الفصل الأول

الوضعية المنطقية ومعاييرها لتمييز العلم

مقدمة

الفلسفة بالمعنى المحدد الذي نريده لها، لا تورط نفسها في مجالات العلوم الخاصة، ولا تخلق لنفسها مجالات غير مجالات العلوم، بل تجعل مهمتها تحليلًا منطقيًّا للمدركات العلمية والقضايا العلمية، وبهذا تصبح الفلسفة فلسفة للعلم أو تحليلًا له، هدفها هو التوضيح لا الإضافة الجديدة، فليس هناك عالم إلا عالم الواقع، وليس لأحد أن يتحدث عنه حديثًا موضوعيًّا إلا رجالات العلوم المختلفة، وللفلسفة أن تجيء بعد ذلك فتحلل وتوضح.

د. زكي نجيب محمود
(١) الوضعية المنطقية Logical Positivism، مذهب على قدر عظيم من قوة الرأي وصلابة الحجة ووضوح الرؤية، دعامته الأولى وسنده الأعظم أقوى الدعامات وأعلاها شأوًا ألا وهي العلم الحديث، أما دعامته الثانية فأجَلُّ خطورة، إنها المنطق الرياضي.
(٢) وأقطاب هذا المذهب ذوو ثقافة علمية عميقة وأصيلة، بل إن معظمهم علماء أصلًا، فهذا مؤسس الجماعة موريتس شليك Moritz Schlick (١٨٨٢–١٩٣٦م) حصل على درجة الدكتوراه برسالة موضوعها «انعكاس الضوء في وسط غير متجانس» وليس فحسب، بل وإنها تحت إشراف عالم الطبيعة العظيم ماكس بلانك Max Planncke صاحب الكشوف الفيزيائي الخطير في استحداث الكمات بوصفها وحدات أولية للطاقة (عام ١٩٠٠م)؛ لذلك اصطنع شليك لنفسه لقب العالم الفيلسوف Scientist-Philosopher، ربما أسوة بآينشتين، فقد كان شليك شارحًا كبيرًا له.
ويرجع ذلك إلى عام ١٨٩٥م، حين قررت فيه جامعة فيينا، اصطناع كرسي لفلسفة العلوم التجريبية منتظرين من هذا سبر مدى عمق الاتجاه التجريبي في الجامعة من ناحية، ومن ناحية أخرى آملين منه أن يؤديَ إلى تقوية هذا الاتجاه وصقله،١ على أن يتقلد هذه الأستاذية أحد علماء الطبيعة يكون ذا ميل للعلوم الفلسفية، وكان إرنست ماخ Ernest Mach (١٨٣٨–١٩١٦م) أول من تقلده إلى أن اعتلاه موريتس شليك.

وهذه الخلفية العلمية المتينة خلقت فيهم اتجاهًا أمتن نحو العلمية حتى أرادوا أن يكون العلم وتحليلاته المنطقية، هو فقط النشاط العقلي الوحيد، الذي لا نشاط سواه.

(٣) وعلى هذا فهم وضعيون؛ لأنهم يقصرون جهودهم على ما هو موضوع Posited في الواقع الحسي الخارجي، وهم مناطقة؛ لأنهم ينظرون إلى هذا الموضوع في الواقع الحسي من خلال منظور المنطق؛ إذ يصوبونه على العبارات التي يضعها العلماء في وصف هذا الواقع وشرحه، فيقومون بتحليلها تحليلًا منطقيًّا، يجعلها أكثر دقة وأقل غموضًا وأبعد عن الالتباس؛ هذا تبعًا لأكثر الأسماء شيوعًا، وأكثرها دلالة، والذي وضعه بلومبرج وفيجل عام ١٩٣١م، وإن كان قد أطلق عليها فيما بعد أسماء عدة مثل: «التجريبية المتسقة، والتجريبية المنطقية، والتجريبية العلمية، والوضعية المنطقية الحديثة»٢ وكلها — كما نرى — تدور في نفس المدار.
(٤) قد كانت فلسفة فتجنشتين، وبالتحديد الرسالة المنطقية الفلسفية، هي السبب المباشر في نشأة الدائرة، مضافًا إليه المقدمات التاريخية،٣ وتقدم العلوم الطبيعية من ناحية ثانية، وعنصر الإبداع والابتكار من ناحية ثالثة، كل هذه العوامل شكَّلت مجموعة الآراء التي نادت بها دائرة فيينا، والتي أصبحت تُعْرَف فيما بعد باسم فلسفة الوضعية المنطقية، فما هي الخطوط العريضة لهذه الفلسفة؟

(١) فلسفة دائرة فيينا

(١) على خلاف النهج المعهود في نشأة المذاهب الفلسفية، فإننا لا نجد أمامنا أستاذًا نفذ ببصيرته وعبقريته الفردية إلى كنه الحقيقة، فاصطفَّ من حوله التلاميذ ينصتون إليه في رهبة وخشوع بل هم جمع من الزملاء، معظمهم علماء طبيعة ورياضة، التفوا حول زميلهم موريتس شليك منذ عام ١٩٢٢م، اختلفت آراؤهم، وتقاربت هاماتهم تقاربًا شديدًا، يتعاونون علميًّا لتحقيق غاية فلسفية واحدة، إذا طُرِح سؤال يتناولونه تناول الأنداد، بدلًا من أن ينصتوا في رهبة لجواب أستاذهم، وقد تختلف الإجابات بل وتتناقض، ويحاول كلٌّ تنقيح إجابة زميله واكتشاف أخطائه، قد تختلف مشاربهم الفلسفية اختلافًا شديدًا يبلغ حد العداء الفلسفي لكنهم يتفقون على مبادئ أربعة هي الممثلة لدعائم مذهبهم الفلسفي، من اعتنقها كان وضعيًّا منطقيًّا، وإن اختلف معهم في أية مسألة أخرى أو حتى في كل المسائل الأخرى، أما من يرفض مبدأ واحدًا منها لم يكن وضعيًّا منطقيًّا بحال.

أولًا: الفلسفة تحليلية٤

التيار التحليلي من أهم تيارات الفلسفة المعاصرة، وقد امتاز عن سواه بأنه ثورة فلسفية في المنهج (أسلوب البحث) وأكثر ثورية في المذهب (مضمون البحث)، وترجع فاتحته إلى مقال كتبه جورج مور عام ١٩٠٣م يقول فيه إن مشكلات الفلسفة تعود إلى أننا لا نتبين حقيقة السؤال الذي نجيب عليه، ولو حاولنا اكتشاف المعنى الدقيق للأسئلة فستختفي معظم المشاكل الفلسفية الخادعة. ويتألف التحليل عنده من ترجمة العبارة إلى أخرى أوضح، ولم ينفرد مور بقيادة الحركة، بل شاركه برتراند رسل الذي رأى أن التحليل هو رد العبارة إلى صيغ منطقية؛ لأن اللغة مضللة، أما الرائد الثالث فهو فتجنشتين الذي وجَّه العناية إلى الدراسة المنطقية للغة.

وإذا كان التحليل معروفًا منذ القدم في الفلسفة، فإن التحليل المعاصر شيء مختلف تمامًا، ويتميز بخصائص أربع؛ الأولى هي قصر الاهتمام على اللغة ورد الفلسفة كلها إلى الدراسات اللغوية، ليس البتة بمعنى النحو والصرف، ولكن بمعنى البحث الفلسفي في دلالات الألفاظ «السيمانطيقا» من ناحية، وقواعد التركيب والبناء اللغوي من الناحية الأخرى. والخاصة الثانية هي تفتيت المشكلات الفلسفية بغرض معالجتها جزءًا جزءًا اقتداءً بالعلم، ومناهضة للاتجاه الشمولي الهادف إلى بناء الأنساق الميتافيزيقية. والخاصة الثالثة هي الاقتصار على البحوث المعرفية. أما الرابعة فهي المعالجة البين-ذاتية، أي استخدام نوع من التحليل له معناه المشترك بين الذوات بمعنى قريب من الموضوعية.

