الفصل الأول

معيار القابلية للتكذيب

معيار القابلية للتكذيب هو حل مشكلة التمييز هذه فهو يقول إن العبارات أو أنساق العبارات لكي تحوز السمة العلمية لا بد وأن تكون قادرة على الدخول في صراع مع ملاحظات محتملة أو معقولة.١

(١) معيار القابلية للتكذيب وكيف يميز العلم

(١) لقد أوضح بوبر أن النظريات العلمية فروض، قد تأتي بأية طريقة، مثلما تأتي الفكرة الفنية أو الخرافة أو الأسطورة بأية طريقة، لكن ما يميز العلم عن أي نشاط عقلي آخر هو قابليته المستمرة للتكذيب بواسطة الخبرة التجريبية؛ إذ تعطينا العبارة معلومات عن العالم التجريبي الذي نحيا فيه، أي تكون علمية، فقط إذا كان من الممكن أن تتصادم مع الخبرة، فالفكرة آتية أساسًا من عبقرية الدماغ العلمي المستعينة بالحصيلة المعرفية، لكن «ليس هناك علم إلا إذا قام تكامل بين الفكرة والواقع، ذلك التوافق الذي لا ينتهك بين اليد والدماغ ذلك التكامل المفروض والمحقق بمقابلة دائمة بين النظرية ومحاضر الملاحظة الحسية بالمقارنة والتقريب المتماديين في الدقة، بتفصيل كل إعلام للفرضية وتفصيل كل نتيجة للتجربة.»٢ ويؤكد بوبر أن هذه المقارنة والمقابلة هي إمكانية الإخضاع لاختبارات نسقية منهجية قد تؤدي في النهاية إلى التفنيد، فالخضوع للاختبار وإمكانية التفنيد التجريبي — أي التكذيب — هو ما يميز الصورة المنطقية للقضية العلمية عن بقية الصور المنطقية لسائر القضايا التركيبية، أي التي تتخذ الشكل المنطقي: «أ هي ب».٣
إن القابلية للتكذيب هي المعيار الذي يحدد مفهوم العلم التجريبي الطبيعي، أي العلم الذي يعطينا مضمونًا إخباريًّا ومحتوى معرفيًّا وقوة شارحة عن العالم التجريبي الواحد والوحيد، فتعتمد الخاصية العلمية للقضية على إمكانية إثبات كذبها بواسطة أدلة تجريبية من وقائع الحس الملاحظة، أي الإمكانية التجريبية، وليس فقط الإمكانية المنطقية «إذ إن المحاكمة العلمية لا تفترض إمكانية الملاحظة فحسب، بل وإنجازها أيضًا.» على هذا يمكن تمييز العلم التجريبي بأن «العبارة العلمية على قدر ما تتحدث عن الواقع فإنها يجب أن تكون قابلة للتكذيب، وعلى قدر ما لا يمكن تكذيبها، فإنها لا تتحدث عن الواقع.»٤
(٢) وقد يثير هذا الاتجاه نحو التكذيب اضطرابًا لأنه مخالف للمألوف،٥ «غير أن النظرة المتروية توضح أن الكذب حقًّا جريمة خلقية مستهجنة، لكنه من الناحية الأخرى منجز حديث جدًّا من منجزات الإنسان، وهو الذي جعل اللغة على ما هي عليه، أي أداة للتقرير الخاطئ كما هي أداة للتقرير السليم.»٦ لكن عبارات العلم التجريبي هي فقط التي يمكن إثبات كذبها؛ لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمكن الرجوع إليه ومقارنتها به؛ لذلك فهي في موقف حرج حساس؛ مما جعل بوبر في فصل «منهج العلم» يلح على مطلب الجرأة؛ فالجرأة هي فقط التي تمكن من اقتحام المجهول واكتشاف الجديد، فالحقيقة ليست ظاهرة كما تدَّعي العقلانية الكلاسيكية، بل هي تكمن خلف ما يبدو لنا من العالم، ولعلها ذات طبقات عدة، الطبقة الخارجية النهائية هي المظاهر البادية، وما يفعله العالم العظيم هو أن يخمِّن بجرأة يحدس بإقدام، كيف تكون هذه الحقائق الداخلية، ويمكن أن تقاس درجة الجرأة بقياس مدى البعد بين العالم البادي وبين الحقيقة المفترضة حدسًا، أرسطارخوس وكوبرنيقوس عالمان عظيمان؛ لأنهما افترضا أن الشمس هي مركز الكون، في حين أن المظهر البادي يقول: إنها قابعة فقط في سماء الأرض.
غير أن ثمة نوعًا آخر من الجرأة لا يتعمق بل هو متعلق بالمظاهر البادية؛ إنه جرأة التنبؤ؛ فالتنبؤ هو هدف العلم المقدس، ويحدِّد بوبر مهمة عالم العلوم الطبيعية بأنها البحث عن القوانين التي تمكنه من استنباط التنبؤات،٧ فالفرض الشارح لا بد وأن يتنبأ بأوجه معينة من العالم البادي، هذا النوع من الجرأة هو الأهم وهو ما يميز الفرض العلمي بالذات،٨ فالفرض الميتافيزيقي يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكنه أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكنه أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني، لا يمكن للفرض الميتافيزيقي أن يتنبأ بوقائع تجريبية ستحدث أمامنا في العالم التجريبي وقابلة للملاحظة، إنه لو فعل هذا لتعرض لمخاطرة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، مخاطرة التصادم مع الخبرة، إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم؛ لذلك نكشف كل يوم أخطاء بعض من نظرياته فنتركها ونصل إلى الأفضل، بفضل إمكانية التكذيب كان العلم هو البحث الدائم التقدم، فإمكانية تكذيب العبارات العلمية هي قابليتها الشديدة للنقد والمراجعة لأن تُتْرَكَ وتحل محلها عبارات أفضل.
ومن هنا اقترح بوبر أن تكون الجرأة من النوع الثاني، والبعد المنهجي الذي يقابلها، أي الاستعداد للبحث عن الاختبارات والتفنيدات هو ما يميز العلم التجريبي عن اللاعلم، خصوصًا عن الأساطير والميتافيزيقات في مرحلة ما قبل العلم.٩
البعد المنطقي والبعد المنهجي هما وجهَا عملة التكذيب الواحدة، حيث إن القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار،١٠ يقول الدكتور عبد الرحمن بدوي: «ما يميز الفيزياء التي يقدمها أفلاطون في محاورة «طيماوس» من الفيزياء الحديثة، أن أفلاطون يطلق الفروض في تفسيره للظواهر، وتحديد العناصر الأولية، وبيان الحركات السماوية، دون أن يمتحن صحة هذه الفروض بالتجارب والملاحظات.»١١ إن أفلاطون لا يختبر فروضه، أي لا يحاول تكذيبها، ولا هي قابلة للتكذيب؛ لأنها ليست علمًا.
(٣) المعيار إذن هو إمكانية للتكذيب، أي التفنيد والنفي، وليس إمكانية التحقق أي الإثبات فمثلًا العبارة: «غدًا سوف تمطر السماء شمال الوجه البحري.» عبارة علمية تجريبية؛ لأن الخبرة الآتية في الغد يمكن أن تكذبها،١٢ يمكن أن تشرق الشمس غدًا شمال الوجه البحري ولا تمطر السماء، فتدلنا الخبرة التجريبية على أن هذه العبارة كاذبة، إنها لذلك — وليس لإمكانية تحققها — علمية فحقًّا أن الخبرة الآتية في الغد قد تدلنا على أن السماء تمطر شمال الوجه البحري، وأن العبارة صادقة، غير أن هذا لا يجعلها علمية، أو بمعنى أدق ليس هو المحك الذي نعتمد عليه في اعتبارها علمية، رغم أنه يجعلها صادقة، إنما ذلك المحك هو قابلية التكذيب القائمة فيها على أية حال.
تمسُّك بوبر بالتكذيب جعله يتفادى كل مشاكل التحقق، فينجح في هدفه الأساسي وهو التمييز بين قضايا العلوم التجريبية الحقيقية سواء كانت صادقة أو كاذبة، وبين قضايا العلوم الزائفة مهما كانت صادقة، وبعد أن يميز بوبر العلم سيعالج منطقه معالجة تكفل له السير قدمًا نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر.١٣
(٤) أما الذي يجعل القابلية للتكذيب معيارًا تجريبيًّا قادرًا على تمييز العلم التجريبي؛ فذلك لأنه يرسو على أسس تجريبية، هي العبارات الأساسية basic statements وهي عبارات تجريبية مفردة لها الصورة المنطقية للعبارات الموجودة المحددة، أو بتعبير تارسكي١٤ القضايا ذات الطابع الوجودي existential character التي تقرر وجود أشياء معينة متصفة بصفة معينة.١٥
أي وجود شيء معين في زمان معين ومكان معين فتشير علانية إلى موضوع مادي يمكن ملاحظته مما يجعل من الممكن مباشرة إثباتها أو إنكارها على أنها إما صادقة أو كاذبة، وهذه العبارات مدموغة بالخبرة الحسية، إلا أنها لا تصف هذه الخبرة،١٦ تبعًا لفلسفة بوبر التي تُثبت استحالة تدخُّل الحس الخالص في المعرفة.

أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك «س» في مكان ما من زمان ما.» فهي تبعًا لمعيار القابلية للتكذيب، لا يمكن أبدًا أن تكون في حد ذاتها علمًا، هي لا علم؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما لم تنسب إليها الشروط التي تحددها، أي التي تجعلها وجودية محددة على الرغم من إمكانية اشتقاقها من قضايا كلية علمية قابلة للتكذيب، إلا أنها ليست من فئة العبارات الأساسية؛ لأنها ليست محددة تفتقر إلى الصورة السابقة المشروطة لعبارات الملاحظة.

وطالما أن العبارة الأساسية لها صورة العبارة الوجودية المحددة فهي إذن عبارة خصوصية particular statement عن واقعة خصوصية particular fact، وهذه العبارات تمثِّل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خوَّلت له إمكانياته، وهي — وهي فقط — التي جعلته قادرًا على تمييز العلم التجريبي، ولولاها لما تميز التكذيب عن أية فكرة منطقية كأفكار هيجل مثلًا.
فلنفترض أننا فتَّتنا العالم التجريبي على طريقة برتراند رسل إلى أقصى درجة ممكنة، أي إلى عدد لا نهائي من الأحداث، كل حادث واقع في آن معين من الزمان ونقطة معينة من المكان، جماع هذه الأحداث هو العالم التجريبي، ولنضع لكل حدثٍ جملة تنقله، بتعبير رسل: جملة ذرية … هذه الجمل الذرية وارتباطاتها معًا هي العبارات الأساسية، إنها نسق من جميع العبارات الممكن تصورها عن الواقع، المفردة والمتسقة ذاتيًّا، والتي لها صورة منطقية معينة «صورة العبارة الوجودية المفردة» لذلك سيحتوي نسق العبارات الأساسية على عبارات كثيرة ليس بينها توافق متبادل incompatible،١٧ إذ إنها تعبِّر عن الوقائع التجريبية أي الممكنة، التي قد تحدث وقد لا تحدث.
ونظريات العالم الطبيعي؛ أي محاولات الكشف عن القوانين التي تحكم العالم التجريبي، هي محاولات رسم حدود وفواصل بين هذه العبارات الأساسية، حدود تحدد الممكن الذي سوف يحدث وسوف نلقاه في خبراتنا، وتمنع ما خارجها من الحدوث؛ لذلك يقول بوبر: إن إمكانية التكذيب هي إمكانية الدخول في علاقات منطقية مع عبارات أساسية محتملة؛ أي من فئة كل العبارات الأساسية الممكنة، وإن هذا لهو المطلب الجوهري والأساسي؛ لأنه متعلق بالصورة المنطقية للفرض؛١٨ كي يكون علميًّا.
لذلك يكون التعبير المنطقي عن قابلية التكذيب هو: تكون النظرية قابلة للتكذيب؛ أي عملية، إذا كانت تقسم فئة كل العبارات الأساسية المحتملة تقسيمًا واضحًا إلى الفئتين الفرعيتين sub-classes اللافارغتين:
  • فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المكذبات المحتملة للنظرية.

  • فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظرية معها؛ أي لا تناقضها وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.

والخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى، بحيث يمكن تلخيص هذا كالآتي، تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها المحتملة ليست فارغة.

فلنمثل فئة جميع العبارات الأساسية الممكنة بمساحة دائرية، وجميع الأحداث الممكنة بأنصاف أقطار الدائرة، فيجب أن يكون نصف قطر واحد على الأقل غير متفق مع النظرية، أو قطاع دائري واحد ضيق، سيمثل أن الحدث يجب أن يكون قابلًا للملاحظة، وعلى هذا يمكن تمثيل المكذبات المحتملة لمختلف النظريات بقطاعات دائرية ذات اتساعات مختلفة، ونقارن فئات المكذبات باتساع القطاعات المستبعدة بواسطتها، فتكون فئة مكذبات النظرية أكثر إذا كان قطاعها أوسع،١٩ مما سيعني أنها أكثر قابلية للتكذيب، أي أكثر علمية.
إن النظرية تضع تقريرًا فقط عن مكذباتها المحتملة — أي تقرر فقط إمكانية كذبها — وهي لا تقول شيئًا عن العبارات الأساسية التي تسمح بها النظرية لا تقول: إنها صادقة،٢٠ وإذا طلبنا منها هذا وقعنا في مهاوي التحقق.

