مبكرة من الحياة، تُعْتَبَر هنا محض هراء؛ وذلك لأن الحياة القصيرة للجرو لا يمكن أن يتوفَّر فيها مجال للتكرار، فضلًا عن التعامل الواسع مع الجدة Novelty؛١١ وبالتالي للاتكرار.على ذلك تبقى الواقعة بأن ملاحظة واحدة كفيلة بخلق خاصية الاعتقاد في قانون أو التوقع له في السلوك قائمة حتى في أصغر المواليد والحيوانات، لتحكم على نظرية هيوم بالفشل ومجانبة الصواب، بوبر فعلًا محق، لو أخذنا مثال رسل السابق١٢⋆ من أن التكرار يخلق في الدجاجة عادة استقرائية تجعلها تتوقع الطعام ممن أطعمها كل يوم، نجد أن الأمر لا يستدعي تكرارًا استقرائيًّا، الدجاجة سوف تتوقع الطعام بمجرد أن ترى شخصًا يحمله حتى لو كانت تراه لأول مرة، التكرار لا ينشئ الاعتقاد، ولا هو يقويه، فلو كانت قوة الاعتقاد نتيجة للتكرار؛ لكان بينهما تناسب طردي بحيث تزيد قوة الاعتقاد مع تزايد الخبرة، فيكون أقوى في الأشخاص المتمدينين؛ نظرًا لزيادة خبرتهم عن البدائيين، غير أن العكس هو الصحيح، فقوة الاعتقاد تكون دائمًا حيث الخبرة الضحلة، وتبلغ ذروتها في الدوجماطيقية مع المرحلة البدائية للحضارة.١٣وبعدُ يمكن أن نضيف إلى نقد بوبر هذا، نقد وايتهد الوجيه من أن لفظَي التكرار والعادة يجعلان هيوم تجريبيًّا مزيفًا؛ لأنه لو دقق فيهما لوجدهما بغير تعريف تجريبي سليم، فكيف يتخذهما أساسًا لفلسفة تجريبية.١٤كل هذا — متضمنًا لأدلة تجريبية — تبطل دعاوى هيوم التجريبية، وفي تحليله للمعرفة التي ادَّعى أنها استقرائية ليس فحسب، لدى بوبر أيضًا حجج منطقية، تبطل هي الأخرى دعاويه، كل ذلك لأن المعرفة ليست استقرائية.
ثانيًا: النقد المنطقي لهيوم
خلاصة هذا ببساطة، هو أن بوبر يشرح المفهوم السيكولوجي العلمي الأصيل للتكرار، ليثبت أنه شيء مخالف تمامًا لذلك الذي أراده هيوم له ومنه، وأنه لا يمكن — في واقع الأمر — أن يقوم بالدور الذي خوَّله هيوم له؛ لأننا نحن الذين نحكم على الأحداث بأنها تكرار، وليست هي التي تحكمنا بما يبدو من تكرار لها فتجعلنا نستنتج قانونًا؛ ومن ثم فليس التكرار علةً لما تصوره هيوم معلولًا له — أي العادة — وقد أعطانا دليلًا سيكولوجيًّا تجريبيًّا على هذا.
- (أ)
نحن نكتسب المعرفة بإجراء لا استقرائي، علينا إذن أن نترك الاستقراء، ونبحث عن مثل هذا الإجراء، هذه الإجابة خليقة بأن تستبقي هيوم عقلانيًّا، بل وتتوجه في عالم منطق العلم، لكنه للأسف لم يقو على الأخذ بها، ربما — فيما يرى بوبر — لأن الأصالة المنطقية تنقصه، وربما — فيما يبدو لي — لأن الاستقراء كان مسيطرًا سيطرة يصعب على فيلسوف مثل هيوم، وجاء في زمن كزمن هيوم، أن يتخلص من أَسْرِها.
