الفصل السابع

الكرامة المُهدَرة

وُلد المخرج السينمائي المصري الشهير يوسف شاهين عام ١٩٢٦، ونشأ في أسرة مسيحية من الطبقة المتوسطة في مدينة الإسكندرية التي تجمع أجناسًا مختلفة من البشر، وتلقى تعليمه في مدارس فيكتوريا كوليدج العريقة. وعندما عاد من دراسة السينما في لوس أنجلوس، انخرط في صناعة السينما المحلية التي كانت تشهد آنذاك رواجًا خلال السنوات الأخيرة من حكم الملك فاروق. يمكن أن نُرجع أصل المنهج الإنساني المتحرر لذلك المخرج صاحب الفكر المتشعب إلى التعددية والحرية النسبية اللتين سادتا فترة ما قبل الثورة التي أسعده الحظ بأن يولد فيها. لكن في أعقاب الثورة أصبح شاهين عبقريًّا آخر يعمل تحت وطأة نظام أوتوقراطي وحشي يعتبر الموهبة الإبداعية مدعاة للشك في أحسن الأحوال، وتهديدًا لا بد من قمعه في أسوأ الأحوال. أسهمت أفلامه التي يربو عددها عن الأربعين فيلمًا — والتي تعود إلى ما قبل ثورة ١٩٥٢ — في التعريف بهوية مصر وتاريخها وذاكرتها. لكن تمرده على تملق النظام أو الإذعان لعقيدة دينية — فضلًا عن لجوئه المتكرر لتجسيد شخصية الرجل الشاذ والأنثى المتحررة — جعلته منبوذًا إلى حد كبير في الوسط السينمائي المصري وفي وسائل الإعلام المملوكة للدولة. وقد أعلنت الرقابة المصرية أنه من المرجح منع عرض أحدث أفلام شاهين «هي فوضى» (٢٠٠٧) حتى قبل مشاهدته. الفيلم قصة ميلودرامية مشحونة بالغضب حول ثقافة التعذيب داخل أقسام الشرطة في مصر والفساد الملازم لهذه الثقافة. (جدير بالذكر أن الرقابة سمحت بعرض الفيلم في النهاية.) يعود شاهين من خلال فيلم «هي فوضى» إلى موضوع كلاسيكيته «العصفور» (١٩٧٣) الذي حمَّل الفساد مسئولية هزيمة مصر في حرب الأيام الستة. مُنِع الفيلم من العرض لدى طرحه، على الرغم من أنه نال لاحقًا أرفع جوائز الدولة الثقافية. وفضلًا عن مواجهة شاهين لعداء النظام له، فهو صاحب المفارقة التعسة التي تسببت في حظر أحد أفلامه في مصر نتيجة حملة اعتراضات شارك فيها مسلمون ومتطرفون مسيحيون. هاجم المسلمون ملحمته الإنجيلية «المهاجر» (١٩٩٤) — المأخوذة عن قصة حياة النبي يوسف — بدعوى فتوى صادرة عن الأزهر عام ١٩٩٣ تحرِّم تجسيد جميع الأنبياء في أي عمل فني، وهاجمه الأقباط أيضًا بدعوى أن تجسيد شخصية النبي يوسف نفسه كانت «غير دقيقة».

لا يُكِّن المخرج الذي يبلغ من العمر اثنين وثمانين عامًا سوى الاحتقار للنظام العسكري المصري، وهو ما بدا واضحًا في حوار قصير نادر أجراه مع مجلة «قنطرة» الإلكترونية الألمانية عام ٢٠٠٦ حين قال: «نحن نعيش في ظل نظام ديكتاتوري تمامًا.» استطرد شاهين في التعبير عن يأسه بأنه فقد الأمل في أن تصبح مصر أكثر حرية أو تحررًا في المستقبل، وقال عن شباب مصر إنهم حشد من الأرواح التائهة، أقصى ما يحلمون به هو مغادرة هذا البلد: «أراهم يقفون أمام السفارات الألمانية والفرنسية. كلهم يرغبون في الهجرة. اعتدت أن أقول للشباب: «لا تهاجروا! إن كنتم قد أنهيتم دراستكم فنحن بحاجة إليكم هنا.» لكني كنت من الجيل القديم الذي لا يفكر إلا في جمال الوطن. أما الآن فأقول لهم: «ارحلوا!» لن يجدوا فرصة في بلد يعج عن آخره بالفساد. أن تبقى هنا يعني أن تصبح فاسدًا.» وربما كان وصف شاهين للوطنية بأنها تفكير عفا عليه الزمن هو أكثر أجزاء الحوار مكاشفة وإثارة للحزن أيضًا.

لفت الكثيرون في الغرب الانتباه إلى حالة الهوس الجماعي بالهجرة بين شرائح مختلفة عديدة في المجتمع المصري الذي بات على شفا الانهيار، وإلى الملايين الذين لا يرغبون في الهجرة إلى فرنسا وألمانيا وأي دولة أوروبية أخرى فحسب، وإنما على وجه التحديد إلى الدولة التي درس فيها شاهين؛ الولايات المتحدة. وقد ذكر البعض أن هذا دليل على أن المصريين ليسوا مناهضين للغرب مثلما يظن الأجانب، بمعنى أنهم ليسوا غاضبين تمامًا من السياسات الأمريكية في المنطقة مثلما يظن الكثيرون. لكن هذا النوع من الحسابات السياسية يخطئ كثيرًا في فهم ما يحدث. فالسؤال الحقيقي الذي ينبغي طرحه هو: ما سر رغبة تلك الأعداد الهائلة من الشباب المصري في أخذ فرصتهم في الغرب على الرغم من بغضهم لآثار الهيمنة الأمريكية على المنطقة وغضبهم الشخصي من مساندة واشنطن للديكتاتور الذي يحكم بلادهم (وهو ما يتضح لأي شخص يقضي فترة من الوقت في مصر)؟ الجواب الواضح هو أن بغضهم لوطنهم أكبر بكثير من بغضهم لحفنة من السياسات الخارجية تتبناها الدولة التي سيهاجرون إليها؛ فالثقافة والسياسة، والطموح الشخصي والآراء السياسية غير مرتبطة بعضها ببعض في عقولهم. لكن هناك أمر واحد اتفق عليه الجميع وهو — مثلما أشار شاهين — الرغبة الشديدة في الهجرة خصوصًا بين الشباب في مقتبل العمر، وإن كانت غير قاصرة عليهم. في التسعينيات من القرن العشرين، كان اثنان أو ثلاثة من بين كل عشرة مصريين ألتقي بهم يفصحون عن رغبتهم في الهجرة إلى أي بلد آخر. وفي ٢٠٠٧ كلما التقيت بشخص، يفصح لي عن رغبته الجارفة في الهجرة، وعادةً ما يكون ذلك في الدقائق الخمس الأولى من حواري معه.

أتذكَّر واقعة محددة في هذا الشأن؛ فقد استأجرت سيارة أجرة سائقها في العشرينات من عمره عندما كنت في أسوان ليرافقني في جولة إلى السد العالي، وتجاذبنا أطراف الحديث من البداية كأن بيننا صداقة قديمة. وفي طريق العودة إلى المدينة انحرف بالسيارة على جانب الطريق فجأة، وتلا سورة الفاتحة بصوت عال وهو يغمض عينيه، ثم التفت إلي وسألني في جدية موجعة: «أيمكنك مساعدتي في استخراج تأشيرة إلى إنجلترا من فضلك؟» وبعد أن أوضحت في هدوء أن هذا الأمر محال خصوصًا وأني لم أعد إلى وطني منذ أن تركته قبل عقد من الزمان، ولا أنوي العودة إليه في المستقبل القريب، بدا أن الإحباط قد بلغ منه مبلغه. وعندما أفكر في هذا الآن يراودني شعور أن الأمر برمته ليس سوى تمثيلية تؤدَّى أمام أي أجنبي يتحدث معه على الرغم من حداثة المعرفة التي تجمعهما، لكن هذا لا يؤثر على الإحباط الهائل الكامن وراء طلبه. لا يدري أحد كيف استقبل هذا الشاب عزوفي عن العودة إلى بلد هو على استعداد لدفع المال من أجل الهجرة إليه. لكن حتى عندما أوضحت بما لا يدع مجالًا للشك لشخص آخر تعرفت عليه أني لن أمنحه الفرصة للفرار إلى الغرب، لم يضع ذلك حدًّا للإلحاح المتواصل. ولدى عودتي إلى مصر بعد رحلة إلى إيران استغرقت شهرًا، سألني فجأة شاب في العشرينات كان قد جاء إلى شقتي لإصلاح جهاز الكمبيوتر عن إمكانية سفر شخص مثله إلى إيران. قال إنه حاصل على شهادة في تكنولوجيا الكمبيوتر، وإنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتلقى تدريبًا في شركة كمبيوتر رائدة في البرمجيات؛ لكنه لا يجد فرصة للعمل في شركة كبرى لأنه لا يجد من يتوسط له. أجبته: «الوضع في إيران أكثر سوءًا من مصر. فالاقتصاد في طريقه للانهيار، والحرية هناك أقل منها هنا.» أطرق برأسه مفكرًا بضع لحظات، ثم أجاب: «لا يهمني إن عشت على الخبز والماء. كل ما أريده هو الحياة في بلد يحترمني فيه الناس عندما أسير في الشارع.» فاق إلحاح الجميع من أجل الحصول على تأشيرة الحد في الإزعاج، وفي بعض الأحيان يسهل إغفال الحزن واليأس اللذين يدفعان إليه.

كشف تحقيق أعدته هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» في يوليو/تموز ٢٠٠٧ أن آلاف الشباب المصريين يحاولون الدخول إلى أوروبا سنويًّا بطرق غير شرعية. في بعض الأحيان، يبحر هؤلاء من الموانئ المصرية على متن قوارب صيد يديرها عصبة من المهربين. لكنهم يلجئون في الأغلب إلى خوض رحلة محفوفة بالمخاطر إلى إيطاليا عن طريق دولة ليبيا المجاورة التي لا يحتاجون تأشيرة لزيارتها. وغني عن القول إن الفقر المدقع والبطالة والإحساس العام باليأس والعجز من الأسباب التي أوردها التقرير وراء عدم اكتراث المصريين بتعريض حياتهم للخطر. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٧، تأكدت دقة تقرير «هيئة الإذاعة البريطانية»، عندما عاشت مصر حدادًا وطنيًّا لدى الإعلان عن غرق واحد وعشرين شخصًا على الأقل كانوا يحاولون التسلل إلى إيطاليا بحثًا عن فرصة عمل، بعد انقلاب القارب الذي كانوا يستقلونه.

