الفصل العاشر

تاريخ الحجاز

(١) تمهيد

ليست لدينا معلومات مؤكدة عن تاريخ الحجاز القديم قُبيل البعثة النبوية، وكل ما كتبه المؤرخون العرب إنما كُتب في القرن الثامن الميلادي وما تلاه من القرون، وقد عمدوا إلى بعض ما أجمله القرآن، فوسعوه من عندهم معتمدين فيما كتبوا على بعض ما ورد في التوراة، ومحاولين كما يقول الأستاذ نكلسون: إن يضفوا على تاريخ مكة قبل الإسلام ثوبًا إسلاميًّا، فنظروا إلى مكة قبل الرسول بآلاف السنين في ضوء كالذي ظهرت فيه بعد الرسول.

وقد يعجب الإنسان إذا عرف أن هذا الجزء الأوسط من جزيرة العرب قضى قرونًا متطاولة لا نعلم مقدارها، وهو في شبه عزلة عن العالم المتمدين، بينا جنوب الجزيرة وشمالها قد سجل التاريخ لنا من أخبارها وتمدينها شيئًا كثيرًا، ولكن جدب الحجاز، وجفاف تربته، ووعورة المسالك إليه لم يجذب الفاتحين العظام — مثل تحتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، وأغسطس قيصر في القرن الأول الميلادي، وملوك الفرس في إبان عظمة دولتهم — لفتحه، بل وأرجع بعضهم فاشلًا. فكانت هذه العوامل الطبيعية من الأسباب التي أبعدت الحجاز عن الاحتكاك بالدول، وجعلت نشاطه داخليًّا، وأبقت عليه حالة البداوة التي نشأ أهله عليها، ولم يخرج من هذه البداوة إلا مكة وبعض المدن التي هاجر إليها اليهود، وخاصة في القرون الأخيرة قبل الميلاد والأولى بعده فرارًا من اضطهاد حكم الرومان، كما كان لهجرة أهل اليمن بعد سيل العرم بعض الأثر في تحويل بعض أهل الحجاز من البداوة إلى الحضارة.

ولقد عالجنا في فقرة [العرب المستعربة] ما أورده العرب في نسب العرب العدنانية، وأبدينا رأينا في صحة هذه الأنساب، ثم لخصنا قصة إسماعيل عليه السلام، وسنعالج في هذا الباب التاريخ الأسطوري لمكة وتأسيسها، حسبما ورد في كتب العرب، ثم ما يمكن أن يُسمى تاريخًا لها؛ لأن الأمر — من الناحية العلمية — لا يزال تحقيق نظرياته موضع جدل بين العلماء ورهن ما يمكن الكشف عنه من مستندات ووثائق تلقي على الموضوع ضوءًا يجلو غوامضه ومعمياته.

وكان الأستاذ فلبي «في كتابه عن عصر ما قبل الإسلام الذي صدر أخيرًا سنة ١٩٤٧ والذي أشرنا إليه آنفًا» آخر من ناقش أصل العرب وقصة إبراهيم عليه السلام مناقشة علمية في فصل عقده بهذا العنوان ذكر فيه أن الباحثين كشفوا عن ألواح بابلية ذكرها تدل دلالة تامة على أن أسرة من أسرها المالكة عدد ملوكها ثلاثة حكمت قرنًا من الزمان، وكانوا ساميين موحدين، وأنهم استولوا على أسفل بابل حتى طردهم السومريون — وهم وثنيون غير موحدين — ثم ذكر أنه بالموازنة الدقيقة بين نصوص التوراة ونصوص الألواح البابلية وبمقارنة التواريخ في كليهما «القرن العشرين قبل الميلاد» تأكد لديه أن آخر ملوك هذه الأسرة ليس شخصًا آخر غير إبراهيم نفسه، وأن اسمه كما ورد في الألواح «دمقي إيليشو»، وأن ترجمة الاسم هي «خليل الله» وهو اللقب الذي يُطلق في المراجع الإسلامية على إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ذكر أنه بسبب سقوط هذه الأسرة السامية وعقب سقوطها هاجر إبراهيم إلى فلسطين … إلخ.

وظاهر مما ذكرناه الآن في هذا الصدد وما ذكرناه من قبل في مواضع أخرى من هذا الكتاب أن الكشوف العلمية الحديثة تؤيد روايات القرآن باستمرار، هذا وسنعالج بشيء من الإسهاب في الفقرات التالية تاريخ الإمارة في مكة، ونقفي على أثرها بشيء من تاريخ الإمارة في المدينة.

(٢) إسماعيل وتأسيس مكة

تقع مكة في واد منحصر بين الجبال، تربطه عدة طرق بالشمال وبالجنوب، ولا نعلم على وجه التحقيق متى أُسست هذه المدينة المقدسة، ولكن الراجح أن هذا الموضع كان قبل تأسيس مكة محطًّا لرجال القوافل، يضربون فيه خيامهم، سواء في ذلك القادمون من اليمن قاصدين فلسطين، والقادمون من فلسطين قاصدين اليمن، ويتبادلون فيه متاجرهم، ويقيمون فيه أيامًا بسبب ما كان فيه من عيون الماء.

وتنسب الرواية العربية — وتؤيدها بعض آي القرآن في ذلك — تأسيس مكة إلى إبراهيم عليه السلام، ولا يذكر القرآن أكثر من الواقعة مجردة، أما الرواية العربية فإنها تقول: إن هاجر وهي تجوب الصحراء مع ولدها إسماعيل، تصل في آخر الأمر إلى مكة، ولما أدركها الظمأ هي وولدها أخذت توسع الخطى بين تلين صغيرين، هما الصفا والمروة، بحثًا وراء الماء، وفيما هي تسعى بين التلين إذا بإسماعيل الذي تركته يبكي على الأرض، يضرب الأرض بقدمه فيتفجر منها ماء حلو صافٍ، ذلك الماء هو بئر زمزم، فيغري هذا البئر بعض العمالقة والقبائل اليمانية فتقيم إلى جواره، ويشب إسماعيل بين هذه القبائل، ويتزوج من ابنة زعيمهم، وتنفيذًا لبعض الرؤى التي رآها إبراهيم نجده يهم بذبح ابنه على مرتفع من الأرض هناك، ولكن الله يفتديه بذبح عظيم، وفي زيارة أخرى لإبراهيم نسمع أنه بمعاونة أبيه يقيم بيتًا لله، ويبدأ شعائر الحج الأولى، ولنفصل الآن هذه القصة معتمدين على ما ورد في كتب التاريخ العربية وتفاسير القرآن.

(٣) نشأة إبراهيم الأولى

نشأ إبراهيم في مدينة أور من بلاد الكلدان، لأب نجار كان ينحت الأصنام ويبيعها لقومه الذين كانوا يعبدونها، وأدرك إبراهيم أن الأصنام لا تنفع ولا تضر، فساوره الشك في أمرها، فسأل أباه كيف يعبدها وهي من صنع يده، وتحدث بذلك إلى الناس، فخشي أبوه بوار تجارته، وأدرك أنه يريد الكيد للأصنام، ولم يلبث إبراهيم أن اغتنم غفلة من الناس فكسرها إلا كبيرها، فحاكموه وحكموا عليه بالتحريق، وأشعلوا لذلك نيرانًا ألقوه في وسطها، فأنجاه الله منها، ورأى أنه لا ينجح في هداية قومه، وقد فشلت كافة الوسائل لإقناعهم، فهاجر إلى فلسطين هو وزوجه سارة التي آمنت به، ومعه لوط ابن أخيه الذي آمن به أيضًا، وحاول أن يهدي أهل فلسطين إلى عبادة الله، ولكنه فشل فارتحل إلى مصر وحمله على ذلك — في رواية البعض — جدب أصاب فلسطين إذ ذاك.

