الفصل الثامن

مصر بعد مبارك

الأقصر مدينة تبعث على الابتهاج والاكتئاب الشديد في آن واحد؛ فعظمة الآثار والحضارة التي تشهد عليها تلك الآثار تتعارض مع المتاجرة الصفيقة — من أعلى المستويات إلى أدناها — التي باتت عالة طفيلية على الماضي ومفسدة للحاضر. يفخر المصريون فخرًا طبيعيًا لا يثير العجب بتراثهم، ويقِرُّون في اعتزاز أنه يتيح لهم فرصة التفكير في المستقبل. لكن لا بد أن نقر أنه قد لا يكون هناك مستقبل — أمام النظام الحالي على الأقل — إن لم تعالَج القضايا المهمة والملحَّة في الحاضر. اتضحت أمارات التخبط الحاصل في الوقت الحاضر في سبتمبر/أيلول ٢٠٠٧ عندما راجت الشائعات في القاهرة عن تدهور حالة مبارك الصحية، وربما وفاته. وسرعان ما تصدرت روايات مبهمة المصدر الصفحات الأولى من صحف المعارضة، وكادت لهجتها تفصح عن رغبة في ألا تكون هذه مجرد شائعات. ولم يكن في ذلك ما يدعو إلى الدهشة؛ فمنذ خروج وسائل إعلام المعارضة الجديدة من قوقعتها عام ٢٠٠٣ في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق — عندما تعهدت إدارة بوش بتدعيم الديمقراطية في العالم العربي، وما تلاه من تنعُّم الليبراليين في مصر بحقبة «ربيع القاهرة» — لم يكد يمر يوم دون صدور الصفحات الأولى من صحف المعارضة وهي تكيل الإهانات لكل من مبارك وابنه جمال. بدا واضحًا أيضًا أن غالبية المصريين — باستثناء المنتفعين من النظام — يحلمون بيوم الخلاص من الأسرة المباركية. وفي الوقت الذي شن فيه النظام حملة قمع استهدفت المعارضة، لم يعبر واحد ممن التقيت بهم خلال الأسابيع التي قيل فيها إن مبارك يرقد على فراش الموت عن أدنى درجات التعاطف معه. كان لاستمرار الشائعات التي لا تستند إلى دليل من جانب، ونفي الحكومة لها من جانب آخر؛ دلالة واضحة على أن مزيجًا من الأمل والخوف وتحديدًا الريبة يسيطر على المصريين. ففي ظل غياب حكومة شرعية وآلية منظمة تكفل عملية انتقال السلطة، يصبح التخمين والحزْر جوهر اللعبة.

على الرغم من كمِّ البغضاء التي يكنها المصريون لمبارك ونظامه، فإن احتمال رحيله عن المشهد لم يولد لديهم أي شعور بالابتهاج، أو مجرد الارتياح. بل على العكس، ارتبطت مشاعر بغض نظامه بين المصريين بحالة من التسليم والاستكانة لما سيحدث بعد رحيله، وهكذا بات الكل على يقين أن جمالًا سيتولى الرئاسة بأي وسيلة كانت. وما زاد من التسليم بصحة هذا التخمين على الرغم من نفي الحكومة له مرارًا وتكرارًا أن سيناريو التوريث قد حدث في سوريا والمغرب وتلوح بوادره في ليبيا. ويرى معظم المصريين أن جمالًا غير مؤهل على الإطلاق لتولي السلطة — إما بسبب نقاط ضعفه الملحوظة وإما لفشل النظام في إعداده كما ينبغي — وهو ما زاد قلق المصريين من أن التخبط في تسليم السلطة سوف يزعزع الاستقرار، ما قد يسفر عن عواقب وخيمة. وتأكدت الفكرة القائلة إن الشيطان الذي نعرفه ربما يكون أفضل من الشيطان الذي لا نعرفه عندما اتضح أن مرض مبارك ليس سوى شائعة سرعان ما تحرك النظام في أعقابها لتكميم أفواه معارضيه.

استهدفت حملة القمع التي شنها النظام ضد المعارضة عقب هذه الواقعة رؤساءَ تحرير الصحف التي نشرت أخبارًا عن صحة مبارك، والمجموعات الحقوقية التي كانت توالي نشر تقارير جريئة حول التعذيب والفساد، وفصائل المعارضة السياسية مثل جماعة الإخوان المسلمين (كان العشرات من أعضائها — من بينهم قيادي بارز — يخضعون وقتها لمحاكمات عسكرية بتُهَم ملفقة من بينها الإرهاب وغسيل الأموال). بعدها أيضًا حُكم على أربعة صحفيين بالسجن بتهمة تشويه صورة الرئيس، وقُدِّم أحد رؤساء التحرير للمحاكمة بتهمة ترويج شائعات عن صحة مبارك، ومُنِع الإخوان المسلمون لأول مرة من إقامة حفل إفطارهم الرمضاني السنوي. أما أيمن نور — الذي خاض الانتخابات الرئاسية أمام مبارك، وحُكِم عليه بالسجن خمس سنوات بعدها بوقت قصير — فكان قاب قوسين أو أدنى من الموت في زنزانته داخل السجن، بينما أعلن الإصلاحي الديمقراطي سعد الدين إبراهيم عن خشيته من التعرض للتعذيب والقتل إذا وطأت قدماه أرض مصر بعد مطالبته أثناء إقامته في الخارج بمزيد من المساءلة والديمقراطية، بل وصل الأمر إلى حد قوله في أحد اللقاءات إن النظام خصص فرقة اغتيال لتصفية خصومه (وهو زعم لم يأتِ أحد بدليل عليه). وضع النظام حدًّا للحديث عن صحة مبارك عندما تحرك ضد معارضيه على هذا النحو. والأهم من ذلك أن حالة الترقب والقلق التي سادت تلك الفترة ربما تكون قد أظهرت للنظام أن الأوان لم يحن بعد لتسليم السلطة إلى جمال.

•••

أسفر الانشغال بالحديث عن صحة مبارك ودور جمال المستقبلي عن نتيجة أخرى تبعث على السخرية وهي تشتيت الانتباه بعيدًا عن حقيقة السلطة في مصر، وقد كانت المعارضة متورطة — ربما عن غير قصد — شأنها شأن النظام في ذلك. الرئيس ليس سوى رئيس صوري يدير شئون البلاد اليومية التي تعج بالفوضى، بينما السلطة الفعلية — أو المؤسسة العسكرية — تحكم من وراء ستار. وحسبما أشار ستيفن كوك من مجلس العلاقات الخارجية فإن القوات المسلحة المصرية «أعلنت عن حظر خصخصة العديد من القطاعات الاقتصادية التي تقع تحت سيطرتها، والتي لا تقتصر على الإنتاج العسكري.» ويضيف كوك أن المؤسسة العسكرية في مصر «تمتلك شركات مثل شركة «صافي» للمياه المعدنية، وشركات الطيران والأمن والسياحة، ومصانع الأحذية، وأدوات المطبخ.» وربما يكون قد ذكر شيئًا عن الأراضي ومراكز التسوق أيضًا.

تعاملت المؤسسة العسكرية مع الموقف بحنكة بالغة، فهي تحكم دون أن تتولى مقاليد الحكم؛ فلا شيء يحدث في مصر دون أن تكون الأجهزة العسكرية والأمنية على علم به على الأقل، وفي كثير من الأحيان يحصلون على نصيبهم من الكعكة؛ فضلًا عن أنهم لا يسمحون بحدوث أي شيء من شأنه تهديد وضعهم. قطعًا لم تعد المؤسسة العسكرية تتمتع بالهيمنة المطلقة كما كان الحال في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، علاوة على أن التزايد الهائل في قوات الأمن الداخلي يجعلها الآن ثقلًا موازنًا لنفوذ المؤسسة العسكرية؛ لكن تظل القوات المسلحة ركيزة أساسية — وربما يقول الكثيرون إنها الركيزة الأساسية المنفردة — للنظام. يحتل ضباط جيش سابقون مناصب في الحكومة: وزراء، ورؤساء لشركات القطاع العام، ومحافظين. ولو أن وسائل الإعلام المعارضة ركزت اهتمامها حيثما ينبغي حقًّا، وسلطت الضوء على الفساد داخل المؤسسة العسكرية التي تختفي خلف شخص الرئيس، لظهرت حملة القمع التي شُنَّت في أعقاب الحديث عن الحالة الصحية للرئيس على أنها مجرد استعراض جانبي مقارنة بحملة القمع التي كانت ستترتب على كشف هذا الفساد. فمن المعروف في مصر أن النقد مباح، ولكن في حدود؛ فالرئيس — حتى وقت قريب جدًّا — كان فوق مستوى النقد، أما انتقاد المؤسسة العسكرية فهو أمر محظور كليًا.