هذه هي أسس الوضعية المنطقية بوصفها فلسفة تحليلية، بل وتحليلية بموقف أكثر جذرية من أي مذهب تحليلي آخر، لكنها أسس تنطبق على الوضعية مثلما تنطبق على تيارات تحليلية قد تختلف معها؛ لذلك لا بد أن نوضح بقية الأسس التي تشكل الوضعية وتميزها عن سواها.

ثانيًا: الفلسفة علمية

  • (أ)

    لقد اتفقنا على أن البحوث الفلسفية مقتصرة على التحليل، باقٍ أن نتفق على قصر هذا التحليل على العبارات العلمية، شريطة أن يكون تحليلًا منطقيًّا.

  • (ب)

    فالفلسفة — وهي مهمتها التحديد — لم تحدد لنفسها مجالاتها، فأخذت تصول وتجول حيث تشاء، حتى ضاق بها الجيران، وأخذوا يطردونها من أراضيهم واحدًا بعد الآخر، بادئين بالطبيعة منتهين بالاجتماع والنفس، ولم يَبْقَ أمامها إلا العلوم المعيارية والميتافيزيقا والمنطق.

أما العلوم المعيارية (= الأخلاق والجمال)، فما هي إلا عبارات وجدانية انفعالية، لا تزيد عن ضحكة الضاحك أو صرخة المتألم، فلا ترقى بالطبع إلى أن تكون علومًا، أما الميتافيزيقا فما هي إلا جلبة أصوات بغير معنى، إذن لم يَبْقَ للفلسفة ميدان جدير بحق البقاء إلا المنطق، فعليها أن تتمسك به وتجعله شغلها الشاغل، والعقل البشري لم يعد ينشغل إلا بالبحوث العلمية، فإذا أرادت الفلسفة لنفسها البقاء، فما أمامها إلا سبيل واحد هو تطبيق منطقها على العلم، أي تجعل نفسها منطقًا للعلم، أو فلسفة له، وبهذا تصبح الفلسفة علمية.

ثالثًا: القضية إما تحليلية أو تركيبية

  • (أ)
    لقد كانت العلوم الرياضية — بما تنطوي عليه من ضرورة الصدق المطلق — تمثل عقبة كئودًا في وجه التجريبيين، فمبدأ التجريبية الأساسي هو أية قضية مفهومة، ولها محتوى معرفي لا بد أن تكون قائمة على أساس الخبرة، لكن من الواضح أن العقل في الرياضة يستقل بنفسه عن التجربة، فتكون النتيجة قضايا يقينية الصدق. فبأي عقل، وبأي منطق نفضل عن هذا المنهج المستقل عن التجربة — أي منهج الرياضة الذي تقتفي خُطاه الميتافيزيقا — منهجًا آخر يعتمد على التجربة، فتجيء نتائجه وهي العلوم الطبيعية، في قضايا احتمالية الصدق، والواقع أن التجريبيين لم يكونوا جميعًا بجرأة مل وصلابته التجريبية، حتى يزعموا معه أن قضايا الرياضة ما هي إلا تعميمات تجريبية،٥ وربما كانت هذه العقبة هي التي منعت التجريبيين طوال خمسة وعشرين قرنًا — هي عمر الفلسفة — من اتخاذ موقف شديد التطرف، كموقف دائرة فيينا.
  • (ب)

    وكتاب برنكبياما تيماتيكا هو الذي أتاح للدائرة هذا الموقف، حين تمكَّن من تبيان الخاصة التكرارية للقضايا الرياضية، وكيف أن شِق القضية الأول يشير إلى عين ما يشير إليه شقها الثاني تبعًا لما اصطلحنا عليه من دلالات الرموز، أنها تحصيل حاصل، فارغة من المحتوى المعرفي، لا تدَّعي أدنى إخبار عن الواقع، وكانت هذه النتيجة هي الأساس الذي انطلقت منه رسالة فتجنشتين مقررة أن الصورة المنطقية للقضية الرياضية: «أ» هي «أ»؛ أي لا تقول شيئًا أكثر من إثبات ذات الهوية، عكس قضايا العلوم الطبيعية، فهي إخبارية وتتخذ الصورة المنطقية: «أ» هي «ب».

  • (جـ)
    ومن هذا المنطلق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات أو الجمل أو سائر ما يتمثل في الصور النحوية إلى قسمين:
    • (١)
      العبارات ذات المعنى Meaningful، وهي إما العبارات التحليلية، أي قضايا العلوم الصورية (= المنطق والرياضة)، وإما القضايا التركيبية القائمة على الخبرة (= قضايا العلوم الطبيعية والتجريبية).
    • (٢)
      العبارات الخَلْو من المعنى Meaningless: وهي التي تخرج عن هذين النوعين، أي العبارات الميتافيزيقية؛ فالوضعيون يطابقون بين المعنى وبين العلم، وحيث لا علم لا معنى.
لذلك لا بد أن يقتصر الحديث على نوعين من القضايا لا ثالث لهما؛ هما نوعا العبارة العلمية:
  • (١)
    القضايا التحليلية Analytic: قضايا العلوم الصورية، حيث تنحصر قيمة القضية داخل ذاتها فهي تحصيل حاصل Tautology، شقها الأول يعني عين ما يعنيه شقها الثاني؛ لذلك فهي تكرارية — تكرر في المحمول عين ما قالته في الموضوع — تبعًا للمصطلحات الأرسطية، ليس لها أي محتوى معرفي أو قوة إخبارية، تصل إليها استنباطًا، نعرف صدقها أو كذبها فقط بتحليلها تحليلًا منطقيًّا لغويًّا، فإذا أوضح التحليل أن الشق الأول هو بعينه الشق الثاني مثل «للمربع أربعة أضلاع» كانت صادقة؛ لأن القضية التحليلية مجرد إثبات للهوية، إثبات لهوية المربع، أو ما اصطلحنا على تسميته مربعًا؛ لذلك فهي يقينية، أي مطلقة الصدق؛ لأن صدقها يعتمد على الضرورة المنطقية، فلا مجال إطلاقًا للخطأ، هنا وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة، يستحيل القول بأن المربع ليس له أربعة أضلاع؛ لأنه يعني ببساطة أن المربع ليس مربعًا، والضرورة المنطقية تستلزم استحالة النقيضين؛ لذلك فالقضية هنا إن كانت صادقة كانت ضرورية، وإن كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيًّا Self Contradict.

    ورغم كل ذلك فالمسألة اتفاقية بحتة؛ لأن اللغة اتفاقية بحتة، تتوقف على أسلافنا القدامى، فقد اتفقوا على الإشارة بلفظ «المربع» إلى شكل له أربعة أضلاع، وكان يمكن أن يتفقوا على الإشارة إليه ﺑ «س» أو «ع» أو أي رمز آخر، الضرورة في قوانين منطق اللغة والفكر وليس في الواقع؛ فالواقع لا ينطوي على أية ضرورة، لكن القضية التحليلية ليس لها أية علاقة بالواقع.

    خلاصة القول: إن القضية التحليلية تكرارية، تحصيل حاصل، استنباطية عقلية يقينية ضرورية، محك الصدق فيها هو اللغة.

  • (٢)
    القضايا التركيبية Synthatic: وهي قضايا العلوم الطبيعية، التي تنقل خبرًا عن العالم الواقع من حولنا، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي، نصل إليها استقراءً٦ لخبرة الحواس، والتحليل المنطقي لأمثال هذه القضايا يردها إلى سلسلة من القضايا الذرية، أي القضية التي تشير إلى واقعة معينة في نقطة معينة من نقاط المكان، ولحظة معينة من لحظات الزمان حتى ينتهي تحليل الوضعيين إلى سلسلة من المعطيات الحسية التي تبعث بها الواقعة؛ إذ المرجع هنا في قيمة الصدق (أي الصدق أو الكذب) هو خبرة الحواس، لكن ينبغي التحفظ؛ فالصدق أو الكذب هنا نسبي يستحيل إطلاقه، المعطيات الحسية تشير الآن إلى صدقها، لكن من يدري قد يتغير في الغد العالم الطبيعي، أو تتغير المعطيات الحسية، أو تتكامل بعد نقص، فتصبح القضية كاذبة، إنها لذلك عرضية احتمالية، يستحيل أن تكون ضرورية.