لا غرو إذن في سعي المصريين إلى اغتنام فرصة الهجرة غير الشرعية عندما تتاح لهم، بل إن بعضهم يلجأ إلى وسائل غير مشروعة لتمديد إقامته. (لم يحدث قط أن التقيت بشاب لم يعترف لي صراحةً أنه إذا حدث وأتيحت له فرصة الهجرة فمحال أن يعود طواعية.) وما يترتب على ذلك يشكل مادة خصبة لوسائل الإعلام الدولية. ففي أغسطس/آب ٢٠٠٦ على سبيل المثال، أصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي وإدارة الهجرة والجمارك الأمريكية تحذيرًا لوكالات الأمن وسلطات تطبيق القانون المحلية بأن أحد عشر طالبًا مصريًّا تخلَّفوا عن إثبات حضورهم في جامعة ولاية مونتانا بعد دخولهم إلى الولايات المتحدة عبر مطار جون إف كنيدي الدولي. كان من المقرر أنهم سيدرسون اللغة الإنجليزية والتاريخ الأمريكي جزءًا من برنامج تبادل طلابي مع جامعة المنصورة في دلتا مصر. وكان عليهم تقييد أسمائهم لدى الجامعة بموجب «برنامج تبادل الطلاب والزوار» المعمول به في أعقاب هجمات ١١ سبتمبر/أيلول المروعة بغية ضمان منح حق دخول الولايات المتحدة للطلاب الأجانب المصرَّح لهم فقط. فالعديد من مختطفي الطائرات التي استخدمت في هجمات ١١ سبتمبر/أيلول ذكروا في طلبات استخراج التأشيرات أنهم طلاب. واستطاعت السلطات الأمريكية تحديد مكان الطلاب المصريين في النهاية، وألقت القبض عليهم بتهمة خرق بنود التأشيرات وأيضًا ضوابط الهجرة، ورحَّلتهم إلى مصر على الفور. لكن اتضح فيما بعد أن الإرهاب بعيد كل البعد عن تفكيرهم؛ فقد فرُّوا سعيًا وراء «الحلم الأمريكي» على حد تعبير «الأهرام ويكلي»، وتخلفوا عن حضور برنامج الاندماج بحثًا عن فرصة عمل، وعلى ما يبدو أنهم كانوا ينوون تدبير معاشهم حتى ذلك الحين اعتمادًا على المبلغ الذي تلقاه كل واحد منهم كجزء من برنامج التبادل لسد احتياجاته المعيشية والذي يساوي ثلاثة آلاف وخمسمائة دولار. من الواضح أن التداول الواسع والمثير في بعض الأحيان لهذه القضية — سواء في الولايات المتحدة أو في مصر — لم يكن رادعًا أمام اثنين من ملاكمي الوزن الثقيل المصريين عن ترك زملائهم في الفريق على نحو مشابه في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٧ بعد وصولهما إلى الولايات المتحدة للمشاركة في بطولة العالم للملاكمة. اختفى عماد عبد الحليم وأحمد سمير بعد فترة قصيرة من وصول الفريق إلى أحد المطارات الأمريكية، لكن هذه المرة لم يصدر مكتب التحقيقات الفيدرالي تحذيرًا. تغيَّب عدد كبير جدًّا من اللاعبين الرياضيين المصريين — خاصة الملاكمين والمصارعين — في السابق دون إذن وفي ظروف مشابهة للبحث عن بيئة أفضل يستطيعون فيها تنمية مهاراتهم، حتى إن هروب اثنين من الملاكمين هذه المرة لم يسفر عن شيء سوى إعلان السلطات الأمريكية عما حدث. وأكثر ما يثير الدهشة فيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص هو أنهم — على عكس من يسافرون بحرًا عن طريق ليبيا — ليسوا مثل الفقراء الذين يهاجرون هجرة غير شرعية ويغادرون الصحراء الأفريقية الكبرى مكدسين داخل قوارب متداعية في طريقهم إلى جزر الكناري، أو مثل المكسيكيين الذين يقضون أيامًا في الصحراء في محاولة لعبور الحدود المكسيكية الأمريكية التي يسهل التسلل منها. فهؤلاء الطلاب كانوا يدرسون في واحدة من أرقى الجامعات الحكومية في مصر، وحازوا على درجة عالية من تقدير أساتذتهم في الجامعة جعلتهم يفوزون بتلك المنح الدراسية التي يطمح فيها أي شخص. وبالمثل فإن الملاكمَيْن قطعوا شوطًا كبيرًا في عملهما حتى أنهما باتا مؤهلَيْن للمنافسة في البطولات الدولية.

إذا كان أشخاص كهؤلاء لديهم الرغبة في المخاطرة بفقدان كل ما حققوه في سبيل الفرار من مصر، فما الذي يُتوقع من الجموع الفقيرة التي ليس لديها ما تخسره سوى أن تلقي بنفسها داخل مراكب صيد في عرض البحر المتوسط وهم لا يملكون سوى الأمل والدعاء؟ الإجابة عن هذا السؤال موجودة في الأقصر؛ المدينة السياحية الأكثر شهرة في مصر على مر التاريخ، والتي تحولت في السنوات الأخيرة إلى عاصمة لبغاء الرجال في الشرق الأوسط.

•••

ذاع صيت الأقصر منذ زمن بعيد على أنها «مدينة الخطيئة» في مصر. كشف علماء آثار من جامعة جونز هوبكينز — يعملون حاليًّا في معبد «موت» بالمدينة — كيف أن الجنس والخمر كانا عنصرين رئيسيين في الطقوس التي يؤديها الأفراد لإرضاء الآلهة في العصر الفرعوني. ووفقًا لعلماء الآثار اشتملت الطقوس على شرب نبيذ الشعير وممارسة العلاقة الحميمة قبل أن يفقدوا الوعي ويستيقظوا مبكرًا في الصباح التالي من أجل الطقوس الدينية. ولا يزال الجمع المقلق والمتزايد بين الخمور والجنس والدين مميزًا لطبيعة الحياة هنا إلى حد كبير؛ على الأقل لدى الزوار الأجانب و٩٠ بالمائة من ذكور المدينة العاملين بقطاع السياحة، التي تهيمن على الاقتصاد المحلي تمامًا.

تجذب الأقصر في الغالب البريطانيين والألمان الباحثين عن دفء الشمس، الذين يغادرون مقاعدهم المشمسة بجوار حمامات السباحة داخل فنادقهم الراقية بين الحين والآخر، للذهاب إلى الأسواق المحلية حيث يختلطون بغيرهم من الأجانب الذين جاءوا لقضاء يوم واحد، والذين ترسوا سفنهم على طول نهر النيل الفسيح الخلاب. وكثيرًا ما يكون سياح الرحلات الجماعية المنظمة موضع سخرية الرحَّالة الأكثر إقدامًا على المغامرة بسبب بقائهم داخل الفنادق، والحقيقة أن بوسع الكثيرين منهم البقاء في أي مكان ما دامت تشرق شمسه في الشتاء، وما دام هناك ملهى يرتادونه في المساء. بل إن الكثيرين منهم لا يزورون الأماكن الأثرية. ومع هذا فحتى هؤلاء الذين يحركهم حب الاستطلاع الثقافي — خاصة من يصطحب معه أطفالًا صغارًا — يفضلون عدم المجازفة بالخروج بمفردهم مرة ثانية بعد تعرضهم أول مرة للمضايقات التي تفوق الحدود في شوارع المدينة. لا يوجد مكان آخر في العالم العربي (أو ربما في العالم كله) بهذه الشراسة والقسوة.

يتسكع سائقو التاكسي ومحترفو مطاردة السائحين وسائقو الحنطور والشباب العاطل والأطفال المزعجين في زاوية كل شارع، في انتظار فرصة مرور السائحين بهم لجني بضعة دولارات يشترون بها قوت يومهم. نُقِل عن زهير جرانة وزير السياحة قوله إن مضايقة السياح تشكل تهديدًا لقطاع السياحة في مصر أكبر من تهديد هجمات المتطرفين، وأقر بأن العديد من السياح يغادرون مصر «ولديهم إحساس بالمرارة، وقد أخذوا على أنفسهم عهدًا ألا يعودوا إليها أبدًا» بسبب إحباطهم من ترصد محترفي مطاردة السياح لهم في الطرقات. فإبعادهم عن الطريق مهمة شاقة حتى على من يتحدثون اللغة العربية، ويكون الملاذ الأخير هو التهديد باللجوء إلى العنف.

غير أن هؤلاء الذين يستطيعون الانفراد بأنفسهم بضع دقائق يجدون كورنيش النيل — الممتد مسافة كيلومترات في حُلَّته القديمة — مكانًا رائعًا للتنزه تزينه معالم مثل فندق «قصر الشتاء» ومعبد الأقصر المهيب. أما من يتجولون في رحلة بحرية في النيل فإنهم يحظون بمشاهدة المناظر الخلابة لمدينة يقسمها نهر النيل إلى شطرين. في البر الشرقي — أو الشطر العصري من مدينة الأقصر — توجد الفنادق الرئيسية والمطار والأسواق ومحطة القطار وجميعها خضع مؤخرًا لعمليات ترميم بتمويل من منظمة اليونسكو. وفي البر الغربي الفقير — المتواري خلف تلال طيبة — يوجد وادي الملوك ووادي الملكات ومعبد حتشبسوت الأسطورية وخلفها الصحراء القاحلة والجبال.

لا تزال المناطق المأهولة بالسكان في البر الغربي — بين نهر النيل والمقابر — عبارة عن سهول خصبة ومساحات خضراء: مشاهد البطاقات البريدية المصورة للفلاحين الذين يعملون في حقول قصب السكر، والغلمان الذين يرتدون الجلاليب ويركبون الحمير على طول الطرقات غير الممهدة في القرية المبنية بالطوب اللَّبِن. وعبور نهر النيل من البر الشرقي إلى البر الغربي على متن معدِّية يضاهي الرجوع بالزمن إلى الوراء: من الحضر إلى الريف ومن الحداثة إلى التقليدية الموغلة في القدم.