(٤) إبراهيم في مصر

دخل إبراهيم ومعه زوجه سارة أرض مصر، في القرن العشرين قبل الميلاد، إبان حكم الهكسوس، كما يُستنتج من تواريخ التوراة، ومن سياق الأقصوصة التالية، وكان من شأن ملوك الهكسوس — كما تقول القصة — أن يأخذوا النساء الجميلات ممن يهبطن أرض مصر، وكانت سارة كما يقول ابن الأثير «من أحسن النساء وجهًا، وكانت لا تعصي إبراهيم شيئًا، ولما وُصفَتْ لفرعون أرسل إلى إبراهيم، فقال: من هذه التي معك؟ فقال: أختي، خشية أن يقتله الملك ليتخذها زوجًا، فقال له: زينها وأرسلها إليَّ، فأمر بذلك إبراهيم فتزينت وأرسلها إليه فلما دخلت عليه أهوى بيده إليها.

وكان إبراهيم حين أرسلها قام يصلي، فلما أهوى إليها أُخِذَ أخذًا شديدًا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأُرسل، فأهوى إليها فأُخذ أخذًا شديدًا، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له فأُرسل، ثم فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرتين، فدعا أدنى حجابه وقال له: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر.» فأقبلت بهاجر الجارية المصرية إلى إبراهيم وأزمع الكل الرحيل.

ولما كانت سارة قد سلخت السنين الطوال ولم تلد لإبراهيم فإنها وهبته هاجر، وقالت: خذها لعل الله يرزقك منها ولدًا، فدخل بها فلم تبطئ أن ولدت إسماعيل، وبعد أن شب إسماعيل وترعرع حملت سارة وولدت له إسحاق.

(٥) إسماعيل في مكة

وكانت إقامة إبراهيم في الطرف الجنوبي من بلاد فلسطين، فلما كبر الغلامان إسماعيل وإسحاق اختصما، فغضبت سارة على هاجر، وقالت: لا تساكنيني في بلد، فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس بها يومئذ نبت، فجاء إبراهيم بإسماعيل وأمه هاجر فوضعهما بمكة، فلما مضى نادته هاجر: يا إبراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس، قال: أمرني ربي، قالت: فإنه لن يضيعنا، فلما ظمئ إسماعيل جعل يدحض الحجر برجله، وانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئًا، فلم ترَ شيئًا، فانحدرت إلى الوادي فسعت حتى أتت المروة، فاستشرفت أن ترى شيئًا فلم ترَ شيئًا، ففعلت ذلك سبع مرات، ثم جاءت إلى إسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين وهي زمزم فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء حتى لا يضيع في الرمال «وهي تقول: زم زم، فسُمي لذلك زمزم.»

وكانت جرهم بواد قريب من مكة، ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر، فقالوا: لو شئت فكنا معك فآنسناك والماء ماؤك، فقالت: نعم، فكانوا معها حتى شب إسماعيل، وماتت هاجر، فتزوج إسماعيل منهم، ويقول ابن الأثير الذي ننقل عنه هذه الرواية: إنه تعلم العربية منهم هو وأولاده، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فقدم وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: «أين صاحبك؟» قالت: ليس ها هنا، ذهب يتصيد، وكان إسماعيل يخرج يتصيد ثم يرجع، قال إبراهيم: «هل عندك ضيافة؟» قالت: «ليس عندي ضيافة وما عندي أحد»، فقال إبراهيم: «إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه»، وجاء إسماعيل فقال لامرأته: «هل عندك أحد؟» قالت: «جاء لي شيخ كذا وكذا» كالمستخفة بشأنه، فعرف أنه أباه، قال: «فما قال لك؟» قالت: «قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه» فطلقها وتزوج جرهمية أخرى هي بنت مضاض بن عمرو، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له فجاء حتى انتهى إلى بيت إسماعيل قال لامرأته: «أين صاحبك؟» قالت: «ذهب يتصيد وهو يجيء الآن فانزل يرحمك الله» فقال لها: «هل عندك ضيافة؟» قالت: «نعم». قال: «فهل عندك خبز أو شعير أو تمر؟» قال: فجاءت باللبن واللحم فدعا لهما بالبركة، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك.» فلم ينزل فجاءته بالمقام بالإناء فاغتسل فقال لها: «إذا جاء زوجك فقولي له: قد استقامت عتبة بابك»، فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: «هل جاءك أحد؟» قالت: «نعم شيخ أحسن الناس وجهًا وأطيبهم ريحًا فقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهو يقرئك السلام، ويقول قد استقامت عتبة بابك.»

هذه القصة نقلناها عن ابن الأثير بتصرف يسير، وهي لا تختلف في جوهرها عما أورده كافة مؤرخي العرب ومعظم المستشرقين، ولا يعترض إلا بعض هؤلاء الآخرين، ونخص بالذكر منهم الأستاذ موير الذي ينفي القصة من أساسها، ويرى أنها بعض الإسرائيليات ابتكرها اليهود قبل الإسلام ليربطوا بها بينهم وبين العرب بالاشتراك في أبوة إبراهيم لهم أجمعين فإن كان إسحاق أبًا لليهود فإذن كان أخوه إسماعيل أبًا للعرب، فهم إذًا أبناء عمومة توجب على العرب حسن معاملة النازلين بينهم من اليهود، وتيسر لتجارة اليهود في شبه الجزيرة. ويستند المؤرخ الإنجليزي في رأيه هذا إلى أن أوضاع العبادة في بلاد العرب لا صلة بينها وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في الوثنية، وكان إبراهيم حنيفًا مسلمًا. ويرى الدكتور هيكل أن تعليل الأستاذ موير ليس كافيًا لنفي واقعة تاريخية، وأن وثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرون كثيرة لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم إلى الحجاز وحين اشترك وإسماعيل في بناء الكعبة، وأنه لا يوجد ما يمنع أن يدعو إبراهيم إلى الوحدانية فلا يستمع العرب لدعائه، فقد سبق أن دعا إليها في العراق وفي فلسطين فلم ينجح (راجع صفحتي ٨٩ و٩٠ من كتاب حياة محمد للدكتور هيكل باشا).

وننتقل من هذه القصة إلى قصة أخرى قام عليها الخلاف بين اليهود والمسلمين ونعني بها قصة الذبيح.

(٦) من الذبيح؟ إسماعيل أم إسحاق؟

تتلخص قصة الذبح هذه في أن الله تعالى أراد أن يمتحن إبراهيم، فرأى إبراهيم في منامه أن الله يأمره أن يذبح ولده، فعرض الأمر على الولد، فأعلن خضوعه لما يأمر به الله، فأخذ إبراهيم الغلام وألقاه على عنقه وخده وَهَمَّ بذبحه، ففداه الله بذبح عظيم (سورة الصافات الآيات من ١٠١ إلى ١١٢)، ولم يذكر القرآن أي ابني إبراهيم كان الذبيح أهو إسماعيل أم إسحاق؟ كما أنه لم يذكر الموضع الذي حدثت فيه الحادثة، أكان ذلك بفلسطين أم بالحجاز؟ وقد اختلف من أجل ذلك المؤرخون والمفسرون المسلمون، فمنهم من قال: إن الذبيح هو إسماعيل، ومنهم من قال: إن الذبيح هو إسحاق، فابن مسعود ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن إسحاق يقولون: إن الذبيح هو إسماعيل، أما ابن عمر وابن عباس والحسن وعبد الله بن أحمد فيقولون: إنه إسحاق. أما التوراة فإنها تنص في الآيات من ١ إلى ١٤ من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين على أن الذبيح هو إسحاق، ويرى الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار في كتابه «قصص الأنبياء» مستدلًّا من القرآن في سورة الصافات، ومن التوراة نفسها في الآيات السالفة الذكر، على أن الذبيح هو إسماعيل، قائلًا: إن لفظ إسحاق الذي ورد فيها بعد قوله: «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض الموريا … إلخ.» إنما حُشر حشرًا في الآية، حرصًا من اليهود على أن يكون أبوهم هو الذبيح الذي جاد بنفسه في طاعة ربه.