    خلاصة القول: إن القضية التركيبية تجريبية استقرائية احتمالية عرضية، محك الصدق فيها هو خبرة الحواس.

    هذان هما نوعَا القضايا ذات المعنى، وهم يفضِّلون اصطلاح عبارة ذات معنى Meaningful Statement، عن اصطلاح لها معنى has a meaning؛ لأن الصيغة الأولى تظهر بمزيد من الوضوح أن المعنى صفة للعلاقات، وليس شيئًا يضاف إليها،٧ أي شيء يتحد بنفس طبيعة الجملة.

رابعًا: الميتافيزيقا لغو

  • (أ)

    أما الحديث عن الميتافيزيقا، فهو حديث ذو شجون، فأمْيَز ما يميز الوضعيين أنهم قوم ضاقوا ذرعًا بعقم المشاهد الميتافيزيقية، التي بقيت ثلاثة وعشرين قرنًا حيث خلَّفها أرسطو، بينما تحقق المباحث التجريبية تقدمًا متصلًا لا ينقطع أبدًا، فمن ذا الذي يزعم أن ميتافيزيقا القرن العشرين أدنى إلى الصواب قيد أنملة من ميتافيزيقا أرسطو، فما هو هذا الصواب، وهل من خبرة عساها أن تخبرنا به؛ لذا كانت الوضعية على العموم، والمنطقية منها على أخص الخصوص هي فلسفة قامت لكي تقوض دعائم الميتافيزيقا، وتزيحها تمامًا من عالم ينبغي أن ينفرد به العلم وحده.

  • (ب)
    وقد تيسر لهم ذلك فيما اعتقدوا بناءً على النقطة السابقة من تقسيم القضايا ذات المعنى أي العلمية إلى تحليلية وتركيبية، ولما كان مبدؤهم الأساسي هو أن أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة، فقد انزاحت العقبة الرياضية حين اتضح أنها مجرد إثبات للهوية لا تخبر بشيء — كما أوضحنا آنفًا — فبفضل جهود رسل وفتجنشتين أمكن للتجريبي — وهو هنا الوضعي المنطقي — أن يحتفظ تمامًا بمبدئه، وعليه فقط أن يضيف إليه: «ما لم تكن إثباتًا للهوية.» فيصبح أية قضية واضحة ومفهومة لا بد أن تقوم على أساس الخبرة، ما لم تكن ثباتًا للهوية، وطالما أنه لا يوجد ميتافيزيقي واحد قد أعد نفسه ليعترف بأن قضاياه لا تخبر بشيء عن العالم «٢» — أي ليست مجرد إثبات للهوية، وهي بالطبع ليست قائمة على أساس الخبرة الحسية — أمكنهم استئناف المسير إلى هدفهم المروم، فيدَّعون أن القضايا الميتافيزيقية غير واضحة ولا مفهومة؛ لأنها غير ذات معنى ولا حتى مغزى nonsense تفهمه منها، لكي نحكم عليها بالصدق أو بالكذب، إنها لا ترقى حتى إلى مرتبة الكذب؛ ذلك لأنها تدَّعي الإخبار عن العالم، أي تخبر عما لا يمكن الإخبار عنه، أي تدَّعي فعل ما لا يمكن أن يُفْعَل، إنها إذن تناقض نفسها كما أوضح كانْت، أوَلَيس من الجائز أن نلقى في إحدى صفحات كتاب يؤرخ للميتافيزيقا قضية تزعم أن الحقيقة هي المطلق، وفي صفحة أخرى «الحقيقة ليست هي المطلق.» وكل من القضيتين مصحوبة بأدلة تبدو دامغة، ولما كان الفصل بينهما مستحيلًا، أوجبت الأمانة العلمية على المؤرخ تقرير القضية ونقيضها، وما هكذا يكون تقرير الكلام ذي المعنى.
  • (جـ)

    هذه هي الأفكار التي تحدد الهيكل العام لفلسفة الوضعيين المناطقة، والتي أخذت الدائرة تناقشها وتتداولها في اجتماعاتها المستمرة، حتى أُصيبت باغتيال رائدها موريتس شليك عام ١٩٣٦م على يد طالب مأفون من جامعة فيينا، فكان أن انحلَّت الدائرة، وأكد على هذا الانحلال الغزو النازي الذي أصاب النمسا في بوادر الحرب العالمية الثانية، ولنزعتهم العقلانية والعلمية أقيل كثيرون منهم من الجامعة وكان معظمهم — كبوبر — ينحدر من أصول سامية يهودية؛ مما أدى إلى تفرُّقهم في غرب أوربا وأمريكا، مخافة بطش هتلر باليهود.

لكن النظرة الثاقبة تبيِّن أننا لا نجد أمامنا إلا مجموعة أفكار مستقلة تقريبًا، والذي يمثل العمود الفقري الذي يقيمها ويقيم المذهب ويحقق هدفه الأساسي، إنما هو معيار التحقق وما تبع اهتراءه من معايير، إنه أهم أفكار المذهب وأشهرها، فضلًا عن أنه موضوعنا الأساسي الذي جَرَّنا إلى الحديث عن الوضعية.

(٢) المعايير الوضعية لتمييز العلم

(١) لقد اتضح الآن مدى افتتان الوضعية بالعلم التجريبي الحديث، وفي الآن نفسه مدى غضبهم (المضري) الذي لا يُبْقِي ولا يذر على شتى المباحث الميتافيزيقية، حتى نادوا بأن يصبح العلم ومنطقه هو فقط النشاط العقلي والذي لا نشاط سواه.

ولكن كيف ننقح ميادين النشاط العقلي حتى لا يصبح فيها إلا العلم؟ لا بد من معيار يمثل الفيصل الحاسم بينه وبين اللاعلم، عدنا إذن إلى المشكلة التي يعالجها هذا البحث مشكلة تمييز المعرفة العلمية.

(٢) ونحن الآن بإزاء محاولة الوضعية المتمثلة في معيار التحقق الذي اصطنعوه لهذا الغرض، وهذا المعيار هو الأساس الذي يقوم عليه المذهب، بل ويقوم من أجله، حتى إذا قيل في تعريف الوضعية: إنها المذهب الذي ينادي بمعيار التحقق لما جانب هذا الصواب إذ إن رسل مثلًا الذي يتفق معهم في الكثير — أو بالأحرى يتفقون هم معه — فقد عرفناه أحد الرواد الذين مهدوا لهم الطريق، والذين تعاطفوا مع المذهب إلى حد كبير يعد في الآن نفسه واحدًا من أقسى نقادهم، وهو ليس وضعيًّا بأية حال، والسبب واحد ووحيد، وهو أنه لا يوافقهم على معيار التحقق خصوصًا، ومعاييرهم لتمييز العلم عمومًا، بصفة عامة كان هذا المعيار هو أساس معظم الخلافات التي اشتجرت بينهم وبين الفلاسفة والنقاد، ذلك ببساطة لأنه مربط الفرس في مذهبهم هذا، وقد أصبح سريعًا هو الفكرة التي تقود وراءها المذهب بجملته،٨ بل وإن التاريخ اللاحق لحركة الوضعية، قد تحدد بمحاولاتهم لحل طائفة من المشاكل بدت أمامهم، وكانت إلى حدٍّ كبير بسبب تعويلهم على معيار التحقق.٩

وقد أدت محاولات الحلول هذه إلى طرح أفكار لحل نفس المشكلة — تمييز المعرفة العلمية — فلم يعد أمامنا معيار التحقق فحسب، بل ومعيار القابلية للاختبار والتأييد، ولغة العلم ومحاولة فتجنشتين المتأخرة، كلها تحاول تحقيق هدف التحقق متفادية أخطاءه.