•••

يسكن صديقي علاء — وهو رجل قصير القامة بدين في أواخر الثلاثينيات من العمر شعره أسود كثيف مجعد — في إحدى القريتين المجاورتين لنهر النيل في البر الغربي من المدينة. تربط بينه وبين جميع الأشخاص الآخرين في محيط قريته صلة قرابة من قريب أو بعيد؛ فتلك منطقة قبلية، وكما هو الحال في جميع مدن صعيد مصر يتسم المسلمون والمسيحيون الذين يعيشون هنا بالتحفظ والانغلاق الأسري. في الصباح يعمل علاء مدرسًا في إحدى المدارس الحكومية، لكني اعتدت على قضاء الوقت معه كل مساء في الجانب الآخر من المدينة في بهو استقبال فندق بسيط يعمل فيه، وفيه أيضًا نزلتُ في إحدى زياراتي الأولى للمدينة. غير أن علاء أدرك فجأة بعد بضعة أشهر أنه سيوفر المال إذا ما جلس في بيته في المساء؛ فراتبه الشهري في الفندق لا يتعدى ٢٦ دولارًا شهريًّا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات انتقاله من وإلى البر الشرقي، وشراء علبتي سجائر يدخنهما بشراهة أثناء وردية عمله التي تستمر اثنتي عشرة ساعة في جو من الرتابة، فضلًا عن شراء طعام في بعض الأحيان.

حسبما تشير ظروف علاء والمشاحنات التي تحدث في الطرقات فإن قطاع السياحة في مصر عالم مصغر من عالم الاقتصاد الأوسع. فعشرات قليلة من الشركات تهيمن على القطاع، بدءًا من الحافلات التي تنقل الأفواج السياحية من وإلى المطار، وانتهاءً بالفنادق الفاخرة التي ينزلون فيها ومراكب الرحلات التي يستقلونها للتنزه في نهر النيل. وهكذا لا يبقى للمهمَّشين من أمثال علاء سوى انتظار فتات المائدة. أخبرني علاء أنه شعر بسعادة بالغة عندما توقف عن إزعاج السياح ليأخذوا معه جولة على ظهر الحمار، وهو عمل ثانوي بائس كان يؤديه أثناء عمله بالفندق. وعندما قال ذلك علت وجهه ابتسامة خجل، ربما لأنه تذكر كيف قضى نصف الساعة الأولى معي في وصف مزايا (وتكلفة) هذه الجولة حول البر الغربي مع شروق الشمس. أضاف أنه أيضًا لم يكن يشعر بالرضا للعمل في مكان يبيع الخمور. أما الآن فأصبح بوسعه الحصول على قسط كاف من النوم ليلًا، وقضاء وقت مميز مع زوجته وطفلته الصغيرة.

جلسنا فوق سطح منزله الذي لم يكتمل بناؤه، وتجاذبنا أطراف الحديث حتى حلول المساء، والشمس تغيب رويدًا في الأفق. بعد فترة أشرت إلى أن جميع المباني — هنا وفي القرية الأخرى المجاورة لنهر النيل — تكاد تكون مشيدة حديثًا، وأن عددًا لا بأس به من هذه المباني عبارة عن فيلات فاخرة، وهو ما يختلف اختلافًا لافتًا للنظر عن بيوت الطوب اللَّبِن التي ما زال يسكنها معظم الفلاحين في البر الغربي. كان يتملكني الفضول لمعرفة مصدر ثروة مُلاك هذه المباني.

قال لي علاء: «تسعون بالمائة من هذه المنازل والأراضي المبنية عليها يملكها أجانب، فجميع الشباب هنا يقدمون الآن على الزواج من أجنبيات عجائز.»

في البر الشرقي — حيث كنت أقضي وقتي بالكامل تقريبًا — اعتدت أن أرى أجنبيات عجائز (غالبًا في الستينات أو السبعينات من عمرهن) يسِرْن متشابكات الأيدي مع شباب في مقتبل العمر من أهل المدينة. ظننت أنهن يعشن قصة غرام تنتهي بانتهاء إجازتهن، لكن اتضح من حديث علاء أن عددًا كبيرًا منهن يعشن هنا في البر الغربي. بعدها تحققت من الأرقام الرسمية؛ ووفقًا لوزارة العدل فإن خمسة وثلاثين ألف مصري تزوجوا من أجانب، ونحو ثلاثة أرباع هذه الزيجات جمعت بين ثقافتين مختلفتين، وأطرافها رجال مصريون ونساء أجنبيات. وعلى الأرجح لا يشتمل هذا الرقم على الزيجات العرفية التي يتجنبها المصريون باعتبارها إحدى صور البغاء، ولكنها كانت توفر غطاءً قانونيًّا للأغلبية الساحقة من العلاقات بين المصريين والأجنبيات. فهذا النوع من الزواج يمكِّن الطرفين من العيش معًا في شقة واحدة دون الخوف من مهاجمة الشرطة لهما، ومن ثم التشنيع بسمعة الأسرة نتيجة اتهامها بممارسة الرذيلة. أيضًا يوفر هذا النوع من الزواج طمأنة ضمنية للمصريات اللاتي يتزوجهن المصريون غالبًا — إلى جانب الأجنبيات — بأن زيجاتهن هي «الأصلية» على عكس زواج الأجنبيات الذي يكون من أجل المصلحة المادية فحسب.

قلتُ لعلاء ذلك المساء: «لا مشكلة حقًّا ما داموا متزوجين، فهؤلاء الشباب لا بد لهم من الزواج؛ وإذا كانت المرأة تمتلك المال، فلا بأس إذن.»

ردَّ علاء بسرعة: «كلا، هناك مشكلة كبيرة؛ فأنا أشاهد قريتي تتغير إلى الأسوأ كل يوم. معظم هؤلاء النساء أقمن علاقات مع نصف رجال الأقصر قبل أن يستقررن على الزواج بأحدهم. وعلى أي حال، هؤلاء الأجنبيات في عمر جَدَّات من يتزوجوهن! لم يكن هذا يحدث من قبل قط. عندما كنت صغيرًا، كان السياح الذين يأتون إلى هنا جديرين بالاحترام، وكان الواحد منا يفخر بدعوتهم إلى منزله. أما الآن، إذا اصطحبت أي امرأة أجنبية إلى قريتك — حتى وإن كانت جديرة بالاحترام — يظن الجميع أنك ستضاجعها.»

لكنه كان حريصًا على أن يوضح أن كل هذا أقل ما يثير قلقه.

«أريد أن أعرف ما سيئول إليه الحال عندما يكبر أبناؤهم؟ نحن بلدة محافظة تحكم بناتَنا قواعدُ صارمة للغاية. فهن لا يخرجن بمفردهن بعد أن يحل الظلام، ولا يقمن علاقات جنسية قبل الزواج. أما الغرب فتحكمهم قواعد مختلفة. وربما تشِبُّ الفتيات ليصبحن مثل أمهاتهن ويضاجعن أي رجل يغمز لهن. نحن نفقد ثقافتنا وديننا، ولا أحد يكترث ما دامت المصلحة المادية قائمة.»

فكرت في أن أقول شيئًا عن الاندماج الثقافي والعولمة وعن الصراع المحموم بين القديم والحديث، وفكرت أن أسأله هل يظن الفقر خيارًا أفضل لهؤلاء الشباب في ظل انعدام خيار ثالث. لكن قبل أن أنطق بكلمة بدأ علاء حديثه مرة أخرى.

سألني: «أتدري ما الذي يشغل تفكيري حقًّا؟» ثم أردف قائلًا:

إنها الأرض؛ فهذا الأمر يقلقني أكثر من قلقي على الثقافة. كادت جميع الأراضي أن تباع للأجنبيات. والأسعار آخذة في الارتفاع حتى إن سعر الأرض تضاعف في السنوات الخمس الأخيرة. كيف سيتحمل أبنائي عندما يكبرون تكاليف شراء أرض لبناء منزل عليها؟ سوف نُطرد من أرضنا في النهاية. سوف تصبح منطقة محظورة؛ إذا لم تكن متزوجًا من أجنبية فلن يسمحوا لك حتى بالدخول لدواعي أمنية. سيُحرَم المصريون من أرضهم! أتدري بم يذكرني ذلك؟ يذكرني باليهود في فلسطين. لنعد إلى التاريخ؛ فقبل عام ١٩٤٨، كانت جميع الأراضي التي في حوزة اليهود تئول إليهم بطريقة مشروعة. هؤلاء الفلسطينيون كانوا مثل المصريين هنا في الأقصر. وانظر ماذا حدث. في النهاية نُهبت أرض الفلسطينيين بالكامل، والآن تُستعمر أرضنا في الخفاء.

يذكرني هذا بتعليق للدكتور أحمد عكاشة الطبيب النفسي القاهري حين قال لي: «منذ العصور القديمة والمصري معروف بأنه لا يترك مكانه أبدًا، فشرف المصري أرضه.» إذا كان المصري يفقد شرفه عندما يغادر أرضه، فما الذي سيفقده عندما يبيعها للأجانب فضلًا عن بيع جسده لعجوز أجنبية؟ ثمة هدف تسعى له وزارة السياحة هو بيع عشرة آلاف وحدة سكنية سنويًّا إلى الأجانب، وهي إحصائية لا شك أنها ستصيب علاء بالرعب الشديد، لكن ظاهرة الزواج بين الثقافات المختلفة أسوأ مما يدرِك. في عام ٢٠٠١، ذُكر أن العاطلين المصريين يتجهون على نحو متزايد للزواج من إسرائيليات. وقد تقدم عضو مجلس الشعب المعارض عبد العزيز الحريري بشكوى إلى إحدى اللجان البرلمانية أن إسرائيل تشجع على هذا الاتجاه، وأن ارتفاع نسب البطالة يدفع المصريين إلى مثل هذه «الأفعال البائسة». ونقلت تقارير إخبارية في تلك الفترة قوله إن أعدادًا متزايدة من المصريين يتزوجون من إسرائيليات هربًا من شَرَك الفقر؛ وقدَّر الحريري أن أربعة عشر ألف مصري حتى ذلك الحين تزوجوا من إسرائيليات (وإن كان معظمهن من عرب إسرائيل من أصول فلسطينية). وفي العام نفسه، أصدر مفتي الديار المصرية فتوى بتحريم زواج المصري من إسرائيلية، وأوضح أن هذا الزواج من شأنه أن يساهم فيما أسماه بخطط إسرائيل لتدمير «الكيان العربي» وتنشئة أجيال من «الجواسيس المحتملين» لحساب إسرائيل. ومؤخرًا، أشارت مجلة بيزنس مانثلي المصرية إلى تقديم مادة في قانون جديد تقْصُر مدد عقود التأجير إلى تسعة وتسعين عامًا لمن يشتري عقارات في شرم الشيخ، وهو ما جاء نتيجة مباشرة للاعتقاد الذي ساد على نطاق واسع بأن الإسرائيليين يشترون كل ما يتاح أمامهم من أراضي سيناء التي وقعت في قبضة الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب الأيام الستة غير أنها عادت إلى مصر جزءًا من اتفاقية السلام عام ١٩٧٩. قال سمسار عقارات مصري تبدو عليه نزعة الشك للمجلة: «تبدو أسماء الكثير من المشترين أسماء يهودية.»