وجمهور المؤرخين المسلمين يعتقد أن الذبح والفداء كانا فوق جبل من جبال مكة، أما سياق القصة سواء أكان الذبيح إسماعيل أم إسحاق فيرجح أن الذبح والفداء كانا في فلسطين، وينكر بعض المستشرقين القصة برمتها، بينما بعض المؤرخين المسلمين ينسج حولها خيوطًا رائعة من خيال مؤثر، فيزعمون أن الشيطان تمثل رجلًا فجاء أم الغلام فقال لها: «أتدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟» فقالت له: «ذهب به يحتطب لنا من هذا الشعب»، قال الشيطان: «والله ما ذهب به إلا ليذبحه»، قالت الأم: «كلا»، قال الشيطان: «إنه يزعم أن الله أمره بذلك»، قالت الأم: «فليطع أمر ربه»، ثم كان حديث بين الشيطان والأب والابن، كان جوابهما عليه كجواب الأم، فنكص الشيطان على عقبيه خزيان محنقًا. ثم يصف ابن الأثير الموقف بين الأب والابن وصفًا مؤثرًا شعريًّا، فيلقي على لسان الابن أنه قال: «يا أبت إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لئلا يصيبك من دمي شيء فينقص أجري فإن الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبني على وجهي، فإني أخشى إن نظرت في وجهي أن تدركك رحمة، فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن ترد قميصي إلى أمي فعسى أن يكون أسلى لها عني فافعل.» فقال إبراهيم: «نعم المعين أنت أي بني على أمر الله»، فربطه كما أمره ثم حد شفرته وتله للجبين، ثم أدخل الشفرة لحلقه فقلبها الله لقفاه، ثم اجتذبها إليه ليفرغ منه فنودي: «أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها.» ويرى الدكتور هيكل باشا أن قصة الذبح والفداء هي قصة الإسلام لأمر الله غاية الإسلام، والتسليم لقضائه كل التسليم.»

وننتقل الآن إلى بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت الذي بمكة.

(٧) تاريخ الكعبة

صحب تأسيس الكعبة أساطير عدة لا تعتمد على سند من تاريخ أو دين، وقبل أن نعالج هذه الأساطير يجب أن نذكر هنا قوله تعالى في سورة آل عمران آيتي ٩٦، ٩٨: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وقوله تعالى في سورة البقرة الآية ١٢٧: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فهذه الآيات وغيرها تحملنا على الجزم بأن بناء البيت من عمل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأنهما قصدا ببنائه عبادة الله تعالى ونشر الوحدانية، ولا يطعن في ذلك أن التاريخ يروي لنا أن معابد كثيرة أسست قبل هذا المعبد في مصر أو أشور أو فلسطين، فإن هذه المعابد إنما أسست في ظل الوثنية لعبادة آلهة متعددة، ولا شك أن المعبد الذي بناه إبراهيم كان أقدم من المعابد التي أسسها نبي الفراعنة إخناتون ببضعة قرون، وإخناتون في أرجح الأقوال من الأنبياء والموحدين، أما الأساطير التي ابتكرها المؤرخون والمفسرون من العرب، رغبة منهم في إضفاء قداسة عليها أكثرها مما ورد في القرآن فنحن نلخصها فيما يلي:
  • (١)

    أن الكعبة بنيت في السماء، على غرار أنموذج لا يزال موجودًا، يسمى البيت المعمور، وذلك قبل أن تُخلق الدنيا بألفي سنة، وأن آدم عليه السلام أقامها على الأرض تحت الموضع الذي يقابل أنموذجها تمامًا.

  • (٢)

    أن الله أمر الملائكة من سكان الأرض، أن يبنوا في الأرض بيتًا على غرار البيت المعمور وأمر من في الأرض أن يطوفوا به، كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.

  • (٣)

    أن آدم عندما هبط إلى الأرض مع زوجه من الجنة، لم يسمع أصوات الملائكة حول العرش، فأقبل آدم حتى وصل مكة، وساعدته الملائكة فبنى البيت، متخذًا أحجاره من خمسة جبال، هي: جبل طور سيناء، وطور زيتاء، ولبنان، والجودي، وحراء.

  • (٤)

    أن البيت المقدس أغرق في طوفان نوح، وأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام أن يعيد بناءه، وأن إسماعيل ساعد أباه في البناء، فكان يجيء بالحجارة وإبراهيم يبني حتى رفع القواعد من البيت.

  • (٥)

    أن إبراهيم لما أمره الله ببناء البيت لم يعرف موضعه، فبعث الله سحابة على قدر الكعبة، فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافت مكة ووقفت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص.

  • (٦)

    أن إبراهيم لما أُمر بالبناء أقبل على البراق ومعه السكينة، وهي ريح لها رأسان تشبه الحية، يتبع أحدهما صاحبه، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة، فتطوقت السكينة على موضع البيت كتطوق الحية، فكنست ما حول البيت عن الأساس.

وتختلف الأقاويل في أصل الحجر الأسود، وقد ذكر ابن الأثير أن إبراهيم قال لإسماعيل: ائتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علمًا، فناداه أبو قبيس «جبل بمكة» أن لك عندي وديعة، وقيل: بل جبريل أخبره بالحجر الأسود فأخذه ووضعه مكانه، وتذكر بعض الروايات أن هذا الحجر من حجارة الجنة، وأنه عندما هبط إلى الأرض كان أبيض كاللبن ثم اسود من خطايا الناس، ولا نستطيع أن نجزم بنوع مادة هذا الحجر، ففريق من العلماء يقول: إنه حجر بركاني يشبه الحجر الخفاف، وآخرون يقولون إنه نيزك، بل أكبر نيزك هبط من السماء.

وبعد أن أتم إبراهيم بناء البيت أذن في الناس بالحج.

أما بقية تاريخ الكعبة فيتلخص فيما يأتي:

وعندما مات إسماعيل وقعت الكعبة في يد الجراهمة، وظلت في أيديهم زهاء ألف سنة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى أيدي بني خزاعة، الذين أقاموا عليها أكثر من مائتي سنة، وكثيرًا ما كانت تدمر بسبب السيول التي تجتاحها، ثم أعاد بناءها قصي بن كلاب الذي جعل لها سقفًا، وكانت حتى زمنه مكشوفة لا سقف لها، وفي خلال هذه القرون الطويلة تطورت العبادة في الكعبة، حتى أصبحت موئل الأصنام وعبادتها، بعد أن كانت بيتًا لعبادة الله جل وعلا، ولا يحدثنا التاريخ المعتمد عن الأدوار التي مر فيها هذا التطور، إنما يذكر مؤرخو العرب أن عمرو بن لحي الخزاعي كان أول من أدخل الأصنام إلى بلاد العرب، وأنه جلب أول صنم إليها وهو هُبَل من مدينة «هيت» في العراق، ومن ذلك الوقت أصبحت الكعبة «بانثيون» لكل القبائل؛ أي مجمعًا ومقرًّا لأصنامها، وكان قصي أول من بنى حول الكعبة بيوتًا، ولم يترك بين البيوت والكعبة إلا قدر المطاف، وأشرفت قريش على الكعبة بعد قصي فأصابها حريق، فأعادوا بناءها في حجم أصغر من حجمها الأصلي وأقاموا بداخل البناء ستة أعمدة ليعتمد عليها السقف، ثم وضعوا تمثال هُبَل إلى جدار في داخل الكعبة، وروى الأزرقي أن صور العذراء والمسيح وإبراهيم وإسماعيل وبعض الملائكة كانت منقوشة على بعض عمد الكعبة.

وقبيل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام أصاب الكعبة سيل أوهن جدرانها فهدمها القوم بعد تردد، ثم أعادوا بناءها، حتى إذا وصلوا إلى مكان الحجر الأسود اختلفوا، وكادت تنشب حرب أهلية بينهم، لولا أنهم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا فكان محمد عليه السلام، فرأى بحكمته أن يفض النزاع، بأن وضع الحجر على ثوبه، ثم كلف أهل القبائل المختلفة برفعه ووضعه في المكان بيده.

وبعد فتح مكة طهر النبي الكعبة من كل أثر للوثنية، فحطم الأصنام وطمس الصور، وأعاد إليها بساطة التوحيد.