(٣) من ناحية أخرى فقد سبقت هذه المعايير — خصوصًا معيار التحقيق — معيار القابلية للتكذيب البوبري، فقد عرف طريقه إلى الأسماع والأبصار، وشغل الأوساط الفلسفية قبل أن تعرف هذه الأوساط بوبر أو معياره؛ لذلك كان عبثًا كبيرًا على بوبر أن يلقى مكانًا لمعياره، لا سيما أن الوضعية كانت موضة شائعة في عصرها، ومن يخرج عليها — كبوبر — يعد رجعيًّا متخلفًا.

بالإضافة إلى ما يبدو للوهلة الأولى من تشابه بين التحقيق والتكذيب، مما ساعد على شيوع الخطأ الكبير باعتبار بوبر وضعيًّا، واعتبار القابلية للتكذيب مجرد امتداد للقابلية للتحقيق أو تعديلًا له.

ولقد ذاع هذا الخطأ، لدرجة أن دائرة المعارف الفلسفية — وهي المرجع العلمي الرفيع الذي لا يتطرق إليه شك أو نقد — تعتبر التكذيب مجرد امتداد للتحقق، فتتناوله تحت مادة مبدأ التحقق، وتعالجها في إطار واحد، ومن منظور واحد، والحقيقة الحقة أنهما جد مختلفان شكلًا وموضوعًا، وقد وجَّه بوبر نقده الحاسم لمعيار التحقق ولسائر معايير الوضعية جملة وتفصيلًا، واختلفت محاولته لتمييز العلم اختلافًا شكليًّا وموضوعيًّا وفلسفيًّا عن معيار التحقق وعن سائر معايير الوضعية.

لكن ما هو معيار التحقق هذا أولًا؟

(٤) معيار التحقق هو قاعدة تجسد مبادئهم السابقة، من أن كل حقيقة تركيبية تُسْتَمَد من الملاحظة، وأن كل ما يسهم به العقل في المعرفة ذو طبيعة تحليلية، فكان مضمونه هو أن الجملة التي ليست بتحليلية لكي تكون ذات معنى، لا بد أن تعبر عن واقع حسي تجريبي، وأن الجملة التي لا يمكن تحديد صدقها من ملاحظات حسية ممكنة هي جملة لا معنى لها،١٠ حيث إن المعنى هو العلم، واللاعلم هو اللامعنى، فكان أن صاغ ألفرد آير المعيار كالآتي: «يكون للجملة معنى حرفي فقط، إذا كانت تعبر عن قضية تحليلية أو قضية ممكنة التحقق تجريبيًّا.»١١

لقد استبعدوا القضايا التحليلية: الرياضة والمنطق، المعيار يُطَبَّق فقط على القضايا التركيبية، ليحدد منها العلم الطبيعي، ويستبعد الميتافيزيقا، ودع عنك الأوامر والنواهي وسائر التعبيرات الدالة على قيم معيارية من قبيل: «ما أجمل الزهور» «القتل جريمة بشعة» ومثال هذه التعبيرات في عرفهم محض إنشائية، ونظرًا لأن فلسفة الوضعية ذات خاصة معرفية فهي لا تعنيهم البتة، بل تعني نقاد الفن والأدب، المهم ألَّا يزعم أصحابها أنهم يزيدوننا معرفة بالواقع.

ولما كان التحقق معيارًا للمعنى فهو يشمل أيضًا التحقق من المفاهيم والكلمات، وطبعًا العبارة لن تقبل التحقق إلا إذا كانت كل المفاهيم الواردة فيها قابلة للتحقق.

غير أن المعيار أثار الكثير من النقاش، فهو ذاته لا قضية تحليلية ولا قضية تركيبية تقبل التحقق، فكان أن عرض الوضعيون قبوله على أساس براجماتي، ثم إن القضية قد لا تقبل التحقق لأسبابٍ منطقية، أو لأسباب فنية قاصرة على الوقت الراهن، أو لأسباب فيزيائية … إلخ، فأي من هذه الوجوه يحمل معه الخلو من المعنى، لحل هذا ميزوا بين التحقق المباشر للقضايا التي تدور حول المدركات الحالية، والتحقق غير المباشر لبقية القضايا ذات المعنى، وقريب من هذا ما فعله آير حين ميز بين: التحقق بالمعنى القوي، والتحقق بالمعنى الضعيف.

وهو يعبر عن الفرق بينهما بأن القضية يمكن التحقق منها بالمعنى القوي، إذا وفقط إذا ما كان ممكنًا أن تؤسس بصفة حاسمة وقاطعة على الخبرة،١٢ وهي قابلة للتحقق بالمعنى الضعيف إذا كان للخبرة أن تجعلها ممكنة، وواضح أن هذا الحل لا يعني أكثر من التمييز بين القابلية للتحقق كأمر واقع فعلًا، وبينها كمجرد إمكانية وليست استحالة، ويوضح آير أن التحقق بالمعنى الضعيف هو فقط المطلوب.

غير أن هناك مشكلةً معينة بَدَت على درجة قصوى من الخطورة، فلقد أحس الوضعيون أنفسهم أن معيار التحقق لن يحطم الميتافيزيقا فقط، بل وسوف يحطم العلم أيضًا؛ ذلك أن قوانين العلم بطبيعة الحال ليست قابلة للتحقيق، إذ ليست هناك أية مجموعة من الخبرات يكون اكتسابها مكافئًا لصدق قانون علمي.

وقد تنبه فتجنشتين إلى هذا مقدمًا في رسالته، فأكد — إبان بحثه للمنزلة المنطقية للقضايا العلمية — على أن كثيرًا من العبارات العامة في العلم لا تحتاج إلى معاملتها على أنها دالات صدق للقضايا الأولية Elementry Proposition؛ لأنها ليست تجريبية؛ وبالتالي ليست قضايا بالمعنى الدقيق، هي بالأصح توصيات بمنهج لتمثيل فئة معينة من الظواهر Phenomena.١٣

وكان حل شليك قريبًا من حل صديقه وأستاذه فتجنشتين؛ فقد ادعى أن القوانين العلمية ليست عبارات، بل هي قواعد ورخص للاستدلال، غير أن كارناب ونيوراث اعترضَا على هذا مستندين إلى أن القاعدة — طبعًا — تستحيل محاولة تكذيبها، أما القوانين العلمية فإننا نحاول تكذيبها، فهي إذن عبارات إخبارية وليس مجرد قواعد، وواضح أن هذا مجرد استجابة من كارناب لتأثيرات بوبر، وأثر بوبر يمتد لدرجة أن الوضعيين أنفسهم اعترفوا بأنه حتى القضايا الجزئية والمفاهيم لا يمكن أن نتحقق منها تحققًا كاملًا.

لكن الخطورة الحاسمة كانت حقًّا على القوانين العلمية التي قام المعيار أصلًا لتمييزها، وكان قبول البعض اعتبارها ليست بقضايا ورفْض البعض الآخر، فيصلًا حاسمًا في تاريخ الوضعية،١٤ قسمها على ذاتها.

أما القصور لا نقاش فيه، فهو أن التحقق أو إمكانية التحقق — ولا فارق بينهما — تميز العلم، ولكن لا تستطيع إطلاقًا التمييز بين العلم، فلا يمكن مثلًا للعالم إبان بحثه اختيار فرض علمي بين مجموعة فروض متنافسة؛ لأنه أكثر أو أقل قابلية للتحقق، بعبارة أخرى: لم نسمع من الوضعيين أي شيء عن درجات القابلية للتحقق، فهو لا يُجْدِي العالم في شيء، فكيف بالله يكون أساسًا لفلسفةٍ هي أولًا وأخيرًا علمية.

تلك بصفة عامة المشاكل التي تبدَّت في وجه معيار التحقق، مما جعله يتخذ تدريجيًّا صورًا أخرى، باعتقاد أنها مستطيعة التغلب على هذه الصعوبات.