- (ب)
أما الإجابة الثانية فهي: نحن نكتسب معرفتنا بالتكرار الاستقرائي، رغم أن الاستقراء باطل منطقيًّا، وقد رأينا هذا يعني أن جماع معرفتنا العلمية لا عقلانية.
كل هذا يعني أن نظرية هيوم — رغم آثارها العميقة — من الناحية المنطقية مهترئة، وقد سبقت الإشارة إلى أنها في حقيقة أمرها نظرية سيكولوجية في الاعتقاد والعادة، فهل يمكن أن يرفضها المنطق، لكن نقبلها في عالم علم النفس، الإجابة: كلا، بناءً على الآتي:
ثالثًا: النقد السيكولوجي لنظرية هيوم
إذا أردنا أن نضع نظرية سيكولوجية عن أصل الاعتقاد، فينبغي أن نحذف الفكرة البدائية «الأحداث المتماثلة»، ونضع بدلًا منها «الأفعال التي تكون ردود أفعالنا عليها هو تفسيرها بأنها متماثلة» ذلك هو التعبير العلمي السليم.
الواقع أن بوبر يدور مدارًا واحدًا، محوره أن الاعتقاد يسبق مفهوم التكرار، وليس العكس كما أراد هيوم، ويأخذ بوبر في تكييف هذه الفكرة، وإما تكييفًا علميًّا تجريبيًّا وإما منطقيًّا، وإما سيكولوجيًّا، حسب وجهة النقد الذي يريد أن يوجهه إلى هيوم، لينتهي في النهاية إلى أن نظرية هيوم، سواء بوصفها فلسفية أو منطقية أو حتى سيكولوجية لا تساوي شيئًا.
(٢) حل المشاكل الاستقرائية
مصطلحات هيوم الذاتية | مصطلحات بوبر الموضوعية |
---|---|
الحالات التي مرت بخبرتنا | عبارات الاختبار test statements أي العبارات المفردة التي تصف أحداثًا ملاحظة، وهي عبارات observable Statement أو العبارات الأساسية basic Statement.* |
الحالات التي لم تمر بخبرتنا | النظرية الكلية الشارحة Universal Explanatory Theory. |
- (أ) من الناحية المنطقية، فإن الحالات تؤخذ بالنسبة لقانون عام، أو على الأقل بالنسبة لدالة عبارة Statement Function، يمكن أن تُعَمَّم؛ إذ نأخذ هذه الحالات بوصفها أمثلة دالة على قانون عام.
- (ب)
الانتقال من الحالات الماضية إلى استدلال يتعلق بالحالات المستقبلة، يتم بمساعدة نظريات كلية.
- (جـ) بوبر — مثل رسل — يرغب أن يصل مشكلة الاستقراء بالقوانين الكلية ونظريات العلم، وليس بالحالات المستقبلة.٢٠
- أولًا: هل يمكن أن تبرر الأسباب التجريبية، الدعوى بصدق النظرية الكلية
الشارحة؟ أي عن طريق افتراض صدق عبارات اختبار معينة — أو عبارات
ملاحظة — هل يمكن أن نبرر النظرية؟٢١
إجابة بوبر نفس إجابة هيوم؛ أي بالنفي مهما كان عدد الحالات كبيرًا.