الواقع أنه في شرم الشيخ، كما هو في الأقصر وغيرها من المدن السياحية الأخرى (باستثناء طابا والمنتجعات الأخرى في سيناء حيث أغلبية السياح من الإسرائيليين)، تزداد أعداد السياح المقيمين من البريطانيين بمعدلات تفوق أي جنسية أخرى، إما سعيًا وراء الاستثمار أو إيراد الإيجار أو للهرب فقط من الأحوال الجوية الكئيبة في بريطانيا. وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات مؤكدة لإجمالي عمليات البيع للأجانب في مدينة شرم الشيخ فإن مجلة بيزنس مانثلي قدمت تقديرًا تقريبيًّا مأخوذًا عن أرقام حصلت عليها من أربعة وكالات كبرى. وأشارت إلى أن الأجانب اشتروا على الأقل ثلاثة آلاف وحدة بين عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٧. وهناك — كما هو الحال في الأقصر والمنتجع الرئيسي الآخر في الغردقة — يجلس عشرات الرجال المصريين على ضفاف المياه يوزعون قبُلات في الهواء على العجائز اللاتي يسرن أمامهم على أمل أن تتوقف إحداهن وتبدأ رحلة التعارف. وعلى أسوأ تقدير، سوف يجني الواحد منهم ما يعادل راتب شهر في حالة مصاحبة إحداهن إلى البيت لقضاء الليل معها. وفي أحسن الظروف سيجد أن المرأة تبحث عن الحب، فيعلنه لها من أعماق قلبه؛ ما دام حصوله على تأشيرة بريطانيا جزءًا من الصفقة.

•••

اتضح أن ثورة علاء على ذلك النحو بسبب موضوع الأجنبيات ذلك المساء كانت بسبب مقال نشرته صحيفة الشرق الأوسط قبل بضعة أيام، وطلب علاء من زوجته أن تُحضره لنا من الطابق السفلي. وبينما كنت أتصفح المقال أخبرني أن جميع من في القرية قرأوا محتوى المقال باهتمام، وحسبما ذكر أصدقاؤه، لم تكن الأجنبيات تتحدثن عن شيء آخر سواه على المواقع الإلكترونية الخاصة بمدينة الأقصر التي نشرت ترجمة المقال باللغة الإنجليزية.

نُقل على لسان مسئولي المدينة في المقال أن «البنية الاجتماعية في الأقصر ستشهد تغيرات بالغة إلى الأسوأ» إذا لم يتوقف الاتجاه الجديد لزواج أهل المدينة من أجنبيات، وسوف تُشن حملة جديدة للتشديد على الشباب بأهمية الزواج من مصريات. صرح محافظ المدينة للصحيفة أن الدافع الرئيسي وراء هذه الزيجات هو دافع مادي «وليس تعبيرًا عن الحب»، مضيفًا أن تغيير هذا الوضع يكمن في خلق فرص عمل جديدة وملائمة للشباب. وقال إن هؤلاء الرجال يمثلون ٤٠ بالمائة من إجمالي عدد الذكور في المدينة، وهي نسبة صاعقة. وذكر أيضًا أن عائلات هؤلاء الشباب يفضلون زواجهم من فتيات المدينة؛ لكن في ظل «الظروف الاقتصادية الصعبة» يوافقون على أن زواجهم من الأجنبيات — «حتى وإن كانت أعمارهن ضعف أعمار الشباب» — هو فرصة لا ينبغي تفويتها من أجل تحسين مستوى المعيشة.

ووفقًا لصحيفة الشرق الأوسط هناك «أعراف صارمة فيما يتعلق بالزواج من مصريات ومن أجنبيات أيضًا في صعيد مصر على وجه التحديد»، على عكس المراكز الحضرية مثل القاهرة التي بها قدر أعلى بكثير من الانفتاح على الثقافات غير المصرية. نادرًا ما يتواعد الشباب في صعيد مصر أو يقضي أحدهم وقتًا مع الآخر قبل الزواج. وقديمًا كانت الخاطبات توفق بي الطرفين، وبعض الفتيات كن يُخطَبن في سن التاسعة أو العاشرة (وإن كان الزواج ممنوعًا قبل سن الخامسة عشرة). وكثيرًا ما يقع اختيار هؤلاء الخاطبات — بمشاركة أهل الشاب — على فتاة من عائلته، يكونون على دراية بسمعتها ووضعها الاجتماعي والمالي. وغالبًا ما يتزوج أبناء العمومة ضمانًا لاستمرار اسم العائلة. «إذن تشكل ظاهرة زواج الشباب بأجنبيات عجائز لا يعرف أحد عنهن شيئًا تهديدًا بالغًا للنسيج التقليدي للمجتمع.» لأن «الزواج بين أبناء البلد الواحد هو السبيل للحفاظ على النسب والتقاليد سواء للرجال أو النساء.» كما أوضحت صحيفة الشرق الأوسط في هذا السياق. علاوة على ذلك فإن تزايد أعداد الشباب الذين يتزوجون من أجنبيات سنويًّا يقلل فرص الزواج وتأسيس بيت أمام الفتيات في الأقصر، خاصةً وأن عددًا كبيرًا من الرجال يقضون بعض الوقت كل عام في الخارج مع زوجاتهم الأجنبيات. واختُتم المقال بعبارة: «مع مرور الوقت سيتضح ما إذا كان الاتجاه الجديد ظاهرة مؤقتة أم خطوة جامحة بعيدًا عن التقاليد ربما تغير المجتمع الأقصري إلى الأبد.»

ومع الأسف، أخفقت صحيفة الشرق الأوسط — الصحيفة السعودية التي تتحاشى توجيه النقد المباشر للنظام المصري «الشقيق» — في توضيح الأسباب وراء تضاؤل فرصة نجاح الحملات التي تشنها الحكومة بهدف تغيير عقليَّة الشباب المصري؛ فالفساد في المجلس المحلي لمدينة الأقصر متأصل وبلا رقابة شأنه في ذلك شأن العديد من المؤسسات الحكومية الأخرى في مصر، وتجاهله السافر لتلبية احتياجات السكان يعني تضاؤل فرصة نجاة الشباب من شرك الفقر عبر سبل أكثر مشروعية في المستقبل القريب. وهذا الوضع مدعاة للخزي الشديد في مدينة ينفق فيها أكثر من ستة ملايين زائر أجنبي سنويًّا مئات الملايين من الدولارات التي يمكن لنسبة صغيرة منها إذا أُنفقت في أوجهها الصحيحة أن تحد من العديد من المشكلات الاجتماعية. بدلًا من ذلك نجد الوضع مفجعًا للغاية حتى إن سكان المدينة يشيرون في بعض الأحيان إلى المستشفى الحكومي (الذي يعاني عجزًا حادًّا مزمنًا في التمويل) باسم «مستشفى الموت». الأجنبيات إذن نعمة ونقمة في الوقت نفسه، لأنهن يخلقن نوعًا من الرفاهة البديلة لجموع الفقراء الذين لا تلقي الحكومة بالًا للاعتراف بالكثيرين منهم، ناهيك عن تحسين مستوى معيشتهم. أما عن الأسباب السياسية فهناك مجموعة فرعية أخفق مقال صحيفة الشرق الأوسط في ذكرها، وهم الشباب المصري الذين يحاول الهروب من التجنيد العسكري الإجباري الذي يمتد ما بين عام وثلاثة أعوام (اعتمادًا على مستوى التعليم)، وفيه يتقاضى الشاب مبلغًا زهيدًا مقداره عشرة دولارات فقط شهريًّا. يُعفى المصريون المتزوجون من أجنبيات من أداء الخدمة العسكرية أيضًا بسبب فكرة الخوف الأبدية من «الجواسيس». والواقع أن اللوائح تحظر على أي شخص في الجيش أن يتخذ من أي أجنبي — ذكرًا كان أو أنثى — صديقًا على الرغم من عدم تفعيل تلك القاعدة في المنتجعات السياحية التي يغلب عليها وجود الأجانب لأنها قد تستنفد موارد جيش بأكمله لتطبيقها.

غير أن أكثر ما أزعج علاء هو تراجع مكانته الاجتماعية الشخصية نتيجة تلك التطورات. أخبرني أن الكثير من الرجال الذين يتزوجون من أجنبيات هم من صفوف الأميين أو المتكاسلين أو أصحاب الجُنح (وربما تجتمع في الواحد منهم صفتان أو أكثر من هذه الصفات). وإذا كان هذا صحيحًا، فهو سُبَّة في جبين أقرانه من سكان البر الغربي، لأنه يقول إنهم جميعًا تقريبًا تزوجوا من أجنبيات. وأضاف أنه في غضون أيام من لقاء الشاب بالمرأة الأجنبية فإنه عادة ما يحصل على ما يساوي عشر سنوات على الأقل من راتبه الشهري الذي يساوي خمسة وستين دولارًا، ليشتري قطعة أرض ويبني عليها فيلا، إضافة إلى شراء دراجة بخارية أو سيارة على أحدث طراز، وفي كثير من الأحيان أيضًا يفتتح مشروعًا تجاريًّا صغيرًا. ولم يتمالك علاء نفسه من الضحك وهو يتعجب بشأن الأموال التي يجنيها الرجال عن طريق إقامة علاقات جنسية مع الأجنبيات. سألني هل أتذكر ذلك الشاب الذي يدعى محمد، والذي عمل في الفندق عندما كان هو يجلب السياح من المطار ومحطة القطار مقابل عمولة. والحقيقة أني كنت أعرفه تمام المعرفة؛ فقد تباهى أمامي مرة كيف أنه يتحين «فرصته الكبرى»، بل وتفاخر أيضًا بأنه لم يكن يرتدي سروالًا داخليًّا أسفل بنطلونه الأبيض الضيق حتى تلاحظ على الفور كل امرأة أجنبية يلتقي بها آثار فحولته الظاهرة. أخبرني علاء أنه قبل نحو شهر حالف الحظ محمدًا، إذ ابتعلت امرأة إنجليزية الطُعم، وتزوج منها، ولديه الآن سيارة أجرة وقطعة أرض في قرية أخرى في البر الغربي يخططان لبناء منزل عليها.