زعم البعض أن بزوغ نجم جمال — الذي كان القوة الدافعة وراء خصخصة الاقتصاد باعتباره أمين لجنة السياسات صاحبة النفوذ الطاغي — ينبئ بعهد جديد حيث عصرنة الاقتصاد وانفتاحه. وفي مقابل تلك الآمال، ظهرت مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى إحداث حالة من الشقاق لا يمكن التنبؤ بعواقبها بين صفوف النظام. ويرى أكثر المراقبين تفاؤلًا أن نظامًا اقتصاديًّا أكثر تنافسية في مصر سوف يُحدث انقسامات كبيرة بين أفراد الطبقة الرأسمالية، ومن ثمَّ يؤدي إلى تعددية سياسية أكبر تمثل المصالح الاقتصادية المختلفة بما فيها مصالح العمال. لكن ذلك لا يعدو أن يكون تفكيرًا رغبويًّا، وعلينا أن ننعم النظر في الآمال المشابهة — التي تحطمت على صخرة الواقع فيما بعد — بعد أن خلَفَ حافظَ الأسد ابنُه بشَّار صاحب العقلية العصرية المتفتحة الذي تلقى تعليمه في الغرب. فبعد سنوات، صار النظام السوري أشد عزلة من ذي قبل، واتُهم بدعم الإرهاب واغتيال رئيس الوزراء اللبناني، وأن علاقات قوية تربطه بإيران، وأنه يضيق ذرعًا بالخلاف في وجهات النظر على الصعيد الداخلي كما هو الحال دائمًا. أعادت القوى التي تحكم من وراء ستار في سوريا فرض نفسها من جديد، وأيًّا كانت نَزَعات بشار الشخصية، فإن قدرته على المناورة تضاءلت كثيرًا في أعقاب ذلك. ولو أن جمالًا تسلم السلطة من أبيه، فسيكرر التجربة نفسها لكن بموافقة المؤسسة العسكرية بعدما تضمن أن طموحاته بشأن الخصخصة تحديدًا لن تؤثر على كم الامتيازات الهائلة التي يحصلون عليها، وأنهم سيواصلون اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية، حيث يعملون عن قرب مع الولايات المتحدة، ومن ثمَّ يستمر حصولهم على ٢ مليار دولار في صورة مساعدات عسكرية سنويًّا. والسبب الوحيد الذي قد يؤدي إلى تمزق العلاقات هو أن يتخذ مبارك قرارًا بدفع جمال نحو السلطة على الرغم من اعتراض المؤسسة العسكرية. وأسباب اعتراض المؤسسة العسكرية أن جمالًا — على العكس من عبد الناصر والسادات ومبارك — ليس واحدًا من أبناء المؤسسة. ويشير البعض إلى إمكانية حدوث انقلاب عسكري في مثل هذه الظروف. وعلى الرغم من ذلك فإن الأفرع المختلفة للطبقة التي ينتمي إليها الديكتاتور المصري متشابكة للغاية كما أشرنا، وبقاؤهم أولًا وقبل كل شيء هو ما يشغل بالهم جميعًا. ولذا فإن كفة التسوية أرجح من كفة المواجهة — خاصة في وقت يشهد غليانًا داخليًّا — عندما تكون هناك حاجة ماسة لتجنب الظهور بمظهر الضعف أو الهشاشة مهما كان الثمن.

إن كل الآمال بل والمخاوف الملقاة على عاتق جمال الغضّ تدعو للاستغراب حقًا، في ضوء ضآلة ما حققه، على الرغم من أن ضآلة إنجازاته تجعله أقرب إلى صفر على اليسار: ويرى الناس فيه ما يتفق وأهواءهم. سلِّطت الأضواء على إنجازات جمال الرمزية المتواضعة، على نحو يتسق مع عادة قديمة هي وضع الإسهاب في الحديث موضع تحقيق الإنجازات معيارًا للقيادة. ومن أمثلة ذلك أن جمالًا فجر مفاجأة من العيار الثقيل في مؤتمر الحزب الوطني الديمقراطي عام ٢٠٠٦ عندما أعلن أن مصر تسعى لتطوير الطاقة النووية — كمثال على الحداثة ومواكبة العصر — وهو الأمر الذي الذي إذا نفذ سيكون مكلفًا، وسيستغرق وقتًا طويلًا، ويثير غضب الأمريكيين (بسبب مخاوفهم من انتشار الأسلحة النووية في المنطقة). وبحسب حوار تليفزيوني تحدث فيه جمال — الذي يشغل أيضًا منصب الأمين العام المساعد للحزب الوطني — فإن المجلس الأعلى للطاقة شكَّل لجنة من خمسة وزراء — من بينهم وزراء الكهرباء والطاقة، والبترول، والدفاع — لبحث الخيار النووي. اجتمعت اللجنة حينها للمرة الأولى منذ إعلان مبارك رسميًّا تخلي مصر عن برنامجها النووي عام ١٩٨٦ في أعقاب حادث مفاعل تشيرنوبل في الاتحاد السوفييتي. وحظي هذا الاهتمام الجديد بالطاقة النووية بدعم الرئيس نفسه خلال كلمته في ختام المؤتمر التي أعلن فيها أن مصر «لا بد أن تستفيد من مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة ومن بينها الاستخدامات السلمية للطاقة النووية.» وقد بات مؤكدًا أن هذا التصريح لا يعدو أن يكون استعراضًا ووعودًا كاذبة في لقاء آخر على هامش مؤتمر الحزب الوطني عندما صرح جمال أمام الصحفيين الأجانب أن مصر ليست مضطرة من الآن فصاعدًا إلى الالتزام بمبادرات الديمقراطية التي يتبناها بوش في الشرق الأوسط. اعتُبِر هذا التصريح بمنزلة جهد مدروس لزيادة رصيد مبارك الابن، وإظهار تحدِّيه للولايات المتحدة. صرح جمال أيضًا بأن السياسات الأمريكية في المنطقة وفرت مرتعًا خصبًا للتطرف، وقال: «نرفض الرؤى الخارجية التي تسعى إلى تقويض الكيان العربي والجهود العربية المشتركة.» وفي رسالة واضحة للبيت الأبيض، ضم «مبادرة الشرق الأوسط الكبير» التي تتبناها واشنطن إلى تلك الرؤى. أشارت صحيفة «نيويورك تايمز» إلى أن تحديه لواشنطن وسعيه لاستئناف البرنامج النووي إنما يهدفان إلى التغلب على اثنتين من نقاط الضعف الملموسة في مبارك الابن بوصفه وريثًا لأبيه؛ وهما كونه الرئيس الأول الذي سيأتي من خارج المؤسسة العسكرية منذ إطاحة الانقلاب العسكري بالملكية، وكونه هو وأبوه في نظر الكثيرين أداتين تحركهما واشنطن كيفما شاءت. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن البرنامج النووي ربما يعود عليه بدعم المؤسسة العسكرية، في حين أن انتقاده لواشنطن قد يُكسبه مصداقية في الشارع المصري. كانت كلتا الخطوتين تهدف على الأرجح إلى تبني سياسة رأت الحكومة أنها ستلقى قبولًا لدى الشارع، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى إحداث توافق شعبي حول ابن الرئيس، لكنهم كانوا يقبضون على الهواء. إن كان الهدف منح جمال مصداقية أكبر، فلا شك أن خطتهم باءت بالفشل. فكما أشارت الملابسات التي أحاطت بمرض الرئيس المزعوم، فإن شيئا لم يتغير فيما يتعلق بكراهية المصريين لجمال، وبالتزام مصر أمام الولايات المتحدة. من ناحية أخرى لم يجد جديد على البرنامج النووي المقترح؛ وكان من الدهاء إعلان واشنطن تأييدها للبرنامج النووي على جناح السرعة، ومن ثم وأدُ مساعي جمال للمواجهة الزائفة في مهدها.

•••

لا يعني هذا أن جمالًا ضئيل الشأن تمامًا؛ فمن الواضح أنه مدرك لضرورة التغيير وللتحديات التي تفرضها المعارضة — خاصة الإخوان المسلمين — وقادر أيضًا على الاستفادة من أصحاب الخبرات الذين يستطيعون وضع خطة للتغيير بل وتطبيقها أيضًا؛ وإن كان ذلك في نطاق الإطار المحدود للسلطة الرئاسية التي تدير ولا تحكم. ومن هذه الشخصيات التي أحاط جمال نفسه بها حسام بدراوي؛ وهو رجل أعمال وأحد كاتمي أسراره المقربين. يشغل بدراوي منصب رئيس لجنة التعليم والبحث العليي بأمانة السياسات التي يرأسها جمال، وقيل إنه سيتولى حقيبة الصحة أو التعليم حال فوز جمال بالرئاسة. تلقى بدراوي تعليمه في الولايات المتحدة، وهو أيضًا عضو في المجلس الأعلى للسياسات الذي يعد ثمرة المقترحات التشريعية والإصلاحات التي تبناها الحزب الوطني. علاوة على ذلك فهو يشغل منصب رئيس مجلس إدارة مستشفى «النيل بدراوي» الخاصة ومؤسسة «ميدي كير الشرق الأوسط»، وهي المؤسسة الأولى والوحيدة حتى الآن للرعاية الصحية في مصر. تضم هذه المؤسسة أربعين مستشفى خاصًّا، وتوفر من الخدمات ما عجزت الدولة عن توفيره، وبصورة ما تقف في مواجهة محاولات الإخوان المسلمين المماثلة لكسب التأييد عن طريق توفير الخدمات التي عجزت الدولة عن توفيرها. يحتل بدراوي مكانة متميزة بين أعضاء الحزب الوطني نظرًا لشعبيته الصادقة، لأنه معروف بتصديه للفساد، ولأنه أيضًا صاحب شخصية متواضعة. وقد كانت شعبيته وراء اتخاذ أصحاب النفوذ العظيم في الحزب الوطني قرارًا بإقصائه عن دائرة قصر النيل بالقاهرة في الانتخابات التي أجريت عام ٢٠٠٥. ويمكن القول إن قرار إقصاء بدراوي من البرلمان عبَّر عن نفوذ الحزب، في حين عبَّر احتفاظه بكافة مناصبه في لجان الحزب الوطني عن نفوذ جمال. فخبراته وآراؤه في العديد من المجالات تمثل الوسطية التي يحتاج جمال ومؤيدوه اتباعها.