وهناك مشكلة منطقية أخرى، وهي لا تعدو أن تكون تعميمًا للسابقة؛ فهي تتأتى لنا بمجرد أن نحل «صدق أو كذب» محل صدق وهي:
- ثانيًا: هل يمكن للأسباب التجريبية أن تبرر الدعوى بصدق أو كذب النظرية
الكلية الشارحة؟ أي هل يمكن لافتراض صدق عبارات اختبار معينة، أن
تبرر إما الدعوى بأن النظرية الكلية صادقة، وإما الدعوى بأنها
كاذبة؟
بوبر يُجيب على هذا بالإيجاب، فإذا كان صدق عبارات الاختبار لا يتمكن من تبرير الدعوى بصدق النظرية الكلية الشارحة، فإنه يتمكن أحيانًا من تبرير كذبها.٢٢وترتكز هذه الإجابة من بوبر — والحق فلسفته المنطقية بأسرها — على قاعدة منطقية صارمة، هي قاعدة اللاتماثل المنطقي logical Asymmetry بين التحقيق — أي إثبات الصدق — وبين التكذيب عن طريق الخبرة؛ فالمنطق يقضي باختلاف المنزلة المنطقية بين التحقيق والتكذيب؛ لأن ألف حالة لا تثبت القضية منطقيًّا؛ لذا برزت مشكلة الاستقراء، ولكن حالة رفض واحدة تحسم القول في كذب القضية، فيكون رفض الإثبات وقبول النفي أصوب الصواب — الصواب المنطقي الذي نقيم عليه العلم.
تبعًا لمشكلة الاستقراء، يستحيل علينا التمييز — كما أشار رسل — بين فرض علمي وبين اعتقاد مجنون بأن بيضة مسلوقة: الاثنان قائمان على أسس لامنطقية لاعقلانية؛ لذلك كان الاستقراء عاجزًا منطقيًّا عن الاختيار بين الفروض المتنافسة، وتفضيل الفرض الأكثر صدقًا، ولكن بهذا التناول البوبري نستطيع التوصل إلى تفنيد بعض من الفروض المتنافسة، فتكون فرصة التفضيل متاحةً أكثر؛ لأنها تنحصر بين الفروض التي لم يتم تفنيدها بعدُ، وهذه يقود إلى صياغة ثالثة لمشكلة الاستقراء لا تعدو أن تكون مجرد بديل للمشكلة الثانية، والمشكلتان الثانية والثالثة مجرد تعميم للأولى، «وفي هذا إيماءة واضحة إلى أننا نتحرك فقط — ها هنا — في مجال المنطق» وهذه الصياغة الثالثة هي:
- ثالثًا: هل يمكن للأسباب التجريبية أن تبرر تفضيل Preference بعض من النظريات الكلية
المتنافسة على الأخرى؟٢٣بوبر يجيب على هذا بالإيجاب تبعًا لإجابته بالإيجاب على المشكلة الثانية، فإذا توصلنا إلى تفنيد بعض من الفروض المتنافسة، أصبح من الواضح تفضيل الفروض التي لم يتم تفنيدها بعد، وهذه نتمسك بها مؤقتًا بوصفها حد التقدم العلمي حتى هذه اللحظة، ثم تستأنف الجهود العلمية التالية المسير منها بأن تحاول تفنيدها هي الأخرى، وتحاول أن تضع بدلًا منها فروضًا أكثر اقترابًا من الصدق، نأخذ بأفضلها نسبيًّا، ونتمسك بها مؤقتًا، فقط لأنها أفضل ما لدينا حتى الآن، إلى أن يتم تفنيدها هي الأخرى، وهذا التفنيد سيتم — لا محالة — يومًا ما حين نتوصل إلى فروض أفضل نسلِّم بها بصفة مؤقتة … وهلم جرًّا؛ إذ لا يتوقف العلم أبدًا، بل يسير سيرًا متصلًا، هو في جوهره نفس مسار المعرفة بجملتها — والتي هي موضوعية — بل ومسار سائر الأنشطة الحيوية، والذي رأيناه يتلخص في المعادلة «م١ ح ح أ أ م٢»، على هذا المنوال يسير العلم في حلقات متصلة، كل منها أكثر تقدمًا من سابقتها، مهما بلغت من تقدمها وقوتها يستحيل أن تعتبر يقينية، ولا حتى صادقة، فقط أكثر اقترابًا من الصدق.