وفي أيام يزيد بن معاوية حاصر قائده الحصين بن نمير السكوني مكة ورمى الكعبة بالمنجنيق فتناثرت حجارتها واشتعلت فيها النيران؛ لأن بناءها إذ ذاك كان مدماكًا من حجر ومدماكًا من خشب، ولما مات يزيد فك الحصار عن مكة، فرأى عبد الله بن الزبير أن يعيد بناء الكعبة، فهدمها وشرع في بنائها على قواعد إبراهيم.

وفي أيام عبد الملك بن مروان حاصر الحجاج مكة، وقتل عبد الله بن الزبير، واستأذن عبد الملك في أن يعيد بناء الكعبة، ويرجعها إلى ما كانت عليه أيام رسول الله فأذن له.

وأراد هارون الرشيد أن يهدم الكعبة ويردها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه الإمام مالك عن ذلك، وقال: «لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها»، فترك الرشيد الكعبة كما هي.

وفي سنة (١٠٤٠ هجرية/١٦٣٠ ميلادية) هطل بمكة مطر عظيم، ثم ارتفع حتى وصل الكعبة ووهن بناءها، وأخذت الحجارة تتساقط، فهلع الناس واضطربوا، وأرسل والي مصر محمد باشا الألباني جماعة من المهندسين والمعلمين المصريين، فهدموا بقية الجدران، وابتدءوا يبنونها عمارة جديدة، وربطوا الحجر الأسود بسوار من الفضة؛ لأنه كان قد تصدع ولما فرغ القوم من بناء الكعبة كتبوا محضرًا أرسلوه إلى مصر فيه شهادة المكيين بحسن عمارة البيت.

وبناء الكعبة القائم الآن، هو البناء الذي شاركت فيه مصر بالحظ الأوفر، وأنفقت بعد أن أرسلت جميع ما يلزم من أدوات للعمارة ستة عشر ألفًا من الجنيهات لإتمامها.

وهو يبلغ من الارتفاع ١٥ مترًا، وطول جداره الشمالي ٩٫٩٢ مترًا، والجنوبي ١٠٫٢٥ مترًا، والشرقي ١١٫٨٨ مترًا، والغربي ١٢٫٢٥ مترًا، وفي الجدار الشرقي بابها، ويرتفع عن الأرض مقدار مترين، وعتبة مصفحة بصفائح الفضة، وكذلك مصراعا الباب، إلا أن صفائحهما الفضية مطلية بالذهب، ويلاصق جدران الكعبة من الخارج بناء من الرخام يسمى الشاذروان، ارتفاعه عن الأرض قليل، وقد أقيم تقوية للجدران، وفي الركن الجنوبي الشرقي الحجر الأسود وهو مبدأ الطواف، ويرتفع عن الأرض مترًا ونصف متر، وعلى مقربة من الكعبة نجد بئر زمزم المشهورة.

والآن وقد استطردنا فأتينا على تاريخ الكعبة ووصفها، فإنًّا نرجع بالقارئ إلى حالة مكة بعد بنائها، وانصراف إبراهيم عليه السلام عنها إلى الشمال.

(٨) بنو إسماعيل في مكة

بعد أن تم بناء البيت وعاد إبراهيم إلى فلسطين، أقام إسماعيل في مكة التي أخذت أفئدة الناس تهوي إليها، ونخص بالذكر منهم الجراهمة، الذين كانوا يقيمون إلى جوار مكة قبل أن ينبع الماء في زمزم، وظل إسماعيل يدعو الناس إلى عبادة الله في مكة وما جاورها حتى مات، وقام أبناؤه من بعده — إذا تساهلنا في التعبير — على السلطة الزمانية في مكة وعلى خدمة البيت، وقد سبق أن قلنا إن إسماعيل تزوج من السيدة فاطمة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي، ومن هذه السيدة أنجب أبناءه الاثني عشر، الذين هم أجداد العرب الإسماعيلية، ولم يلبث أولادهم أن انتشروا في أنحاء الجزيرة، وخاصة في شمالها، وليست أسماء القبائل التي تنسب إلى إسماعيل إلا أسماء هؤلاء الأولاد أو أحفادهم.

وأشهر أعقاب إسماعيل هو عدنان، الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، والذي يقال إنه تزوج — كجده من قبل — من جرهمية، ونحن لا نستطيع أن نجزم بصحة ما أورده النسابون في سلسلة النسب التي تربطه بإسماعيل، أما أبناء عدنان، فأنسابهم إلى حد ما مضبوطة، لا يختلف فيها مؤرخو العرب، ويعترف بها معظم المستشرقين، ونخص بالذكر منهم نزار بن معد بن عدنان.

وقد أنجب نزار ولدين، أحدهما ربيعة والآخر مضر، ومن أشهر أعقاب ربيعة بكر وتغلب، أما مضر فأشهر أعقابه عبس وذبيان وسليم وهوازن وتميم وهذيل وخزيمة، ومن بني خزيمة كنانة وأسد، وأشهر بني كنانة فهر أو قريش، وهي القبيلة التي ستشغل أكبر حيز من كلامنا في هذا الباب.

وتاريخ بني إسماعيل في هذه الفترة الطويلة من الزمن، غامض غموضًا شديدًا، ولا يعرف حتى المؤرخون العرب كيف يملئون فراغ هذه القرون المتطاولة، ولا تبزع شمسهم — مشبحة بالغيوم — فوق أفق التاريخ الحقيقي إلا من عهد قصي، في منتصف القرن الخامس الميلادي، على أن هذا لا يمنعنا من أن نذكر بناءًا على ما رواه مؤرخو العرب، أن الذين قاموا على الحكومة والبيت في مكة بعد أولاد إسماعيل مباشرة هم الجراهمة أخوالهم، ومن بعدهم الخزاعيون.

ونثبت في كل من الجدولين الآتيين سلالة ربيعة ومضر، كما استخلصت من كتب الأنساب، مع ملاحظة أن الخط المنقط يدل على إهمال حلقة أو أكثر من سلسلة النسب:

(٩) الجراهمة في مكة

لما ضعفت قبضة بني إسماعيل في مكة، نحاهم أخوالهم الجراهمة، الذين آثروا المقام في مكة، بينا هاجر معظم بني إسماعيل، وقد احتفظ الجراهمة بسدانة البيت، ولقبوا أنفسهم بالملوك، وممن يذكرهم مؤرخو العرب من الجراهمة، مضاض الجرهمي الأصغر الذي نازعه بعض أهل مكة السلطان فانتصر عليهم، ولا يذكر المؤرخون شيئًا جديرًا بالذكر إلا أن جرهمًا بغت مكة واستحلوا حرمة البيت، وظلموا من دخل مكة من الحجاج وغيرهم، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدى إليها، وظهر فيهم الفسق والفساد حتى كانوا يأتون الفحشاء في جوف الكعبة، وما زال أمرهم يضعف حتى تمكنت خزاعة من التغلب عليهم، والاستيلاء على مكة.

وقبل أن يبرح آخر ملوكهم — وهو عمرو بن الحارث بن مضاض — مكة يقال إنه رمى في بئر زمزم كل تحفه وذخائره، ومن بينها غزالتان من الذهب وسيوف ودروع سنعود إلى الكلام عنها في الفقرات التالية، كما تذكر بعض الروايات أنه دفن الحجر الأسود أيضًا، ثم طم البئر على ما دفن.

وتذكر بعض كتب الأدب والتاريخ أشعارًا يتجلى فيها حزن الجراهمة على ما فقدوا من ملك وجاه، وأغلب الظن أنها موضوعة.

أما أين ذهب الجراهمة بعد طردهم من مكة فذلك ما لا نعرفه، وإن كان بعض المؤرخين يذكر أنهم انصرفوا إلى اليمن، وهذا ما لا نستطيع أن نجزم به.