(٥) بناءً على هذه العبارات الأساسية تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب، والتكذيب، أي إمكانية مواجهة، ومواجهة، القضايا العلمية بالواقع التجريبي.

بالنسبة للعبارة المفردة، فإن إثبات كذبها إذا كانت كاذبة، يمكن في التو واللحظة،٢١ وعلى الرغم من أن هذه العبارات هي أساس عملية التكذيب التجريبي؛ لأنها النهايات التي يرتكز عليها إجراء المعيار، إلا أنها ليست موضوع مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم الآن، وإن كانت موضع مشاكل أخرى عديدة،٢٢ موضع مشكلة التمييز أساسًا هو القضايا الكلية، أي القوانين والنظريات.

لكن الطبيعة الكلية العمومية لقوانين ونظريات العلم، تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها تتحدث عن أفق لانهائي، يستحيل حصره في زمان ومكان معينين يمكن إخضاع ما يضمانه لنطاق اختبار تجريبي، فكيف يمكن الكشف إذن عن كونها قابلة للتكذيب أو غير قابلة له؟

يمكن هذا عن طريق استنباط عبارات مفردة من النظرية، يسهل أن نواجهها بالواقع، فيكون الاستدلال التكذيبي استدلالًا استنباطيًّا صرفًا هابطًا من الكليات إلى جزئياتها، ولا أثر للاستقراء فيه البتة.

لكن مجرد إمكانية استنباط عبارات مفردة من النظرية، لا يعني أن النظرية علمية؛ إذ لكي نستنبط عبارات مفردة من النظرية التي هي كلية سنحتاج حتمًا إلى عبارات مفردة أخرى تمثِّل الشروط المبدئية itnitial conditions لما يجب أن تخضع له متغيرات النظرية، ويمكن أن نقارن هذا بما يذهب إليه المنطق الرياضي من اعتبار القضايا الكلية دالات قضايا وليست قضايا؛ إذ تنتظر وقوع الجزئي من موضوعها الكلي، الذي يجعلها قضية، لكن بالطبع في نظريات العلم لا تكون المسألة مجرد مثال جزئي للقانون الكلي، بل وإن بوبر يصوب أنظاره دائمًا شطر النظريات الفيزيائية البحتة، وفي اختبار التكذيب تكون النظرية إحدى مقدمات الاستنباط، وبقية المقدمات عبارات مفردة أخرى تخدم كشروط أساسية لحدوث ما تخبر به النظرية، والذي سيكون نتيجة الاستنباط التي نقابلها بالواقع التجريبي.

لكن هل مجرد إمكانية استنباط عبارات مفردة من النظرية — بمساعدة عبارات مفردة أخرى — هي عينها إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا، فأية عبارة لا تجريبية، مثلًا ميتافيزيقية أو تحصيل حاصل يمكن أن نستنبط منها عبارات مفردة بمساعدة عبارات مفردة أخرى، فمثلًا: «إذا كانت «أ» هي «أ»، لكانت السماء ستمطر غدًا، لكن «أ» هي «أ»؛ إذن السماء ستمطر غدًا.» وهي نتيجة تمثل عبارة أساسية.

فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة، تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط أساسية، هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكنها لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية،٢٣ فمثلًا: «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا؛ إذن زلزال أثينا له علة غائية.» إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفردة.

لكي نتجنَّب كل هذا، ونستطيع جعل القابلية للتكذيب معيارًا يميز العلم بكفاءة، يجب أن نضع نصب أعيننا مطلب القاعدة الآتية:

«يجب أن تسمح النظرية بأن نستنبط منها عبارات تجريبية مفردة أكثر من العبارات التي يمكن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثِّل الشروط الأولية بمفردها.»٢٤

إذا سمحت النظرية بهذا، أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة منها بالواقع التجريبي، الذي قد يكشف عن كذبها، أي كانت النظرية قابلة للتكذيب؛ فهي إذن علمية، وهذه العبارات المستنبطة منها تمثل مضمونها المعرفي، الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي، إنها تنبؤاتها.

(٦) إذن الاستنباط هو منهج التكذيب؛ لأنه أساس منهج العلم، وكل هذا يعني أن فكرة القابلية للتكذيب كمعيار تكاد تكون بديهية؛ لأنها لا تعني أكثر من أن العبارة موضع البحث يجب وأن يلزم عنها نتائج consequences، تسمح من حيث صورتها أو خاصيتها بأن تكون كاذبة، وهذا بدوره لا يعني أكثر من أن القانون الفيزيائي بصفةٍ عامة يمكن أن تختبره التجارب،٢٥ يمكن أن يقبل مخاطرة التفنيد.

(٢) معيار القابلية للتكذيب والمحتوى المعرفي

(١) وإن النظرية التي تقبل مخاطرة التفنيد؛ أي القابلة للتكذيب، ستصف عالمنا المعين، عالم خبرتنا الوحيد، وستفرده عن فئة كل العوالم الممكنة منطقيًّا، وبمنتهى الدقة المستطاعة للعلم.٢٦
وكلما ازدادت النظرية في محتواها المعرفي وفي عموميتها وفي دقتها، كلما عينت هذا العالم أكثر، إن إمكانية التصادم مع الواقع — أي القول بما قد لا يحدث في الواقع فيكذب النظرية — هي التي تميز النظرية العلمية، إنها قدرتها على الاستبعاد على منع بعض الحوادث المحتملة من الحدوث، وكلما منعت النظرية أكثر كلما أخبرتنا أكثر،٢٧ وكلما عرضت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، كلما زادت قابليتها للتكذيب.

فمثلًا: «الماء يغلي في درجة مائة مئوية.» هذه عبارة علمية إذ يمكن مقابلتها بالواقع ممكن ألا يغلي الماء في هذه الدرجة، إذا حدثت هذه الواقعة، وحدوثها ممكن، يتم تكذيب العبارة، لكن نلاحظ أن العبارة تمنع حدوث غليان الماء في أية درجة أخرى، ٦٠ درجة أو ٩٠ درجة، وإذا أضفنا إليها تحديدًا آخر وقلنا: «إن الماء يغلي في درجة ١٠٠ درجة في مستوى سطح البحر.» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها منعت أكثر، فقد منعت كل ما منعته سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعت غليان الماء في درجة ١٠٠ درجة فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي، مختلف عن الضغط فوق سطح البحر، وإذا أضفنا إليها تحديدًا آخر وقلنا: «في مستوى سطح البحر، يغلي الماء في درجة ١٠٠ درجة في الأوعية المكشوفة.» كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر في الأنابيب أو في المراجل المغلقة، إنها تمنع الأكثر؛ لأنها تحتوي على المعلومات الأكثر، ولهذا قابليتها للتكذيب أكثر.

(٢) هذا المثال يوضح أن القابلية للتكذيب ترتبط بالمحتوى المعرفي ارتباطًا مباشرًا، بل إنها تقدم المحتوى المعرفي في قشرة بندقة٢٨ مما يجعل العلاقة بينهما تناسبًا طرديًّا، فمثلًا تزيد عمومية Universality العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوى يفوق محتوى النظرية، أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما تمنعه، بالإضافة إلى ما جعلها أعم؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضًا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تعمِّمها.

إن العبارة العلمية هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي لذلك العبارة القابلة للتكذيب.

(٣) والمحتوى المعرفي Informative content للعبارة هو: محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي.
«المحتوى التجريبي Informative content: هو فئة المكذبات المحتملة للنظرية؛ فهي العبارات الإخبارية التي تنتج عن النظرية، وإن لم تحدث كذبت النظرية.»٢٩
ونلاحظ أن هذا تعريف عام لا يصلح للعمل الفعلي في منطق العلم، ففي العادة، الذي يعنينا هو المحتوى التجريبي لنظرية عمومية شارحة، وكما سلف فإنها لا تعطينا بمفردها عبارات ملاحظة أساسية تمثل محتواها التجريبي، لا بد من عبارات ملاحظة أخرى، مثلًا العبارة العمومية: «كل الغربان سوداء.» لا تعطينا بمفردها العبارة الأساسية: «الآن يوجد هنا غراب أسود.» فلا بد وأن نضيف إليها: «الآن يوجد هنا غراب.» لكن تلك العبارة العمومية بمفردها، يمكن أن نستنبط منها العبارة: «الآن لا يوجد هنا غراب أبيض.» وهذا هو الذي أرشد بوبر في تعريف محتوى النظرية إلى أن يقفل راجعًا إلى فكرة أن النظرية تخبرنا عن الوقائع القابلة للملاحظة بقدر ما تخبرنا عن الوقائع التي تمنعها؛ أي بقدر ما تخبرنا عن الوقائع التي لا تتفق معها؛ لذلك كانت فئة عبارات الملاحظة — الأساسية — التي تناقض النظرية، تعين أو تساوي محتواها التجريبي؛٣٠ أي إن فئة المكذبات المحتملة potential falsifiers التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب؛ هي محتواها التجريبي، مما يجعل المعيار يحتِّم — بل يعني — وجود محتوى تجريبي للعبارة، وماذا نريد من العلم أكثر من هذا؟
وكل نظرية لها أيضًا محتوى منطقي logical content ومفهوم القابلية للاشتقاق derivability هو الذي يحدد المحتوى المنطقي؛ إذ إنه فئة كل العبارات التي ليست بتحصيل حاصل والتي يمكن اشتقاقها من العبارة أي فئة معقباتها consequences لزوماتها المنطقية٣١ أي ما يلزم عنها منطقيًّا.
(٤) على هذا تكون تحصيلات الحاصل فارغةً بغير أي محتوى معرفي؛ لأن فئة مكذباتها فارغة، وأيضًا فئة معقباتها فارغة؛ أي إن محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي كليهما فارغ، في حين أن جميع العبارات الأخرى التي ليست بتحصيل حاصل حتى الكاذبة منها، لها محتوى منطقي غير فارغ.٣٢

وحيثما ترتبط مقاييس المحتوى التجريبي لنظرية بأخرى، فلا بد وأن ترتبط أيضًا مقاييس محتواها المنطقي.

بالتعبير الرمزي عن هذا، نفترض أن لدينا النظريتين: «ن١» و«ن٢»، ولنرمز للمحتوى المعرفي بالرمز «م ت» وكان لدينا الصياغة الآتية:

(١) م ت «ن١» < م ت «ن٢»

فلا بد وأن تنطبق أيضًا على محتواهما المنطقي، فإذا رمزنا للمحتوى المنطقي بالرمز «م ط»، نصل إلى الصياغة الآتية:

(٢) م ط «ن١» < م ط «ن٢»
وبداهة فإن نفس المقاييس تنطبق على المحتوى المعرفي بصفة عامة،٣٣ ولما كانت نظرية بوبر التكذيبية تعني التناسب العكسي بين درجة غزارة المحتوى المعرفي وبين درجة الاحتمالية بمعنى احتمالية الصدق، وجب أن تنطبق نفس المقاييس أيضًا على الاحتمالية، لكن بصورة عكسية، فبالطبع المحتوى المعرفي للربط بين النظريتين «أ» و«ب»، سيكون أكبر من، أو على الأقل مساويًا لمحتوى أية منهما، فإذا كانت «أ» هي العبارة: ستمطر السماء يوم الجمعة، و«ب» هي العبارة: سيكون الطقس لطيفًا يوم السبت، و«أ ب» هي العبارة: ستمطر السماء يوم الجمعة ويكون الطقس لطيفًا يوم السبت، لكان محتوى «أ ب» التجريبي أكبر من محتوى «أ» ومن محتوى «ب» التجريبي؛ وبالتالي تكون احتمالية٣٤ أو احتمالية صدق «أ ب» أقل من احتمالية «أ» أيضًا أقل من احتمالية «ب» وبالتالي نصل إلى:
(٣) م ت «أ» > م ت «أ ب» < م ت «ب»

لما كان هذا يناقض القانون المناظر للاحتمالية، فإذا رمزنا للاحتمالية بالرمز «ح» نصل إلى:

(٤) ح «أ» < ح «أ ب» > ح «ب» (٢)
والصياغتان ٣، ٤ يقيمان الدعوى التي تعد أحد المعالم الأساسية لمنطق التكذيب البوبري؛ أي تزايد المحتوى المعرفي بتناقص احتمالية الصدق، والعكس أيضًا صحيح، أي تناقص الاحتمالية بتزايد المحتوى، أو بتعبير آخر: بتزايد المحتوى بتزايد اللااحتمالية، وتبعًا للصياغتين ١ و٢ معًا ينطبق نفس الأمر على المحتوى المنطقي؛ إذ يزيد هو الآخر بتناقص الاحتمالية، فتكون النظرية أقوى منطقيًّا إذا كانت احتمالية صدقها أقل، وهذا هو القانون الذي على أساسه تمسك بوبر منذ البداية بأنه إذا كان تقدُّم المعرفي يعني العمل بنظريات ذات محتوى معرفي أعلى، فلا بد وأن نهدف إلى العمل بنظريات ذات احتمالية صدق أقل، وإلا كانت أهدافنا العلمية المنطقية متناقضة، وهذا هو الأساس المنطقي الراسخ، الذي عارض به بوبر الرأي الاستقرائي الشائع القائل: إننا ننشد — بداهة — النظريات ذات احتمالية الصدق الأعلى،٣٥ ولما كان رأيًا قويًّا ومعارضته عسيرة، فقد اقترح دكتور بروس بروك ويفل Bruce Brooke Wavell على بوبر أن يتوقَّف في هذا الصدد عن الحديث عن حساب الاحتمال ويقصر معالجته فقط على المحتوى التجريبي والقوة المنطقية؛ أي المحتوى المنطقي، ويقول بوبر: إنه فكر جديًّا في هذا الأمر، لكنه وجد أن معالجة المحتوى المعرفي تفضي بصورة لا محيص عنها إلى هذه النظرة إلى الاحتمالية وإلا فإننا سنبقي عليها بصورة لا نقدية — وهذا ما لا يمكن أن يقبله بوبر أبدًا — تجعلنا نقبل نظريات سفسطائية وخاوية، فلا بد إذن من الاصطدام مع هذا الرأي الاحتمالي الشائع، خصوصًا وأننا دخلنا منذ البداية في اصطدام مع أساسها الأكثر شيوعًا، أي الاستقراء،٣٦ وبعد فهذا هو أحد الأسس التي وضع عليها بوبر هدف العلم النهائي: فطالما أن احتمالية الصدق المنخفضة تعني احتمالية التكذيب العالية، فلا بد وأن يكون هدف العلم هو درجة القابلية للتكذيب أو للتفنيد أو للاختبار العالية، وهذا هو على وجه الدقة مطلب المحتوى المعرفي العالي؛٣٧ وبالتالي درجة احتمالية الصدق المنخفضة.