التقيت ببدراوي في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٦ في مكتبه بالطابق الأخير داخل مشفاه الرئيسي بحي المعادي في القاهرة، وهو مستشفى يدار بكفاءة، ومصمَّم على أحدث طراز كأي مستشفى في الغرب. وبالنظر إلى ما يقوم به من أنشطة، يبدو واضحًا أنه على دراية بما يلزم فعله للأخذ بيد مصر نحو القرن الحادي والعشرين. فتعليم النشء على سبيل المثال واحدة من أهم القضايا الملحة في مصر. كانت المؤسسة التعليمية على مر التاريخ مثالًا للتضخم وانعدام الكفاءة، حيث الاعتماد على التلقين والمحاكاة بدلًا من البحث وحب الاستطلاع. ولا غرو في هذا إذا نظرنا بعين الاعتبار إلى الطبيعة الاستبدادية للنظام، وأن هؤلاء الذين تمكنوا من مسايرة الظروف المحيطة أثناء الحقبة الناصرية كانوا على علم بأنهم سيكافَئون على إذعانهم بوظيفة حكومية لا تحتاج إلى روح المبادرة. والواقع أن الأجور كانت متدنية، وأن الحكومة حصلت في مقابل ذلك على انعدام الكفاءة والبيروقراطية والفساد. لكن البيروقراطية المترهلة صارت عبئًا في النهاية، ولم يعد هناك وجود للوظيفة المضمونة. ولا تزال المنظومة التعليمية بحاجة إلى التنظيم. كان بدراوي معنيًّا بدراسات الحزب الوطني الديمقراطي حول التعليم، لكنه وجد أن «أيًّا من التوصيات التي اقتُرحت كسياسات لم ينفذ على المستوى التفصيلي.» بدراوي واحد من أهم الداعمين لمؤسسة «التعليم من أجل التوظيف» التي تهدف إلى خفض نسب البطالة في العالم الإسلامي عن طريق إنشاء مراكز للتدريب الوظيفي بالتعاون مع الشركات المحلية، ويتلخص الفرق بينها وبين مثيلتها التابعة للدولة في قوله: «إحدى أهم السياسات في التعليم هي سياسة ربط الأفراد بالوظيفة» في القطاع الخاص؛ بمعنى حاجة الطلاب لاكتساب المهارات والأُطُر العقلية التي ستتجلى فائدتها في بيئة تنافسية. وأضاف أن أهمية التدريب أكبر بكثير من خلق فرص العمل «لأن الوظائف كانت متاحة؛ المشكلة تكمن في قابلية الخارجين من المنظومة التعليمية للتوظيف. فهنا حشد من الأشخاص لا يجدون عملًا وغير مؤهلين في الوقت نفسه للعمل. لم ينل هؤلاء في دراستهم المعرفة الكافية، فضلًا عن افتقارهم إلى روح المنافسة وحس المغامرة التجارية. كل واحد منهم ينتظر شخصًا يساعده في إيجاد وظيفة.»

ومع الأسف تفشت نزعة السلبية هذه والرغبة في أن تأتي المساعدة من الآخرين — بل وانتظار تلك المساعدة — في مصر كافة. فمن موروثات اشتراكية عبد الناصر التحقير من قيمة المنافسة، ومن موروثات سياسة الانفتاح التي تبناها السادات أن المنافسة لا تعني الابتكار والإبداع، وإنما كسب تأييد الدولة. وهناك طُرفة مصرية شهيرة تقول: في كل مفترق طرق كان عبد الناصر يتجه يسارًا، والسادات يتجه يمينًا، أما مبارك فيقول: «الْزَم مكانك.» والنتيجة أن عهد مبارك جمع بين أسوأ ما في الحقبتين، وذاك منشأ الجمود الذي أصاب البلاد. لا شك أن هناك مجموعة من المنتفعين حول النظام، وهؤلاء يسعون إلى الوقوف في طريق أصحاب الفكر التجديدي مثل بدراوي الذي علَّل خسارته في الانتخابات البرلمانية بقوله «حزبي وقف ضدي، لأنهم ضد الإصلاح.» ولو تأملنا ما حدث، فسنجد أن إيمانه بأن الإصلاح يمكن أن يأتي من الداخل غريب حقًّا، وهذا أقل ما يوصف به. لكنه — حسبما ذكر — يسعى إلى «تكوين ما يسمى بالكتلة الحرجة للقوى السياسة داخل الحزب والتي تضغط حقيقةً من أجل الإصلاح.» ودليل النجاح إلى الآن ينبع — على حد قوله — من «تغيير لغة الجميع. قد لا يقصدون ما يقولون، لكنهم جميعًا يتحدثون عن المساواة، والمعايير، والديمقراطية، والشفافية، والأداء، والتقييم … وهذا في الوقت نفسه زاد من صعوبة الوضع، لأنك عندما تجلس مع أحد الأشخاص ويقول إنه يوافق على جميع المبادئ، ثم تناقضُ أفعاله أقواله، فسوف تقع في حيرة من أمرك. إننا نخوض الآن حربًا ضد الفساد والرياء في آن واحد!»

أيًّا كانت طبيعة العلاقة بين بدراوي وجمال فقد ذكر أنه على الرغم من تأييده له فالأولوية هي «تركيز جهودنا على نزاهة الانتخابات بدلًا من الحديث عن الأفراد. إذا أجرينا انتخابات حرة فسيكون لكل حزب الحق في ترشيح من يشاء. وإذا كان جمال مرشحًا عن الحزب الوطني فلن يختلف عن الآخرين — وأنا من بينهم — في شيء.» ومن الواضح لبدراوي أن جمالًا إصلاحي، وأنه كفل الرعاية والحماية للإصلاحيين حسبما تشير تجربته الشخصية. لكنه لن يتمكن من الاحتفاظ بمنصبه من دون بعض الحماية خصوصًا في ظل استعداده للتحاور مع المعارضة بما فيها جماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن دعوته لإجراء انتخابات حرة تبعث الأمل، لكن لا بد أن نتساءل عن رد فعل رفاقه داخل الحزب على قوله «أنا أعرف — وهم يعرفون — أن الإصلاح يستتبع فقدانًا للنفوذ. أود أن أقول للحزب إن فقد قدر من النفوذ هو في الواقع جزء من عملية الإصلاح.»

وعندما نتعمق في جميع التصريحات والكلام المرسَل والوعود وتأجيج مشاعر الخوف من اعتلاء الإسلاميين للسلطة، سوف نضع أيدينا على المعضلة، وهي أنه لا أحد من ذوي النفوذ يريد التخلي عنه. إذا كنت ذا نفوذ، فالتخلي عن جزء منه قد يعرضك لخطر تدهور الوضع على نحو يصعب السيطرة عليه. وصل النظام المصري إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب، وفي ذروة حالة من الاضطراب كان من الممكن أن تخرج عن نطاق السيطرة؛ ربما إلى حد وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة. وأيًا كان السبب فقد أرغم قادة الانقلاب الملك فاروق على النزول عن العرش، وسمحوا له بالذهاب إلى المنفى ليصير في طي التاريخ إلى أن ساءت الأوضاع في مصر لدرجة جعلت اسمه مرتبطًا بالحنين إلى الماضي. وليس كل الزعماء المخلوعين عن عروشهم سعداء الحظ هكذا. وهنا تكمن المعضلة التي لا حل لها؛ فالسماح بحرية الرأي والمنافسة يهددان بفقدان السيطرة، بينما يهدد قمع المعارضة بتوليد مشاعر إحباط مكبوتة إما أن ينتهي بها الحال بضرورة شن حملة قمع جماعية أو حدوث انفجار يخرج عن نطاق السيطرة وربما ينتهي بكارثة على النظام والشعب على حد سواء. أخبرني بدراوي صراحة أنه «لا توجد ثقة بين الحكومة والشعب»، وأن الواقع ينذر بعواقب وخيمة. فذوو النفوذ الذين يستحبُّون الوضع الراهن لا يثقون في الشعب، ويعتبرون السخط والعنف دليلًا على خطر كامن متربص سيظهر لو غابت القبضة الصارمة.

تتسم مثل هذه الأفكار بمقاومتها للتغيير، وتقيم الحجة بسهولة على غليان الشارع المصري. وربما تكون الأحداث الأخيرة خير شاهد على هذا الرأي. فأثناء ربيع وصيف ٢٠٠٧، اندلعت مئات الإضرابات العشوائية في العديد من القطاعات وذلك في موجة احتجاجات عمالية تضمنت مئات الآلاف من العمال على نطاق لم تشهده مصر منذ السنوات التي أدت إلى انقلاب ١٩٥٢. وأعني بكلمة عشوائية هنا أنها غير مرخصة من قبل نقابات العمال الرسمية والحكومية. ونقابة العمال نفسها نتاج الحقبة الناصرية عندما كانت الصناعة الخاضعة لرقابة الدولة محميَّة من المنافسة الخارجية عبر مجموعة مختلفة من السبل؛ وغني عن القول إن هذا أسفر عن انعدام الكفاءات على نطاق واسع، وإهدار الموارد، وانتشار البطالة المقنَّعة، وكلها أساليب تهدف إلى ربط الشعب بالحكومة. وقد ظهر الحديث عن إطلاق الحريات والخصخصة منذ وقت طويل؛ والواقع أنهما عصبا خطط الإصلاحيين بالفعل. لكن النتيجة النهائية هي تهديد العمال، الذين يفرضون بدورهم تهديدًا على النظام أكبر بكثير من تهديد نشطاء المعارضة الليبراليين مكتوفي الأيدي الذين يلتفون حول صحف (لا يقرأها سوى قلة من النخبة) وأحزاب سياسية تعاني من تضييق حكومي ونزاعات داخلية مستمرة تنشأ بسبب أمور تافهة في كثير من الأحيان.