قال علاء بصوت ملؤه المرارة: «إذا عملت طوال حياتي، وادخرت كل قرش أجنيه، فلن أمتلك أبدًا ما يمتلكه هو. وهذا حال البلد بأكملها: كل المحترمين في الحضيض، وكل الرعاع على القمة. عندما كنت في المدرسة كان المدرس أكثر أهل القرية احترامًا. عندما كان يسير في الشارع، كان الطلبة يتنحون جانبًا ليفسحوا الطريق أمامه. والآن ينظرون إليك نظرة شفقة إن كنت مدرسًا، ويسخرون من أنك غير مؤهل للزواج من أجنبية، إما لأنك دميم الخلقة أو صاحب أفكار رجعية.»

عندما سمعت هذا التعليق الأخير خطر ببالي أن كثيرًا من إحباط علاء يعود في واقع الأمر إلى الغيرة وليس الغضب؛ فشخص مثله ليس على قدر كبير من وسامة الخلقة كان دومًا موضع تجاهل الأجنبيات اللاتي ربما تساوى انجذابه إليهن مع نفوره منهن. تأكد شكِّي هذا عندما التقيت به في المرة التالية بعد بضعة أشهر من زيارتي الأولى لمنزله. كنت قد أخبرته في مكالمة هاتفية أني سآتي من القاهرة إلى الأقصر، وأني سأبقى بها بضعة أيام فحسب قبل الذهاب إلى أسوان. كانت زوجة علاء قد أعدت لنا وجبة شهية، لكن بدا التوتر عليه منذ البداية. اكتشفت أنه كان يعد نفسه ليطلب مني أن «أعيره» خمسة آلاف دولار ليفتتح مشروعًا صغيرًا على الطريق الرئيسي خارج القرية. ثم أخبرني أني لو أعطيته عشرين ألفًا أخرى فسيكمل بناء الطابق الثاني من منزله، ويسمح لي بالنزول فيه بلا مقابل كلما مررت بهم. كان يتحدث عن هذه المبالغ كأنها لا تساوي شيئًا في نظر أجنبي مثلي. أخبرته أني «سأفكر في الأمر»، وأعود إليه بعد بضعة أسابيع. وفي اليوم التالي، غيَّرت رقم هاتفي المحمول، ولم أتحدث إليه ثانية.

إذا كان على استعداد لاستغلال صديق له هكذا، فكيف سيعامل أجنبية عجوزًا إذا تزوجها؟

•••

من هؤلاء الأجنبيات العجائز؟

بوجه عام (ولا مفر من التعميم في ظل غياب الدراسات الأنثروبولوجية الدقيقة)، كثيرات من هؤلاء اللاتي التقيت بهن أثناء مرات إقامتي في الأقصر، وكثير من الحكايات التي سمعتها عنهن من مصريين آخرين بعد حديثي مع علاء تشير إلى أن معظمهن مطلقات إنجليزيات في الخمسينات أو الستينات من أعمارهن يتمتعن بقدر من الجمال، وحاصلات على التعليم الأساسي فقط. وفي حين أنهن موسرات وفق المعايير المحلية، فهن يعشن على أدنى حد من المدخرات (على سبيل المثال، أرباح مبلغ بعن به شقة في إنجلترا) ومعاش حكومي إذا كانت أعمارهن (كما هو الحال دائمًا) تسمح لهن بالحصول على المعاش. وقد تقبلت النساء اللاتي صدمني رضاهن الكامل منذ البداية فكرة أنه لا مكان للحب مع رجال المدينة، وأن العلاقة في جوهرها نوع من البغاء يرتدي ثوب الشرف. فهن يبسطن سيطرتهن — إذا جاز التعبير — ويحصلن على أعلى قدر من المتعة الجنسية مع شباب وِسام الخلقة لن يعيروهن اهتمامًا (بل لن يبالون بهن مطلقًا) عند الذهاب إلى إنجلترا.

تحدثت مع امرأة إنجليزية — تمتلك مشروعًا تجاريًّا في البر الغربي — من هؤلاء، وعرفت أنها ما زالت مندهشة من كونها محط الأنظار هكذا بعد مضي ثلاث سنوات على إقامتها في الأقصر.

ظلت تكرر وهي تدير عينيها في ضجر وتطقطق بفمها على نحو مبتذل: «زوجي أصغر مني بكثير.»

لم يكن من الصعب فهم السبب وراء إعجابها بنفسها إلى هذا الحد؛ والحقيقة أنها كانت شمطاء كأن حافلة دهستها. كان زوجها المصري متزوجًا من أخرى مصرية، ومن ثم كان يزور هذه الزوجة البريطانية بضع مرات قليلة كل أسبوع، حيث يؤدي المهمة المحددة التي تحتاجه من أجلها ويتقاضى في مقابل ذلك حسنة من المال.

أضافت وهي تدير عينيها وتطقطق بفمها مجددًا: «زوجي يغار علي كثيرًا.» لكن هذه المرأة كانت استثناءً.

الغالبية العظمى منهن يتورطن في علاقات مشينة يغلب عليها طابع الاستغلال المتبادل مع محتالين متمرسين يبغون من ورائهن ما هو أكثر من المتعة الجنسية فقط. والتطابق الكبير بين الحكايات التي يروينها — أو التي تُروَى عنهن — يدلل على وقوعهن في الشَرك نفسه (بل إن الرجل الواحد قد يكون بطلًا مشتركًا في عدة روايات). ليس من الأخلاق أن نتحدث عن أمثلة بعينها، كي لا نكشف الحياة الخاصة للنساء على الملأ، لذا سوف أزعم أن القصة تشبه النموذج التالي.

في البداية تبتهج المرأة بالاهتمام الذي يبديه نحوها شاب مصري يتحدث الإنجليزية ويجلس مصادفة — على ما يبدو — بجوار طاولتها في أحد المطاعم أو يسير بجوارها في الشارع. وبعد محادثة قصيرة، توافق على الخروج معه لتناول مشروب في الليلة التالية، وفي إحدى النزهات على الكورنيش، تنخدع بإعلانه عن مشاعر حبه المتأججة. وخلال ما تبقى من إجازتها توازن بين الفرص المتاحة أمامها هنا (طقس جميل، ومتعة جنسية، وفيلا فاخرة، ونفقات معيشية ضئيلة) وبين حياتها إذا عادت إلى موطنها (عدد أقل من الأصدقاء بعد الطلاق، وشقة صغيرة، ونفقات هائلة، وطقس بغيض). تعود مرة أخرى إلى مصر لقضاء عطلة ممتدة — ربما شهرًا أو شهرين — وتتزوج الرجل الذي سيساعدها في بدء حياة جديدة (لا يستلزم عقد الزواج العرفي أكثر من ورقة موقعة). تعطيه أموالًا كثيرة ليشتري قطعة أرض ويبني عليها منزلًا لهما، لكن بعد أن تتعرف على أسرته المُعدمة — التي تعيش في قرية فقيرة أكواخها من الطوب اللبن في البر الغربي — يبدأ ابتزازها عاطفيًّا بسرد روايات مفجعة عن حاجة أخيه الصغير إلى المال من أجل التعليم، أو حاجة أمه الماسّة إلى المال لإجراء عملية جراحية تتوقف عليها حياتها. ومع إدمانها للجنس، وتشتتها وسط ثقافة لا خبرة لها بها، وتخليها عن أصدقائها من أبناء جلدتها (وربما تكون قد باعت شقتها في إنجلترا أيضًا)، فإنها ترضخ مرارًا وتكرارًا. وتقول لنفسها إن المبالغ التي تُطلب منها على أي حال ضئيلة نسبيًّا مقارنة بما قد تضطر لدفعه في ظروف مشابهة في إنجلترا، علاوةً على أنها سعيدة بتقديم يد العون لأسرة مضيافة تستحق المساعدة. لكن مع مرور الشهور تتزايد الأموال التي تدفعها أكثر فأكثر، دون أن يكون هناك حد لما يُطلب منها. وفي نهاية الأمر، تتخذ موقفًا حازمًا بعد اكتشافها أنها تتعرض للخديعة، وكثيرًا ما يكون ذلك بعد لقائها بمغتربات أخريات (بذل زوجها قصارى جهده كي يبقيها بعيدًا عنهن) وسماعها منهن حكايات عن أنها الزوجة الأجنبية العاشرة التي «يقع هذا الشاب في حبها» في السنوات الأخيرة، وجميعهن قد استُنزفت مواردهن أيضًا. عندئذٍ تخبره بأن هذا يكفي. وفي غضون دقائق تُطرد من البيت ومعها حقيبة سفرها فحسب؛ لا أحد في بيت زوجها أو في القرية التي اعتبرتها نموذجًا لحسن الضيافة قبل بضعة أشهر سيتحدث إليها بعد الآن. يصلُها نبأ طلاقها، وتقيم في فندق متواضع هو كل ما تقوى على تحمل نفقته بعد أن فقدت كل ما اشترته (الأرض والمنزل والسيارة والمشروع التجاري) لأنه خدعها ووقَّع على كافة العقود باسمه. وحتى إن كانت العقود باسمها، فإن المنظومة القضائية الهزلية تعني أنها ستقضي سنوات إن لم يكن عقودًا في محاولة الحصول على حكم إذا أقامت ضده دعوى؛ وإذا حصلت على حكم لمصلحتها فستكون قد أنفقت أكثر مما ستحصل عليه في تقديم الرشا للمسئولين ودفع أتعاب محاماة باهظة، لأن جهلها باللغة العربية يجعلها لا تفهم شيئًا مما يجري أثناء نظر الدعوى القضائية. وحينها تتخذ قرارًا بأن إيقاف الخسائر أفضل لها. وبعد بضعة أسابيع من تضميد جراحها تخرج في رحلة البحث عن عاشق مصري آخر، وتبدأ القصة الهزلية من جديد. وربما ترى زوجها السابق في أحد المطاعم يتحدث مع عجوز أجنبية أخرى وقد وضع يده فوق ركبتها ورماها بنظرة هيام عميقة …

الواقع أن مثل هذه الزيجات لا تنتهي في بعض الأحيان تلك النهاية المسالمة، وهو ما يؤكد على صحته إبراهيم السيد موسى المرشد السياحي بالأقصر الذي يقضي حاليًّا عقوبة السجن مدة خمسة عشر عامًا؛ فقد تزوج من ألمانية، وأنجبا ثلاثة أطفال، لكن عندما لم ينجح الزواج غادرت زوجته مصر فجأة عام ٢٠٠١، واصطحبت معها أبناءها. وعندما اكتشف الزوج أنهم في ألمانيا، حاول اللحاق بهم، لكن السفارة الألمانية رفضت منحه تأشيرة السفر. وفي نوبة جنون اختطف أربعة سياح ألمان في الأقصر، وحاول أن يقايض إطلاق سراحهم باستعادة أبنائه. وفي النهاية أُطلق سراح الرهائن، ونُقِل هو إلى السجن.