وكل هذا يوضح مدى ترابط فلسفة بوبر، واتساق منطق التكذيب، رغم استقلال بوبر النادر، ومعارضته للأوهام التي لا قِبَل لأحد بمعارضتها.

(٥) وفيما بعدُ جاء بوبر في كتابه «المعرفة الموضوعية: تناول تطوري» ليوسع في نطاق فكرة المحتوى المعرفي كثيرًا، فقد أوضح أن فئة المحتوى المنطقي تتضمن فئتين فرعيتين لهما هما:
  • (أ)
    فئة محتوى الصدق Truth Content، وهي فئة كل القضايا الصادقة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وجميع العبارات التي ليست بتحصيل حاصل، حتى العبارات الكاذبة، لها محتوى صدق؛٣٨ إذ من الممكن أن نستنبط عبارة صادقة من أية عبارة كاذبة، مثلًا عن طريق العبارة الانفصالية (٧)، التي تتخذ الصورة المنطقية «إما «ق» أو «ك»»، فإذا كانت «ق» هي العبارة الكاذبة، أمكن أن نضيف إليها العبارة الصادقة «ك»، فنستنبط منها القضية الصادقة «ق ٧ ك»، أو مثال آخر: إذا كان اليوم هو السبت، لكانت العبارة «اليوم هو الجمعة» عبارة كاذبة، لكن يمكن أن نستنبط منها العبارات الصادقة «اليوم ليس الأحد» و«اليوم ليس الثلاثاء» وهكذا.
    ولعل هذه هي الصورة المنطقية الدقيقة الحاسمة لتلك الحقيقة الميثودولوجية العامة المبهمة، والتي تُعَد عجيبة وطريفة في الوقت ذاته، ألا وهي أن الفرض قد يكون مثمرًا جدًّا دون أن يكون صحيحًا، وهذا أمر لم يغب عن بال فرنسيس بيكون.٣٩
  • (ب)
    فئة محتوى الكذب Falsity Content وهي فئة كل القضايا الكاذبة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وهذه الفئة — من الناحية المنطقية — مقصورة على العبارات الكاذبة فقط، وبالطبع إطلاق مصطلح فئة على محتوى الكذب فيه كثير من التجاوز؛ فهو لا يتصف بالخصائص المنطقية المميزة لمفهوم «المحتوى»، أو مفهوم فئة المعقبات Consequences class وهو ليس نسقًا استنباطيًّا،٤٠ وذلك تبعًا لمفاهيم ألفرد تارسكي التي يعمل بها بوبر لكن عبارات هذه الفئة — شأن أية عبارات كاذبة — يمكن أن نخرج منها بعبارات صادقة بواسطة الطريقة الانفصالية السابقة مثلًا.
ويشرح بوبر محتوى الكذب بطريقة تارسكية، فيقول: إنه كالآتي:
  • (أ)

    هناك محتوى أو فئة معقبات للعبارة «أ».

  • (ب)

    وهي تحتوي كل العبارات الكاذبة التي تنتج عن العبارة «أ».

  • (جـ)
    وهي لا تحوي أية عبارة صادقة.٤١

وبالطبع التوصل منطقيًّا إلى تكذيب العبارة أو النظرية العلمية، يعتمد على فئة محتوى الكذب، فإذا استطعنا أن نجعل هذه الفئة ليست فارغة، استطعنا أن نجعل النظرية بدورها مكذبة تبعًا للارتباط بين مقاييس المحتوى المنطقي والمحتوى التجريبي، الذي هو فئة المكذبات المحتملة، من الناحية المنطقية العبارة الصادقة محتوى كذبها فارغ، وإن كانت العبارة الكاذبة محتوى صدقها ليس فارغًا، تبعًا لإمكانية استنباط عبارة صادقة منها، وهذا برهان آخر على مدى ثقوب نظرة بوبر، حين يجعل البحث عن قابلية التكذيب هي المعيار.

وقد ميز بوبر أيضًا في المحتوى المنطقي بين: المحتوى المنطقي المطلق والمحتوى المنطقي النسبي.

فإذا رمزنا: لفئة المحتوى المنطقي للعبارة «أ» بالرمز «أ».

ولفئة المحتوى المنطقي للعبارة «م» الصادقة منطقيًّا، أي التحصيل حاصل بالرمز «م»، بالطبع ستكون «م» فئة صفرية فارغة ويكون التمييز بين الفكرتين كالآتي:
  • المحتوى المنطقي المطلق absolute content للعبارة هو «أ» ويمكن تحديده «أ = أ، م».

    أي هو محتوى «أ» في حالة التسليم فقط بالمنطق، وبالطبع المنطق مجرد قوانين صورية لا تزيد شيئًا فهو فئة فارغة، لا تعبر إلا عن القوانين الضرورية المطلقة الصدق.

    لذلك كان محتوى العبارة هنا مطلقًا.

  • المحتوى المنطقي النسبي Relative logical content فهو محتوى العبارة في حالة التسليم بمحتوى آخر، كأن نتحدث عن محتوى العبارة «أ» مسلمين بالمحتوى «ي» مثلًا، أي بمساعدة «ي»: فيمكن أن نرمز إلى المحتوى المنطقي النسبي كالآتي: «أ = أ، ي».
    أي هو فئة كل العبارات القابلة للاستنباط من «أ» فقط بالنسبة لحالة وجود «ي»، أو بمساعدة «ي».٤٢
    والمحتوى المنطقي النسبي له الأهمية الكبرى في المعالجة الفعلية لمنطق العلم، فإذا كانت «ي» هي الخلفية المعرفية في الوقت الراهن، ليكن الوقت «ت» أي بناء العلم اليوم، ولنرمز له بالرمز «ع»، وكانت العبارة «أ» افتراضًا حدسيًّا مقترحًا الآن، فإن ما يعنينا منه هو محتواها النسبي «أ، ع» وليس محتواها المطلق، فقط محتواها بالنسبة ﻟ «ع» في الوقت «ت»، أي بالنسبة لعلمنا اليوم، أي إننا نهتم بالجزء من المحتوى الذي يتجاوز «ع ت»، أي بناء علمنا اليوم ويضيف إليه، ولما كنا نهتم أساسًا بتطوير العلم كان هذا المحتوى النسبي يصلح تمامًا للعمل في منطق العلم، وهو فعلًا هكذا فمحتوى العبارة الصادقة منطقيًّا فارغ، مما يجعل المحتوى النسبي للعبارة «أ» بالنسبة ﻟ «ع» صفرًا إذا كانت «أ» تحوي فقط الخلفية المعرفية، ولم تضف بالفعل أي شيء إليها،٤٣ فقط دورانات منطقية، هذا إذن محك جيد لاختبار الفروض الجديدة في العلم.٤٤

(٦) لقد ذكرنا أن بوبر بعد أن يميز العلم عن طريق القابلية للتكذيب، سوف يعالج منطقه معالجة تكفل له السير قدمًا نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر، مما يجعلنا في مأمن من مغبة أية خاصة سلبية ترتبط بمفهوم الكذب، الذي يرادف الخطأ، أي تمامًا ما ينبغي تجنُّبه.

ولقد فعل بوبر ذلك عن طريق تقديمه لتصور منطقي جديد، لفكرة أسماها رجحان الصدق verisimilitude التي تعني أن النظرية أصبحت أكثر مماثلة للصدق more truthlikeness وقد توصَّل إليها عن طريق الربط بين فكرتين له أخذهما أصلًا من تارسكي وهما: مفهوم الصدق، ومفهوم المحتوى المنطقي.٤٥
فقد أوضحنا أن الصدق هو المبدأ التنظيمي لشتى الجهود المعرفية، بوصفه الهدف النهائي بعيد التحقيق، بمعنى أن النظريات تتنافس في الاقتراب من الصدق، وكل إنجاز علمي جديد هو توصل لنظرية جديدة تلافت مواطن الكذب في سابقتها، فأصبحت أكثر منها اقترابًا من الصدق، وهي لذلك قهرتها وتغلبت عليها supereseded it ومن هنا تكون القابلية للتكذيب هي عماد الاقتراب التقديري الأكثر better approximation من الصدق، والذي هو التعبير المنطقي عن التقدُّم العلمي المستمر، وهذا الاقتراب التقديري الأكثر من الصدق، هو ما يسميه بوبر «رجحان الصدق»، ولما كان يعني تلافي مواطن كذب، واقترابًا أكثر من الصدق، كان — أي رجحان الصدق — يزيد بزيادة محتوى الصدق ويتناقص بزيادة محتوى الكذب؛٤٦ لذلك كان رجحان الصدق مفهومًا يقوم على مفهومي المحتوى المنطقي والصدق؛ لأنه لا يعني أكثر من المحتوى المنطقي الأكثر اقترابًا من الصدق.

وهو مثل كل — أو تقريبًا كل — مفاهيم بوبر المنطقية الميثودولوجية نسبي يتعلق بالمناقشة العلمية المطروحة في الوقت المعين، الوقت الراهن، وبالمناقشة بين الفروض وبعضها؛ لذلك فهو مفهوم أساسًا ليحكم بتفوُّق نظرية على الأخرى، حين تتميز عليها برجحان صدقها رجحان صدق «ن٢» على «ن١»؛ لذلك فلا بد وأن يكون له شروط، وهي أن تكون النظرية «ن١» متضمنة في النظرية «ن٢»، التي تفوَّقت عليها، وإلا لما أمكنت المقارنة بينهما، وأن تقول «ن٢» كل ما قالته «ن١»، ثم تتجاوزها فتفسر جميع الوقائع التي تفسرها «ن١» ثم تستطيع أيضًا أن تفسر بعض الوقائع التي تفشل «ن١» في تفسيرها؛ وبالتالي ستكون أية معلومة تفند «ن٢» ستفند أيضًا «ن١»؛ وبالتالي يكون الحكم بتفضيل «ن٢» على أساس رجحان صدقها لا غبار عليه، وأخيرًا يجب أن تكون العبارات الصادقة التي يمكن اشتقاقها من «ن٢» أكثر من التي يمكن اشتقاقها من «ن١»، والعبارات الكاذبة أقل، وكل ذلك يعني أن «ن٢» أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي، أي أكثر قابلية للتكذيب وهذا يوضِّح أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب هي الأقل كذبًا.

وقد وجَّه ألفرد آير عدة انتقادات لمفهوم رجحان الصدق، منها أن بوبر قد وضعه كبديل لما حذفه من تقدم النظريات ووصولها إلى الصدق خلال التحقق، وهذه سفسطة وضعية، فالمفهوم هو التعبير المنطقي لتقدم العلم، المتسق تمامًا مع منطق بوبر الرافض أصلًا للوضعية المنطقية.

ومن الناحية الأخرى، رأى آير أن «رجحان الصدق» لا يزودنا بمعيار حقيقي للتقدم نحو الصدق؛ لأننا لا نحكم «برجحان صدق» «ن٢» إلا إذا تم تفنيد «ن١» بالفعل، في حين أن ما يعنينا هو تلك الفروض التي لم يتم تفنيدها بالفعل وهذه لا يجدي معها مفهوم «رجحان الصدق»، ولعل هذا نقد وجيه وإن كان يمكن تخفيف حدته بالإشارة إلى الفصل الثالث «درجات القابلية للتكذيب»؛ حيث نجد أساليب التوصل إلى الأفضل، ومن ثم الأقرب من الصدق، من بين مجموعة النظريات المتنافسات، التي لم يتم تفنيد أيٍّ منها.