ولا غرو في أن العمال لم يعودوا قادرين على تحمل الأجور الثابتة التي تتآكل بفعل التضخم فضلًا عن احتمال فقدانهم لوظائفهم. نفد صبر العمال في نهاية الأمر بعد أن ذاعت الأقاويل عن تواطؤ مسئولي «نقاباتهم» مع النظام. وبالرغم من أن مظاهرات العمال كانت متفرقة ومحلية وتفتقر إلى التنسيق، فقد ظلت تثير قلق النظام. ومن وجهة نظر المؤيدين للنظام، كانت تلك الاحتجاجات بمثابة فرصة؛ فقد أمكنهم الإشارة إلى المظاهرات باعتبارها مؤشر على خطر التمرد البالغ، إذا ما انتشرت على نطاق أوسع وصارت أكثر تنظيمًا وتعدى سقف مطالبها المطالب الاقتصادية العاجلة، وفي الوقت نفسه استطاعوا القول إن الإصلاحيين يتحملون المسئولية مضاعفة؛ أولًا بسبب دعوتهم إلى الخصخصة (التي تثير غضب العمال)، وثانيًا بسبب دعوتهم إلى الإصلاح السياسي (الذي منح العمال الثقة وحرية التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام المعارضة). ويرى هؤلاء الأوفياء للنظام أن أيًّا من الخيارين لا يصلح؛ فالوضع الراهن المتمثل في حماية الأفراد مع قمعهم في الوقت نفسه أفضل من المخاطرة بإجراء إصلاح سياسي أو اقتصادي، ناهيك عن إجرائهما معًا في آن واحد. ولا شك أنه يمكننا تفهم هذا الوضع، بالرغم من أنه خاطئ على نحو واضح.

•••

مصر ليست الدولة الأولى — ولن تكون الأخيرة — في مواجهة تلك المعضلة. فثمة نموذجان ظهرا منذ العقد الأخير من القرن العشرين؛ وهما الاتحاد السوفييتي والصين. حاول النموذج السوفييتي فتح الباب أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي في الوقت نفسه مع تقديم الإصلاح السياسي على الاقتصادي. وجاءت النتيجة على عكس ما ترتضيه الأنظمة الاستبدادية؛ فتفكَّك الاتحاد السوفييتي، وفقدت النخبة الحاكمة نفوذها. ويبدو النموذج الصيني أكثر نجاحًا على الجانب الآخر؛ حيث شجعت الدولة الانفتاح الاقتصادي مع تقييد الانفتاح السياسي، فلم يكن الحزب الحاكم يتورع عن سحق المعارضة عندما يشعر بأي تهديد من شأنه أن يؤدي إلى ضياع نفوذه. لكن يبقى السؤال الذي ينتظر الإجابة هو: هل ستصلح تلك السياسة على المدى البعيد، بمعنى أن يظل الحزب الحاكم محتفظًا بالسلطة؟

لكن هناك عدد من الفروق الجوهرية بين مصر من جانب وبين الاتحاد السوفييتي سابقًا أو الصين من جانب آخر. بادئ ذي بدء، استند نظام الحكم في الاتحاد السوفييتي والصين على أيديولوجية فيها من العقلانية والمنطقية ما يجعل الشعب يؤمن بها بصورة أو بأخرى. كان للحزب الشيوعي السوفييتي والصيني قدم راسخة داخل المجتمع، وكانت المكافآت الضخمة جزاء الامتثال بينما العقاب الأليم جزاء المعارضة. استطاع السوفييت والصينيون الحديث عما يتحقق من إنجازات مهمة في الوقت نفسه الذي يحجب فيه كل نظام ما يُرتكب من أعمال وحشية بمرور الزمن عن الشعب؛ رسميًّا على الأقل. ويمكننا الحديث عن نقطتين من بين النقاط العديدة التي تميز النموذجين السوفييتي والصيني. النقطة الأولى أن النخبة في الاتحاد السوفييتي بدأت دون مبرر واضح تفقد إيمانها بعقيدتها، وتقطَّع أمرهم بينهم، وهو ما أتاح الفرصة أمام الدخلاء لتصعيد الوقوف في وجه النظام والإطاحة به أخيرًا. والنقطة الثانية أن الصينيين كانوا أكثر قدرة على تغيير طبيعة العلاقة مع الشعب عن طريق الإسراع في توفير مزايا اقتصادية وأمل في التحسن.

أبشع ما في نظام مبارك هو حالة الإفلاس التي وصل إليها حتى صار يتخبط على غير هدى؛ فلا هو يقدم أساسًا منطقيًّا أيديولوجيًّا، ولا هو يملك المبادئ التي يمكن حشد الشعب حولها. تخلَّى النظام عن حلم الوحدة العربية منذ زمن بعيد؛ وصار الإسلام حلًّا تطرحه المعارضة. وعلى الرغم من تحقيق نمو اقتصادي، لم يكن التوزيع عادلًا بالمرَّة، ورجحت كِفَّة المنتسبين للنظام ما أدى إلى تزايد مشاعر السخط والإذعان أيضًا. ويفتقر الحزب السياسي الحاكم إلى الصلة الحقيقية بالشعب، ويكاد يغيب عن الساحة خارج المدن الرئيسية. باختصار، يفتقر نظام مبارك إلى أي من المقومات التي أبقت على الأحزاب الشيوعية السوفييتية أو الصينية في السلطة. فلا سبب وراء بقاء هذا النظام سوى تشبثه بالسلطة.

الخوف إذن هو الذي يُبقي على النظام في السلطة في ظل غياب كافة مظاهر الشرعية. فأعمال العنف اليومية التي تجتاح المجتمع على أيدي زبانية التعذيب في مراكز الشرطة والأجهزة الأمنية هي صورة أساسية من صور ترويع المواطنين. فعندما يُلقَى القبض عشوائيًّا على مواطن بريء في الشارع ويلزم الصمت خوفًا من التعرض للإيذاء الجسدي، وعندما يُلقَى القبض على طفل بتهمة سرقة عبوة شاي وينتهي به الحال جثة هامدة، وعندما يُحتجز باحث معروف يحظى بتقدير دولي مثل سعد الدين إبراهيم، وبعدها يخشى العودة إلى بلاده؛ فذاك ترويع للمجتمع يطول كافة فئاته. وهؤلاء هم من لا يستفيدون من النظام. أما المستفيدون من النظام فإنهم يذوقون لونًا آخر من ألوان الخوف؛ وهو فقدان دعم النظام لهم فلا يملكون بعدها الوصول إلى ذوي النفوذ وموارد الكسب التي تعود عليهم بامتيازات مالية هائلة وغيرها من الامتيازات الأخرى. الخوف من فقدان السيطرة يمنع الزمرة المهيمنة على النظام من السماح بوصول المناقشات الداخلية بين الإصلاحيين والمحافظين إلى آفاق بعيدة، إما في صورة لجوء الإصلاحيين إلى شرائح أخرى من النخبة السياسية والاقتصادية طلبًا للدعم — وليس معنى ذلك أن هذه النخبة ذات بأس شديد بعد ما مارسه النظام ضدها من قمع — وإما مناداتهم بانفتاح أكبر على الصعيدين السياسي والاقتصادي والتصدي الحقيقي لداء الفساد على نحو يتخطى المحاكمات الشكلية العارضة. الخلاف مباح، وقطع الوعود مشروع ما دامت لن تدخل حيز التنفيذ. لكن لا ينبغي للاختلافات أن تتحول إلى انقسامات. فضلًا عن ذلك فإن الأجهزة العسكرية والأمنية على استعداد دائم لسحق من يصدقون تلك الوعود ويمتعضون حال اكتشاف سرابها. وفي الخلفية دائمًا نراهم يلعبون على وتر فزاعة الإخوان المسلمين.

•••

للمصريين قدرة على تحمل المعاناة تثير الإعجاب والاكتئاب في الوقت نفسه، لكن مسألة استعدادهم لمواصلة هذه المعاناة ليست محسومة على الإطلاق. أسفرت قوى العولمة عن العديد من الآثار بدءًا من السياح الأجانب الذين يقضون أوقاتهم في التنقل من فندق إلى متحف إلى معلم أثري، إلى المهاجرين الأفارقة الذين يعتبرون القاهرة مثالًا للتقدم مقارنة ببلادهم، إلى رأس المال الدولي المستثمَر في مصر. وللأثر الأخير بعض الثمار المفيدة، لكنه قد يؤدي أيضًا إلى تراجع فرص الحياة أمام من يفتقدون التعليم أو المهارات — والواسطة، الأهم منهما في كثير من الحالات — اللازمة للمنافسة.

الوضع المضطرب الذي يسود المجتمع المصري يدق ناقوس الخطر. فالغضب المنصبّ على جهاز الشرطة السري، والتعذيب والفساد المتوطنَيْن في المجتمع، والنخب التي تلبس عباءة الغرب وتنهب البلاد بدعوى تحرير اقتصادها وفتح آفاق جديدة أمام المستثمرين الأجانب؛ كل هذا يذكِّرنا بإيران أثناء الأيام الأخيرة من حكم الشاه. ومثلما كانت إيران تحت حكم الشاه — وعلى عكس كل من الاتحاد السوفييتي والصين — فإن القوى المحركة للوضع في مصر ليست داخلية فحسب. وبعبارة أخرى، تلعب الولايات المتحدة دورًا فعالًا في السياسات التي تتبناها الحكومة المصرية.