هكذا نجد العلم مطرد التقدم، لا يمكن أن نَسِمه بالسمة اللاعقلانية، فأين اللاعقلانية في معرفة تسير بمنهج نقدي، يبحث عن الخطأ في النظريات المتنافسة، إنه منهج التفضيل العقلاني، الذي يتحوَّل إلى لاعقلاني، فقط حين يبحث عن اليقين، عن النظرية الصادقة أبدًا لكن التخلي عن مطلب اليقين أو الصدق، لا يعني إطلاقًا التخلي عن البحث عن الصدق؛ فالبحث العلمي محكوم أولًا وقبل كل شيء بفكرة الصدق، فكرة الكشف عن نظرية أكثر اقترابًا من الصدق، فالصدق الغاية المرومة، والهدف النهائي بعيد التحقيق، فهو — كما عرفنا في الفصل السابق — يلعب دور الفكرة التنظيمية.
لذلك يقترح علينا مبدأ الطرح المشاكل الآتية، وحلولها على النحو التالي:
بوبر يجيب على هذا بالنفي، إننا لا نشعر باليقين أبدًا مهما نظرنا إلى الأدلة الكافية، إن اليقين هو المستحيل، فالشمس قد لا تشرق غدًا؛ فقد تنفجر مثلًا بعد نصف ساعة، ولكن لا ينبغي أن نأخذ هذا الاحتمال مأخذ الجد؛ لأننا لا نستطيع أن نفعل بإزائه شيئًا، إذن لا بد وأن نأخذ في الاعتبار السلوك العملي «البراجماتي» الذي يأتي نتيجة للاعتقاد، فإذا كان المبرر العقلاني للشعور السيكولوجي باليقين مستحيلًا، فإن هناك فعلًا شعورًا قويًّا، أو اعتقادات، وهذه المعتقدات سواء كانت عقلانية أو غير عقلانية، يقينية أو غير يقينية، تحكم حياتنا العملية؛ لذلك لا بد وأن نأخذ في الاعتبار المعتقدات البراجماتية، أي التي تحكم حياتنا العملية، والتي قد تكون على جانب عظيم من القوة، هل هي حقًّا كما ادعى هيوم نتيجة للعادة الاستقرائية؛ أي للتكرار، إن ذلك يقود إلى طرح المشكلة الآتية:
بوبر يجيب بالنفي بناءً على الفكرة التي عرضها بوضوح في نقده لهيوم، وهي أن التكرار لا يخلق عادة ولا اعتقادًا، وأن عقل الإنسان أو استعداداته الفطرية هي التي تخلق مفهوم التكرار نفسه؛ لذلك فالاعتقادات البراجماتية هي نتيجة لنزوعات فطرية، ثم تعديلاتها كنتيجة لمنهج المحاولة والخطأ، المُناظر لمنهج تفضيل النظريات العلمية، ولما كنا قد انتهينا إلى أن منهج التفضيل عقلاني تمامًا، ولا يخلُّ بأية قوانين منطقية، فإن هذه السمة العقلانية تُطْرَح على الجانب السيكولوجي.
- أولًا: من وجهة النظر العقلانية، على أي نظرية يجب أن نعتمد بالنسبة
لأفعالنا العملية؟٢٧رد بوبر: من وجهة النظر العقلانية، لا يجب أن نعتمد Rely — بمعنى الوثوق الكامل — على أية نظرية، مهما اعتقدنا أن صدقها قد ثبت، فالصدق لا يمكن أن يثبت.
- ثانيًا: من وجهة النظر العقلانية، أي نظرية يجب أن نفضلها بالنسبة
لأفعالنا العملية؟
رد بوبر: أفضل النظريات المختبرة best-tested أكثر النظريات صمودًا أمام اختبارات النقد ومحاولات التفنيد هي التي يجب أن نفضلها بالنسبة لأفعالنا العملية،٢٨ فتتصرَّف على أساسها.
إننا نختار؛ لأن الحياة اليومية لن تسير، وهي لا بد أن تسير بغير أن يتم هذا الاختيار، وإذ يتم على هذا النحو، فإن بوبر لا يرى شيئًا أكثر عقلانية منه.