(٧) لم ينتبه بوبر إلى ارتباط التكذيب بالمحتوى المعرفي، إلا في مرحلة لاحقة متأخرة عن المرحلة التي توصل فيها إلى الفكرة الأساسية للمعيار،٤٧ ذلك على الرغم من أن ارتباط التكذيب بالمحتوى المعرفي هو الذي خوَّل له إمكانية المعالجة الشاملة لمنطق النظرية العلمية، وهو أحد الأسباب التي جعلته متفوقًا على معايير الوضعية، ومستطيعًا ما لا تستطيعه، مثل المفاضلة بين النظريات، واستبعاد تحصيلات الحاصل.٤٨
إننا بالبحث عن التفنيد والنفي، وليس التحقق والإثبات، نستطيع استبعاد عبارة مثل «إما أن تمطر السماء غدًا أو لا تمطر.» وهي واجبة الاستبعاد إذ إنها لا تعطينا أي محتوى إخباري عن الواقع؛ فهي تحصيل حاصل من الصورة المنطقية «إما «ق» أو لا «ق»»، لكن حينما يأتي الغد، فأيًّا كانت معطيات الخبرة الحسية لا بد وأن نتحقق من العبارة، لكن تكذيبها يستحيل منطقيًّا فنستطيع الحكم بأنها لا علمية.٤٩

بعبارة أخرى: التكذيب المرتبط بالمحتوى المعرفي يستطيع تمييز العلم الإخباري حقيقة، حتى عن العلوم الصورية ذات تحصيلات الحاصل، المتنكرة في هيئة العبارات الإخبارية، وهي إحدى — بل وأهم — وسائل العلوم الزائفة، وهي واضحة متجلية في الفروض الميتافيزيقية المتطرفة الموغلة في غياهب العقل الخالص، وأيضًا في الفكر الثيولوجي.

(٣) القابلية للتكذيب اختبارًا

(١) ماهية العلم ليست جماع نتائجه؛ أي نظرياته، كلا بالطبع؛ لأنها متغيرة دومًا، ولا يكاد يختلف اثنان على أن ماهية العلم، أي معلمه المميز، الذي يجعله كيانًا قائمًا عبر القرون هو منهجه، وإن اختلفت الآراء على ما هو هذا المنهج، ولكن ماذا عسى أن يكون هذا المنهج، الذي ليس باستقراء البتة، سوى اختبار الفروض التي تأتي بأية طريقة، فماذا عسى أن نفعل بالفروض سوى أن نختبرها، فبغير الاختبار لن نستطيع استبعاد الخطأ، أي إنجاز الخطوة «أ أ» من الصياغة «م١ ح ح أ أ م٢» التي ترسم مسار العلم.
وإن القابلية للتكذيب Falsifiability هي ذاتها القابلية للاختبار Testability، المصطلحان مترادفان، فالكشف عن القابلية للتكذيب ليست إلا الكشف عن قابلية الاختبار التجريبي للنظرية التي تدَّعي السمة العلمية، أي التي تدَّعي الإخبار عن الواقع، الكشف عن إمكانية مواجهتها بهذا الواقع، فنرى هل تخبر عنه أصلًا أم لا، ثم نرى هل تخبر عنه كذبًا أم لا.

(٢) فالاختبار هو القاعدة الأساسية والجوهرية في منهج العلم، وإن شئت قلت: هو القاعدة التجريبية الوحيدة، والتي تتفرَّع عنها كل القواعد الأخرى لمنهج العلم.

فبعد أن نختبر النظرية — أو الفرض الجديد — من الناحية المنطقية، أي نكشف عن أنها ليست تحصيل حاصل، وأنها لا تناقض نفسها، ولا تناقض النظريات المقبولة التي تسلم هي بها، لا بد من اختبارها تجريبيًّا عن طريق اختبار الاستنتاجات أي التنبؤات التي نستنبطها منها،٥٠ وهدف هذا الاختبار هو الكشف عن مدى استطاعة النتائج الجديدة التي تلزم عن النظرية على الصمود أمام متطلبات التطبيق، سواءً كانت مبعثها التجريب العلمي البحت، أم التطبيقات التكنولوجية العلمية، ويتم الكشف عن هذا بمنهج التكذيب الاستنباطي، وأيضًا لا أثر للاستقراء البتة، فبواسطة بعض العبارات الأخرى المقبولة سلفًا يمكن أن نستنبط عبارات أخرى من النظرية هي التنبؤات، خصوصًا التنبؤات التي يمكن اختبارها بسهولة، ومن بين جماع العبارات أو التنبؤات المستنبطة من الفرض، نختار تلك التنبؤات التي لا يمكن أن تتوصل إليها النظريات الموجودة سلفًا، بل نختار على وجه الخصوص التنبؤات التي تناقضها تلك النظريات، ثم نواجه هذه التنبؤات بالتطبيقات العملية والتجريب؛ أي نحاول تكذيبها٥١ أو اختبارها.

إذن القابلية للتكذيب التي هي القابلية للاختبار، هي أسلوب التعامل مع العلم أي منهجه أو أساس قواعده المنهجية الذي لا مندوحة عنه؛ لذلك كانت معيار العلم القادر على تمييزه.

(٣) وكون القابلية للتكذيب تعني معيار العلم، وتعني اختباره، يوضح أنها ذات وجهين: وجه صوري ووجه واقعي؛ أي إننا نرومها من أجل مطلبين:
  • مطلب صوري منطقي يعني تعيين وتمييز الصورة المنطقية للنظرية العلمية.

  • مطلب واقعي عملي هو أن نختبر النظرية من طريق مواجهة ما نستنبطه منها بالواقع التجريبي، وهذا الاختبار لا بد وأن ينتهي — منطقيًّا٥٢ — إلى أحد احتمالين لا ثالث لهما: التكذيب وإما التعزيز.
(٤) إذن ثمة فارق كبير جدًّا بين القابلية للتكذيب falsifiability وبين التكذيب falsification، فأولًا بوبر لا يروم بمعياره أن نتثبت بالفعل من كذب كل عبارة علمية ونفندها كلا بالطبع فهذه كارثة محققة،٥٣ وإلا فما هو علمنا اليوم؟ إنه نسق العبارات العلمية القابلة للتكذيب والتي لم يتم تكذيبها بعدُ، فالمعيار هو القابلية للتكذيب من حيث المبدأ، من حيث الإمكانية، من حيث القوة بمصطلحات أرسطو، أن نتثبت من أن إمكانية التكذيب قائمة في النظرية، لا أن النظرية كاذبة بالفعل.

إن القابلية للتكذيب مجرد معيار يميز الخاصة التجريبية لأنساق العبارات العلمية، أما التكذيب فهو حكم على النسق، تقييم معرفي له، رفض له.

(٥) وكما سلف فإن اختبار النظرية إما أن يفضي إلى التكذيب أو إلى التعزيز.

التكذيب Falsification

تحكم على النظرية بالتكذيب إذا لم تكن نتيجة الاختبار في صالحها أي إذا تناقضت التنبؤات المستنبطة منها مع الواقع التجريبي؛ لأن تكذيب التنبؤات يكذب بدوره النظرية، فإذا حدث هذا أصبحت النظرية فاشلة مفندة، فنستبعدها من بناء العلم رغم أنها علمية وستزال، لكننا وضعنا أصبعنا على موطن الكذب، فسنتلافاه في النظرية الجديدة التي ستحل محلها فستكون أكثر اقترابًا من الصدق وأغزر في المحتوى المعرفي وفي القوة الشارحة؛ لذلك فكل تكذيب هو ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما قد يبدو للنظرة السطحية العابرة.

التكذيب على ذلك تقييم معرفي وحكم خطير، فلا بد إذن من وضع قواعد تحكمه وتحدد تحت أية الظروف تعتبر النظرية مكذبة.

يمكن القول: إن النظرية تكون مكذبة، فقط إذا قبلنا عبارات أساسية تناقضها،٥٤ أو بدقة أكثر إذا قبلنا عبارات أساسية تناقض العبارات الأساسية المستنبطة من النظرية.
وهذا هو الشرط الأساسي، لكنه ليس كافيًا؛ إذ يجب أن نقبل فقط العبارات الأساسية القابلة للإعادة والاسترجاع، العبارات الأساسية الشاردة التي لا يمكن استرجاعها مرة أخرى لن ندعها تفند النظرية العلمية، ويمكن أن نذكر في هذا المقام ما أورده جان فوراستيه عن ملاحظة ألكس كاريل في لورد عام ١٩٠٣م فهي ملاحظة متعلقة بالظواهر المتمردة التي ترفض أن تنفذ إلى أطر العلم الرسمي، والتي تقابلها منطقيًّا العبارات الأساسية الشاردة؛ فقد قام كاريل بالانتقال إلى لورد في قطار للحجيج فعرَّفه أحد زملائه على الشابة ماري بيلي التي يهددها الموت الفوري وطلب إليه معالجتها وفحصها، وبموجب ملاحظات كاريل وملاحظات رفاقه الأطباء المعالجين، كانت ماري مصابة بالتهاب الصفاق السلي، وليس لها في الحياة إلا أيام معدودة (أي نضع النظرية الباثولوجية التي يعملون بها كمقدمة كبرى في الاستنباط وبقية المقدمات هي العبارات الأساسية التي تنقل حالة ماري بيلي، ويكون التنبؤ الذي ينتج عن هذا الاستنباط هو أنها ستموت) إلا أن كاريل لاحظ تحسنًا أذهله بسرعة وإن كان يبدو مستحيلًا في ذات الوقت (ها هي عبارة أساسية مناقضة للتنبؤ، أي مكذبة للنظرية الباثولوجية) وفيما يلي بعض انعكاسات كاريل الشخصية كما دوَّنها «إنه تحقق المستحيل، لا ريب أني ارتكبت خطأً في التشخيص، لعل الأمر كان مجرد التهاب بصفاق عصبي، مع ذلك لم تكن هناك بوادر الالتهاب العصبي، يلي كل أعراض الالتهاب السلي، لكني أراني متصلًا بقضية معجزة، ليكن سأمضي حتى النهاية …» ويستأنف كاريل قائلًا: «أتراها وقائع علمية جديدة، أم وقائع تابعة لدائرة الروحانية وفوق الطبيعة، عليَّ أن أستخلص شيئًا.» ونتيجة لذلك قد انقلب كاريل للتصوف،٥٥،٥٦ ويعلق جان فوراستيه على هذا قائلًا: إنه نموذج لرد فعل عميق في حضرة حدث منعزل والحل الذي تفرضه المحاكمة التجريبية هو إعادة الملاحظة في حين أن هذا مستحيل في الحالة التي تدرسها هنا؛٥٧ لذلك كانت غير ذات قيمة علمية، بعبارة أخرى: لن ندعها تفند النظرية الباثولوجية المتعلقة بمرض التهاب الصفاق السلي؛ لأنها واقعة تنقلها عبارات أساسية شاردة لا يمكن استرجاعها.
والعبارات الأساسية — القابلة للاسترجاع — المفندة لنظرية ما لن نتركها هكذا مشتتة، بل لا بد من افتراض فرض يصفها، أي يمكن استنباطها منه، إنه فرض يصف الأثر القابل للحدوث مرارًا وتكرارًا؛ أي الذي ليس شاردًا بحدث شارد، والذي يفند النظرية وسيكون فرضًا مستوى عموميته منخفض، على أية حال أقل من مستوى عمومية النظرية وسيُسمَّى الفرض المكذب.٥٨

والفرض المكذب يحل مؤقتًا محل النظرية العلمية؛ لذلك لا بد وأن يكون علميًّا تجريبيًّا أي قابلًا للتكذيب فيدخل في علاقات منطقية مع فئة عبارات أساسية معينة، بل أكثر من هذا لا بد حين نعرضه لاختبار التكذيب أن تكون نتيجة الاختبار هي التعزيز؛ لأنها لو كانت لتكذيب سنرفضه ونبحث عن فرض مكذب آخر نتيجة اختباره هي التعزيز فيحل محله، ولنلاحظ أن العبارات الأساسية التي فندت النظرية هي ذاتها التي تعزز الفرض المكذب لها في نفس الوقت.

ومن المهم إذن أن نميز بين فئة العبارات الأساسية الممكنة، وهي فئة كل العبارات الأساسية المحتلة، وبين فئة العبارات الأساسية المقبولة Accepted وهي التي ننتقيها من تلك العبارات الأساسية الممكنة لتكون أساس الحكم على النظرية، سواء كان تكذيبًا أو تعزيزًا تبعًا لنتيجة الاختبار، ولنلاحظ أن نتائج الممارسة المنهجية في العلم، تعتمد أولًا وأخيرًا على قرار قبول عبارات أساسية معينة دون غيرها.
على هذا النحو يبدو مفهوم التكذيب بلا أية مشاكل منطقية، خصوصًا وأن قواعد المنطق تسلم بأن مثالًا نافيًا واحدًا يكذب النظرية مهما كانت عموميتها، لكن هيلاري باتنام اعترض على مفهوم التكذيب اعتراضًا يتلخص في أن مفهوم التكذيب ليس حاسمًا في العلم تمامًا مثل التحقق، وأن هذا سيفند نظرية بوبر لكن لا يفند الاستقراء، مما يعني أن بوبر لم يحل مشاكل ولم يأتِ بجديد كما تصور.٥٩

بالطبع أخطأ باتنام، فهو أولًا لم يميز بين الوجه المنطقي الحاسم، وهنا التكذيب يفوق التحقيق الاستقرائي ويحل مشاكله بلا أدنى جدال؛ نظرًا للاتماثل المنطقي بينهما، وبين الوجه الميثودولوجي المبهم الغامض، المتوقف على اتخاذ القرارات وهذا سنناقشه في الجزء الرابع من هذا الفصل، مناقشة توضح أنه يفوق أيضًا التحقق.