(٥) أولى هذه الصور: القابلية للتأييد Confirmability التي تعني أن القضية ذات معنى، فقط إذا أمكن تأييدها، أي اشتقاق قضايا صادقة منها.
وقد ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار Testability وقد أوضح عضو الدائرة فيكتور كرافت أن نقد بوبر لمعيار التحقق أجبر الدائرة على تعديله والاتجاه به نحو القابلية للاختبار، والتي هي أحد أوجه معيار التكذيب،١٥ وإن ظلت شخصية الوضعيين متميزة؛ إذ إن صورة المعيار لديهم هي: تكون الجملة قابلة للاختبار إذا كنا نعرف الإجراءات المعينة «مثلًا تنفيذ تجارب معينة» التي من شأنها أن تؤيد الجملة، أو تؤيد نفيها لدرجة ما، بينما تكون الجملة قابلة للتأييد إذا أمكن منطقيًّا لأي نوع من الأدلة التجريبية أن يؤيدها، حتى ولو كنا لا نعلم المسار المعين لإجراءات الحصول على هذه الأدلة،١٦ واضح أن القابلية للاختبار مجرد صورة قوية فعلية من قابلية التأييد المضعفة، والفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقُّق بالمعنى القوي — أو المباشر — والتحقق بالمعنى الضعيف — أو غير المباشر — مما يعني أن القابلية للتأييد هي الأوسع في ما صدقاتها وفي الأصل، والقابلية للاختبار مجرد تابع لها، يحدد فئة معينة من ما صدقاتها، هي فئة القابلية للتأييد الفعلية، ورغم هذا فقد ميزت الوضعية في أحد أطوارها بين أربعة معايير: القابلية التامية للاختبار – درجة معينة من القابلية للاختبار – القابلية التامية للتأييد – درجة معينة من القابلية للتأييد، كلها تتعاون معًا في تمييز قضايا العلم واستبعاد الميتافيزيقا.
وكان كارل همبل Karl Hempel أكثرهم استجابة لبوبر، حتى اقترب منه متخذًا طريقًا مخالفًا للوضعيين؛ إذ أعلن رفضه للتحقق على أساس رفض الاستقراء، وأعلن أنه لا يمكن اعتبار النظرية علمية ما لم تكن قابلة للاختبار التجريبي والتأييد ببيِّنات تجريبية، أي ما لم نتمكن من استخلاص قضايا لزومية اختبارية معينة منها، لها الصورة «إذا تحققت شروط الاختبار «ح» يحدث الناتج «ﻫ».»١٧ وتكفينا الإمكانية من حيث المبدأ، فهي غير قائمة في القضايا اللاعلمية اللاتجريبية.

وحينما تكون النظرية علمية، فلا يمكن بالطبع أن يفضي الاختبار إلى تأييد حاسم، بل فقط إلى بينة مؤيدة بدرجة أكبر أو أصغر، ومن هنا يمكن اعتبار معيار القابلية للتأييد والاختبار، هو أيضًا للاختيار بين الفروض العلمية، فنختار الفرض الأكثر قابلية للتأييد على أساس المحكات الآتية: كمية ونوعية ودقة البيئة المؤيدة — التأييد بالقضايا اللزومية الاختبارية الجديدة — التأييد النظري.

وبالطبع يجب أن نأخذ في الاعتبار العوامل الأخرى، مثل درجة البساطة ودرجة الاحتمالية،١٨ ويأتي كارناب خصوصًا ليطابق بين التأييد والاحتمالية، أو درجة التأييد ودرجة الاحتمالية.

والآن فبصرف النظر عن أن معيار التكذيب يحل محل التأييد بصورة أكفأ كثيرًا كثيرًا، فإن أبسط ما تقوله لهمبل هو أن شذى الاستقراء ما زال يفوح طالما نبحث عن البينات المؤيدة إيجابًا، وأن التأييد لا يعلو أن يكون صورة ضعيفة من التحقق.

لكن الذي يعلي من شأن نظرية همبل، هو أنه طرح خرافة المعنى جانبًا؛ استجابة لدعوى بوبر، رغم أن فكرة المعنى من أسس الوضعية المميزة، وأوضح أن التأييد فقط لتمييز العلم والتعامل مع الفروض العلمية.

ليسوا جميعًا بتبصر همبل، فقد تمسك آير مثلًا بالتأييد كمعيار للمعنى، على أساس من مبدأ الوضعية في المطابقة بين العلم والمعنى واللاعلم واللامعنى، ومن هذا المنظور لكي تكون العبارة ذات معنى يجب أن تتصل بفئة من عبارات الملاحظة، تعطي فقط درجة من التأييد البرهاني للعبارة الأصلية، وليس تحقيقًا قاطعًا، فأية عبارة لها معنى معرفي، ولتكن العبارة «س»، يجب أن يكون لها فئة من عبارات الملاحظة الأساسية وهي «م١ م٢ م ن»، فتكون «س» مؤدية إلى «م١ م٢ م ن» وتكون «م١ م٢ م ن» تؤيد أو تعطي درجة أكبر من الاحتمالية للعبارة «س».
إلا أن آير عاد ليقول: إن هذا المعيار لن يميز العلم؛ إذ إنه قد يسمح لأية عبارة خالية من المعنى أن تجتازه، فإذا كانت «ن» عبارة خالية من المعنى — أي لا علم — و«م» عبارة ملاحظة أساسية، فيمكن أن نستنبط «م» من العبارة «ن» مرتبطة مع «م» كمقدمة إضافية، على الصورة المنطقية «إذا ما كانت «ن» لكانت «م».» ومنها يمكن استنباط «م» من «ن»، رغم أننا لا نستطيع استنباط «م» من «ن» بمفردها،١٩ فمثلًا إذا كان لدينا العبارة الخالية من المعنى «المطلق لا نهائي» وعبارة الملاحظة الأساسية «الجو ممطر» يمكن أن نضعهما معًا في الصورة المنطقية «إذا كان المطلق لا نهائي لكان الجو ممطرًا، ولكن المطلق لا نهائي إذن الجو ممطر.» هكذا أفْضَت العبارة الخالية من المعنى إلى عبارة تجريبية، أي يمكن لقضايا الميتافيزيقا أن تجتاز المعيار! وعلى هذا النحو نلاحظ أن معيار التحقق بعد أن كان غاية في القوة والمضاء، قنع بأن يحل محله معيار التأييد الذي هو غاية في التواضع والضعف، ورغم هذا لم يستطع الصمود أو أن يؤدي المهمة بجدارة.
(٦) من هنا كانت محاولة أحد زعماء الدائرة البارزين رودولف كارناب لتمييز المعرفة العلمية، تطيح تمامًا بمعيار التحقق، وتضع بدلًا منه محاولة جديدة للتمييز بين العلم واللاعلم، وهي المتمثلة فيما أسماه كارناب بلغة العلم Language of Science، وقد وضعها متأثرًا بمناقشاته مع بوبر — إذ أكدت الصعوبات التي حاقت بمعيار التحقق — من ناحية وبعبقريته هو الرياضية من ناحية ثانية، وبنزعته اللغوية المنطقية المتطرفة جدًّا من ناحية ثالثة.
وفي محاولة بناء هذه اللغة، دعا كارناب في البداية للغة الفيزيائية أو اللغة المنتمية للفيزياء Physicalistic Language والتي تقوم على ما يمكن أن نسميه بالأنا وحدية المنهجية Methodological Solipsism، وهي ذلك الاعتقاد القائل بأني أنا وحدي الموجود، والذي عبر عنه رسل قائلًا: الأنا وحدية هي تلك النظرة القائلة بأنني لا أستطيع أن أعرف شيئًا على أنه موجود، باستثناء ما يقع في خبرتي أنا.٢٠
وعلى أساس الأنا وحدية المنهجية، اتخذ كارناب خبرات الشخص الفردية أساسًا تبنى عليه مفاهيم العلم، فحاول أن يبني العالم من أفكار أولية Primitive Ideas، ترتبط ببعضها عن طريق علاقات أولية، فاقتطع قطاعًا عرضيًّا من الخبرة، ليقدم لنا فيه أفكاره الأولية، وقد ابتدع كارناب عددًا من الحيل الفنية الفذة ليحقق هذا الغرض، فهو يربط بين شظايا الخبرة على أساس تماثلها المسلَّم به، فيردها إلى فئات الكيف، والتي تنتهي بدورها إلى نفس فئة الحس Sense Class إذا ما ارتبطت بسلسلة من المتماثلات، فأي لونين مثلًا يمكن أن يشتبكا معًا بواسطة ألوان تتوسطهما، على حين أن لونًا وصوتًا وهما لا يرتبطان ينتميان إلى فئتين حسيتين مختلفتين، لكن فئات الحس تقع بدورها في مجال الحس، وهذا المجال قابل للتعرف في مصطلحات تشمل الأبعاد، فمجال الحس البصري هو الفئة الحسية ذات الخمسة أبعاد، ومجال الحس السمعي هو الفئة الحسية ذات البعدين، ويرى كارناب أن سائر الكيفيات يمكن أن تُعَرَّفَ بهذه الطريقة، بشكل صوري أو بنائي تمامًا: فمثلًا اللون «أحمر» يمكن تعريفه بأنه فئة المتماثلات التي لها موضع معين في نسق خماسي الأبعاد، وهكذا يستأنف كارناب المسير إلى وضع رسم تخطيطي في مصطلحات عامة، للإجراءات التي يمكن بها بناء الأشياء بوصفها متميزة عن الكيفيات بناءً صوريًّا.