وأكثر من هذا فحتى الاعتقاد البراجماتي في نتائج العلم، فقد أصبح الآن عقلانيًّا على الأصالة، طالما حُلَّت مشكلة الاستقراء، قد أصبح قائمًا على المناقشة النقدية التي هي منهج العلم الآن، والذي يبدو لاعقلانيًّا فقط إذا أخذناه على سبيل اليقين، أما إذا أخذناه كأساس للسلوك العملي في الحياة اليومية، فهو الأساس الأمثل، أساس عقلاني بلا مشاكل؛ لأنه يعني أننا قد اخترنا النظرية، وجعلناها كمعتقد نؤسس عليه تصرفاتنا العملية؛ فقط لأنها الأفضل، وتصرفاتنا على أساسها ستكون أنجح مما لو اخترنا فرضًا آخر من الفروض المتاحة لنا في هذا الآن، لكن هذا الاختيار لا يعني أننا نأخذها كحقيقة موثوق بها نعتمد عليها تمامًا، بل يعني فقط أننا فضلناها على منافساتها لا أكثر ولا أقل.
على هذا النحو، حل بوبر مشكلة الاستقراء من كافة جوانبها المنطقية والسيكولوجية البراجماتية.
(٣) نتائج هذا الحل
غير أن بوبر لم يشر إلى هذا، بل يقصد بالاستقراء المقصد السليم له، أي إن الوقائع هي أصل النظرية، هي تعميم لها، أو فرض مشتق منها ومن تكراراتها.
ثم إننا لم نستطع التسليم بالنظرية احتماليًّا على أساس منطق الاستقراء، بينما نستطيع هذا على أساس نظرية بوبر في منطق العلم، هذه إحدى النتائج الهامة للحل.
(٢) إذ سيكون تسليمًا عقلانيًّا تمامًا، وعقلانية تطرح على الجانب السيكولوجي، فتقينا من الشيزوفرينيا التي عرضنا لها هيوم، أو بالأصح الاستقراء، خلاصة القول في نتائج هذا الحل أننا الآن بمأمن من كافة الآثار الخطيرة للاستقراء ومشكلته.
(٣) في سياق الحديث عن نتائج الحل، لا بد من إلقاء الضوء على زاوية هامة جدًّا في فلسفة بوبر، شاعت في ثنايا هذا الفصل، وستشيع في سائر ثنايا فلسفة بوبر المنهجية، وهي فكرة التوقعات الفطرية، أو الاستعدادات السيكولوجية «منها الاستعداد لخلق مفهوم التكرار وعلى أساسه كان نقد هيوم، وحل المشكلة السيكولوجية.»
هكذا نجد افتراض الاطراد في الطبيعة، ومحاولة فرضه عليها هي مسألة سيكولوجية مؤسَّسة على الدوافع الفطرية، مثل الدافع أو الحاجة إلى عالم يتفق مع توقعاتنا، تمامًا كالاحتياج إلى استجابات اجتماعية مطردة، أو إلى تعلم لغة ذات قواعد مطردة، مسألة سيكولوجية كيف نتخذها أساسًا عميقًا نقيم عليه منطق العلم الاستقرائي، الاطراد ليس قانونًا نبرر به منهج العلم، وعلى هذا يمكن ببساطة دحض افتراض السببية، طالما أنه وُضِعَ أصلًا لتفسير الاطراد في الطبيعة؛ لماذا يطرد اتِّباع «ب» ﻟ «أ»؛ لأن «أ» علة «ب»، لكن لا اطراد في الطبيعة كي نبحث عن مبدأ أو قانون يفسره، إذن لا سببية، بمنتهى البساطة استطاع بوبر حل المشكلة الفلسفية العميقة، مشكلة السببية، بعض النقاد يرفضون هذا الحل فقط لأنه بسيط غير معقد، على العموم نحن الآن بصدد نتيجة منهجية هامة؛ هي انهيار الاطراد والسببية، أي انهيار أساس الاستقراء.