التعزيز Corroboration

إذا تعرضَت النظرية لاختبار القابلية للتكذيب، واستنبطنا منها عبارات أساسية جديدة، وكانت هذه العبارات متوافقة مع الواقع، بعبارة أخرى لم نجد فئة عبارات أساسية تناقضها، فقد تم تعزيز النظرية، بمعنى أنها قد صمدت لامتحان التكذيب، فأثبتت مادتها فلا بد من قبولها فقط؛ لأننا ليس لدينا داعٍ لرفضها، فالتعزيز — الذي هو جواز مرور الفرض إلى عالم العلم — هو مدى صمود الفرض أمام اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى كلما حازت النظرية التي تجتازها على درجة تعزيز أعلى، وكلما كانت النظرية أعظم أي أغزر في المحتوى المعرفي وأجرأ في القوة الشارحة وأكثر اقترابًا من الصدق؛ أي أكثر قابلية للتكذيب، كلما تمكنت من الصمود أمام اختبارات أكثر قسوة؛ وبالتالي كلما كانت درجة تعزيزها أعلى؛ لذلك كان بوبر يؤكد دائمًا على قسوة الاختبار حتى لا تستطيع النظرية أن تعزز وتعبر إلى نسق العلم بسهولة.

التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارسة منهجية ناجحة، فالنجاح لا يعني أكثر من توصل العالم إلى فرض جديد يحل المشكلة بكفاءة عالية ويصمد أمام الاختبار، وحتى لو لم يكن الفرض الجديد قد كذب سابقه، فإنه يمكن أن يحل محله، لو صمد لاختبارات أقسى فحاز على درجة تعزيز أعلى؛ لذلك يمكن التعبير عن كل خطوة منهجية ناجحة بالصياغة الآتية:

> «ف١، م ت» > د «ف٢، م ت»٦٠
حيث إن:
  • ف١: الفرض الموجود في الحصيلة المعرفية السالفة.
  • ف٢: الفرض الجديد الذي ينافسه.
  • د: درجة تعزيز الفرض.
  • م: في ضوء مناقشة الفرض، في الوقت «ت»: م ت.
  • >: أقل من.

هذه الصياغة تبرر قبول «ف٢»؛ إذ تعني أن درجة تعزيز «ف١» في ضوء مناقشاتنا في الوقت الراهن، أي إمكانية قسوة الاختبار التي نستطيعها بوسائلنا الآن، أقل من درجة تعزيز الفرض الجديد في ضوء هذه المناقشات؛ مما يعني أن نسق العلم سنحذف منه «ف١» ونضع بدلًا منه «ف٢»؛ لأنه أكثر تعزيزًا.

وكل ذلك دون أن نجنح إلى أية مفاهيم احتمالية بمعنى حساب نسبة حدوث الفرض إلى متتالية معينة من الأحداث، فمفهوم التعزيز لا علاقة البتة بالاحتمالية، إنه يشير إلى قوة الفرض ذاته، مدى صموده أمام الاختبارات القاسية؛ وبالتالي إلى مدى عقلانية قبوله، وكل ذلك لا علاقة له البتة بالاحتمالية تبعًا لمنطق بوبر٦١ التي هي احتمالية الأحداث.
والتعبير عن تفاوت درجات التعزيز بالصياغة الرمزية السالفة، يبرز اختلافًا أساسيًّا بين بوبر وبين جمهرة المناطقة المعاصرين؛ إذ توضح أن قياس تفاوت درجة التعزيز يعني مقارنة الفرض الجديد بسابقه المطروح في الحصيلة المعرفية وبينما يرى بيير دوهيم، ومن بعد العالم المنطقي الكبير كوين، أن اللزومات المنطقية Consequences التي تخضع للاختبار لا تخص الفرض الجديد وحده، بل تخص النسق المعرفي بأسره والذي انتمى إليه الفرض، برفض بوبر هذه النظرية الكلية، ويرى أن اختبار الفرض على حدة وبصورة منفصلة مسألة جوهرية لتقدُّم العلم،٦٢ وقياس ما يضاف إليه حقيقة.
ورغم هذا الخلاف الكبير بين بوبر وكوين، إلا إن كوين لا يملك إلا استصواب ما أسماه الطبيعة النافية لنظرية بوبر المنهجية،٦٣ بمعنى أن الدليل قد يفند الفرض لكن لا يؤيده بحال أو هو يؤيده بمعنى نافٍ سلبي هو غياب التفنيد،٦٤ ويرى كوين أن هذا المنحى النافي يجب أن يكون أساس التعامل مع العلم؛ لأنه كفء لهذا، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أنه لا يتعلق إلا بالعبارات الكلية، وهي صورة القانون العلمي، فبالطبع العبارات الجزئية (بعض أ هي ب) لا يجدي التعامل معها بالمنهج النافي شيئًا، وإذا انتقلنا من هذا الوجه المنطقي إلى الوجه الميثودولوجي، وجدنا أن مهمة التجربة هي تفنيد لفرضيات لا تأييدها؛ لأن الفرضيات لا يمكن إثباتها إنما يمكن فقد عدم تفنيدها، ويعلق عالم الإحصاء الروسي ف. ف. ناليموف (١٩١٠م–؟) على هذا بأن بوبر قد أضفى صيغة فلسفية على هذا القول المعروف لكل عالم إحصائي.٦٥

ويتفق ناليموف مع كوين على أن جميع المشاكل الاستقرائية والتحققية؛ أي الناجمة عن المنطق القائل باستمداد المعرفة من التجربة، تزول مع هذا المبدأ، فتستطيع نظرية بوبر المنهجية أن تحفظ منطق العلم سليمًا تمامًا.

ولعل المناقشة السالفة أبرزت أن التعزيز لا يعني أي إثبات أو برهنة أو تأييد أو تحقيق للفرض، هو يعني فقط مبرر قبوله، وليس فحسب بل ومهما كانت الاختبارات قاسية أو مهما صمد أمامها الفرض أي مهما حاز على درجة تعزيز عالية فإن القبول فقط مؤقت؛ لأننا ننتظر يومًا يتطور فيه العلم أكثر فنستطيع وضع الفرض أمام اختبارات أقسى قد تكذبه بالفعل، «فالفرضيات تظل دائمًا عرضةً لمزيد من الاختبار، وهنا — كما قال بوبر — يكمن مصدر تقدم العلوم الطبيعية، والواقع أن العلم يعيد النظر دائمًا في صحة فرضياته؛ لأن إمكان إجراء تجربة حاسمة يتوقف على مستوى تطور النظرية باستمرار كما يتوقف على التجربة.»٦٦
وقد أثار مفهوم التعزيز جدلًا كبيرًا، مثلًا لأن معيار التكذيب يعني أن النظريات ليست فقط قابلة للتطور والتحسين، ولكن يمكن أيضًا أن تكذبها خبرة جديدة، وهذا يمثل احتمالًا خطيرًا قد يحدث في أية لحظة وتتركز خطورته إذا كانت النظرية معززة جيدًا.٦٧
لكن بوبر يقول لنفترض أن الشمس لن تشرق غدًا فإننا مع هذا سنظل نعيش ونواصل اهتماماتنا العلمية، وسيحاول العلم أن يشرح ظاهرة عدم شروق الشمس في ذلك اليوم؛ أي سيحاول أن يشتقه من قوانين، سيحاول أن يضع نظرية جديدة تفسِّر هذا الحدث وأيضًا تفسر نفس الخبرات القديمة (شروق الشمس كل يوم)، ومن الناحية الميثودولوجية نجد أننا قد رفضنا مبدأ الاطراد لأنه ميتافيزيقي، لا يمكن إثباته ولا دحضه، فمن الخطأ إذن افتراض أنه مبدأ ثابت لا يتغير، وهذا يعني أن احتمال تكذيب قانون معزز جيدًا، هو من الناحية الميثودولوجية بغير أهمية، بل وإن وضع هذا في الأذهان بدوره ذو أهمية كبيرة لأنه يساعدنا على أن نكتشف ما الذي نتطلبه وما الذي نتوقعه من القوانين الطبيعية،٦٨ أي إنها محض فروض سنتوصل يومًا إلى الأفضل منها.
وثمة اعتراض لآير يتلخَّص في أنه لا يرى مبررًا لقسوة الاختبار طالما أن الفروض لن تظفر بأية ثقة إذا ما اجتازتها،٦٩ لكن آير لم يُصِب فمطلب درجة التعزيز العالية هو مبرر قسوة الاختبار؛ لأنه سيمنع الفروض الضعيفة غير القادرة على الصمود أمام الاختبارات القاسية من الدخول إلى عالم العلم، والثقة هذه مطلب لا محل له في منطق العلم، لأن العلم طابعه النقد، والنقد يتطلب الشك لا الثقة.
وقد اعترض على التعزيز أيضًا إيمر لكاتوس Immre Lakatas فقد ذهب إلى أن الفرضيات تصبح مقبولة بمجرد ما يتضح أنها تنبئ بحقائق جديدة هامة، ولا داعٍ لمفهوم التعزيز، غير أن أمر لاكاتوس لم يزد شيئًا فما تنبئ به النظرية لن يتضح إلا بالاختبار؛ وبالتالي بالتوصل إلى تعزيز الفرض، على العموم أغنانا ناليموف عن الرد على لكاتوس أو قال تعقيبًا على اقتراحه: «الواقع أنه من المناسب في هذا المقام أن نتحدث عن برامج العمل، لا عن الفرضيات العلمية، وهنا لا بد من تطبيق طريقة بوبر في التفنيد.»٧٠
أما جيوفيري وارنوك فقد أثار صخبًا كبيرًا في محاولة لنقد التعزيز وهو واحد من أبرز من لا يستطيعون التخلص من وهم الاستقراء، وساءه كثيرًا أن «دعوة بوبر التي عادت الاستقراء بصراحة، وبجفاف شديد مقبولة على نطاق واسع.»٧١ وقد دخل في محاولة لا تنم إلا عن سوء الفهم كي يثبت أن بوبر نفسه استقرائي كبير — وهناك محاولة مماثلة نقلها هيلاري باتنام على نفس الأسس — وأن مشكلة الاستقراء لا تهدد شيئًا بقدر ما تهدد نظرية بوبر المنهجية، وكل ذلك على أساس مفهوم التعزيز؛ لأن الوقائع الملاحظة إذا لم تتعارض مع النتائج المستنبطة من النظرية فإن النظرية تعزز، وذلك يعني أننا نفترض على الأقل أنها سوف تصمد أمام نفس الاختبارات كلما تكررت، لا سيما وأن الاختبارات المعنية يجب أن تكون قابلة للتكرار، وهذا يعني — في نظر وارنوك — أن مشكلة الاستقراء ما زالت قائمة فعلى أي أساس نفترض نفس النتائج لنفس الاختبارات كلما تكررت، وكما تساءل هيوم ما الذي يضمن أن الحالات المتماثلة سيكون لها آثار متماثلة، وكيف نعتمد على النظرية في المستقبل على أساس اجتيازها للاختبارات الماضية،٧٢ وعلى هذا يقول وارنوك: قد يكون هذا تساؤلًا أبله، لكنه مرة أخرى تساؤل هيوم الذي يتمسك بوبر بأنه غير قابل للحل، ولكن نظرية بوبر كما هو واضح تفضي إليه، أما إذا حاول بوبر أن يرفض هذا السؤال بوصفه غير ملائم أو مُسَاء فهمه، فإنه يقدم خدمة للاستقرائيين.٧٣

واضح من العبارة الأخيرة أن وارنوك يحاصرنا، ويسد الطريق أمام أية محاولة لدرء خطئه هو العظيم، ونقده الذي لا يعدو أن يكون عجزًا عن الإحاطة بنظرية بوبر، وهو خطأ لأنه يقوم أولًا وأخيرًا على فكرة المستقبل: الأخذ مستقبلًا بالنظرية المعززة في الماضي، ومما هو كفيل بالرد على وارنوك حرف واحد كان أحد مكونات الصياغة الرمزية المعبرة عن التعزيز، أو بدقة أكثر عن الأخذ بالفرض على أساس حيازته لدرجة تعزيز أعلى:

> «ف١، م ت» > د «ف٢، م ت»

الحرف المعني هو «ت»، الذي يوضح أن الحكم بالتعزيز على أساس المناقشة في الوقت الراهن «ت» فقط، ولعل وارنوك لا يعلم أننا لا نصادف إطلاقًا في كتابات بوبر كلمة «المستقبل»، وبدلًا منها يستعمل «مؤقت»، الحكم بتعزيز النظرية حكم مؤقت، يجعلنا نأخذ بها في الوقت الراهن بناءً على علمنا اليوم، أما بخصوص المستقبل، فلا يعنينا منه إلا تأكدنا من أنه يحوي لحظة ستثبت خطأ النظرية، وحينما تأتي هذه اللحظة، سنتركها ونأخذ بالأفضل ونحن نتأكد من هذا على أساس الطابع الفرضي لعبارات العلم، وقابلية التكذيب القائمة فيها، والتي ستصبح تكذيبًا يومًا ما، إننا لم نفترض أبدًا اطِّراد نتائج اختبارات النظرية في صالح تعزيزها، بل نفترض العكس تمامًا، أن وسائل العلم ستتطور في المستقبل فنتوصل إلى اختبار أكثر حسمًا، قد يتمكن من تكذيب النظرية.