(صوري؛ لأن كل أحاديث كارناب هي — في رأيه — من النمط الصوري؛ لأنها منطق العلم الذي يتحدث عن العلم، أما العلم ذاته — والذي يتحدث عن الأشياء المادية — فهو من النمط المادي، إذن عند كارناب: اللغة الشيئية = النمط المادي، اللغة البعدية = النمط الصوري.)

إلا أن كارناب قد عدل عن هذا المشروع، فقد بدأ يعتقد أن عالم المعرفة العلمية العام لا يمكن أن يتكون من قطاع عرضي من الخبرات الخاصة الفردية، فتخلى عن هذه الدعوى تمامًا عام ١٩٣١م، تحت تأثير عضو الدائرة الكبير أوتو نيوراث Otto Neurath (١٨٨٢–١٩٤٥م) الذي وجد كارناب معه هواه اللغوي، فكوَّن معه حزبًا منشقًّا داخل الدائرة أوشك أن يثير روح العداء فيها.
(٧) وقد اتخذ هذا الحزب المكون من نيوراث وكارناب الفيزيائي Physicalism، وهي تقوم على أن اللغة الفيزيائية هي لغة عمومية universal للعلم، وهذا يعني أن أية لغة لأي مجال فرعي في العلم يمكن أن تُتَرْجَم — بصورة مكافئة تمامًا لصورتها الأصلية — إلى لغة العلم هذه، وبناءً على هذا نستنتج أن العلم نسق واحدي تكاملي مركزي، حيث لا نجد داخله مجالات لمواضيع ذات تباين جوهري، وتبعًا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية والعلوم السلوكية مثلًا.٢١
من هنا قامت الدعوى النيوراثية الكارنابية، على أن هناك لغة واحدة للعلم الموحد unitied science، فلقد تأثرا بالتقدم الرهيب لعلم الطبيعة، فأراده علم العلوم والعلم الواحد الذي لا علم سواه، وكل العلوم الأخرى مجرد أفرع للفيزياء وأجزاء فيها؛ ومن ثم تكون لغة الفيزياء هي اللغة العلمية الواحدة، وهذه اللغة الفيزيائية تتمتع بخاصية تجعلها كلية Universal Language يمكن أن يقال فيها كل شيء له معنى، وهي اللغة التي تتحدَّث عن الأشياء الفيزيائية وحركاتها في الزمان والمكان، وكل شيء يمكن التعبير عنه أو ترجمته في حدود هذه اللغة، خصوصًا علم النفس على قدر ما هو علم أما مشكلة أسسه فهي:
  • هل يمكن رد مفاهيم علم النفس إلى مفاهيم الفيزياء بمعناها الضيق؟

  • هل يمكن رد قوانين علم النفس إلى قوانين الفيزياء بمعناها الضيق؟

وللرد بالإيجاب ليصبح علم النفس فقط علم السلوكيات، وتصبح كل عبارة ذات معنى سواء حول الحيوان أو الإنسان قابلة للترجمة إلى عبارة حول الحركات الزمانية المكانية للأجسام الفيزياء؛ أي للغة الفيزياء، أو لغة العلم الموحد.

تلك هي اللغة التي حاول كارناب أن يبني لها بناءً نسقيًّا منطقيًّا، ويضع قواعد الصياغة فيها، وقواعد التحويل أو الاستنباط منها، وكتب يقول: «إذا كنا سنتخذ لغة الفيزياء كلغة للعلم؛ بسبب خاصيتها كلغة كلية، فإن جميع العلوم ستتحوَّل إلى الفيزياء، وستستبعد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.»٢٢
أما عن أصول هذه اللغة الصورية للعلم الواحد والتي لا ترتد إلى أصول لغوية بعدها، فقد اقتنع كارناب بدعوى نيوراث إلى أن الجمل تقارَن فقط بالجمل وليس بالخبرة، وأيضًا أننا نتحقق من جمل هذه اللغة — أي نختبرها — ليس بواسطة الخبرات الحسية، كما يدَّعي معيار التحقق أو معيار التأييد، وإنما بواسطة ما أسمياه جمل البروتوكول Protocol Sentence والتي يعطي لها كارناب في كتابه «وحدة العلم» التعريف الآتي: جمل البروتوكول هي الجمل التي تشير إلى — أو تصف مباشرة — خبرات متاحة أو ظواهر، أو هي عبارات لا تحتاج إلى تبرير، وتخدمنا كأساس لبقية جمل العلم،٢٣ إنها المحك الذي نبدأ منه قياس أو اختبار بقية الجمل، بغير أن تكون هي نفسها بحاجة إلى قياس أو اختبار، وهي لهذا جمل أساسية غير قابلة للتعديل.
غير أن هذا أثار خلافًا كبيرًا بين كارناب ونيوراث — صاحب الفكرة — فنيوراث لا يقبل أي شيء غير قابل للتعديل، وكارناب بدعواه هذه يكون — من وجهة نظر نيوراث — داعيًا لدعوة ميتافيزيقية، تبحث عن المطلق الثابت؛ مما أدى إلى تعاظم الخلاف أن كارناب يرى أن جمل البرتوكول لا تقع داخل حدود لغة العلم، على الرغم من أن هناك قواعد خاصة لترجمتها إلى لغة العلم، أما نيوراث فيصر على أنها تقع داخل لغة العلم وبصورة ثابتة؛ لذلك فإن مشكلة ترجمتها لا تثار بالمرة.٢٤
وأيًّا كانت أوجه الخلاف بين كارناب ونيوراث، فإن قضايا البرتوكول هي نفسها تثير مشكلة كبيرة حول ما إذا كانت قابلة لأن تصاغ أصلًا في لغة الفيزياء، فهي تسجل خبرات خاصة، فكيف تكون أساسًا لجمل العلوم، وهي عامة مشتركة بين الذوات، ولقد استلهم كارناب نزعته الفيزيائية التي أخذها عن نيوراث، كي يحل هذه المشكلة، فيقول: إن كل حالة من جمل البروتوكول يمكن أن تُتَرْجَم إلى عبارة عن حالة لجسمي،٢٥ ومن هنا نجد بوبر — في نقده لكارناب — يضع التعريف التالي لجمل البروتوكول: هي تقريرات عن خبراتنا الخاصة الملاحظة على الرغم من أننا نعبر عنها في اللغة الفيزيائية، وهذا يعني أنها تقريرات حول أجسامنا،٢٦ فكارناب يدَّعي أننا نملك الوسائل لكي نقر ما إذا كان القول «الجسم «س» يُرَى الآن أحمر»، هو قول صادق أم لا، فمثلًا نخبر «س» أن يضغط على الجرس، حينما يرى لونًا أحمر، وأن هذا — كما يقول كارناب — مكافئ منطقي لعبارة البروتوكول «أحمر اللون» وكارناب يعتقد أن هذا التكافؤ يعطيه كل ما يريده،٢٧ فيتمسك بدعواه النيوراثية في أن اللغة الواحدة للعلم الموحد٢٨ المؤسَّسة على جمل البروتوكول، تمكننا من تمييز المعرفة العلمية واستبعاد الميتافيزيقا.
(٨) إذن لقد تخلى كارناب عن معيار التحقيق، وراح يبحث عن البديل في لغة العلم، بل وإن هذا المعيار يسحب البساط من تحت فتجنشتين نفسه، الأب الروحي للوضعية، وواضع المعيار، وهذا حينما جاء فيما بعدُ ونادى في «بحوث فلسفية»٢٩ بأن التحليلات اللغوية مقطوعة الصلة بالخبرة الحسية، وتعول فقط على القواعد التي اصطلحنا عليها، وليس المقصود طبعًا قواعد النحو والصرف، بل قواعد الإشارة السيمانطيقية للتركيب السينتاطيقي، أي قواعد للتحليل الفلسفي للغة، فليس هناك لغة خاصة تعبر عن خبرات خاصة، اللغة كالمباراة الرياضية ينبغي أن نتعلم قواعدها، فلها خصائص المباراة وهي: (١) الطابع التنافسي، (٢) محكومة بقواعد، (٣) تتطلب مهارات تتفاوت، (٤) ليس لها هدف نهائي، مجال الأهداف مفتوح، (٥) يمكن اعتبارها مجموعة أنشطة مستقلة، كما أن المباريات هكذا، وبغير أن يعني هذا أن اللغة نشاط تافه أو مجرد تسلية، بل هي نشاط اجتماعي هام،٣٠ وإذا تساءلنا لماذا يهتم الفيلسوف بدراسة قواعد مباريات اللغة؟ لكان هذا فقط لكي يوضح المعنى، ويميز بين اللغو وبين الكلام ذي المغزى؛ أي العلم،٣١ ويمكن الحكم على عملية العبارة تبعًا لقواعد التعبير، ومن الناحية الأخرى: إذا أخذنا عبارة علمية أو منطقية كنموذج للوضوح أو كمورد نهائي للصدق الأصيل، فسنتمكن من تحديد القواعد اللغوية للتمييز، وسيتجه مفهومنا للوضوح تبعًا لهذا نحو نوع من الصفاء الفطري الخالص،٣٢ وفتجنشتين دائمًا لا يضع نصب عينيه إلا هدفًا واحدًا؛ الوضوح والإيضاح، وإن كانت أعماله هو نموذجًا طيبًا للغموض والألغاز.
ويوضح بيتر مونز أن هذه المحاولة التي كان فتجنشتين يقصد بها بديلًا لسائر محاولات الوضعية، ولمحاولته المبكرة في «الرسالة المنطقية الفلسفية»؛ لتمييز العلم متهافتة جدًّا وتفنيدها يسير؛ لأنها أولًا خاطئة False، ثانيًا من نوعية يستحيل إثبات أنها خاطئة، وثالثًا فتجنشتين نفسه قد أدرك أو كان على وشك أن يدرك أنها خاطئة.٣٣