إذن المعرفة في كافة مراحلها بدأت بفرض سابق على التجريب، ولا مكان على وجه الإطلاق لأدنى شائبة استقرائية في البنيان المعرفي.
فرخ الأوز يخرج إلى الحياة متوقعًا أن يجد له أمًّا، متوقعًا أن حجمها أكبر نسبيًّا من حجمه، أفلا يولد الإنسان — وهو تاج الخليقة — بأمثال هذه التوقعات لتكون نقطة البدء في محاولاته المعرفية، ولا تكون هذه النقطة استقراء وقائع الحس من الطبيعة، فيخرج أول إنسان في التاريخ بنتيجة استقرائية مصابة بآفة الاستقراء، جاعلة التصدع المنطقي لبنيان المعرفة متغلغلًا حتى آخر الأعماق، كلا بالطبع.
لكن الذي يهمنا الآن هو تأكيد يونج بأن الإنسان يولد مزودًا بكثير من الاستعدادات التي يتركها له أسلافه، وهذه الاستعدادات توجه سلوكه، وتحدد جزئيًّا ما سيصبح شعوريًّا لديه وما سيستجيب له في عالم خبراته الخاصة، بعبارة أخرى هناك شخصية تتكوَّن ابتداءً ذات طابع عنصري وجماعي تتجه نحو عالم الخبرات بصورة اختيارية، كما أنها تتعدل وتتطور بفضل ما تتلقاه من خبرات.
إذن أكد يونج على استعدادات فطرية يولد الإنسان مزوَّدًا بها، تؤثِّر على تلقيه الخبرات من البيئة، بل وتتطور بتطور الكائن الحي، وهذا تأييد آخر لنظرية بوبر المنهجية، وتعميق سيكولوجي لها، الفارق الوحيد هو تأكيد يونج على أن هذه الأنماط أو الاستعدادات تتأثر بالعنصر الجنسي البشري؛ أنماط السامي غير أنماط الآري …
لعل السبب الوحيد الذي جعل بوبر لا يلتفت إلى هذا التأييد السيكولوجي لنظريته هو أنه ببساطة يعتقد أن نظرية يونج لا علمية؛ لأنها من تيار التحليل النفسي، والتحليل النفسي ليس علمًا، كما سيثبت الفصل الرابع من الباب الثالث من هذا البحث.
(٥) لم يعد أمامنا الآن، أن استقراء من أي نوع كان، ولا في أية مرحلة من مراحل المعرفة، ولا في أي مجال من مجالات الحياة، وفي سياق الحديث السالف عن منطق العلم، لم يَرِد أي انتقال من وقائع إلى فرض جديد، لقد تخلَّص بوبر نهائيًّا من المعضلة التي أعجزت الفلاسفة منذ هيوم حتى رسل، أثبت هيوم أن الاستقراء لا يصلح أساسًا منطقيًّا للعلم لكن لم يستطع التخلص منه بسبب ما ادعاه من إثبات سيكولوجي له، فظل الاستقراء جاثمًا على الصدور حاكمًا على حياتنا المعرفية والعلمية باللاعقلانية، أما بوبر فقد استأصله من أعمق أعماق جذوره، إن كان له جذورٌ أصلًا.
ولكن أوَلم نر الاستقراء صرحًا أعظم يتفانى في الإخلاص له العلماء وفلاسفة العلم؟ هل يمكن أن نقول ببساطة: ليس هناك استقراء؟ الواقع أن بوبر فعلًا قال هذا، لكن لم يقله ببساطة، بل تحدَّث حديثًا طويلًا مدعمًا بالأدلة العلمية التجريبية والنظريات السيكولوجية والبراهين المنطقية؛ ليثبت أن الاستقراء خرافة، فماذا قال بوبر في هذا الحديث؟