بالطبع لا تبوء كل الزيجات التي تجمع بين ثقافتين في الأقصر بالفشل الذريع، لكن الروايات تشير أن الكثير منها كذلك. ومن الصعب تصور استمرار أي من هذه الزيجات على المدى الطويل؛ فإذا كان عمر الرجل خمسة وعشرين عامًا وعمر المرأة خمسة وستين عند الزواج، فمن يظن جديًّا أنهما سيكونان معًا بعد خمسة عشر عامًا، أي عندما يكون عمره أربعين عامًا وعمرها ثمانين؟

•••

تُكِّن الأجنبيات العزباوات اللائي يسافرن إلى مصر أو يدرسن فيها وأولئك اللاتي تزوجن من مصريين في ظروف عادية (كأن كانوا على سبيل المثال زملاء دراسة أو زملاء عمل في مكان واحد) احتقارًا بالغًا للعجائز الإنجليزيات اللائي يجُبْن شوارع الأقصر وشرم الشيخ والغردقة والأماكن السياحية الأخرى باحثات عن المتعة. وسبب هذا الشعور أنهن يسِئْن إلى سمعة كل الأجنبيات، بحيث يُنظَر إليهن على أنهن لقمة سائغة، على الرغم من أن الرجال المصريين هم من يمارسون البغاء لأنهم هم الذين يحصلون على المال مقابل خدماتهم.

لكن العواقب الوخيمة الأبعد من هذا تبدأ من هنا؛ فحتى الأجانب الذين يصطحبون زوجاتهم الأجنبيات إلى مصر يتملكهم الغضب بسبب الاهتمام الزائد بزوجاتهم، وهذا ليس قاصرًا على الأقصر وحدها. فالمصريون من كل مكان في مصر يسافرون للعمل في المنتجعات السياحية، وقد بلغت سمعة الأجنبيات العجائز الحضيض في جميع أنحاء مصر. لذا صارت المشاحنات مشهدًا مألوفًا، وفي بعض الأحيان، تكون العواقب مهلكة.

في انعكاس غريب لنظرية «تلويث الثقافة»، حُكِم على بريطاني بالسجن مدى الحياة عام ٢٠٠٧ بعد أن ارتكب ما يمكن أن نسميه «جريمة شرف» بأن ضرب زوجته البريطانية ضربًا أفضى إلى وفاتها. والسبب في ذلك علاقتها برجل أصغر التقت به عندما كانا يقضيان العطلة معًا في مصر. وفقًا لما ذكرته صحيفة «ذا ديلي إكسبريس» فإن رون جونسون البالغ من العمر ثلاثة وخمسين عامًا استشاط غضبًا لأن زوجته سو البالغة من العمر تسعة وأربعين عامًا وقعت في حب سائق سيارة أجرة مصري يصغرها بخمسة عشر عامًا. استمعت هيئة المحلفين كيف أن الزوجين حجزا رحلة تستغرق أسبوعين إلى مصر، للتسرية عن نفسيهما وتجديد علاقتهما الزوجية التي مضى عليها اثنان وثلاثون عامًا بعد أن فشلت خططهما في الانتقال إلى قبرص. استأجر الزوجان مصريًّا يدعى سعد الإمبابي ليرافقهما في رحلتهما، وسرعان ما ثارت ثائرة جونسون عندما رأى الرجلَ يغازل زوجته. قال إنهما كانا «يتواريان خلف المعالم الأثرية ليختلسا القبلات». وعندما ركب الثلاثة الخيول فوق رمال الصحراء، «بدا الاستياء» على جونسون الذي قال في التحقيقات إن سعد «كان يحاول دائمًا التقرب من زوجته سو، وملامستها علانية. ظللت أقول: «ما هذا! إنها زوجتي.» فأجابني مازحًا إنه سيذبحني.» كانت الزوجة تمر بما يسمى أزمة منتصف العمر، ورأت في سلوك المصري «اهتمامًا زائدًا». وبعد انتهاء العطلة، تبادل الاثنان الرسائل الهاتفية والإلكترونية، وعادت السيدة جونسون بعدها بفترة قصيرة إلى مصر بعد أن أخبرت زوجها أنها شعرت ﺑ«صعقة كهربية» عندما لمسها الإمبابي. وبعد عودة الزوجة إلى منزل الأسرة في نوتينجامشاير، هشَّم جونسون رأسها بمطرقة أثناء نومها، ثم طعنها بسكين. بعدها أقدم على الانتحار بابتلاع كمية كبيرة من المسكنات وشنق نفسه بطوق الكلب وطعن عنقه بمثقاب كهربائي، لكنه نجا بعد كل تلك المحاولات، وحُكم عليه بالسجن.

لهذه المشكلة تأثير على الطرفين إذن. فالأجنبيات العجائز اللاتي يجهلن التقاليد المصرية أو لا يُعِرنها اهتمامًا كبيرًا يظهرن بمظهر من يدمر النسيج المجتمعي للثقافة القبلية المتحفظة في صعيد مصر. لكن حري في الوقت نفسه بالمصريين أن يتعلموا ضرورة معاملة الآخرين بمثل ما يحبون أن يعامَلوا هم به. ذلك أن الكثيرين منهم أيضًا غارقون في الجهل عندما يتعلق الأمر بالسلوك الذي تسلكه الأجنبيات العجائز في المعتاد، وذلك بسبب التعميم، في ضوء أن فئة قليلة نسبيًّا من هؤلاء يبحثن عن «التودد الصريح».

ولنتحدث عن الرياء الأكثر سماجة؛ فسائق سيارة الأجرة المصري الذي أغوى السيدة جونسون ما كان ليمزح قطعًا عند الحديث عن «ذبح» أي رجل يكاد يُلْمح برغبته في إقامة علاقة مع زوجته المصرية.

•••

وإذا كانت المسافرات الأجنبيات العزباوات يقضين وقتًا عصيبًا في الأقصر، فهذا لا يقارن بما يعانيه الأجانب الذين يسافرون بمفردهم إليها.

اكتشفت أعداد كبيرة من السياح الغربيين المثليين أن المواقع الإلكترونية المخصصة للحديث عن المثلية تصنف الأقصر على أنها مرتع للمثليين. وتركز هذه المواقع على تقديم أحدث المعلومات التي تهم المثليين الأجانب الذين يبحثون عن علاقات جنسية مدفوعة الأجر مع أبناء المدينة، فيما يبدو أنه تشجيع للمفهوم الغربي الدخيل عن «حقوق المثليين» في دولة تضم نخبة ضئيلة من «المثليين» المتحضرين الذين يرتدون عباءة الغرب الذين يستطيعون أو يرغبون في الحديث عن تلك الحقوق.

حرصت الأجنبيات العجائز اللاتي علَّقن في المواقع الإلكترونية التي تتحدث عن مدينة الأقصر والتي أعادت طبع مقال صحيفة الشرق الأوسط — حسبما اكتشفت مؤخرًا من تصفح تلك التعليقات — على الإشارة إلى أنهن لسن الوحيدات اللاتي يُلقى باللوم عليهن في مسألة انتشار البغاء بين الرجال في المدينة. وتساءلن لماذا لا يسلَّط الضوء أيضًا على المثليين الغربيين الذين يتدفقون إلى الأقصر؟ الجواب بالطبع هو أنه لمَّا كان الموضوع من المحظورات في المنتديات العامة الناطقة باللغة العربية فإن الصحفي الذي كتب المقال في الشرق الأوسط لم يجد بدًّا من تلافي الحديث عنه. ويا للأسف، عندما يُطرح هذا الموضوع ذو الصلة للنقاش تتجاوز العديد من الأجنبيات حدود النقاش العقلاني وتستخدمن لغة مقززة يصببن من خلالها جام غضبهن دون تحفظ على من يشيرون إليهم بأنهم مثليين أجانب «متعددي العلاقات» يمارسون الجنس مع شباب المدينة أثناء عطلاتهم القصيرة و«يفسدون» الشباب و«يدمرون التقاليد المتعارف عليها في المدينة» على نحو لا يُتَّهمْن هن بفعله مطلقًا. وبالتأكيد وجدت هيستيريا ممارسة الجنس مع الأطفال التي تدفع الطبقات العاملة في بريطانيا نحو الجنون مكانًا لها على ساحة النقاش. بل إن بعض المشاركات اقترحن ضرورة البدء في تعيين حراسة على الشقق المعروف أن لدى مستأجريها ميولًا جنسية نحو صغار السن، على الرغم من عدم تقديم أي دليل يثبت صحة ذلك. فكرت أن هذه المبالغة في رد الفعل هي نموذج متوقَّع من فئة مجتمعية مهمَّشة لديها مشاعر غضب شديد من الاتجاه العام السائد، ومن ثم تبعد الاهتمام عن نفسها عن طريق محاولة تجسيد مجموعة أخرى أقل عددًا بل وأسوأ وضعًا على أنهم شياطين.

وعلى أي حال، الحقيقة هي أن العلاقات الجنسية بين الشباب — على عكس العلاقات بين الشباب والعجائز — تمثل جزءًا من النسيج المجتمعي في الأقصر، وهذا وضع قائم منذ قديم الأزل. التقاليد والأعراف القبلية هي التي تحظى بالأولوية في صعيد مصر: فحتى نموذج الإسلام الصوفي المتبَّع في المنطقة يأتي في مرتبة أدنى من تأثير القبلية. ويمكنك عدُّ مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين في الأقصر على أصابع اليد الواحدة. لم يراود القائمين على صحيفة الشرق الأوسط الممولة من السعودية — التي تروج الفكر الوهابي الذي يرعاه آل سعود — أنهم ملزمون بالإشارة ولو من بعيد إلى أن السياحة الجنسية من شأنها أن «تقوض الإسلام» في المنطقة.