(٣) خاتمة: عود إلى بوبر

(١) لقد طرح بيتر مونز هذا في مقال له بكتاب «التناول النقدي للعلم والفلسفة» الصادر على شرف كارل بوبر بمناسبة عيد ميلاده الستين (مذكور في الهامش)، وكانت مقالة مونز توضح أن كلًّا من بوبر وفتجنشتين قد وضعا أدلة بديلة لتمييز العلم رفضًا للتحقق، وبعد أن عرض مونز لمحاولة فتجنشتين وبيَّن تهافتها، يعرض لمحاولة التكذيب البوبرية، معقبًا عليها بالتقريظ العظيم، لقد تحامل مونز كثيرًا على فتجنشتين، وربما إكرامًا لخاطر بوبر الذي يشعر بروح عدوانية تجاه فتجنشتين، كما تكشف كتاباته بوضوح، بل ومن أقصوصة يقصها هو علينا في سيرته الذاتية، وخلاصتها أنه تلقى عام (١٩٤٦م) دعوى من سكرتير نادي العلوم الأخلاقية في كمبردج، كي يلقي محاضرة حول «الأحاجي الفلسفية» Philosophical Puzzles.
وواضح أن العنوان من صياغة فتجنشتين، وكان ذلك سببًا ليثير النفور في نفس بوبر حسب تعبيره؛ لذلك بدأ المحاضرة بالتعبير عن مفاجأته لتلقي الدعوة بهذه الصياغة، فهو — أي بوبر — يصر على أن المشاكل الفلسفية حقيقية، مهما كان رأي السكرتير الذي جعله يكتب الدعوة بهذه الصياغة، فهبَّ فتجنشتين من قاعة المحاضرة واقفًا وقال، بغضب وبصوت مرتفع: «لقد فعل السكرتير تمامًا ما أمليته عليه؛ فهو يتصرف تبعًا لتعليماتي أنا.» ولم يُعِرْ بوبر ذلك أدنى التفات؛ مما أثار البلبلة والارتباك في القاعة فاضطر السكرتير إلى أن يقول معتذرًا: «تلك هي صياغة دعاوى النادي.» واستأنف بوبر المحاضرة مصرًّا على أن المشاكل الفلسفية حقيقية ولو لم يكن هناك مشاكل فلسفية حقيقية لما كان هو فيلسوفًا، فقفز فتجنشتين مقاطعًا بوبر موضحًا في حديث مسهب أنه لا يوجد شيء اسمه مشاكل فلسفية حقيقية، كلها أحاجٍ ومشاكل زائفة، وفي اللحظة التي بدت لبوبر مناسبة، قاطع فتجنشتين موردًا قائمة من المشاكل الفلسفية الحقيقية، كان قد أعدَّها مثل: هل نعرف الأشياء من خلال الحواس؟ هل نكتسب المعرفة عن طريق الاستقراء؟ فقال فتجنشتين: إن أمثال هذه المشاكل منطقية وليست فلسفية، فأشار بوبر إلى مشكلة ما إذا كانت المتناهيات احتمالية أم توجد بالفعل، فقال فتجنشتين: إنها رياضية وليست فلسفية، وهنا ذكر بوبر المشاكل الأخلاقية، وكان فتجنشتين جالسًا قرب المدفأة، يمسك بيده البوكر (عصا من الحديد يستخدمها الأوروبيون في تحريك الفحم في المدفأة) يلوح بها أحيانًا في أحاديثه، فهب واقفًا متحديًا بوبر قائلًا: «أعطني مثالًا لقاعدة أخلاقية.» قال بوبر: «لا تهدِّد المحاضرين الزائرين بالبوكر.» وحينئذٍ انفجر فتجنشتين غاضبًا، وألقى البوكر من يده واندفع خارج القاعة، صافقًا الباب من خلفه،٣٤ والحق أن بوبر تجاوز حدود اللياقة، وقد أحس فعلًا أنه أخطأ، وأسف بصدق لأنه أغضب فتجنشتين وهو يقول: إنه كان ذاهبًا لكمبردج فعلًا ليتحدى فتجنشتين، ويثبت أن المشاكل الفلسفية حقيقة وأصيلة، ولكنه في هذه المقولة كان يقصد مزاحًا أو دعابة، ولم يقصد إغضاب فتجنشتين لهذه الدرجة، وعلى أية حال استمر بوبر في محاضرته ومناقشتها، وكان رسل من أبرز المناقشين.٣٥

كانت هذه الأقصوصة، التي تناثرت من حولها الشائعات لدرجة أن رسالة من نيوزيلند وصلت بوبر، تسأله عمَّا كان فعلًا قد تشابك مع فتجنشتين بالأيدي والبوكر، لنوضح مدى نفور بوبر العنيف الذي وصل لحد الكراهية الشخصية من آراء فتجنشتين.