لا شك أن هذا الوضع يختلف تمام الاختلاف عن عصور الاستعمار قديمًا عندما فرض البريطانيون سطوتهم على خزانة الدولة، وتدخلوا دائمًا في القرارات التي تتخذها الحكومة، وتحكموا في قناة السويس وشركتها، إلى جانب الإبقاء على وجود عسكري قوي. ولَّت أيام السيطرة الاستعمارية المباشرة هذه. لكن في ظل السعي نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي المتنامي تارة والسعي بعيدًا عنه تارة أخرى، تأخذ الحكومة والشعب على السواء رؤى واشنطن بعين الاعتبار. ولا عجب في هذا إذا نظرنا إلى الأموال الطائلة التي تقدمها واشنطن إلى مصر. فهذا الجزء من الصفقة يكاد يكون مقدسًا، وحتى في ظل السلام البارد في أحسن الظروف تبقى مصر محورًا رئيسيًّا في تطبيق سياسة واشنطن متمثلة في حفظ الاستقرار داخل المنطقة. لكن هذا لا يعني أن العلاقة تخلو من التوترات، أو أن النظام سيسعى إلى إرضاء واشنطن على حساب المجازفة بتقويض نفوذه، وهذا أمر يدركه صناع السياسة في الولايات المتحدة جيدًا.

إذن فنحن نرقب المناوشات والمشاحنات التي تحدث بين الحين والحين بعين ثاقبة؛ فإذا لم يكن هذا مسرحًا صامتًا فإنه يكاد يكون أقل مما يبدو عليه للوهلة الأولى بالقطع. ومن هنا كان الانفتاح المحدود للنظام عندما كانت إدارة بوش مولعة بالحديث عن الديمقراطية في نفس الوقت الذي يدور فيه الحديث عن تطوير برنامج نووي، وهو ما يبدو للوهلة الأولى مفيدًا في الدعاية الداخلية باعتباره دليلًا على استقلال النظام عن الولايات المتحدة، لكنه كلام فارغ في حقيقته. ومن هنا أيضًا كان قمع المعارضة الليبرالية والعلمانية في الوقت الذي انصب فيه اهتمام واشنطن في اتجاه آخر. وبالرغم من أن هذا غير محتمل، ففي حالة زيادة الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية وتحرير الاقتصاد — وهو ما يعني الضغط من أجل المساءلة والشفافية فضلًا عن الخصخصة الكاملة — يمكن لنظام مبارك أن يلعب على فزاعة الخوف مرة أخرى؛ فهم يقولون إن الانفتاح ينطوي على مخاطرة وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم، مستشهدين بتجربة حماس في الأراضي الفلسطينية وحزب الله في لبنان، وبالطبع بالكابوس الذي آلت إليه دولة إيران الثيوقراطية. وقد ظلت إيران فترة طويلة الورقة الرابحة الكبرى بين تلك الأمثلة، قبل أن يكشف تقييم استخباري قومي جديد في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٧ أن إيران تخلت عن هدف امتلاك الأسلحة النووية عام ٢٠٠٣، وهو ما هدَّأ المخاوف من اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران. وعلى الرغم من ذلك، واصلت واشنطن دعم حلفائها من الأنظمة العربية السنية «المعتدلة» مثل مصر من أجل كسب الدعم لتقييد إيران، ومن أجل إحكام السيطرة على الاستياء الشعبي من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة على هذه الدولة.

•••

لطالما أبدى المصريون اهتمامًا بالغًا بالسياسة الإقليمية على مر التاريخ. لكن الحقيقة أنهم صاروا أكثر اهتمامًا هذه الأيام بما تتعرض له ثروات بلادهم من نهب جهارًا نهارًا على أيدي القطط السمان من أبنائها والمستثمرين الأجانب على حد سواء، وكل هذا تحت غطاء ما يسميه البعض عجائب العولمة بكل الآثار المشينة المترتبة عليها في المستقبل البعيد، (لكن لاحظ كيف أن القطط السمان أنفسهم يبدو دائمًا أنهم يفضلون نوع الإشباع الفوري)، وتحت غطاء ما يدينه الآخرون على أنه «عقيدة الصدمة»، بحسب التعبير الشهير للصحفية الكندية نعومي كلين. وأيًّا كان الجانب الذي ننحاز إليه في هذه المسألة، فإن ثورة ١٩٥٢ تبدو حاضرة في عقول الجميع في مصر؛ في عقل النظام وهو يحاول عزل نفسه عن تركة عبد الناصر وفي الوقت نفسه يستغلها من أجل الشرعية، وفي عقل المعارضة وهي تقول إن مبادئ الثورة تعرضت للخيانة منذ زمن بعيد وأن مصر عادت من حيث بدأت تمامًا.

بدا هذا الانقسام شديد الوضوح عندما أعلنت الحكومة عن بيع بنك القاهرة لمستثمرين أجانب وهو ما أثار حالة غليان داخل الأوساط السياسية. ذكر جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة وعضو في حزب التجمع اليساري أنه يظن أن توقيت الإعلان عن البيع تزامن عن قصد مع العيد الخامس والخمسين للاحتفال بالثورة. صرح عبد الخالق أمام مؤتمر عُقِد تحت شعار «لا لبيع مصر» داخل مقر نقابة الصحفيين في الأسبوع الذي تلا الإعلان عن البيع قائلًا: «في عام ١٩٥٢، أقرت ثورة يوليو/تموز ستة مبادئ تضمنت القضاء على الاستعمار والقضاء على هيمنة رأس المال الأجنبي. وفي يوليو/تموز ٢٠٠٧، يقولون لنا إن هذه كلمات جوفاء، ورأس المال لا يعرف الحدود والمصلحة العامة تقتضي بيع البنك.» وحذر أيضًا أن الحكومة ربما تُعرض الأمن القومي للخطر ببيعها ذلك العدد الكبير من أصول مصر. ونقلت صحيفة الأهرام ويكلي عنه قوله أمام الحضور: «حتى في أكثر النظم الاقتصادية الحديثة تحررًا — مثل الولايات المتحدة — ثمة خط أحمر لا يمكن تجاوزه.» واستطرد مذكرًا إياهم كيف أن الساسة الأمريكيين أعاقوا خطط شركة موانئ دبي العالمية التي كانت تسعى لإدارة ستة موانئ أمريكية قبل عام؛ لأنهم رأوا فيها تهديدًا قوميًّا. زاد بيع البنك من المخاوف الموجودة منذ وقت طويل بأن الخصخصة تنذر بعودة الاستعمار. وقال النائب البرلماني المستقل مصطفى بكري في اجتماع اللجنة المصرفية في البرلمان: «سيؤدي بيع هذا البنك إلى عودة عهد الامتيازات الأجنبية.» امتلأت الصحف بإدانات من جانب اتحادات العمال وحكايات حول المودعين الذين أصابهم الذعر فسارعوا بسحب أموالهم من فروع البنك. حدث كل هذا الارتباك في أعقاب اندلاع مظاهرات حاشدة هي الأولى من نوعها في ست محافظات مصرية كانت تعاني من نقص حاد في المياه، وهو ما ألقى الضوء على الحقيقة المفزعة التي تقول إن آلاف المصريين يموتون كل عام لأنهم لا يجدون الماء النظيف، بينما تشهد المشروعات الاستثمارية الكبرى بناء أحدث شبكات الصرف الصحي والمياه من أجل القرى السياحية الجديدة والمجمعات السكنية الفاخرة على أطراف المدن، وكلها لخدمة السياح وذوي الثراء من المصريين. وعلى الرغم من أن عهد الحكم الاستعماري المباشر قد ولى، فإن خنوع النظام أمام واشنطن إنما هو تذكرة أليمة بالماضي. ومع اقتراب صعود جمال إلى السلطة، تصبح المقارنة بين آخر أيام الملكية في عهد فاروق وبين أيام النظام الحالي أكثر ملازمة للفكر.

في خضم هذا كله، يهدد السعي وراء المزيد من الخصخصة بناءً على أوامر المؤسسات المالية الدولية باندلاع احتجاجات عمالية أوسع نطاقًا، وربما يقع العمال — طوعًا أوكرهًا — في قبضة الإخوان المسلمين في ظل غياب فصائل المعارضة البديلة. ولا شك أن الإخوان المسلمين تصدروا الحملة التي شُنَّت ضد بيع البنك — عندما وصف المتحدث الرسمي باسمهم عملية البيع بإيجاز فقال: «هذه ليست خصخصة؛ إنما هي سرقة.» — وجعلوا تطهير مصر من النفوذ والاستغلال الخارجي منذ زمن بعيد بندًا رئيسيًّا من بنود برنامجهم السياسي. وإذا تشكَّل هذا التحالف، فثمة خياران لا ثالث لهما؛ إما حملة قمع هائلة أو سقوط النظام، وكلا السيناريوهين محتمل. تبدو هذه الصورة في مصر شبيهة على نحو يثير الاستغراب بمثيلتها في إيران؛ وهي دولة أخرى استحوذ عليها هاجس التدخل والهيمنة الخارجية على مدى قرون، في الوقت نفسه الذي شهد ميلاد الثورة في سبعينيات القرن العشرين. وحري أن نذكر أن وصول الإسلاميين المتشددين بقيادة الخوميني إلى سدة الحكم لم يكن أمرًا مقدرًا. فهؤلاء لم يكونوا سوى مجموعة واحدة من عدة مجموعات وقفت في وجه الشاه، ويقال إنهم لم يكونوا الأكثر زعامة أو الأكثر شعبية. فقبل الثورة كانت جماعات المعارضة ضد حكم الشاه متنوعة تضم طلابًا وعلمانيين ودعاة للمساواة بين الرجال والنساء وماركسيين وإسلاميين ومناهضين لفكرة الاستعمار. أضف إلى هذا أن الثورة اندلعت بإضرابات عشوائية تفتقر إلى التنظيم والتلاحم، تراكم أحدها فوق الآخر، وانضمت إليها مجموعات أكثر تنظيمًا ذات أهداف سياسية أكثر وضوحًا، ثم فوجئت بحكومة ثرثارة لا تريد التخلي عن السلطة وتعجز عن قمع المعارضة بالعنف الذي يتطلبه الموقف. ارتبكت واشنطن في الوقت الذي اشتعلت فيه طهران؛ تلك الدولة الفوضوية التي صنعتها بنفسها، والتي ربما يقول البعض إنه عقاب استحقته على مساندتها المشينة لحاكم فاسد يكِن له شعبه كل هذه الكراهية. وانتصر الإسلاميون في الأشهر التي تلت ثورة ١٩٧٩ بعد أن أثبتوا أنهم القوة الأكثر تنظيمًا وحزمًا. أما الشاه فقد انتهى به الحال إلى المنفى الذي صادف كونه في مصر؛ وكانت إشادة السادات بالشاه الفاسد أحد أسباب اغتيال الإسلاميين له. ففي الشرق الأوسط، يكون الجزاء من جنس العمل على نحو مؤلم. لكن لا بد أن نتساءل هل استفادت واشنطن من الدرس؟