(١٠) الخزاعيون في مكة

في القرن الثاني الميلادي أخذت عدة قبائل من القبائل اليمانية تهجر بلادها إلى الشمال بعد تصدع سد مأرب، وكان معظم هذه القبائل يقصد المدينة والشام والحيرة، ولكن بني حارثة بن عمرو، وهم خزاعة تخلفوا في مكة، وآثروا المقام فيها، وهم الذين استطاعوا أن يجلوا الجراهمة عنها في القرن الثالث الميلادي، وقد ظلوا سادة مكة زهاء مائتي سنة، لهم ما يشبه السلطة الزمنية، وأهم الوظائف الدينية؛ إذ لم يتركوا لأهل مكة من هذه الوظائف إلا أصغرها، وتذكر بعض الكتب أن خزاعة لم تُخرج جرهمًا من مكة منفردة، بل تولت هذا الأمر معها كنانة، ويذكر لنا المؤرخون من الخزاعيين عمرو بن لحي، الذي يقال إنه أول من أدخل عبادة الأصنام، ولقد ذكر ابن الكلبي في كتاب الأصنام «أنه مرض مرضًا شديدًا فقيل له: إن بالبلقاء من الشام حمة إن أتيتها برئت، فأتاها فاستحم بها فبرئ، ووجد أهلها يعبدون الأصنام، فقال: ما هذه؟ فقالوا: نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة.» وقد سبق أن قلنا: إن الصنم الذي حمله هو هبل.

وآخر من ولي من خزاعة هو حليل الذي جعل ولاية البيت إلى ابنته حبي، فقالت إنها لا تقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل أبوها الفتح والإغلاق إلى رجل من خزاعة يقوم لها اسمه أبو غبشان، فكانت له سدانة الكعبة قبل قريش، فاجتمع مع قصي في شرب بالطائف، فأسكره قصي ثم اشترى مفاتيح البيت الحرام منه بزق خمر، وأشهد عليه، ودفع المفاتيح إلى ابنه عبد الدار وطيره إلى مكة، فلما أفاق أبو غبشان ندم على المبيع، فضُرب به المثل في الحمق والندم وخسارة الصفقة، فقالوا: «أخسر من صفقة أبي غبشان» وتلا ذلك حرب بين خزاعة وقريش، انتهت بانتصار قريش، وزوال ملك خزاعة عن مكة كما سنبينه، وآل أمر البيت إلى قريش ورثة إسماعيل الحقيقيين.

(١١) قصي زعيم النهضة القرشية

تذكر بعض الروايات أن حليلًا أوصى لزوج ابنته قصي بحكم مكة وولاية البيت من بعده، ولكن خزاعة أبت، وسواء أكانت هذه الرواية أو الرواية السابقة أصح فإن حربًا قامت بين قريش وخزاعة، وقد انضمت كنانة إلى قريش، وانضم بنو بكر إلى خزاعة، واستنجد قصي ببعض إخوته لأمه من بني عذرة في الشمال، وظلت الحرب بين الفريقين سجالًا حتى تداعى القوم للصلح، وحكموا بينهم واحدًا من كنانة فقضى لقصي بولاية الكعبة وحكم مكة، فأصبح رئيسًا كما يقول بعض المستشرقين للجمهورية المكية وزعيمًا لديانتها، وقبل أن نتكلم عن حكومة قصي وأعماله الإصلاحية نذكر لمحة عن حياته الأولى:

كان لكلاب بن مرة القرشي ولدان، زهرة وزيد، وكان زيد طفلًا عندما مات أبوه، وسرعان ما تزوجت أمه فاطمة من رجل اسمه ربيعة بن حرام من بني عذرة في حدود الشام، وأخذت زيدًا معها، فنشأ زيد بعيدًا عن موطنه الأصلي، ومن ذلك سمي قُصي «تصغير قاصٍ» ولما بلغ مبلغ الرجولة وعرف أصله الحقيقي عاد إلى مكة، حيث كان النفوذ الديني والمدني في أيدي الخزاعيين، وملكهم إذ ذاك حليل بن حبشية، وعز على قصي أن يرى الأجانب سادة بني قومه القرشيين، الذين تجري في عروقهم دماء أبيهم الأكبر إسماعيل، فصمم على أن ينتزع السلطان له من خزاعة، وبدأ ينفذ خطته بالتدريج، فتزوج من حبي ابنة حليل بأمل أن يرث من حميه امتيازاته، ولكن حليلًا قبل موته أوصى بمفاتيح الكعبة لقريبه أبي غبشان، فابتدأ قصي يرمي شباكه حول أبي غبشان، فأسكره واشترى منه مفاتيح الكعبة بزق خمر كما بينا، ولم يرتح الخزاعيون بطبيعة الحال لضياع المفاتيح من أيديهم، وادعى أبو غبشان أنه رهن المفاتيح ولم يبعها، وكان قصي يعلم أن هذا الأمر لا يمر بسلام، فاتخذ للحرب عدتها من قبل، ونال نصرًا حاسمًا كما بينا، وبذلك أصبح سيد البيت والمدينة، وكان ذلك في منتصف القرن الخامس الميلادي، ثم بدأ يقوم بأعماله الإصلاحية التي سنشرحها في الفقرة التالية.

(١١-١) إصلاحات قصي

  • (١)

    كانت أول خطوة خطاها قصي أن جمع أفراد قريش المبعثرين في نواحٍ متعددة إلى وادي مكة، فأظفره ذلك بلقب «المجمع»، وجعل لكل بطن حيًّا خاصًّا على مقربة من الكعبة، وكان الناس قبل ذلك لا يجرءون على البناء بجوار الكعبة مبالغة في تقديسها، وكانت حجة قصي في ذلك أن يقيم على مقربة من البيت حماة له، يتعهدونه بالصيانة ويدفعون عنه الخطر، ولم يترك بين الكعبة والبيوت التي بنتها بطون قريش إلا بمقدار ما يسمح بالطواف، وقد أنشأت هذه البطون أحياء حصينة حول الكعبة من نواحيها الأربع.

  • (٢)

    وابتنى قصي لنفسه قصرًا جعل بابه يؤدي إلى الكعبة مباشرة، وكان هذا القصر يُسمى دار الندوة، فكان قصي يتولى رئاسة هذه الدار، التي جعل من اختصاصها البت في كل الشئون العامة من تجارية وحربية وغيرها بعد مناقشتها، وكان لا يسمح بدخول هذه الدار إلا لمن بلغ عمرهم الأربعين سنة، إلا إذا كان من سلالة قصي، أو كان حكيمًا ومفوهًا، وكان القرشيون إذا أزمعوا حربًا يتلقون اللواء من يد قصي أيضًا، كما كان قصي يعقد رقاعًا من القماش الأبيض على أطراف الحراب ويقدمها بنفسه أو يبعثها مع أولاده إلى زعماء قريش، وقد ظل هذا الإجراء الذي يُسمى عقد اللواء منذ أن أنشأه قصي إلى آخر أيام الفتوح العربية.

    ولم تكن مهمة دار الندوة مقصورة على المسائل العامة التي بيناها، بل كان يبت فيها في المسائل الشخصية أيضًا، فكان لا يتزوج رجل ولا امرأة إلا في تلك الدار، ولا تدرع جارية من قريش إلا فيها، فيشق صاحب الدار درعها ويدرعها بيده، وكانوا يفعلون ذلك ببناتهم إذا بلغن الحلم.

  • (٣)

    وقد نجح قصي في إثارة عاطفة الكرم والضيافة فيهم، وأخبرهم قائلًا: إن الحاج ضيف الله وهم أحق الضيف بالكرامة، فحمل الناس على دفع ضريبة سنوية تُسمى الرفادة، كان يقصد منها المعاونة على إطعام الحجاج الفقراء وغيرهم ممن يهبطون مكة في أيام منى، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام، وهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء والسلاطين كل عام بمنى.

    ورئاسة قصي لدار الندوة وعقده اللواء وجمعه الرفادة، تقابل في الاصطلاح الحديث رئاسته للسلطات التشريعية والحربية والمالية، مع شيء من التساهل.

  • (٤)

    وكان قصي يهيمن إلى جوار ذلك على ما يُعرف بالسقاية، والمقصود بالسقاية تدبير الماء وحمله من آبار مكة المجاورة بالمزاود والقرب، ووضعه في أحواض لسقاية الحاج، وما زال ذلك الشأن حتى أعيد حفر زمزم، وفي بعض الأحيان كان يحلى ذلك الماء بشيء من التمر أو الزبيب.