(٢) وإذا كان بوبر ناقمًا على فتجنشتين لأنه خطف منه الأضواء الفلسفية في النمسا، ثم في إنجلترا حين هاجر إليها، فبوبر في هذا معذور؛ إذ إن رسل — وهو أعظم فلاسفة القرن العشرين — قد أحس بهذا الشعور؛ إذ كتب في «تطوري الفلسفي» يقول: يعتقد كثير من الفلاسفة البريطانيين أن فتجنشتين قد غطى عليَّ تمامًا، وهذا — بصفة عامة — ليس بالخبرة اللطيفة، أن يجد المرء نفسه وقد أصبح موضة قديمة، بعد أن كان لفترة طويلة هو موضة عصره، إنه لمن العسير أن أتقبل هذه الخبرة بلطف.٣٦ يقول رسل هذا على الرغم من أنه قد أخرج أعظم أعماله واكتسب الكثير من شهرته الفلسفية، قبل أن يعرف فتجنشتين، أما بوبر فلم تكن لديه فرصة أن يفعل ما فعل رسل، وكان سوء حظه خصوصًا أن يحيا لب حياته المهنية في جو يسوده فتجنشتين سواء في النمسا، أو حتى في إنجلترا حين هاجر إليها، وكان هذا من أهم العوامل التي جعلت بوبر لا يلقى حقه من التقدير الفلسفي.٣٧
هذا احتمال يطرحه بريان ماجي، من أن يكون بوبر ناقمًا على فتجنشتين؛ لأنه خطف منه الأضواء الفلسفية، لكنني لا أعتقد في هذا، لا أعتقد أن أي فيلسوف يمكن أن يبلغ من التفاهة حدًّا بحيث إن الشهرة والأضواء والحقد على الظافرين بها، تجعله يحدد موقفه من المشاكل الفلسفية، فحتى رسل نفسه الذي استشهد به بريان ماجي، لا يفتأ في أكثر من مناسبة أن ينوه بالفضل العظيم لفتجنشتين — صديقه وتلميذه — في الوصول إلى المذهب الذي يحترفه أكاديميًّا؛ أي الذرية المنطقية،٣٨ وأعتقد أن بوبر ناقم على فتجنشتين أولًا وأخيرًا بسبب أفكاره الفلسفية، والنقد الموضوعي الخالص الذي سيوجهه بوبر في الفصلين الآتيين، يمثل السبب الحقيقي والوحيد لهذه النقمة والكراهية، ومن هذه الوجهة يكون لبوبر الحق كل الحق، أولًا لأن فتجنشتين، وأتباعه الوضعيين، قد نادوا بأفكار كفيلة بإثارة كل من فكر يومًا في احتراف الفلسفة أو حتى تذوقها، وتقدير دورها الفكري العظيم في بناء الحضارة الإنسانية، وثانيًا لأن فلسفة بوبر متعارضة على خط مستقيم، مع فلسفة فتجنشتين وأتباعه الوضعيين.

(٣) كان هذا تمهيدًا للنزال الفلسفي الحامي الوطيس، والذي سنرى بوبر يخوض غماره ضد فتجنشتين والوضعية عمومًا، وضد محاولاتهم للتمييز خصوصًا، فتجنشتين ليس وضعيًّا منطقيًّا بأي معنى انتمائي، لا هو مؤسس الدائرة ولا هو عضو فيها، لكن الذي لا يختلف عليه اثنان، أن الوضعية المنطقية ليست إلا صورة متطورة متطرفة من فلسفته، لا سيما في مرحلتها الأولى، المعروضة في الرسالة المنطقية الفلسفية، وربما لو لم تكن هذه الرسالة لما كان هناك وضعية منطقية بالذات؛ لذلك جاز لنا أن نضع فتجنشتين مع الوضعية المنطقية ونضع معاييرهم لتمييز المعرفة العلمية معًا في ناحية واحدة، ونضع بوبر في الناحية المقابلة لها، كي نعرف رأيه في هذه المعايير، أو بالأصح نعرف كيف حاول بوبر تبيان أخطاء هذه الفلسفة، تمهيدًا لإسقاط معاييرها لتمييز العلم.

١  John Passmore, A Hundred Years of Philosophy, Penguin Books, LH, London, 1966. p. 367.
٢  John Passmore, Logical Possitivism, in The Encyclopedia for Philosophy, Vol. 5, p. 52.
٣  انظر في هذه المقدمات الجزء الموسوم باسم: المذهب في مسار التاريخ من بحثنا في الوضعية المنطقية المنشور في الكتاب التذكاري الذي أصدرتْه جامعة الكويت على شرف د. زكي نجيب محمود، عام ١٩٨٧م، ص٧٢–٧٩.
٤  انظر في تفصيل هذا كتابنا «تيارات الفكر المعاصر».
٥  John Passmore, A hundred Years of Philosophy, p. 367.
٦  استقراءً تبعًا لرأي الوضعيين؛ فهم استقرائيون.
٧  هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص١٢٥.
John Passmore, A hundred Years of Philosophy, p. 367.
٨  John Jassmore, A Hundred, Years of Philosophy, p. 368.
٩  Encyclped’a for Philosophy, Volume 7, 8, p. 241.
١٠  هانز رايشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، ص٢٢٧.
١١  A. J. Ayer, Language, Truth and Logic, Penguin Books, London, 1974, p. 7.
١٢  A. J., Ayer Language, Truth and Logic, p. 12.
١٣  James Griffin, Wittgenstein’s Logical Atomism, pp. 102-103.
١٤  Norton White. The Age of Analysis, 20th Century Philosophers, p. 206.
١٥  Victor Kraft, Popper and the Vienna Circle, pp. 189-190.
١٦  Encyclopedia for Philosophy, Volume, 7-8, p. 243.
١٧  كارل همبل، فلسفة العلوم الطبيعية، ترجمة د. جلال محمد موسى، ص٤٥.
١٨  انظر المرجع السابق، ص٤٥–٧٠.
١٩  Encyclopedia for Philosophy, V. 7., p. 242.
٢٠  النص مأخوذ من عزمي إسلام، فتجنشتين، ص١٤٧، وانظر أيضًا: John, W. Cook, Solipsism And Language, in Ludwig Wittgenstein Philosophy and Language, ed. Alice Ambrose and M. Lazerowiz, George Allan London, 1972.
٢١  Rudolf Carmap, Logical Syntax of Language, p. 320.
٢٢  Ibid, p. 322.
٢٣  John Passmore, A hundred Years of Philosophy, p. 376-377.
٢٤  Ibid, p. 378.
٢٥  Ibid, p. 378.
٢٦  K. P. C., and R. p. 269.
٢٧  John Passmore, op. cit., p. 378.
٢٨  نلاحظ أن دائرة فيينا انشقت على نفسها إلى حزبين منفصلين: حزب التحقق الذي انغلق داخل الخبرة الحسية ويتزعمه شليك وفيزمان، وحزب يتزعمه كارناب ونيوراث وقد انحصر داخل المتاهات اللغوية.
٢٩  L. Wittgenstein, Philosophical Investigations, trans, by G. E. Anscombe, Oxford. 1973. No. 7–110, pp. 5–47.
٣٠  Antony Kenny, Wittgenstein, Harvard University Press, 1973, p. 16.
٣١  Ibid. p. 104.
٣٢  Timothy Binkley, Wittgenstein’s Language, Nortinus Nijhoff, 1973, p. 2.
٣٣  See Peter Munz, Popper And Wittgenstein, in: Mario Bung Critical Approach to Science and Philosophy, pp. 84: 88.
وفي تفصيل محاولة فتجنشتين هذه، وتفصيل نقد بيتر مونز لها ولفتجنشتين، كتابنا «تيارات الفكر المعاصر».
٣٤  K. P., U. Q., pp. 122-123.
٣٥  Ibid, p. 124.
٣٦  Bertrand Russell, my Philosophical Development, George Allen and Unwin, London, 1959, p. 216.
وللكتاب ترجمة عربية بعنوان: فلسفتي كيف تطورت، بقلم عبد الرشيد الصادق، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مكتبة الأنجلو، القاهرة سنة ١٩٦٠م.
٣٧  Bryan Magee, Karl Popper, p. 48.
٣٨  Bertrand Russell, Logic and Knowledge, p. 333.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