•••

الخطر الأكبر الذي يحيق بالنظام المصري أن الإضرابات تؤثر على مجريات الأحداث يومًا بعد يوم، وبعض العمال — لم يتبين عددهم بعد — بدءوا «يربطون بين رواتبهم المتدنية وبين الظروف السياسية والاقتصادية من توطن الاستبداد، وعدم أهلية الحكومة وفسادها المنتشر على نطاق واسع، وخنوع النظام للولايات المتحدة وعجزه عن تقديم — أو حتى إبداء اهتمام بتقديم — دعم حقيقي للشعب الفلسطيني أو الاعتراض الجاد على الحرب في العراق، وارتفاع نسبة البطالة، وتزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء»، حسبما ورد في تحليل لمجلة ميدل إيست ريبورت في مايو/أيار عام ٢٠٠٧. بدأت أعداد كبيرة من المصريين الحديث صراحة عن الحاجة إلى حدوث تغيير حقيقي. يحتل موظفو القطاع العام موقعًا مهمًّا يُمكّنهم من أداء دور حاسم إذا استطاعوا تنظيم أنفسهم، ولا يحتاج عدد المضربين عن العمل إلا لزيادة قدرها عشرة أضعاف العدد الحالي ليصلوا إلى الأرقام التي أشعلت الانتفاضات الشعبية في الماضي. فالثورة الإيرانية كانت أكثر الثورات شعبية في التاريخ، لكن لم يشارك فيها مشاركة فعلية سوى ٢ بالمائة من إجمالي عدد السكان، وثاني أكثر الثورات شعبية في التاريخ اندلعت في روسيا عام ١٩١٧ ولم يشارك فيها مشاركة فعالة سوى ١٫٥ بالمائة من إجمالي السكان.

لا ينبغي للنظام المصري أو الإدارة الأمريكية أن يركَنَا إلى ما يشار إليه بوجه عام — ازدراءً أو تمنيًا — بالطبيعة اللامبالية للشعب المصري. فقد ذهبت النظرة الاستشراقية للتاريخ المصري إلى أن المصريين لانت شوكتهم نتيجة حكم الفراعنة لهم قديمًا، ومن ثم اعتادوا ألا يفكروا في شكل وطبيعة الحُكم في الدولة، وسلَّموا بفكرة أن الفرعون فوق مستوى المساءلة. وهكذا يواصل المصريون حياتهم عبر تجاهل الدولة، وعيش حياتهم على إيقاع النيل. من اليسير أن نعقد المقارنات بين الماضي والحاضر، خاصة تلك التي تشبه مبارك بالفرعون؛ فهو ثالث أطول الحكام المصريين بقاءً في السلطة على مدار الأربعة آلاف سنة الماضية. لكن هذا التحليل يحيد عن إنصاف الأمة المصرية المتشعبة النابضة بالحياة كما نراها في القرن الحادي والعشرين. أصبح الفيضان السنوي لنهر النيل ذكرى من الماضي بفضل بناء السد العالي. أيضًا تدلل المائة عام الماضية على أن المصريين أبعد ما يكونون عن الاستكانة وعدم الاكتراث بمن يحكمهم أو كيف يحكمهم، ولنا في ثورات المصريين عبرة؛ فقد اندلعت ثورة شعبية ضد الإنجليز (١٩١٩)، وانتفاضة جماهيرية احترق على إثرها نصف القاهرة (يناير/كانون الثاني ١٩٥٢) تلاها الانقلاب العسكري (يوليو/تموز ١٩٥٢)، ومظاهرات حاشدة أرغمت السادات على الاعتراف المخزي بخطأ القرار الذي اتخذته الحكومة بتخفيض الدعم على السلع الغذائية الأساسية (١٩٧٧)؛ فضلًا عن سلسلة متواصلة من الاغتيالات والمظاهرات الشعبية والهجمات الإرهابية. لا يمكن لشعب بهذا التاريخ إذن أن يوصف باللامبالاة؛ ولكن الأكثر إثارة لقلق النظام، والأكثر إلهامًا لهؤلاء الذين يسعون للإطاحة به، هو أن الفارق الزمني بين ثورتي ١٩١٩ و١٩٥٢ وبين ثورتي ١٩٥٢ و١٩٧٧ يقدَّر بنحو ثلاثة عقود، وهي الفترة التي تفصل عام ١٩٧٧ عن الوقت الحاضر. وتشير تلك القراءة للتاريخ إلى أن مصر ربما كانت على موعد مع واحدة من ثوراتها الشعبية المتكررة.

•••

هل فكرت واشنطن في ذلك؟ مما يتراءى لنا الآن من أدلة، الجواب هو لا. ولهذا السبب يجد الأمريكيون أنفسهم في عدد من المآزق؛ أهمها الرغبة في تحقيق الاستقرار إلى جانب الإصلاح الاقتصادي والسياسي في الوقت نفسه. ربما يكون الهدفان متناغمين على المدى البعيد، بل وربما يعزز كل منهما الآخر. غير أن السياسيين وصناع القرار في أمريكا نادرًا ما يخططون للمدى البعيد؛ ومن باب الإنصاف أن نقول إن هذا الأمر لا يقتصر على الأمريكيين وحدهم. وعلى المدى القريب، لا تفتقر الرغبات إلى التناغم فيما بينها فحسب، بل تعمل إحداها ضد الأخرى داخل المجتمع المصري. فالحفاظ على الاستقرار يعني الاستمرار في دعم مبارك والمقربين منه مع غض الطرف عن القوى الأساسية التي تهيمن على السياسة المصرية وهي الأجهزة العسكرية والأمنية. فتلك المجموعات ليس لديها ما يحفزها على الإصلاح، لأنها تستفيد من الوضع الراهن بما في ذلك المساعدات الأمريكية. أعضاء الحزب الوطني أنفسهم يعون جيدًا أن الإصلاح يعني التخلي عن شيء من السلطة — كما أشار بدراوي — ويخافون على نحو مبرر ومفهوم من أن يؤدي فقد السلطة إلى تضاؤل سيطرتهم. تلك هي ركائز الاستقرار التي بمقدورها وأد التغيير واستخدام القوة لمنع الاحتجاج الشعبي من الخروج عن نطاق السيطرة. ولا شك أنهم يستطيعون قمع المعارضة بل وقمع انتفاضة شعبية، لكن شيئًا كهذا لن يخلص النظام من مأزقه، لأن ركائز استراتيجية الإصلاح لديه — متمثلة في الخصخصة والاستثمار الأجنبي — تعتمد في نجاحها على الاستقرار الداخلي أيضًا.

على الجانب الآخر فإن الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تنفيذ إصلاح اقتصادي وسياسي حقيقي يحمل في طياته منافع مرتقبة من النمو الاقتصادي لا يقتصر نفعها على النخبة المتسلقة وحدها، بل يمتد إلى عموم المصريين الذين يعتمدون حاليًّا إلى جانب وظائفهم (إن كانوا يعملون) على الدعم الذي يستنزف ميزانية الحكومة. ولو كان الاقتصاد المصري أقوى مما هو عليه، فلن نرى مطاردي السياح في المناطق الأثرية وممارسي البغاء من الذكور في الأقصر عدوانيين أو مستغِلين ومستغَلين هكذا. يوفر الإصلاح السياسي — بمعنى زيادة الديمقراطية والشفافية — فرصة أمام الأصوات المختلفة في المجتمع المصري المعروف بتعدديته للمشاركة وتحقيق المصالح. وسيكون ذلك بمنزلة تغيير جذري عن الوضع الراهن الذي تزعم فيه الحكومة أن الوحدة مبدأ أساسي، وهذا ما يدفعها إلى التكشير عن أنيابها عندما يتحدث أحد عن وجود أقليات، وما يجعلها تزعم أنها تحقق مصالح الشعب على أفضل وجه، في الوقت نفسه الذي ترفض فيه اختبار صدق هذا الادعاء عن طريق إجراء انتخابات حرة ونزيهة.

ظهرت حقيقة تلك الأهداف المتضاربة في تجربة شديدة الغرابة تعرض لها هشام قاسم، الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان، الذي وقع عليه الاختيار ضمن أربعة نشطاء دوليين في أكتوبر/تشرين الأول عام ٢٠٠٧ لنيل جائزة الديمقراطية الصادرة عن هيئة «المنحة الوطنية للديمقراطية». وجد قاسم أن التجربة محزنة للغاية، إذ صرح لوكالة رويترز بعد تسلم الجائزة قائلًا: «رؤية رئيس الولايات المتحدة بشخصه والإحساس بعدم اكتراثه لما يجري على الصعيد السياسي في مصر جعلتني أتيقن من أن برنامج الديمقراطية هذا قد انتهى بلا رجعة.» وقال قاسم إن بوش سأله عن الإصلاحيين في الحزب الوطني الحاكم (وهو ما أجاب عليه بقوله: «آسف، لا يوجد إصلاحيون في الحزب الوطني.»)، لكن اهتمامه كان منصبًّا في الأساس على وضع الإسلاميين في مصر. أوضح قاسم أن الحكومة جعلت من المستحيل على الحركات السياسية العلمانية ممارسة عملها مفسحة المجال بذلك أمام الإسلاميين: «لا بديل الآن أمام الشعب، خصوصًا وأن الإسلاميين يعملون خارج المساجد بينما الأحزاب السياسية العلمانية لا يسمح لها بالعمل على الإطلاق.» وأضاف أنه يخشى في ظل الوضع الاقتصادي المتأزم «أن مصر ستصبح دولة دينية بحلول عام ٢٠١٠.» وكان واضحًا أن هذا التعليق الأخير استحوذ على اهتمام بوش الكامل، وبدت عليه حيرة شديدة لأن السياسة الأمريكية لا تحقق أهدافها، فقال: «نحن نعطي بلادكم ملياري دولار كل عام لتحفظوا استقرارها وتحولوا دون تحولها إلى دولة دينية.» قال قاسم إن بوش بدا مصدومًا ومرتعبًا.