  • (٥)

    كذلك كانت لقصي الحجابة أو السدانة، ويقصد بها حفظ مفاتيح الكعبة، لا يفتحها إلا هو، ولا تقام شعائر دينية إلا بإذنه، وبذلك كانت لقصي السلطة الروحية أيضًا إلى جوار السلطات السالفة الذكر.

وخلاصة القول أن قصيًّا جمع في شخصه كل الوظائف الرئيسية، دينية كانت أم مدنية «سياسية» فكان — مع شيء من التجاوز — ملك بلاد العرب ورئيسها الديني الأعلى، وقد أضفى نفوذه هذا على قبيلة قريش مجدًا وجاهًا عظيمين، ومنذ أيام قصي وقريش تتمتع بمركز ممتاز بين بقية أعقاب إسماعيل.

ومات قصي حوالي سنة ٤٨٠ ميلادية، بعد أن عمر أكثر من ثمانين سنة، وترك من الأبناء عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى.

(١١-٢) الحالة بعد قصي

وقبل أن يدركه الموت أقام أكبر أبنائه عبد الدار خليفة له، وبعد أن مات تمتع عبد الدار بما كان يتمتع به أبوه من قبل، دون أن ينازعه في ذلك أحد من قريش، ولما مات عبد الدار تولى أبناؤه الوظائف من بعده، ثم تولى أحفاده من بعدهم، ولكن قام بين هؤلاء الأحفاد نزاع، واحتدمت بينهم وبين بني عبد مناف الخصومة، وانقسمت بطون قريش وحلفاؤهم وجيرانهم إلى معسكرين: معسكر يعاضد بني عبد الدار، وآخر يعاضد بني عبد مناف، وعقد كل فريق حلفًا مؤكدًا على ألا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضًا، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبًا ووضعوها عند الكعبة، وتحالفوا وجعلوا أيديهم فيها، فسُمي حلفهم حلف المطيبين، وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف، ثم تعبأ الفريقان للقتال، وكان زعيم بني عبد مناف ابنه عبد شمس أكبرهم، ثم تداعى الفريقان للصلح على أن تكون:
  • (١)

    السقاية والرفادة لعبد شمس بن عبد مناف.

  • (٢)

    وأن تظل الحجابة والندوة واللواء في أيدي بني عبد الدار.

ولما كان عبد شمس فقيرًا ذا عيلة، وكان فوق ذلك كثير الأسفار، فإنه تنازل عن السقاية والرفادة لأخيه هاشم الذي كان موسرًا، وكان يستطيع الاضطلاع بهما لما يكلفان من مال.

ونلاحظ في التقسيم السالف الذكر أن ما أفاده بنو عبد مناف أكسبهم ذكرًا ومجدًا خارج قريش، في حين أن ما أفاده بنو عبد الدار أكسبهم نفوذًا وسلطانًا في مكة نفسها.

(١٢) ازدهار مكة في عهد هاشم بن عبد مناف

وُلد هاشم بن عبد مناف في سنة ٤٦٤، وقد قلنا إن منصبي الرفادة والسقاية آلا إليه بعد تنازل أخيه عبد شمس، وكان هاشم غنيًّا أصاب ماله — شأن السواد الأعظم من المكيين — من التجارة، وقد استعان على القيام بمنصبيه بما كان يخرج عنه من ماله الكثير، مضافًا إليه ما كان يجمعه من الضرائب التي سبق أن فرضها قصي على القرشيين لإطعام الحاج وضيافتهم، ولم يقتصر هاشم على إطعام الفقراء من الحجاج فحسب، بل كان يطعم الحجاج جميعًا في موسم الحج، حتى يصدر عن مكة، كما أنه أمر بحياض من أدم فجعلها في موضع زمزم، وفي الطريق إلى عرفات، ثم يسقي فيها من الآبار المجاورة لمكة.

وكان توزيع الطعام يبدأ من اليوم الذي يتحرك فيه الحجاج إلى مِنى وعرفات، ويستمر إلى أن يتفرقوا إلى بلادهم، وكان يقدم لهم خلال هذه المدة — وهي تتراوح بين خمسة أو ستة أيام — الثريد واللحم والخبز والزبدة والشعير والتمر، ويقال إن أمية ابن أخيه عبد شمس حسده على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، وتنافر هو وهاشم، وانتهى الأمر بجلاء أمية عن مكة عشر سنين، فكان ذلك أول خلاف بين هاشم وأمية.

وهاشم هو أول من نظم لمكة رحلتي الشتاء والصيف، الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام.

وأكبر مفخرة لهاشم، هو إطعامه أهل مكة جميعًا في سنة أصابهم فيها قحط؛ إذ جلب إليهم من الشام قافلة محملة بالدقيق، ونحر الإبل وأطعمهم من جوع.

وقد ازدهرت الحياة في مكة في عهده ازدهارًا كبيرًا، وأصبحت تعج بالتجار من الشمال والجنوب، حتى لقد سماها بعض المستشرقين بندقية بلاد العرب «فينيسيا»، وذكر المستشرق «أوليري» في كتابه «بلاد العرب قبل الإسلام» ما خلاصته: «أصبحت مكة مركزًا للصيرفة، يمكن أن يدفع فيه التجار أثمان السلع التي ترسل إلى بلاد بعيدة، كما كانت عملية الشحن والتفريغ لهذه التجارة الدولية تتم هناك، كذلك كان يتم التأمين على المتاجر وهي تجتاز الطرق المحفوفة بالمخاطر.» واستطاعت مكة أن تحتكر النقل في الطريق الذي يصل ما بين مكة والشمال، وتتقاضى على ذلك أجورًا لا تقل عن أثمان المتاجر التي تحملها، وكان للدول المجاورة بيزنطة وفارس، ممثلين في قلب مكة نفسها «ذكر ذلك الواقدي وأيَّده الأستاذ لامنس»، وملأت الأعمال التجارية فراغ كل المكيين، حتى لم يكن من أهل مكة من كان يرى أن ينفق وقتًا في القيام بأعمال الشرطة والجيش، ومن أجل ذلك كانوا يستأجرون مرتزقة — من أفريقيا هم الأحباش — للقيام بحراستهم، ولكثرة ما كانت تعج به مكة من أفراد من أمم مختلفة اصطبغت بصبغة دولية؛ ودوليتها هذه تفسر لنا — إلى حد كبير — ما دخل لغة قريش من ألفاظ رومية أو فارسية أو حبشية أو غيرها.

وبفضل هذا الازدهار والغنى، استطاع بنو عبد مناف أن يعقدوا معاهدات ومحالفات مع جيرانهم، فلقد روي أن هاشمًا نفسه عقد مع البيزنطيين وأمراء غسان معاهدة، وأن إمبراطور الدولة البيزنطية أعطى قريشًا — في شخص هاشم — حق التجوال في سوريا في أمن وطمأنينة. وكذلك تمكن عبد شمس من أن يعقد معاهدة تجارية مع نجاشي الحبشة، كما دخل نوفل والمطلب في محالفة مع ملك فارس، سمح لهما فيها ولتجار مكة بالتجول في العراق وفارس، وتمت كذلك محالفة مع ملوك حمير، تعهدوا فيها بتشجيع المتاجر القرشية في اليمن.

وفي ظل هذا الرخاء والازدهار توطد نفوذ هاشم في مكة، فلم يجرؤ على منافسته أحد، إلا ما كان من أمر أمية بن عبد شمس الذي بيناه، والذي خرج معه هاشم منتصرًا وأكثر نفوذًا.

وتقدمت السن بهاشم، وبينما هو في إحدى رحلاته إلى الشام؛ إذ عرج على المدينة مع جماعة من قريش، فاسترعت نظره امرأة جميلة، تشرف على قوم يتجرون لها، فأعجب بها هاشم، ولما عرف أنها غير متزوجة خطبها لنفسه، فقبلت على أن تكون عصمتها بيدها — تلك السيدة هي سلمى بنت عامر الخزرجية — وقد صحبت هاشمًا إلى مكة، ثم عادت إلى يثرب، حيث ولدت له غلامًا سمته شيبة ظل معها في يثرب.