فأين هو شذى الاستقراء الذي يفوح من التعزيز، وبالتالي من معيار التكذيب كما يتوهم جيوفري وارنوك وهيلاري باتنام؟

(٤) مواجهة التحصين ضد التكذيب

(١) غير أن حل مشكلة التمييز، أي معيار القابلية للتكذيب، رغم كل هذا يبدو — إلى حدٍّ ما — صوريًّا وليس واقعيًّا؛ إذ يمكن دائمًا تجنُّب التفنيدات التجريبية والتملُّص من التكذيب بأن نضيف للنظرية فروضًا جديدة تتلافى مواطن الكذب، أو بأن ننكر التجارب المفندة، أو حتى بأن نشكك في نزاهة المجرب، كل هذا ممكن، وإذا استمر، توصلنا إلى نظريات محصنة immunized٧٤ ضد التكذيب؛ أي ببساطة غير قابلة له، وإذن ويمكن أن نفعل هذا حتى مع أشد النظريات علمية، مع نظرية نيوتن أو آينشتين مثلًا وبهذا لا تصبح القابلية للتكذيب معيارًا يحدِّد السمة العلمية.
(٢) هذه الصعوبة الواضحة أمام القابلية للتكذيب، لم يناقشها بوبر في بداية الأمر كإمكانية مواجهة عامة للمعيار، تبدو كحجة خطيرة في يد كلِّ من لا يريد الأخذ به، بل طرحها في منطق الكشف العلمي بوصفها مواجهة مع الاصطلاحية أو الأداتية Conventionalism, Instrumentalism بالذات، ثم جاء بعد ذلك في كتاباته اللاحقة ليعمها ويناقشها بصفة عامة أمام كل المعارضين أيًّا كانت مذاهبهم.

وبوبر يبرر هذا بأسباب تاريخية لعلها وطأة المذهب الاصطلاحي والأداتي في الجو الفلسفي إبان ظهور «منطق الكشف العلمي»، في أوائل الثلاثينات من هذا القرن، خصوصًا وأن الطابع العام لهذا الكتاب هو أنه يُعنى كثيرًا بمواجهة الاصطلاحية في كل موضع، بعد الوضعية المنطقية بالطبع.

ومن الناحية الأخرى نجد هذه الصعوبة في وجه المعيار تمثل لأزمة منطقية ضرورية عن مذهب الاصطلاحية، وتبعًا لهذا لا يمكن لهم قبول المعيار أصلًا؛ لذلك عُني بوبر عناية خاصة بمناقشتهم والرد عليهم.

(٣) والاتجاه الأدائي أو الاصطلاحي في فلسفة العلم بأقطابه العظام، ابتداءً من باركلي حتى إرنست ماخ وبيير دوهيم وهنري بوانكاريه، هو اتجاه يرى في النظرية العلمية محض أداة نافعة وإجراء مفيد ليس أكثر، فحتى الجمل الكيفية التي لها فعلًا معنى، بل ومعنى وصفي هي في الواقع مجرد وصف له دور وقوة الأداة، فليس هناك مشكلة حول ما إذا كان القانون العلمي وصفيًّا أم تفسيريًّا، فالقانون العلمي مهما كان مجرد أداة٧٥ هو «أسلوب للبحث العلمي ودالات قضايا توصف بالصلاحية وعدم الصلاحية، لكنها لا توصف البتة بأنها صادقة أو كاذبة.»٧٦ لذلك نجد فكرة الصدق والكذب الأساسية في فلسفة بوبر؛ وبالتالي التكذيب والقابلية له، ليست لها أي دور في هذا المذهب فهو ينتهي إلى أن النظريات العلمية، أو النظريات التي تسمى بالعلوم البحتة، لا تعدو أن تكون مجرد قواعد حسابية Computation Rules أو قواعد استدلالية، لها نفس خصائص القواعد الحسابية التي للعلوم التطبيقية.٧٧
بالطبع بوبر الذي يرى في القوانين العلمية فروضًا لها محتوى معرفي يحاول دائمًا الاقتراب أكثر من الصدق، لا بد وأن يرفض تمامًا هذه النظرية، وقد سبق أن رأيناه آنفًا يرفض النظرية الماهوية Essentialism التي ترى في القانون العلمي توصلًا صادقًا للماهية الثابتة، ويمكن اعتبار هاتين النظريتين: الأداتية والماهوية، طرفي النقيض في محاولة فهم طبيعة القانون العلمي، ويمكن أيضًا أن نأخذ بتفسير خون باسمور لنظرية بوبر بأنها اتجاه توفيقي أو محاولة لإيجاد طريق بين الأداتية والماهوية٧٨،٧٩ وإنها فعلًا لكذلك، فهو يأخذ من الأداتية اعتبار القانون العلمي محاولة منا ليس فيها أي شيء مطلق أو ثابت، بل قابلة دومًا للتعديل والتطوير، ويأخذ من الماهوية أن القانون العلمي متعلق فعلًا بحقائق الأشياء ومضمونها ومعرفتها هي ذاتها؛ ذلك أن بوبر يرى للقانون العلمي طبيعة تفسيرية، وأن هدف العلم هو التوصل لشرح مُرْضٍ لكل ما نجده في حاجة إلى تفسير،٨٠،٨١ شريطة أن يكون شرحًا مستوفيًا لعدة شروط هي:
  • (أ)

    لا بد وأن يكون الشرح مفضيًا منطقيًّا إلى ما يفسره على ألا يكون العكس صحيحًا تجنبًا للدورانات المنطقية، فمثلًا: إذا تساءلنا عن تفسير لظاهرة أن البحر هائج اليوم، وكان التفسير هو أن كوكب أورانوس غاضب، ثم تساءلنا عن تفسير لغضب كوكب أورانوس، وكان التفسير هو أن البحر هائج، كان التفسير باطلًا، أما لو كان التفسير باختلاف الضغط الجوي، أو فسرنا مد البحر بجذب القمر؛ لكانت تفسيرات معقولة لأنها تفضي إلى الظاهرة المفسرة، بغير أن تفضي الظاهرة المفسرة إليها.

  • (ب)

    يجب أن يكون الشرح قريبًا من الصدق قدر المستطاع، أو بالأصح يجب ألَّا نكون قد تبينا كذبه نتيجة للاختبارات النقدية.

  • (جـ)
    يجب أن يكون الشرح قابلًا للاختبار بصورة مستقلة وأن يجد له أدلة مستقلة وأن نعطيه درجة قبول satisfaction على أساس درجة قسوة الاختبارات التي اجتازها،٨٢ أي درجة تعزيزه.
ومن الناحية المنطقية، ليس ثمة أي فارق بين الطبيعة التفسيرية الشارحة القانون العلمي وبين طبيعة التنبؤية الاختبارية، الفارق ليس من جهة البناء المنطقي بل من جهة الأشياء التي تعتبرها مطلوبة، والأشياء التي لا نعتبرها هكذا، فإذا كنا لا نطلب البناء وإنما نطلب الشروط الأولية أو بعض القوانين الكلية أو نطلب الشروط الأولية والقوانين الكلية معًا، بقصد استنباط الأخبار المعلوم لنا منها، فنحن بصدد البحث عن تفسير شارح، وإذا اعتبرنا القوانين الكلية والشروط الأولية معلومة وليست مطلوبة واستخدمناها لمجرد استنباط الأخبار حتى نحصل على معرفة جديدة فنحن هنا بصدد التنبؤ، وإذا اعتبرنا إحدى المقدمتين أي القانون الكلي أو الشروط الأولية موضع سؤال واعتبرنا البناء أمرًا نطلب مقارنته بنتائج التجربة فنحن هنا بصدد اختبار المقدمة موضع السؤال.٨٣
لذلك فالطبيعة التفسيرية الشارحة والطبيعة التنبؤية الاختبارية مجرد أوجه لعملة واحدة، فالشرح العلمي شرح سببي، على ألَّا نأخذ مفهوم السببية بمعنى مطلق، بل فقط بمعنى نسبي جدًّا؛ فهو يوضح أن حدثًا معينًا يكون علة لحدث آخر، وذلك بالنسبة لقانون عام يحكمهما، ولكن وضع شرح سببي لحدث معين يعني الاشتقاق الاستنباطي لعبارة تصف هذا الحدث مستخدمين كمقدمات للاستنباط قوانين عمومية بالإضافة إلى عبارات أساسية تمثل الشروط الأولية، على كل هذا يكون استخدام القانون العلمي في الغرض التفسيري هو الوجه الآخر لاستخدامه في الغرض التنبؤي الاختباري التكذيبي،٨٤ هكذا نجد فلسفة بوبر دائمًا متسقة مترابطة.
المهم الآن أن هذه النظرة للقانون العلمي تجعل له محتوى إخباري ولا يمكن أن يكون محض أداة خاوية، فلا بد إذن أن يرفض بوبر النظرية الأداتية التي لا تتسق مع نظرته التفسيرية الاختبارية ولا مع رأيه بأن المعرفة العلمية هي محاولة لمعرفة وقائع الطبيعة وعملياتها وإلا لما كانت قابلة للتكذيب وتصحيح الخطأ والتقدم المستمر.٨٥
لذلك عُني بوبر بدحض آراء الاصطلاحيين، ويتلخص رده عليهم في أن هناك فروقًا جوهرية وعميقة بين النظرية العلمية وبين القاعدة التكنولوجية الحسابية، وأن المذهب الأداتي يسري على القاعدة التكنولوجية لكن عاجز تمامًا عن أن يأخذ في الاعتبار الفارق بينها وبين النظرية العلمية البحتة، ومن هنا تنهار الأداتية لأن الفروق بينهما عميقة حقًّا، أميزها أن العلاقة المنطقية بين النظرية العلمية والقاعدة التكنولوجية هي علاقة لا تماثلية، وهي تختلف عن العلاقة المنطقية بين النظريات وبعضها، أو عن العلاقة المنطقية بين القواعد التكنولوجية وبعضها، وأن الأسلوب الذي نمتحن به القاعدة التكنولوجية يخالف الأسلوب الذي نختبر به النظرية العلمية، وأن المهارات التي يتطلبها تطبيق القاعدة التكنولوجية، تختلف عن المهارات التي يتطلبها البحث في الأسس النظرية لتحديد مجالاتها وإمكانيات تطبيقها.٨٦
ورغم هذا، فإن بوبر لا ينكر أن المدرسة الاصطلاحية تستحق التقدير، فأصحابها أوضحوا العلاقة بين النظرية والتجربة، وقدَّروا الأهمية التي لم يقدرها الاستقرائيون لقوانا الخلاقة وللعمليات المنطقية التي تدخل في صميم التجارب، وقد تمكن مذهبهم من حل مشكلة الاستقراء.٨٧
لذلك فهو مذهب متسق ويمكن الدفاع عنه،٨٨ ورغم أن بوبر والكثيرين لا يقبلونه فهو قوي نوعًا ما، وهو لذلك لا يقتصر عليهم، فقد لجأ إليه شليك حينما تعذَّر التحقق من القانون العلمي، اعتبره مجرد أداة، أما البراجماتية فهي — مع إمامها تشارلز بيرس — محض مذهب موسع تفرع عن الأداتية، فقد أخذت به أكثر، فالوضعية ترى أداتية القانون العلمي الكلي فقط، بينما العبارات التجريبية المفردة اختبارية أو هي صادقة أو كاذبة تبعًا للتحقق، أما البراجماتية فترى حتى «القضية الفردية مثلها مثل العدد والآلات، لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها صالحة أو غير صالحة.»٨٩ والمعروف أن البراجماتية ترى أداتية، بمعنى التسخير الأداء مهمة ذات منفعة معينة كل شيء في الحياة، حتى القيم الخلقية والجمالية، بل وحتى الحقيقة الدينية.
والذي يهمنا أن هذا المذهب يمكن أن تلزم عنه حجة عامة ضد معيار القابلية للتكذيب وهي: أن التكذيب يعود إلى الواقع والملاحظة، في حين أن النسق العلمي بناء منطقي لا يعتمد على التجارب، بل على قوانا المنطقية، ما يعتمد على التجارب هو القواعد التكنولوجية التي نشتقها منه، أما النسق النظري للعلوم الطبيعية فهو غير قابل للتحقق وهو أيضًا غير قابل للتكذيب، فطالما أن المسألة مجرد أداة منطقية تبسط الظواهر الطبيعية العقدة فيكفي أن تكون محض عبارات متسقة منطقيًّا ويمكن دائمًا أن تتوصل إلى تناظره مع الواقع، فلا تقع إمكانية التكذيب أبدًا احتمال الوصول إلى تناظر النسق مع الواقع، قائم دائمًا وبأكثر من طريقة بأن تقدم فروضًا أو تعريفات عينية ad hoc، لغرض التملص من التكذيب، أو بتعديل التعريفات المحددة من قبل، أو بالتشكيك في قيمة التجارب وحقيقيتها، باختصار يمكن دائمًا التملص من التكذيب فلا يقع أبدًا إذن تبعًا للمدرسة الاصطلاحية.