تحتِّم التقاليد القبلية ضرورة صيانة شرف المرأة مهما كلف الأمر، وفي ظل غياب الفرص الأخرى لممارسة الجنس قبل الزواج، يُنظر إلى الشذوذ على أنه بديل مقبول. لكن أهم ما في الأمر ألا يكون موضع نقاش أو يؤدَّى على نحو يلفت الانتباه، ومن ثم يؤدي إلى القيل والقال، وأن يحرص الفتى على ألا يشتهر باستمتاعه بممارسة الدور السلبي في العلاقة؛ لأنه إن فعل ذلك، فسيعتبر داعرًا، وسيفقد كرامته، ويعاني مما سيترتب على ذلك من تفكير أصدقائه في أن لهم الحق في مضاجعته وقتما شاءوا. وليس معنى هذا — عند الحديث عن تداعيات تدفق المثليين الأجانب — أن ظاهرة بغاء المثليين ليست لغز «الدجاجة والبيضة». أثناء تصفحي لتعليقات الأجنبيات العجائز التي غلبت عليها فوبيا الشذوذ الجنسي، تذكرت حوارًا طريفًا سمعته مصادفة بين يمني وأمريكي في السعودية. وصف الأمريكي اليمنيين القبليين متهكمًا أنهم مشتهرون بلواط الأطفال.

قال اليمني مازحًا: «نعم، تعلمنا ذلك من الإنجليز.»

رد عليه الأمريكي بسرعة: «كلا، لقد قرر الإنجليز البقاء في اليمن واستعمارها فقط بعدما اكتشفوا انتشار تلك الظاهرة لديكم!»

•••

ذات يوم في السوق حيث المكان الذي اعتدت التجول فيه عندما أكون في الأقصر، أطلَّ فتى طويل القامة وسيم الخلقة عمره نحو ستة عشر عامًا يرتدي ملابس جديدة ويستعرض بتباهٍ قَصة شعره الجديدة، ويستمع إلى أغاني مطربه المفضل على مشغل الموسيقى الجديد (في الوقت الذي لا يتحدث فيه مع أحد أصدقائه عبر هاتف نوكيا الأحدث طرازًا). بعد أن قضى الفتى بعض الوقت في التأنق أمام مرآة نافذة أحد المحلات، جلس في المقهى على طاولة قريبة مني، ودعا رفاقه لتناول مشروب بارد، ثم استعدوا للعب الطاولة.

مازحه أحدهم بعد مرور بضع دقائق: «من يكون يا تُرى؟»

أجاب الفتى: «إنه من إنجلترا.»

سأل آخر: «كم سيقضي من الوقت هنا؟»

– «أسبوعين. انقضى منهما أسبوع، وسيغادر بعد أسبوع.»

سأل فتى ثالت: «وهل جاء إلى هنا من قبل؟»

– «نعم، هذه زيارته الثانية. إنه يقيم في الإسكندرية، لكنه يفكر في الانتقال إلى هنا العام المقبل.»

ألح عليه أحدهم: «هل سيشتري لك دراجة بخارية؟»

أجاب دون اكتراث: «بإذن الله، لكني لم أطلبها منه بعد.»

رشفتُ الشاي، وواصلت قراءة الجريدة. سمعت هذا الحوار مرات عديدة شأني في ذلك شأن أهل المدينة الذين كانوا يستمعون إليه أيضًا. قد يبدو إجراء حوار كهذا على الملأ في نظر الكثيرين في الغرب أمرًا غريبًا — وهذا أقل ما يوصف به — لأن هناك اعتقادًا سائدًا بانتشار فوبيا الشذوذ الجنسي في العالم العربي وفي مصر على وجه الخصوص. لكن نظرًا لأن الفتى يفترض أنه الطرف الفاعل في علاقته مع الأجنبي «المثلي» — أو على الأقل ليس الطرف السلبي — فإنه لا يخجل من الاعتراف بالعلاقة، وباعتبار الأجنبي غريبًا فلا يُتوقع منه الالتزام بالأعراف والقيم المحلية. وصل الأمر إلى حد إشارة أهل البلد إلى الأجنبيات العجائز بكلمة «مثليات» لأن الاسم في نظرهم يشار به فقط إلى أي فرد — ذكرًا كان أم أنثى — يلعب الدور السلبي في العلاقة.

وهكذا فلا يوجد هنا تقريع المثليين على غرار ما يحدث في الغرب، ولا اضطهاد منظم ضدهم، لأن أهل المدينة لا يعرفون مفهوم «المثلية» السائد في الغرب بمعنى اختيار الشخص أن «يحيا حياة المثليين»؛ وهو أمر بغيض كليةً حتى في نظر أكثر فتيان البلد حماسًا، لأنه يهدد التسلسل الهرمي القبلي ذي الأهمية البالغة. وما دام صديق الفتى الغربي المسنّ موجودًا في المدينة، فإن الضغط الوحيد الذي قد يواجهه هذا الفتى هو إلحاح أصدقائه المستمر لاصطحابهم إلى شقة الأجنبي، أو إغداق الثروة التي وجدها مؤخرًا عليهم.

في حين تتخذ علاقات الأجنبيات العجائز مع الشباب من مسمى الزواج العرفي غطاءً قانونيًّا، يتخذ المثليون الغربيون من مسمى «الصداقة» غطاءً اجتماعيًّا في تلك البيئة الذكورية لتبرير علاقته مع الشاب. وليس معنى هذا أن أحدًا سيطلب منه هذا التبرير؛ فما يفعلانه خلف الأبواب المغلقة ليس من شأن أحد. وما دام الطرف المصري في العلاقة ليس طفلًا — إذ يُحاط الأطفال ببالغ الحب والحماية — فسيكون من المشين (والمحظور) أن يتحدث أحد من أهل المدينة عنها، وإن أصر على ذلك، فسوف يخلق على الأرجح عداوة دائمة بينه وبين عائلة الشاب. حسن التمييز إذن هو اسم اللعبة. وصحيح أن الفتى قد يكون من عائلة فقيرة، لكن الأقصر تخلو من الأطفال الذين يتضورون جوعًا ويعانون التشرد وإدمان الكُلَّة (لصق الأحذية) كهؤلاء الذين يتعرضون مع الأسف لاستغلال سائحي الجنس في البلاد العربية الأخرى مثل المغرب وتونس. وهكذا، ما لم يكن ذهاب الشاب إلى شقة الأجنبي نابعًا من رغبته هو، فالنتيجة الأكيدة أنه لن يذهب، وأفضل ما يمكنه فعله عندها هو الكف عند هذا القدر من التورط في العلاقة، وترك مسألة الإنفاق المادي على أسرته.

عادةً ما يُقدَّم هؤلاء الرجال من الغرب — المعروفين تاريخيًّا بانجذابهم نحو العالم العربي لأنهم يرون عهد تحرر المثليين في الغرب مختزَلًا وكابتًا — إلى أسرة الشاب المصري حيث يشار إليهم باسم «عمه». وقد دامت بعض علاقات الصداقة هذه في الأقصر سنوات عديدة، بل استمرت بعد بلوغ الفتى أشده وزواجه.

إذا كانت الأمور تسير على هذا المنوال الهادئ دائمًا، فإني أجد رغبة في الثناء على تحررية وتساهل هذه العلاقات، خصوصًا أنه كثيرًا ما يصوَّر العرب في الغرب على أنهم متكلفو الحياء ومكبوتون فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية. لكن إن كان إحساس المصريين بالكبرياء هبة عبد الناصر لهم، فإن لعنة مبارك عليهم أنه خلق مناخًا ثقافيًّا صارت فيه الانتهازية الصفيقة وانعدام الكرامة هي الطبائع الوحيدة المميِّزة للشخصية. ففي بلد ينهب ذوو النفوذ فيه خيراته ونسمع فيها كل يوم عن فضائح تهريب الوزراء لعشرات الملايين من الدولارات إلى بنوك أجنبية، أصبح يُنظَر إلى السرقة والاحتيال على أنهما السبيل الوحيد للتقدم.

في مدينة الأقصر هذه الأيام، أصبح الحديث عن ظاهرة الشذوذ الجنسي مع الفتية — التي كان يُستلذ بممارستها قبل ذلك في الخفاء لكن على نطاق واسع — جهارًا نهارًا، وتحولت إلى تجارة نتيجة تدفق المثليين الأجانب إلى المدينة. فأي غربي أعزب الآن — سواء أكان يحب الفتيان أم لا — سرعان ما سيكتشف أن حياته على نحو طبيعي تكاد تكون مستحيلة. فنصف فتية البلد على الأقل على استعداد لبيع جسدهم بلا أدنى تفكير لأي غربي، وهذا ما يفعله الكثيرون منهم عادةً شريطة ألا يُنتظَر منه أن يكون الطرف السلبي في العلاقة.

•••

اجلس في أحد المقاهي التي لا يعرفك فيها أحد، وفي غضون دقائق ستجد نفسك محاطًا بفتية من أبناء البلد يريدون أن يعرفوا هل أنت متزوج أم لا، وإن اكتشفوا أنك لست متزوجًا فسيسألونك هل تود اصطحاب أحدهم إلى شقتك. اذهب إلى حمام السباحة العام في المدينة وسوف يشير المراهقون المارُّون بك إلى الجزء السفلي من جسدهم بابتسامة متكلفة دنيئة؛ وهي دعوة لممارسة الجنس الفموي في مقابل الأجر المناسب. جميعهم يتابعون أحدث صيحات السياحة ويعرفون بأمر المواقع التي تتحدث عن المثلية والأماكن التي تحددها هذه المواقع على نحو يثير السخرية على أنها «أماكن تجوُّل المثليين» (كأن في الأقصر مكانًا لا يندرج في هذه الفئة). إذا حدث ومررت بأحد هذه الأماكن، فسيُفترض على الفور أنك تبحث عن صيد. حتى وإن طلبت من الفتية العابثين ذوي النظرات الشهوانية أن يغربوا عن وجهك، فسيتبعك واحد على الأقل (أو أكثر في كثير من الأحيان) وقتًا يبدو طويلًا جدًّا على أمل أنك ستلتفت إليه عاجلًا أم آجلًا وتتحدث معه. وإذا استأجرت شقة، فمن الأفضل أن تطلب من البواب في اليوم الأول ألا يسمح بدخول أي شخص يزعم أنه صديقك تحت أي ظرف، وإلا لن يتوقف دوي الطرقات على الباب من شباب يجربون حظهم واحدًا تلو الآخر.