(١٣) عبد المطلب بن هاشم

وخرج هاشم في رحلة تجارية إلى غزة بعد ذلك ببضع سنين، حوالي سنة ٥١٠م، فمات في غزة ولم ينجب غير ابنه هذا، فانتقل منصبا الرفادة والسقاية إلى أخيه المطلب، الذي كانت قريش تسميه الفيض لسماحته وكرمه، وتذكر المطلب يومًا شيبة ابن أخيه هاشم، فانصرف إلى المدينة لإحضاره، ولما عاد إلى المدينة — وقد أردف الغلام وراءه — حسبه الناس في مكة عبدًا اشتراه المطلب، فصاحوا: هذا عبد المطلب، فقال لهم المطلب: هذا ابن أخي هاشم، ومن ذلك الوقت غلب اسم عبد المطلب على شيبة.

ولما بلغ عبد المطلب أشده أقام على ما كان لأبيه، وفي أثناء رحلة المطلب إلى اليمن مات فيها حوالي سنة (٥٢٠م) فخلفه على المناصب عبد المطلب، ولكن عمه نوفل أبى أن يقيمه على حكومة مكة، ووضع يده على أموال هاشم، ولجأ عبد المطلب إلى أهل مكة، فرفضوا أن يدخلوا بين العم وابن أخيه، فكتب بعد ذلك إلى أخواله بني النجار في المدينة، فجاء لنصرته منهم ثمانون فارسًا خرج عبد المطلب لاستقبالهم ودعوتهم إلى بيته، ولكن كبيرهم رفض أن ينزل عن فرسه حتى يرد نوفل الحق لعبد المطلب، وأمام التهديد اضطر نوفل إلى رد مال عبد المطلب إليه، وقام عبد المطلب في مناصب هاشم له السقاية والرفادة، ولكنه كان يلقى عنتا في السقاية؛ إذ كان الماء يُجلب إلى الحياض من آبار مبعثرة حول مكة، ولم يكن لعبد المطلب ولد إلا الحارث.

(١٤) حفر عبد المطلب لزمزم

ولكي يسهل عبد المطلب أمر السقاية ظل يحفر في أرض الحرم، عله يحصل على موضع زمزم، التي طمَّها الجراهمة كما بينا، حتى اهتدى إلى مكانها بين وثني إساف ونائلة، فأخذ يحفر مستعينًا بولده الحارث حتى نبع الماء، وظهرت غزالتا الذهب والأسياف والدروع التي دفنها الملك الجرهمي قبل ذلك بثلاثة قرون، وحسدت قريش عبد المطلب، فطلبت نصيبها من هذا الكنز، مدعية أن البئر لها؛ لأنها من سلالة إسماعيل، ولم يكن عبد المطلب من القوة بحيث يمنع نفسه من قريش، فقبل الاحتكام إلى صاحب القداح عند هبل في جوف الكعبة، وجاءت الغزالتان من نصيب عبد المطلب، ولم تخرج القداح لقريش شيئًا، فرضخت قريش لحكم هبل، وضرب عبد المطلب غزالتي الذهب ألواحًا حلَّى بها باب الكعبة، وعلق الأسياف على الباب، ويسَّر ماء زمزم لعبد المطلب سقاية الحجاج، وتصاعدت سمعة عبد المطلب وازداد نفوذه، ونذر عبد المطلب: لئن ولد عشرة بنين ثم بلغوا معه أن يمنعوه من مثل ما لقي حين حفر زمزم، لينحرن أحدهم عند باب الكعبة، وكرت الأعوام، وألفى عبد المطلب حوله عشرة بنين أشداء، فتذكر نذره ودعا الأبناء إلى الوفاء بالنذر فأطاعوا، فاقتادهم إلى صاحب القداح عند هبل، حيث كتب كل واحد من الأبناء اسمه على قدح.

(١٥) افتداء عبد الله بمائة من الإبل

وضرب صاحب القداح قداحه، ليختار كبير الآلهة هبل من بينهم من ينحره أبوه فخرج القدح على عبد الله، وكان أصغر أبناء عبد المطلب وأحبهم إليه، واقتاد عبد المطلب ابنه الذي اختاره الإله لينحره بين صنمي إساف ونائلة، فبكت بنات عبد المطلب وتعلقن بأخيهن، وقامت قريش كلها تطلب إلى عبد المطلب ألا يفعل، وهنا سأل عبد المطلب ما عساه يفعل ليرضي الإله. قال ابن الأثير: «فقال له المغيرة المخزومي: لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه، وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها، فإن أمرتك بذبحه ذبحته، وإن أمرتك بمالك وله فيه خراج قبلته، وانطلقوا إليها وهي بخيبر، فقص عليها عبد المطلب خبره، فقالت: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها ثم غدوا عليها، فقالت: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم؟ قالوا: عشرة من الإبل، قالت: ارجعوا إلى بلادكم، وقربوا عشرًا من الإبل، واضربوا عليه وعليها بالقداح، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا عشرًا حتى يرضى ربكم، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم، فخرجوا حتى أتوا مكة، فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله، ثم قربوا عبد الله وعشرًا من الإبل، فخرجت القداح على عبد الله، فما برحوا يزيدون عشرًا وتخرج القداح على عبد الله، حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل، فقال من حضر: قد رضي ربك، وقال عبد المطلب لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات، فضربوا ثلاثًا فخرجت القداح على الإبل فنُحرت، ثم تُركت لا يُصد عنها إنسان ولا سبع.»

تلك هي قصة الفداء ذكرتها كل كتب السيرة، ولكنها لم تبين لنا إن كان عبد المطلب قد دفع الإبل المائة من ماله أم ساهمت في دفعها مكة، على أن الذي تُجمع عليه هذه الكتب: أن مكانة عبد الله ارتفعت في مكة بعد هذا الفداء، وكان عبد الله وسيمًا جميل الطلعة، قد ناهز الرابعة والعشرين من عمره، فتطلعت فتيات مكة إلى الزواج منه، فرأى عبد المطلب أن يزوجه من آمنة بنت وهب سيد بني زهرة، وفي الوقت نفسه خطب عبد المطلب لنفسه ابنة عمها هالة التي أنجبت له ولده حمزة عم النبي وتربه.

وكانت السنة التالية لزواج عبد الله مليئة بالحوادث الجسام، التي أهمها محاولة أبرهة الأشرم غزو مكة، وقد روينا بعض أخبار هذه المحاولة عند الكلام على تاريخ الحبشة في اليمن في فقرة [محاولة أبرهة غزو الكعبة] من هذا الكتاب، ولكنا سنعود إليها لنبين أثر فشل هذه الحملة في مكة أيام عبد المطلب، وقبل الكلام على ذلك نرى أن نشرح نظام الحكم في الجمهورية المكية في عصر عبد المطلب الذي لا يقل ازدهارًا عن عصري كل من هاشم وقصي.

(١٦) نظام الحكم في الجمهورية المكية

كان عبد المطلب زعيم مكة التي يصفها الأستاذ درمنجهم بأنها كانت جمهورية تجارية بلوتقراطية، والمقصود من كلمة بلوتقراطية: أنها حكومة الأغنياء، وكان يشرف عليها الأعضاء البارُّون من بني قصي، وعندما كشف عبد المطلب بئر زمزم، واستقر النزاع بخصوص الهيمنة على هذه البئر، أصبح الإشراف على الحكومة المكية بيد عشرة من الأشراف، وزعت بينهم مناصب الدولة، وكانت هذه المناصب وراثية في أكبر أفراد البيت، وهذه المناصب هي:
  • (١)

    الحجابة أو السدانة، والمقصود بها حراسة مفاتيح الكعبة، وكانت وظيفة دينية هامة، وُضعت في يد بني عبد الدار، ولما أسلمت مكة بعد الفتح ظلت السدانة في يد عثمان بن طلحة من بني عبد الدار.