– وتبعًا لإمكانية التملُّص من التكذيب التي يمكن أن تقوم في أية مدرسة يستحيل تقسيم النظريات إلى أنساق قابلة للتكذيب وأنساق لا تقبله، أو بالأحرى ستكون القسمة مبهمة ويصبح معيار القابلية للتكذيب غير ذي قيمة بوصفه معيارًا لتمييز العلم.

(٤) في الرد على هذا ينبغي أولًا ملاحظة أن معيار القابلية للتكذيب له وجهان:
  • وجه منطقي، متعلق بالإجراءات المنطقية المعتمدة على العبارات أساسية، وهي واضحة دقيقة حاسمة، شأن كل ما هو منطقي.

  • وجه منهجي، متعلق بالإجراءات المنهجية واتخاذ القرارات التي تحدد مصير النظرية وهي من الصعب تحديدها، أو حتى القيام بها على وجه الدقة الحاسمة فهي شأن كل ما هو منهجي؛ مبهمة عامة.٩٠
ولنلاحظ أن هذا الاعتراض متعلق بالجانب المنهجي من التكذيب، بأسلوب التعامل مع النظرية وجعلها متكيفة دائمًا مع الواقع؛ لذلك لا يكون رد هذا الاعتراض إلا باتخاذ قرار منهجي هو: ألا تتبع أبدًا منهج الاصطلاحيين، وهذا أفضل لأن اتجاههم ضارٌّ ولقد توصل ج. بلاك J. Blak، قبل إمامهم هنري بوانكاريه بأكثر من مائة عام إلى تقييم هذا الاتجاه الاصطلاحي قائلًا: التعديل اللطيف للظروف سوف يجعل أي فرض متسقًا مع الظواهر، وهذا أسلوب يشبع الخيال، لكنه لا يفيد في تقدم المعرفة.٩١
لذلك فمن منطلق الحرص على تقدم المعرفة، والاقتناع بأن طرح الفروض القابلة للتكذيب هو أضمن أساليب هذا التقدم؛ لأننا حين نضع أيدينا على مواطن الكذب سوف نتمكن من الوصول إلى الفرض الأصوب الذي يتجنبها، وهكذا دواليك … عن هذا المنطلق لا بد وأن نأخذ على خط مستقيم قاعدة منهجية تناقض مثيلتها عند الاصطلاحين، فبالنسبة للفروض المساعدة Auxiliary hypothesis التي يدَّعي الاصطلاحيون أنها يمكن أن تبطل دائمًا عملية التكذيب، يمكن أن نحكمها بقاعدة نتفادى بها هذا، وهي: تقبل فقط الفروض التي لا تقلل درجة قابلية تكذيب؛ أي اختبار النسق المطروح للبحث، بل على العكس تزيدها، وهذا الفرض الجديد، الذي سيزيد درجة القابلية للتكذيب، من شأنه أن يقوي النظرية فيجعلها تستبعد أكثر وتمنع أكثر مما كانت تمنعه قبل طرح الفرض، وعلى هذا يصبح تقديم فرض مساعد جديد، يجب وأن يؤخذ دائمًا لمحاولة لبناء نسق جديد، نسق نحكم عليه على أساس ما إذا كان سيمثل بالفعل تقدمًا في معرفتنا بالعالم الخارجي أم لا.٩٢

وبهذا نلاحظ أن تقديم الفروض المساعدة لا يشكل عقبة ميثودولوجية في وجه القابلية للتكذيب، بل على العكس سيساهم في تأكيدها؛ إذ سيساعد على نمو العالم.

وهذا هو الرد على كل من يتمسك بإمكانية تحصين النظريات ضد التكذيب سواء أكان اصطلاحيًّا أم غير اصطلاحي.

(٥) ولكن في هذا الصدد يجب أن نميز بين الفروض المساعدة والفروض العينية ad hoc hypothesis على أساس أن الفروض العينية مغرضة، وهي التي تعني فعلًا قلبًا وقالبًا، أصلًا وهدفًا، التملص من التكذيب، ويبدو أنها هي التي كانت في ذهن الاصطلاحيين في معرض اعتراضهم على معيار القابلية للتكذيب.
والفرض العيني هو الفرض الذي يوضع لتفسير ظاهرة بعينها أو حدث بعينه، وليس له ما يؤيده غير هذه الظاهرة أو هذا الحدث، ويقابله الفرض الذي تقوم على صدقه بينة مستقلة؛ أي الذي تؤيده أمور أخرى غير التي وُضع أصلًا لتفسيرها،٩٣ وهذا هو الفرض المساعد حقيقة، والفرض العيني لا يمكن اختباره مستقلًّا عن النسق ككل، بعكس الفرض المساعد، ويمكن دائمًا وضع فرض عيني يغطي موضع الكذب الذي نكتشفه في النظرية مما يحمي النظرية من التفنيد؛ ومن ثم يجعل محاولة التكذيب مستحيلة الوصول إلى نهاية معينة، وحل هذه المشكلة كما يثيرها الاصطلاحيون — أو أي سواهم — يكون بالتمييز بين الفروض المساعدة والفروض العينية، فنقبل الأولى ونرفض الثانية، والتمييز بين الفرض العلمي والفرض المساعد مثل أي تمييز ميثودولوجي أمر مبهم يكون فقط على وجه التقريب، مثلًا قدم فولفجانج باولي فرض «النيوترينو» تمامًا كفرض عيني، ولم يأمل في إمكانية التوصيل يومًا إلى دليل مستقل له، بل وكان مثل هذا الدليل مستحيلًا في وقته، لكن مع تطور المعرفة عن جُسيمات الذرة أصبح فرضًا مساعدًا وأمكن اختباره مستقلًّا؛ لذلك لا يجب أن نتحامل بقسوة على الفروض العينية فقد تصبح يومًا ما قابلة للاختبار المستقل، وقد يكون اختبارًا مفندًا فيؤدي بنا إلى التخلي عن الفرض والتوصل إلى فرض عيني جديد، قد يصبح مع الأيام فرضًا مساعدًا وهكذا …٩٤ وهذا السماح المثيودولوجي البسيط بأننا لا ينبغي أن نخشى الفروض العينية أكثر من اللازم؛ لأن هناك تفنيدات لا يمكن تجنبها بأية حال، يبرره أن معيار القابلية للاختبار بصفة عامة يسلحنا ضدها، وأن جميع العلماء على وجه التقريب يتحاشون الفروض العينية دائمًا، ولم يكن باولي سعيدًا أبدًا بفرضه.٩٥
(٦) وتأكيدًا لهذا المنحى الصحي للعلماء، يدعمه بوبر بقاعدة متعلقة بالإجراءات الفعلية للمنهج العلمي، ومتممة لقاعدة نبذ الفروض العينية والأخذ بالفروض المساعدة، السابقة المتعلقة بمنطق المنهج، وهذه القاعدة هي أن يتسلح العالم بقدر من الأمانة الفكرية ألا يكون مثل هؤلاء الذين رفضوا النظر إلى تلسكوب جاليليو؛ لأنهم يعنون بأن يكونوا على صواب، أكثر من عنايتهم بأن يعرفوا شيئًا جديدًا، وهم قلة لا يُحْسَب لها حساب.٩٦ فإذا كان العالم سيتحاشى التكذيب بأي ثمن فسيعمل على إعادة تفسير الأدلة كي تتوافق مع قضاياه، وسيصبح تناوله غير علمي بشكل يمثل خلفًا محالًا Absurdity،٩٧ بل سيتنازل عن العالم التجريبي بأَسْرِه.
وقد أشار بفردج إلى كل هذا، وإلى ضرورة عدم التشبث بالأفكار التي لا تثبت صلاحيتها «فينبغي أن نكون على استعداد للتخلي عن فروضنا أو تعديلها طالما يتضح أنها لا تتمشى مع الوقائع، وليس هذا بالأمر الهين كما يبدو للوهلة الأولى، فعندما يبتهج المرء أن يرى إحدى بنات أفكاره الجميلات تبدو قادرة على تفسير كثير من الحقائق التي لولاها لكانت متنافرة، وعندما يجد هذه الفكرة مبشرة بالمزيد من التقدم؛ فقد يغريه هذا بالتغاضي عن أية مشاهدة لا تتفق مع الصورة التي نسجها، أو على التخلص منها بأي تفسير، فليس من النادر أبدًا أن يتمسك الباحثون بفروضهم المهلهلة، متعامين عن الأدلة المعارضة لها وأن يتعمَّدوا إخفاء النتائج المخالفة لفروضهم.»٩٨ أي المكذبة لها، بل وحل بفردج هذا بقاعدة شبيهة بقاعدة بوبر، لكن طبعًا ليس في دقتها إذ قال: إذا فشلت نتائج التجربة أو المشاهدة الأولى في دعم الفرض، فمن الممكن أحيانًا بدلًا من نبذه كليًّا في أن نوفق بينه وبين الحقائق المعارضة له بواسطة فرض إيضاحي ثانوي،٩٩ أي مساعد المهم دائمًا هو قبول النقد؛ إذ إن رفض النقد — الذي هو في العلم الاختبار ومحاولة التكذيب — أمر خطير للغاية؛ إذ إنه مجلبة للدوجماطيقية، ولكن أيضًا لا ينبغي أن يترك العالم نظريته بسهولة فهذا يعني أنه لم يكتشف الإمكانيات المختبئة فيها، وفي العلم يوجد دائمًا مكان للمساجلة والنقاش والهجوم والدفاع، وبهذا نتمكن من اكتشاف جميع إمكانيات النظرية، الفرض العلمي حدس افتراضي Conjecture ويجب أيضًا أن يحدس العالم افتراضيًّا: أين يجب أن يتوقف الدفاع عن نظريته المفضلة ومتى يجب أن يبحث عن نظرية جديدة.١٠٠

والقاعدة الأساسية أن يتسلح العالم بسلاح النقد الذاتي؛ النقد الذاتي لنظريته والنقد الذاتي لنقد نظريته، كما سبق أن أرشده بوبر في فصل «منهج العلم».

(٧) الخلاصة: إن التحصين ضد التكذيب خطر على العالم؛ لذلك لا يجب أن نتملص من التفنيدات، لا بتقديم افتراضات وتعريفات عينية لهذا الغرض بالذات ولا بأن نرفض قبول النتائج التجريبية غير الملائمة للنظرية، ولا بأية وسيلة أخرى مماثلة وأن نشكل نظرياتنا بعيدًا عن الغموض قدر الإمكان؛ لكي نعرضها بوضوح للمناقشة الاختبارية، ومن الناحية الأخرى يجب ألا نتخلى عن نظرياتنا بسهولة؛ لأن ذلك موقف غير نقدي تجاه الاختبارات.١٠١
ويعلق بريان ماجي على هذا بأن التكذيب القاطع أمر يمكن الوصول إليه على المستوى المنطقي، ولا يمكن على المستوى الميثودولوجي، وهذا يعني أن بوبر تكذيبي بدائي على مستوى المنطق، غير أنه تكذيبي سام على المستوى المنهجي.١٠٢

خاتمة

(١) على هذا النحو كانت محاولة بوبر لتقديم معيار يميز العلم التجريبي عن طريق قابليته للتكذيب، ولعلها توضح أن دور القابلية للتكذيب كمعيار للعلم التجريبي يماثل دور عدم التناقض كمعيار للعلم بأجمعه، فالنسق المتناقض يفشل في تفريد to single out فئة فرعية ملائمة من فئة كل العبارات الممكنة، وبالمثل النسق غير القابل للتكذيب، يفشل في تفريد فئة فرعية ملائمة من فئة كل العبارات التجريبية الممكنة،١٠٣ ويمكن أن نستعير ها هنا تعبير الإمام الغزالي؛ فقد رأى هو الآخر أن دور معيار العلم بالنسبة للعلم — أو بالنسبة لأدلة العقول — كدور العَروض بالنسبة للشِّعر، أو دور النحو بالنسبة للإعراب، إذا كما لا يعرف منزحف الشعر عن موزونه إلا بميزان العروض، ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه وصحيحه وسقيمه إلا بهذا الكتاب،١٠٤ أي كتاب معيار العلم، ويؤكد الغزالي أن كل نظر لا يتزن بهذا المعيار هو فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغوار.١٠٥
وكما هو معروف، فإن ما تصوره الإمام الغزالي من معيار للعلم لا يعدو أن يكون المنطق الأرسطي وقياسه العقيم، وهو بالطبع معيار لا يجدي فتيلًا في العلم الذي نحاول تمييزه الآن أي العلم الطبيعي الاحتمالي دائم التقدم القابل للتكذيب؛ فالعلم الذي أراد الغزالي تعييره بمعياره ذلك هو العلم اليقيني الذي يقوم على البرهان الحقيقي والبرهان الحقيقي هو ما يفيد شيئًا لا يتصور غيره وذلك حسب مقدمات البرهان، فإنها تكون يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير أبدًا،١٠٦ والعلم اليقيني «هو أن تعرف أن الشيء بصفة كذا مقترنًا بالتصديق بأن لا يمكن ألَّا يكون كذا، فإنك لو أخطرت ببالك إمكان الخطأ فيه والذهول عنه لم ينقدح ذلك في نفس أصلًا.»١٠٧ وبالطبع العلم الحقيقي الذي نريد نحن تمييزه هو بالضبط نقيض هذا، فهو على وجه التحديد الدقيق: ما يفيد شيئًا يتصور غيره؛ لأنه العلم اللايقيني.