يبدو أن السلطات المصرية لا تخرج عن سكونها إلا عندما يصل الأمر إلى حد الصور الإباحية لما فيها من تهديد فعلي بأنها «تشوه صورة مصر في الخارج». غير أني أذكر واقعتين فحسب تدخلت فيهما الشرطة. الواقعة الأولى تورط فيها غربي رسا بيخته على ضفاف نهر النيل، ثم أقام علاقات جنسية مع عشرات الشباب داخل اليخت مصحوبة بالتقاط الصور. تسرب عدد من الصور إلى يدي أحد أفراد شرطة السياحة (إضافة إلى بقية أهل البلدة؛ جميع من ذكرتُ لهم تلك الواقعة بعد سماعي عنها للمرة الأولى كادوا يزعمون رؤيتها، بل إن أحدهم عرض أن يُحضر لي نسخة منها مقابل الحصول على المال). أما بطل الواقعة الثانية فكان غربيًّا التقط له أحد الفتيان صورًا دون معرفته باستخدام كاميرا هاتفه المحمول وهو يمارس الجنس مع عدد من أصدقاء الفتى الذي حاول بعدها ابتزازه مهددًا إياه بنشرها على الإنترنت. المثير للدهشة أن الرجل تقدم بشكوى إلى شرطة السياحة التي ألقت القبض على الفتية، وطلبت من الأجنبي مغادرة البلاد على متن أول طائرة. (جدير بالذكر أيضًا أن الشرطة طلبت من صاحب اليخت أن يبحر من البلد أو من المدينة على الأقل.) لم يعرف أي شخص تحدثتُ معه عن الواقعة نوع العقاب — إن كان هناك عقاب من الأساس — الذي وُقِّع على هؤلاء الفتية. أجمع الكل على أنهم على الأرجح تعرضوا للضرب، ثم أُطلق سراحهم.

تلك إذن هي المدينة «الصديقة للمثليين» التي تروِّج لها المواقع الإلكترونية التي جذبت حتى الآن مئات — وربما آلاف — المثليين الغربيين إلى الأقصر كل عام. وعندما ننظر لتلك الأرقام الهائلة نجد مع الأسف أن عددًا كبيرًا من هؤلاء يتصرفون بصفاقة شأنهم في ذلك شأن أبناء البلدة (وإلا فلماذا يتوقع أبناء البلدة الأسوأ دائمًا؟) في يوليو/تموز ٢٠٠٧، صار السلوك الغريب الذي أتى به أحد الأفراد حديثَ المدينة؛ فسلوكه يوضح كيف أن انتشار البغاء بين المثليين الذكور قد يكون له تبعات وخيمة حقًّا على الجيل القادم في الأقصر. كان الكهل الإنجليزي — الذي اعتاد زيارة مصر منذ سنوات — مصابًا بمرض الإيدز، وأخبره طبيبه مؤخرًا أن أيامه في الحياة صارت معدودة. رأى الرجل رغبة في ممارسة الجنس قبل وفاته، واختار الأقصر لتكون مثواه الأخير. وطوال الأسابيع الأخيرة من حياته كان قوَّاده يأتيه باثني عشر فتى على الأقل كل يوم. أقام هؤلاء الفتية علاقات مع الرجل — واحدًا تلو الآخر — دون استخدام واقٍ ذكري. وعندما بلغت تلك الأنباء مسامع أحد أصدقاء هذا الرجل — الذي كان مثليًّا هو الآخر لكن على علاقة طويلة مع أحد أبناء المدينة — هدده بإبلاغ الشرطة؛ لكن الرجل طمأنه في البداية إلى أنه يمارس الجنس الآمن. ولمَّا لم يقتنع الصديق، سأل القوَّاد الذي أخبره أن شباب المدينة لا يستخدمون الواقي الذكري أبدًا سواء بعضهم مع بعض أو مع الأجانب (ما لم يصر الأجنبي على ذلك)، وفي تلك الحالة لم يصر الأجنبي على شيء. ثارت ثائرة الرجل، وقرر تسليم صديقه إلى الشرطة، لكن لم تتح له الفرصة لذلك؛ فقد أخبر مريض الإيدز قوَّاده أنه يرغب في النوم بعد مضاجعة عشرة شباب ذلك اليوم، ووافته المنية أثناء نومه.

أقام «أصدقاء» الرجل المصريون حفلة على شرفه، واتضح أنه ترك ثروته الضخمة للقوَّاد. وما زاد الطين بلة أن أخته — التي كانت ترافقه في رحلاته إلى الأقصر منذ سنوات — نثرت رماد جثته فيما بعد في مياه النيل.

يقول إدجار في مسرحية «الملك لير»:
الأسوأ ليس هو الأسوأ حقيقةً
ما دام بإمكاننا أن نقول:
«هذا هو الأسوأ.»

حرِيٌّ أن تُكتب هذه المقولة على المدخل الرئيسي لمدينة الأقصر. فالأسوأ من الواقعة نفسها أن الجميع كانوا على علم بما يحدث قبل وفاة الرجل؛ ليس المواطنون فحسب وإنما رجال الشرطة أيضًا. فالشرطة على علم بكل ما يجري في المدينة — بفضل شبكة مخبريها السريين المنتشرين في مناطق شتى — خاصة مع مستأجري الشقق، لأن مخبري الشرطة الرئيسيين يعملون حراسًا لمداخل العقارات. بل إني عرفت حكاية الرجل قبل وفاته بيومين أو ثلاثة أيام عندما كنت أتناول مشروبًا مع أحد الأصدقاء.

قال لي: «في كل مرة أراه يسير في الشارع أقول بصوت عالٍ: «اللهم أرِحْنا من هذا الرجل! اللهم أهلِك من يقتل شبابنا.»»

فقد صديقي هذا صوابه عندما أشرت عليه بإبلاغ شرطة السياحة.

نهرني بلهجة فجة ليست من عادته قائلًا: «أأنت غبي إلى هذا الحد؟ سوف يلقون القبض علي بتهمة إثارة القلاقل! وسوف يقول الفتية إنهم أصدقاؤه، وينكرون علاقتهم الجنسية معه. ماذا سأفعل وقتها؟ سوف يتحزب الفتية ضدي ويؤذونني. أضف إلى ذلك أن جميع أفراد الشرطة يحصلون على رِشَا من القوَّاد؛ كعلبة سجائر هنا وبضعة جنيهات هناك. لا يمكن لأحد هنا أن يشكو مما يفعله أي أجنبي. فلو أوسعتني ضربًا الآن وبلا سبب، سوف تلقي الشرطة القبض عليَّ، ويسألونك إن كنت بخير أم لا. فأنتم أيها الأجانب تتمتعون بالحصانة.»

كان هذا الرجل استثناءً في غضبه؛ فكل شباب البلد الذين تحدثت معهم عما حدث بعد وفاة الأجنبي كادوا يضحكون، ويصفون الفتية الذين ذهبوا إلى الرجل بأنهم «حَمير»، وقالوا إنهم يستحقون مصيرهم لو أنهم كانوا يعلمون أنه مريض بالإيدز.

•••

لم أستطع تفهُّم رد الفعل الشعبي إزاء إلقاء القبض على سفاح أطفال في ديسمبر/كانون الأول عام ٢٠٠٦ إلا بعد رؤية تلك الأفئدة المتحجرة بأم عيني. ارتكب رمضان عبد الرحمن منصور — زعيم عصابة يبلغ من العمر ستة وعشرين عامًا من إحدى المدن شمال القاهرة — جرائم قتل بحق أكثر من ثلاثين طفلًا من أطفال الشوارع، واتُّهم أيضًا باختطافهم والاعتداء عليهم جنسيًّا وتعذيبهم. انتشرت عصابة التوربيني المكونة من أربعة أشخاص التي بدأ نشاطها منذ سبع سنوات في محافظات مختلفة، واعترف بارتكاب جرائمه قبل التعرف على صور اثنتي عشرة ضحية من ضحاياه. اكتسب رمضان اسم شهرته «التوربيني» من القطارات السريعة المكيفة التي تربط القاهرة مع ثاني أكبر المدن المصرية الإسكندرية، إذ كانت أسطح تلك القطارات المكان المفضل لارتكاب جرائمه. ذكرت الشرطة أنه كان يعتدي جنسيًّا على ضحاياه، ويعذبهم، ويقطعهم إربًا قبل أن يلقي بهم على شريط القطار إما موتى أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة.

الأمر الذي أثار دهشتي أن صحيفة الأهرام — الصحيفة القومية الرئيسية — ذكرت فيما بعد أن منتجات مصرية تسمى الآن باسم التوربيني. وأضافت أيضًا أن مطاعم في مدينة طنطا في دلتا النيل تقدم نوعًا جديدًا من الساندويتشات أطلقت عليه اسم التوربيني وأنه «يحظى بإقبال كبير»، «بينما تجار الخراف يستخدمون الاسم كعلامة على ندرة السلالة.» أضافت الأهرام أن «أغرب هذه الحيل التسويقية» هي إعادة أصحاب مراكز الاتصالات والمحال التجارية في الغربية تسمية محلاتهم باسم «التوربيني: سفاح الغربية». ويكاد رد الفعل هذا يكون عصيًا على الفهم، لكنه يشير بجلاء إلى أن ثمة خللًا خطيرًا يحيق بالمجتمع المصري في الوقت الراهن.

لكننا لن نعجز عن فهم السبب وراء تدليل الحكومة للأجانب إذ استقبلت مصر ٩٫٧ ملايين سائح عامي ٢٠٠٦-٢٠٠٧، أي بزيادة قدرها ١٣ بالمائة عن أعداد السياح في العام السابق الذي بلغ ٨٫٦ ملايين سائح، وأن هؤلاء أنفقوا ٨٫٢ مليار دولار (أي بزيادة قدرها ١٤ بالمائة عن النفقات التي بلغت ٧٫٢ مليار دولار في العام السابق).

•••

في حين أن الدين ليس عنصرًا أساسيًّا بالغ الأهمية في حياة معظم المصريين الذين يعيشون في الأقصر، فإن الإسلاميين ينظرون إلى المدينة وإلى قطاع السياحة بوجه عام من منظور محاولتهم تطهير مصر من التأثيرات الثقافية الأجنبية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن معبد حتشبسوت في البر الغربي لمدينة الأقصر قد شهد أعنف الهجمات الإرهابية وأشدها تأثيرًا في تاريخ الدولة الحديث، إذ ذُبح عشرات المصريين والسياح في المكان عام ١٩٩٧. ولكن في وقت مبكر عن هذا عام ١٩٩٠، ألقى أحد الموظفين قنبلة مولوتوف على أحد المطاعم المطلة على البحر الأحمر ما أدى إلى مقتل ألماني وفرنسية وإصابة آخرين بحروق خطيرة. وادعى منفذ الهجوم أن سلوك السياح كان «مسيئًا إلى الإسلام». أيضًا تعرض السياح لإلقاء القنابل عليهم في الأقصر عام ١٩٩٢ في ظروف مشابهة، وحينها صرح أحد قادة الجماعة الإرهابية المسئولة عن هذا الهجوم وعن سلسلة هجمات أخرى أنه «لا بد من تدمير السياحة لأنها مفسدة» و«تؤدي إلى نشر عادات وسلوكيات غريبة تخالف الإسلام».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