قد يقول البعض إن قاسم لم يسد لنفسه صنيعًا عند لقائه بوش وكبار مستشاريه. والحقيقة المؤسفة هي أن الضغط الأمريكي من أجل الديمقراطية أصبح ينظر له الآن على أنه غير صادق على أفضل تقدير، ومنافق على أسوأ تقدير. ولا عجب في ذلك عندما يكون غرض الرئيس مما يدفعه لنظام مبارك هو الحفاظ على الاستقرار وليس السعي وراء الإصلاح. وقد ترتب على هذا التضارب في السياسة الأمريكية أن أي محاولة لمساعدة الأفراد والحركات الداعية إلى الديمقراطية تسفر عن نتيجة سلبية وهي الحد من تأييدهم داخل دائرة أنصارهم. وبعبارة أخرى، يُتهم هؤلاء الأفراد بالعمالة. وقد كانت هناك فرصة كبيرة أمام قاسم لكسب التأييد لقضيته داخل مصر نفسها لو أنه رفض مقابلة بوش من الأساس، لأن الكثيرين من الإصلاحيين العلمانيين ليسوا مفتونين بالأمريكيين، وهو ما اتضح لي — في أوج «ربيع القاهرة» أوائل عام ٢٠٠٤ — عندما التقيت بمجموعة منهم من بينهم أحمد سيف الإسلام وهو رئيس هيئة حقوقية مصرية تدعى «مركز هشام مبارك للقانون». كان من المفترض أن يشعر أحمد بالقوة بسبب الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة من أجل تحقيق ما يحاول هو إلقاء الضوء عليه منذ عقد من الزمان؛ وهو الحاجة إلى مزيد من الديمقراطية والحرية والمساءلة. ولكنه بدلًا من ذلك أخبرني أنه وغيره من الإصلاحيين متشككون إلى أقصى درجة في دور أمريكا في المنطقة، إن لم يكونوا يشعرون بالعداء الصريح تجاهه. قال لي ونحن في منزله الذي يقع على مرمى حجر من جامعة القاهرة: «الحرب على الإرهاب تقوض دور المدافعين عن الديمقراطية، في حين تقوي شوكة الديكتاتوريين العرب الذين يستخدمونها عائقًا أمام الإصلاح، وذريعة بأن تأييد الإصلاح يعني الوقوف في صف أعداء الدولة.» وهناك أدلة كثيرة تؤيد وجهة نظر أحمد سيف الإسلام. ففي الأسبوع الذي التقيت به فيه، نشرت صحيفة الأسبوع — القريبة من الحزب الحاكم — مقالًا تحت عنوان «خطة واشنطن لمصر» جاء فيه أن أمريكا تسعى إلى تعيين قبطي كنائب للرئيس وإلغاء المادة الثانية من الدستور (التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع). وفي الوقت نفسه، وجهت صحيفة روز اليوسف الأسبوعية الموالية للنظام اتهامًا لسعد الدين إبراهيم ﺑ«التعاون مع أمريكا وإسرائيل لتشوية صورة مصر.» وقد ساعد المناخ العام المناهض للسياسة الأمريكية في فتح الباب أمام ردود الفعل العنيفة والمنسقة. أخبرني هاني شكر الله — الذي كان يرأس تحرير جريدة الأهرام ويكلي وقتها — أن «الحرب على العراق أعاقت أجندة الإصلاح بطرق شتى، وأثارت نوعًا من البغضاء تجاه الولايات المتحدة امتدت لتتحول إلى بغضاء تجاه الغرب بأسره. وفي ظل الحديث عن «قانون الوطنية» الأمريكي، وخليج جوانتانامو، وسجن أبو غريب، وتدمير الفالوجة، ليس هناك في العالم العربي من يأخذ كلام الأمريكيين عن تأييد الديمقراطية على محمل الجد.» والمفارقة الأكبر هي أنه حتى التحركات الجديدة نحو الإصلاح تكاد تسلك اتجاهًا يعترض المصالح الأمريكية؛ فتعزيز الديمقراطية في العالم العربي — حتى وإن كان بكلمات موجزة — يعني دائمًا أن العرب سيعبرون في الأغلب عن انتقادهم الشديد لسياسات إسرائيل وأمريكا فيما يتعلق بالشرق الأوسط.

أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي دعمه لتقرير التنمية البشرية العربي لعام ٢٠٠٣ بشأن الحوكمة في العالم العربي، على الرغم من الاعتراضات الأمريكية على أجزاء من النص. أخبرني المُعِّد الرئيسي للتقرير — وهو المفكر المصري نادر فرجاني — في مكتبه بالقاهرة أن التقرير أثار سخط الأنظمة العربية والولايات المتحدة بالقدر نفسه. قال: «أحد الأسباب أنه يوجه نقدًا لاذعًا للاحتلال الأمريكي للعراق، وأنه أشار إلى أن الطريقة التي شُنَّت بها ما تسمى بالحرب على الإرهاب أسفرت بالقطع عن مزيد من تقييد الحريات في الدول العربية.» وأضاف أنه كان لا بد لهذا التقرير أن يصيب مركز الهدف، وقال: «كان من الطبيعي ألا يلقى استحسانًا لدى الأنظمة ذات الحوكمة السيئة ومن بينها الولايات المتحدة التي تعد نموذجًا واضحًا لنظام الحوكمة السيئة الذي لا يدعم الحريات.» ويكاد يبدو غريبًا الآن أن إدارة بوش استخدمت تقرير التنمية البشرية العربي ٢٠٠٢ كأساس لأولى مقترحاتها التفصيلية بشأن الإصلاح في العالم العربي. من الواضح أن الولايات المتحدة ليست واقعة بين مطرقة المعارضة الإسلامية وسندان النظام فحسب، ولكن أيضًا بين مطرقة المعارضة العلمانية (أو ما تبقى منها) وسندان النظام.

تحدوني رغبة متواضعة في أن أسدي نصيحة إلى واشنطن في هذا المقام، خاصة أن الرئيس الأمريكي سيترك منصبه في يناير/كانون الثاني ٢٠٠٩، ونصيحتي هي أن أي تصويت للشعب الأمريكي في انتخابات قريبة سينزل هزيمة منكرة بمن تبقى من المستشارين المحيطين بالرئيس بوش من المحافظين الجدد. ومع هذا، لا يوجد في المرحلة الحالية ما يشير إلى أن الرئيس الذي سيخلف بوش — سواء أكان من الحزب الديمقراطي أم الجمهوري — سيخرج من جعبته شيئًا جديدًا أو مبتكرًا يسهم به في السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، أو ستكون لديه الرغبة في الاستماع إلى الأصوات المختلفة. في الوقت نفسه لا بد أن يكون واضحًا وضوح الشمس الآن أمام جميع المرشحين أن التدخل العسكري غير المبرر — سواء أكان إجراءً استباقيًّا أم غير ذلك — ما هو إلا وصفة لوقوع كارثة في المنطقة، وأن الضربة الارتدادية لن تكون مقبولة؛ ليس فقط فيما يتعلق بالمصابين والضحايا المدنيين من أبناء البلد (فضلًا عن الضحايا والمصابين من الجنود الأمريكيين)، وإنما فيما يتعلق بالضغينة التي تولدها تلك الحروب بين الشعوب العربية، والفرص الملازمة التي يتيحها مثل هذا التدخل أمام الجماعات الإسلامية الموجودة ضمن التيار الرئيسي مثل الإخوان المسلمين لكسب المزيد من التأييد.

وإذا دنونا من المجتمع المصري من منظور مختلف، فسنجد جانبًا مشرقًا يتمثل في حقيقة أن تأثير الإخوان المسلمين على التيار الرئيسي محدود منذ عشرينيات القرن العشرين؛ وأن الإسلام الذي يمارسه معظم المصريين هو في الأساس إسلام صوفي في طبيعته، لذا فإنهم تلقائيًا لا يحتملون المذهب السني المتشدد (ناهيك عن العنف الذي يمارسه تنظيم القاعدة)؛ وأن المسلمين والمسيحيين في مصر فخورون إلى حد بعيد بتاريخهم المشترك، ويعيشون حياتهم ككيان واحد يشارك كل منهم الآخر في الاحتفالات والمناسبات الدينية؛ وأنه على الرغم من دعاية النظام المناهضة لإسرائيل فإن المصريين على استعداد للعمل مع الإسرائيليين ما دامت بنود الاتفاق عادلة ومنصفة (بدليل «المناطق الصناعية المؤهلة» الإسرائيلية المقامة في مصر) وما دام التعامل مع محنة أشقائهم العرب في فلسطين يتخذ شكلًا جديًّا؛ وأنه ما زالت هناك حالة من الإعجاب الشديد بالحرية السائدة في أمريكا وأوروبا — بعيدًا عن السياسية — حتى إن كثيرين من المصريين كل عام يقدِمون على المجازفة بحريتهم بل وبحياتهم من أجل أي فرصة يذوقون معها هذه الحرية بأنفسهم.