وحقًّا أنه ليس ثمة مجال لهذه المقارنة بين المعيارين؛ لأن العلم الذي وضع الغزالي معياره هو العلم الديني والعلوم الفقهية اليقينية التي يناسبها كثيرًا المنطق الأرسطي، فهو يستخلص من مقدماتها الكبرى الكلية — التي هي إلهية أي قاطعة اليقين — النتائج الضرورية، اليقينية بالتالي، التي تلزم عنها، غير أن الغزالي نفسه قد أراد أصلًا بمعياره هذا أن يثبت تهافت العلوم المكتسبة عن طريق العقل أو عن طريق التجربة، وخصوصًا العلوم التجريبية، مقارنة بتلك العلوم اليقينية، وكان الأدنى إلى الصواب أن يدرك الغزالي أن هذين العلمين: العلوم الدينية والعلوم المكتسبة لا منافسة ولا تناطح بينهما، فلكل مصدره ومجاله وأيضًا معياره.

(٢) ولكن على الرغم من أن دور معيار القابلية للتكذيب بالنسبة للعلم، يماثل دور مبدأ عدم التناقض، فإن بوبر قد طرح محاولته واضعًا نصب عينيه أننا يجب أن نترك أي تساؤل عن التبرير، إذا كان التبرير يعني إثبات الصدق، فكل النظريات فروض يمكن أن تُتْرَك يومًا ما؛ لذلك فإن محاولة بوبر لن ترضي أولئك الذين يبحثون عن نسق من العبارات قاطعة اليقين غير قابلة لإثبات الخطأ، أولئك الذين يُرجعون ماهية العلم وكل عظمته إلى صدق عباراته، إنهم لن يتقبلوا محاولة بوبر، وهذا يسعده كثيرًا لأن يختلف معهم اختلافًا شكليًّا وموضوعيًّا، سببه أن نظرتهم المغرورة للعلم لن تنطبق على أشد فروعه تقدمًا، وأعظمهما احترامًا في نظر بوبر؛ أي الفيزياء البحتة.١٠٨

(٣) ولكن لنلاحظ أن العبارات الأساسية تلعب دورين مختلفين، فقد استخدمنا نسقًا من كل العبارات الأساسية الممكنة منطقيًّا؛ كي نحصل بمساعدتها على إثبات الخاصة العلمية التجريبية، فهي المحك الأخير في هذا الإثبات، لكننا من الناحية الأخرى ننتهي إلى فئة من العبارات الأساسية فقط المقبولة، لتكون أساس الحكم على النظرية إما تعزيزها وإما تكذيبها وتعزيز الفرض المكذب لها حسب نتيجة الاختبار، وأيًّا كانت النتيجة فإنها تعني التوقف عند عبارات أساسية معينة تقرر قبولها.

والخلاصة أن العبارات الأساسية هي النهايات التي ينتهي عندها كل استنباط، وهي أيضًا لا بد وأن تدخل في مقدمات كل استنباط، أي إنها أساس معيار التكذيب؛ لذلك يجمل بنا أن نفرد لها الفصل التالي.

١  K. P., C. and R., p. 39.
٢  جان فوراسبته، معايير الفكر العلمي، ترجمة فايزكم نقش، ص١٣٤.
٣  المرجع السابق، ص١٣٤.
٤  K. P., U. Q. p. 41.
٥  انظر في تفصيل الحديث، حضاريًّا ودينيًّا وفلسفيًّا وسيكولوجيًّا، عن الكذب من هذه الزاوية الدراسة الطريفة الآتية، وإن لم تكن ذات قيمة علمية كبيرة:
محمد مهدي علام، فلسفة الكذب، مطبوعات دار العلوم، المطبعة الرحانية بالقاهرة، ١٩٣٦م، أما الحديث الفلسفي الرصين والقيم عن الكذب، من تلك الزاوية أيضًا، فيمكن أن نجده في د. زكريا إبراهيم، مشكلة الإنسان، سلسلة مشكلات فلسفية، مطبعة مصر، القاهرة، ص٦٩–٧٢.
٦  K. P., Replies., p. 1110.
٧  K. P., L. S. D., p. 246.
٨  K. P., Replies., p. 980.
٩  Ibid, p. 981.
١٠  انظر في تفصيل هذا، القسم الثالث من هذا الفصل «القابلية للتكذيب اختبارًا».
١١  د. عبد الرحمن بدوي، مدخل جديد إلى الفلسفة، ص١٠٠-١٠١.
١٢  K. P., L. S. D. pp. 40-41.
١٣  انظر الفقرة الخامسة من القسم التالي من هذا الفصل.
١٤  من الأفضل ذكر تعبير تارسكي بالذات لأن بوبر تابعه الوفي في المفاهيم المنطقية خصوصًا ما يتعلق بنظرية الصدق، وبوبر ما فتئ يرفع له آيات العرفان.
١٥  ألفرد تارسكي، مقدمة للمنطق ولمنهج البحث في العلوم الاستدلالية، ترجمة د. عزمي إسلام، مراجعة د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، سنة ١٩٧٠م.
١٦  Encyclopedia for Philosophy, Volume 6, p. 399.
١٧  K. P., L. S. D., p. 84.
١٨  Ibid, p. 80.
١٩  Ibid, p. 112.
٢٠  Ibid, p. 86.
٢١  K. P. C. and R., p. 89.
٢٢  انظر القسم الأول من الفصل الثاني من هذا الباب.
٢٣  K. P., L. S. D. p. 85.
٢٤  Ibid, p. 85.
٢٥  A. J. Ayer, Truth, Verification and verisimilitude, in The Philosophy of Karl Popper, volume two, pp. 684–687.
٢٦  K. P., L. S. D., p. 113.
٢٧  K. P., U. Q., p. 41.
٢٨  Ibid, p. 41.
٢٩  K. P., C. and R., p. 385.
٣٠  Ibid, p. 385.
٣١  K. P., L. S. D., p. 129.
٣٢  K. P., O. K., p. 47.
٣٣  K. P., C. X. R., p. 385.
٣٤  Ibid, pp. 217-218.
٣٥  Ibid, p. 218.
٣٦  Ibid, pp. 218-219.
٣٧  Ibid, p. 219.
٣٨  K. P. O. K. p. 43.
٣٩  و. ا. بفردج، فن البحث العلمي، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. أحمد مصطفى أحمد، سلسلة الألف كتاب، العدد ٤٥٤، دار النهضة العربية، القاهرة، سنة ١٩٦٣م، ص٨٤.
٤٠  K. P. O. K., p. 48.
٤١  Ibid, p. 49.
٤٢  Ibid, p. 49.
٤٣  Ibid, p. 49.
٤٤  توسع بوبر في مناقشة هذا الجانب كثيرًا، ودخل في استنباطات منطقيًّا لا تعنينا الآن في بحث ارتباط المحتوى المنطقي بالقابلية للتكذيب؛ فقد أوضح أن من الممكن اعتبار محتوى الصدق ومحتوى الكذب أيضًا محتويات نسبية؛ لأن بينهما علاقة تقاطع intersection فيكون الوصول إلى محتوى الصدق بالتسليم بمحتوى الكذب، والوصول إلى محتوى الكذب بالتسليم بمحتوى الصدق: See: K. P., O. K., pp. 44–52.
٤٥  K. P., O. K., p. 47.
٤٦  Ibid, p. 49.
٤٧  K. P., U. Q. p. 41.
٤٨  A. Ayer, Verification, truth and Verisimiltude, in the Philosophy of Karl Popper, Volûme II, p. 691.
٤٩  K. B., L. S. D. pp. 40-41.
٥٠  K. P., L. S. D., p. 32.
٥١  Ibid, p. 32-33.
٥٢  فقول منطقيًّا لأن من الناحية الواقعية العملية المنهجية قد تثار مشاكل جمة أبرزها ألَّا يتيسر الاختبار أصلًا أو تحدث مراوغة وتملص منه فلا ينتهي، لكننا في فصل منهج العلم تحدثنا عن الناحية المنهجية، ونحن في هذا الباب مَعْنِيُّون أساسًا بمنطق العلم.
٥٣  Paul Bernays Concerning Rationality in the philosophy of Karl Popper, volume one, p. 197.
٥٤  K. P. L. S. D., p. 86.
٥٥  جان فوراستيه، معايير الفكر العلمي، ترجمة فايزكم نقش، ص١٦٤–١٦٧.
٥٦  قد أضفنا ما بين الأقواس، لنلاحظ أن ألكس كاريل Alexis Carrel (١٨٧١–١٩٤٤م) هو صاحب الكتاب الشهير «الإنسان ذلك المجهول» وقد تُرْجِم إلى العربية مرتين.
٥٧  المرجع السابق، ص١٦٧.
٥٨  K. P., L. S. D., p. 86.
٥٩  Hillary Putnam, corroboratios of theories in the Philosophy of Karl Popper, Volume one, p. 226.
٦٠  K. P., O. K., p. 32.
٦١  K. P., U. Q., pp. 103-104.
٦٢  John Passmore, A hundred Years of Philosophy, p. 408.
٦٣  See: W. V. Quine, On popper’s Negative Methodology, in the Philosophy of Karl Popper, Volume one, pp. 220–222.
٦٤  Ibid, p. 218.
٦٥  ف. ف. ناليموف، قبول الفرضيات العلمية، ترجمة أمين محمود الشريف، مقال منشور بمجلة ديوجين، الصادرة عن مجلة رسالة اليونسكو وبمركز مطبوعات اليونسكو، العدد السادس والأربعين، السنة الثالثة عشرة، أغسطس وأكتوبر سنة ١٩٧٩م، ص٦.
٦٦  المرجع السابق، ص٦.
٦٧  المرجع السابق، ص٦.
٦٨  K. P., L. S. D., p. 252.
٦٩  A. J. Ayer, Truth, Verification and Verisimilitude, in the Philosophy of Karl Popper Walime 2., p. 686.
٧٠  ف. ف. ناليموف، قبول الفرضيات العلمية، ترجمة أمين محمود الشريف، ص٦.
٧١  G. J., Warnock, Review of logic of Scientific Discovery, Mind New Senis, 69, 1960, p. 100.
٧٢  Ibid, pp. 100-101.
٧٣  Ibid, p. 101.
٧٤  فيما بعد، في مرحلة لاحقة اقترح صديق بوبر هانز ألبرت Hans Albert عليه استخدام هذا المصطلح البارع: التحصين ضد التكذيب immunization against falsification.
٧٥  K. P., Replies, p. 981.
٧٦  K. P., C. and R., p. 111.
٧٧  محمد فرحات عمر، طبيعة القانون العلمي، ص٢١٦.
٧٨  K. P., C. and R., p. 111.
٧٩  انظر: «الباب الثاني» من هذا البحث، الفصل الثالث: بوبر ينقد الوضعية المنطقية، القسم الثاني، الفقرة الرابعة.
٨٠  John Passmore A hundred Years of Philosophy, p. 411.
٨١  لعل باسمور توصل إلى هذا التفسير لنظرية بوبر بناءً على مقال لبوبر نفسه بعنوان: «ثلاثة آراء متعلقة بالمعرفة الإنسانية»، منشور في: C. and R., pp. 97–119.
يشرح بوبر فيه الرأي الأول باعتباره الماهوية، والرأي الثاني باعتباره الأداتية، أما الرأي الثالث فهو رأيه هو الافتراضي النقدي الاختباري التفسيري الاحتمالي.
٨٢  K. P., O. K., p. 191.
٨٣  Ibid, p. 192.
٨٤  كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، ص١٦٢-١٦٣.
٨٥  Karl Popper, the Open society and it Enemies, vol, II. Hegel, Marx and the Aftermath, pp. 248–250.
٨٦  Bryan Magee, Karl Popper, p. 44.
٨٧  K. P., C. X. R., pp. 111-112.
٨٨  انظر الباب الأول، الفصل الأول «المعيار التقليدي، المنهج الاستقرائي» القسم الخامس، الفقرة ٥/د.
٨٩  K. P., L. S. D., p. 40.
٩٠  محمد فرحات عمر، طبيعة القانون العلمي، ص٢١٧.
٩١  K. P., L. S. D., p. 88.
٩٢  النص مأخوذ من: K. P., L. S. D., p. 82.
٩٣  Ibid, pp. 82-83.
٩٤  كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، ص١٢٩.
٩٥  K. P., Replies, pp. 986-987.
٩٦  Ibid, p. 987.
٩٧  Ibid, p. 981.
٩٨  Bryan Magee, Karl Popper, p. 17.
٩٩  أ. و. بفردج، فن البحث العلمي، ترجمة زكريا فهمي، ص٨٧.
١٠٠  السابق، ص٨٥.
١٠١  K. P., Replies., p. 984.
١٠٢  Bryan Magee, Karl Popper, p. 17.
١٠٣  Ibid, p. 17.
K. P., L. S. D. p. 314.
١٠٤  أبو حامد الغزالي، منطق تهافت الفلاسفة المسمى: معيار العلم، تحقيق د. سليما دينا، سلسلة ذخائر العرب، العدد ٣٢، دار المعارف بمصر، القاهرة، سنة ١٩٦٩م، ص٥٩-٦٠.
١٠٥  المرجع السابق، ص٦٠.
١٠٦  المرجع السابق، ص٢٤٥.
١٠٧  المرجع السابق، ص٢٤٦.
١٠٨  K. P., L. S. D., p. 37.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