مفتاح الحل بالطبع في الملياري دولار التي تدفعها الولايات المتحدة لمصر سنويًّا في صورة مساعدات، والمرهونة على نحو قاطع بالتقدم على طريق الإصلاح في ظل تهديد واضح بتوجيه الأموال إلى المشروعات الأساسية التي من شأنها تعزيز الديمقراطية في مصر ما لم يكن يتحقق فعليًا وليس فقط يعزز شفهيًا. لا بد لواشنطن أن تتلقى مقابلًا عن الأموال التي تدفعها، وما الذي سيضير واشنطن حقًّا لو سلكت هذا الاتجاه؟ ليس واردًا أن يسلم نظام مبارك السلطة إلى الإخوان المسلمين، أو أن يؤجج الغضب الشعبي إلى الحد الذي يُخرجه عن نطاق السيطرة. مَنْ مِن المصريين لن يبتهج عندما يتلقى النظام صفعة مجازية على وجهه إذا وضعنا في الاعتبار ما يتلقاه الكثيرون منهم من صفعات حقيقية وما هو أسوأ منها من زبانية النظام؟ في هذه الأثناء، نجد أن إسرائيل متفوقة عسكريًّا على مصر حتى إن أي هجوم لمصر عليها سيكون أشبه بالانتحار. وعلى الصعيد الإقليمي تضاءل تأثير مصر كثيرًا؛ فمن فلسطين إلى العراق، ومن لبنان إلى سوريا، والأهم إيران، باتت الكلمة العليا الآن للملكة العربية السعودية، ولا يوجد حليف تعتمد عليه واشنطن في العالم العربي أكثر من آل سعود، فضلًا عن أن السعودية تكاد لا تتأثر بضغوط واشنطن في ظل الارتفاع التاريخي غير المسبوق في أسعار النفط. وفي ظل هذا الضغط الذي يتعرض له النظام المصري، لن يجد خيارًا سوى تقديم إصلاحات جادة وإن كانت بطيئة؛ فالتحرك ببطء أفضل من عدم التحرك على الإطلاق.

على مدار مائتي عام، اختارت مصر الاتجاه الذي ستسلكه بين قطبي الشرق والغرب. فعامة المصريين حلفاء طبيعيون لواشنطن إذا رأوا أن فائدة حقيقية ستعود عليهم من وراء هذا التحالف. فتخلي واشنطن عن الشعب المصري عن طريق سماحها للوضع بمزيد من التدهور — وما سيترتب عليه من خطر وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم — وكأن الشعب المصري لا يستحق أفضل من ذلك ولا يريد أكثر من ذلك، على حد قول المحللين السياسيين في واشنطن سيكون أكثر من مجرد خيانة لأكثر ثقافات العالم العربي حيوية وتنوعًا؛ وسوف يؤذن أيضًا بموت الديمقراطية والتعددية في كل مكان في المنطقة. وبإيجاز، تحتاج واشنطن إلى نظرة بعيدة المدى وإعادة تقييم متأنية لدعمها للديكتاتور إلى جانب بذل قصارى جهدها من أجل حل القضية الفلسطينية التي يستغلها بهدف تشتيت الانتباه عن مواطن ضعفه الهائلة. وعلى الولايات المتحدة أن تحث على الإصلاحات الاقتصادية التي تستهدف مصالح الشعب المصري.

الولايات المتحدة صاحبة تاريخ طويل من التورط في منطقة الشرق الأوسط، ونادرًا ما كانت سياسات واشنطن تتخذ المسار الذي أرادته لها؛ حتى وإن افترضنا حسن نيتها. يعد برج القاهرة واحدًا من أشهر المباني في سماء القاهرة، وهو إحدى التركات التي خلفتها الجهود الأمريكية الرامية لكسب تأييد عبد الناصر. تقول إحدى الروايات إنه بُني بأموال دفعها — على سبيل الرشوة في الواقع — كيرميت (كيم) روزفلت رجل المخابرات المركزية الأمريكية الأسطورة (الذي لعب — بالمصادفة — دورًا محوريًّا في إعادة الشاه عام ١٩٥٣). ويُعرف برج القاهرة باسم «وخزة عبد الناصر»، لأن عبد الناصر أخذ الأموال ومضى جذلًا يواصل سياساته الخاصة. ونوعًا ما تكرر الحكومة الحالية الفعلة ذاتها مع الأمريكيين، وقد أوجز بوش حقيقة الصفقة بإتقان أثناء لقائه مع قاسم في واشنطن. وفي ظل تضاؤل مكانة أمريكا في المنطقة — بسبب فشلها الذريع في العراق وعدم إحرازها تقدمًا في مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين — يرى مبارك محدودية الخيارات المتاحة أمام الأمريكيين على المدى القريب وتضاؤل الرغبة في ممارسة المزيد من الضغوط. وهذا من شأنه أن يقنع النظام بأن جميع الأسباب متوفرة أمام استمرار الوضع الراهن.

•••

في خريف عام ٢٠٠٧، أجرى الحزب الوطني الديمقراطي انتخابات اختيار رئيس للحزب، وأثناء الإعداد للانتخابات كان هناك إجماع على أن مبارك سيفوز بسهولة؛ وفي نبؤة دقيقة على عكس عنوان «ديوي يهزم ترومان» الخاطئ الشهير الذي خرجت به صحيفة شيكاغو تريبيون قبل حسم نتيجة الانتخابات الأمريكية عام ١٩٤٨ لصالح ترومان، أوردت صحيفة «الجمهورية» القومية مقالًا تحت عنوان «مبارك سيُنتخب بالإجماع». وهو ما حدث بالفعل، بينما ترقى جمال إلى منصب أعلى داخل الحزب ما جعله — وفقًا للوائح الرسمية الروتينية — قادرًا في النهاية على ترشيح نفسه في الانتخابات. ربما تكون الأنظمة المستبدة رتيبة، لكن على الأقل يسهل التنبؤ بما سيحدث فيها. ويبدو مع الأسف أن هذا ما تريده واشنطن. لكن المشكلة تكمن في أنه قلما يمكن التنبؤ بما سيحدث في عالم السياسة خاصة في الشرق الأوسط. ومع أنه لا ينبغي الاستخفاف بقدرة نظام مبارك على الاستمرار على نحو متخبط، فإن الاهتياج المستتر الذي يسود أوساط العمال وغيرهم لا يدعو للتفاؤل. أيضًا لا يرسي النظام أساسًا لزيادة الانفتاح عن طريق تبني سياسات من المرجح أن تسفر عن زيادة تأييد الشعب، حتى وإن لم يكن هذا التأييد بالإجماع. وبسبب افتقار النظام إلى الأفكار أو الأيديولوجية أو الرموز التي تحظى بالقبول لدى الشعب، فإنه ينصرف عن وضع حلول للمشكلات على نحو يؤدي إلى تفاقمها.

ومن سيكون هناك للاستفادة من هذا الوضع؟ إنهم الإخوان المسلمون. لا أقصد بذلك أن الإخوان يتمتعون بشعبية كبيرة، ناهيك عن امتلاكهم لحلول عملية (أو صالحة للتطبيق)؛ وإنما أقصد أنه باعتبارهم كتلة المعارضة الوحيدة المنظمة، فإنهم الأقوى تلقائيًا. حدد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين استراتيجية قائمة على الصبر تمر بثلاث مراحل حتى الوصول إلى السلطة؛ مرحلة الدعاية (الإعداد)، ومرحلة التنظيم (التي تهدف إلى توعية الشعب)، وأخيرًا مرحلة الفعل (امتلاك السلطة). وبالرغم من أن هذا المخطط ربما كان عامًّا ومبهمًا — كحال معظم تحليلات الإخوان المسلمين في الواقع — فإنه يشير ضمنيًا إلى وجود إجراءات عملية، ويمكن القول إن الإخوان المسلمين وصلوا إلى المرحلة الثانية الآن بدليل تركيزهم على التعليم والثقافة، أو — على الأصح — بدليل اجتثاثهم لكافة أشكال التعليم والثقافة التي لا تتفق وعقيدتهم الإسلامية.

يتجلى بوضوح أيضًا أن الإخوان المسلمين يستفيدون من تجارب غيرهم. ففي خريف عام ٢٠٠٧، أشارت صفحتهم الإلكترونية الرسمية بإيجاب إلى مقال صادر عن هيئة الإذاعة البريطانية تناول الظروف التي تؤدي في الأغلب إلى انتفاضة شعبية والإطاحة بالحكومة، مستعينة بتجربة لم يحالفها الحظ في ميانمار (بورما) الواقعة تحت الحكم العسكري كمثال على ذلك. ومن بين العوامل الرئيسية التي ذُكر أنها تؤدي على الأرجح إلى إحداث تغيير في نظام الحكم: الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق التي تؤدي إلى ظهور عدة تكتلات اجتماعية واقتصادية مختلفة؛ وظهور قيادة معارضة لديها أفكار واضحة يمكن حشد الشعب حولها؛ والقدرة على استخدام وسائل الإعلام بصورة ما لنقل رسالة معينة؛ ووجود آلية لتقويض النظام القائم سواء عن طريق انقلاب داخلي في حالة الحكم العسكري، أو ظهور الإصلاحيين، أو إنهاك النظام الحالي بما يؤدي إلى انهياره. وطرح الناشط الإخواني المتحمس الذي لفت الانتباه إلى المقال سؤالًا على أقرانه الإسلاميين على موقعهم الإلكتروني هو: «هل يمكن تنفيذ هذا في مصر؟» ويُخيل إليَّ أن هذا السؤال كان أكثر من مجرد سؤال بلاغي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