  • (٢)

    السقاية، ويقصد بها الإشراف على بئر زمزم المقدسة، وسقاية الحجاج، وهذه وُضعت في بيت هاشم، وكانت في يد العباس بن عبد المطلب في وقت فتح مكة.

  • (٣)

    الديات وتُسمى الأشناق، وهي من الوظائف الهامة، وكان صاحبها إذا احتمل شيئًا فسأل فيه قريشًا صدقوه، وكانت الديات في يد بني تيم بن مرة، وعند ظهور النبي كان يقوم عليها عبد الله بن أبي قحافة «أبو بكر».

  • (٤)

    السفارة، وكان صاحبها ذا حق مطلق في البت في شئون الصلح، بعد الحرب أو الخلافات التي تقوم بين قريش والقبائل الأخرى، أو بينهم وبين الأجانب، وكان يقوم على هذا المنصب عمر بن الخطاب.

  • (٥)

    اللواء، وكان صاحبه يعتبر كبير القواد، ويسير أمام الركب في أسفارهم للقتال أو التجارة، وكان اللواء في بني أمية وصاحبه منهم في أول الإسلام أبو سفيان بن حرب والد معاوية.

  • (٦)

    الرفادة، وهي الإشراف على الضريبة التي تخصص لإطعام الفقراء، وكانت قريش تخرج في كل موسم إلى صاحب الرفادة فيصنع منه طعامًا لفقراء الحجاج مقيمين أو مسافرين؛ لأن الدولة كانت تعتبرهم ضيف الله، وكانت الرفادة لعبد المطلب، ثم نقلت إلى أبي طالب، ونُقلت بعد ذلك إلى بني نوفل بن عبد مناف، وفي عهد الرسول كان القائم عليها الحارث بن عمرو.

  • (٧)

    الندوة ورئيس دار الندوة، يعتبر رئيس الجمعية الوطنية وكبير مستشاري الدولة، لا تصدر قريش عن أمر إلا بموافقته، وكان الأسود من بني عبد العزى بن قصي هو القائم على هذا المنصب في أيام الرسول.

  • (٨)

    الخيمة، ويقصد بها حراسة قاعة المجلس، وكان هذا المنصب يبيح لصاحبه الحق في دعوة الجمعية، وحتى حق حشد الجنود، وكان يتولاها خالد بن الوليد من بني مخزوم بن مرة.

  • (٩)

    الخازنة أو إدارة الأموال العامة، وكانت في بني حسن بن كعب، ويقوم عليها الحارث بن قيس.

  • (١٠)

    الأزلام «جمع زلم» وهي التي يشرف صاحبها على السهام، والعرب يستقسمون بها للاستخارة لمعرفة رأي الآلهة والإلهات، وكان القائم عليها صفوان أخا أبي سفيان بن أمية.

وكان العُرف المقرر يقضي بأن أكبر أصحاب المناصب العشرة سنًّا، هو الذي يتولى الرياسة، ويُلقب بسيد القوم، وكان أسنهم في أيام النبي هو العباس بن عبد المطلب.

وعلى الرغم من توزيع الامتياز والسلطان في الحكومة بين العشرة الذين ذكرناهم آنفًا، فإن عبد المطلب كان يتمتع لمناقبه العالية وصفاته الشخصية بمركز ممتاز لا يتطرق إليه الشك.

وننتقل الآن إلى كلمة أخيرة في تاريخ عبد المطلب تلك هي محاولة أبرهة الحبشي غزو مكة وأثر فشله في نفوس المكيين.

(١٧) أثر الغزو الحبشي في أهل مكة

ذكرنا في فقرة [محاولة أبرهة غزو الكعبة] ما كان من أمر بناء أبرهة حاكم اليمن من قبل النجاشي لكنيسة القليس، ومحاولته صرف الحجاج إليها بدل الكعبة، ثم ما كان من أمر تدنيسها من جانب بعض المكيين، واعتزام أبرهة — لأغراض تجارية ودينية — هدم الكعبة، ثم ما كان من أمر فشل جيشه وعودته إلى صنعاء دون أن يظفر بما أراد، ونضيف هنا: أن فشل أبرهة لم يكن نتيجة لمقاومة المكيين؛ لأن موقفهم كان سلبيًّا، وإنما كان الفشل نتيجة لأسباب خارجة عن إرادتهم، فلقد ذكر ابن الأثير وغيره: أن عبد المطلب لما أمر المكيين بالخروج من مكة والتحرز في رءوس الجبال، قام فأخذ بحلقة باب الكعبة وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:

يا رب لا أرجو لهم سواكا
يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا
امنعهمو أن يخربوا فناكا

وقال أيضًا:

لا هم إن العبد يمـ
ـنع رحله، فامنع رحالك
لا يغلبن صليبهم
ومحالهم أبدا محالك
ولئن فعلت فإنه
أمر تتم به فعالك
أنت الذي إن جاء با
غ نرتجيك له فذالك
ولوا ولم يحووا سوى
خزي وتهلكهم هنالك
لم أستمع يومًا بأر
جس منهم يبغوا قتالك
جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلًا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعـ
ـبتنا فأمر ما بدا لك

وسواء أصحَّت نسبة هذه الأشعار إلى عبد المطلب أم لم تصح، فإن الثابت: أن سهمًا واحدًا لم يطلقه المكيون في سبيل الدفاع عن بيتهم المقدس، ولكن هذا لم يمنع المكيين بعد هزيمة أبرهة من أن يملئوا العالم العربي افتخارًا بما أصابوا من ظفر، وأخذت قبائل العرب تنظر إلى قريش نظرة الاحترام والإجلال، وارتفعت مكانتها في كل القبائل، وادعت هي لنفسها مكانًا ممتازًا، فقالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرم، وولاة البيت، وقاطنوا مكة، فليس لأحد من العرب مثل منزلتنا، ولا يعرف العرب لأحد مثل ما يعرف لنا فهلموا فلنتفق على ائتلاف أننا لا نعظم شيئًا من الحل كما نعظم الحرم، فتركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها جزء أساسي من دين إبراهيم، يتحتم على الآخرين القيام به، وكذلك رفضوا أن يعملوا الجبن والزبد وهم في ملابس الإحرام، كما رفضوا أن يدخلوا بيوت الشعر واستبدلوها ببيوت الأدم، وفرضوا قواعد جديدة على الحجاج والعمار في سبيل توسيع نفوذهم، فمنعوهم أن يأكلوا في الحرم طعامًا أحضروه من الحل، وأجبروا هؤلاء أيضًا على الطواف حول الكعبة إما عراة أو في ملابس يقدمها المتحالفون، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الحمس «من الحماسة وهي الشدة».

وكانوا يضمون عدا قريش بني كنانة وخزاعة وعامر، وخضعت العرب لما افترضه المكيون عليهم، وازدادت قداسة الكعبة، ودانت العرب للمكيين، لما شاهدوه من هزيمة جيش أبرهة، وما فتئت قريش تتمتع بهذا النفوذ العظيم زهاء نصف قرن، وتحمل — حتى النساء — على الخضوع لما فرضوا. قال ابن الأثير: وأما النساء فكانت المرأة تضع ثيابها كلها إلا درعها مفرجًا، ثم تطوف فيه.

فكانوا كذلك حتى بعث الله محمدًا فنسخه، فأفاض من عرفات، وطاف الحجاج بالثياب التي معهم من الحل، وأكلوا من طعام الحل في الحرم أيام الحج، وأنزل الله تعالى في ذلك: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وأنزل الله تعالى في اللباس والطعام الذي من الحل وتركهم إياه في الحرم: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا … إلى قوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وقبل أن نختم الكلام على عبد المطلب نشير إلى أمر الأحزاب في آخر أيامه.

(١٨) الحزب الهاشمي والحزب الأموي

بدأ الانقسام في بيت قصي — كما بينا — بعد موته؛ إذ انقسم إلى قسمين: قسم تمثله سلالة ولده عبد الدار، والقسم الآخر تمثله سلالة ولده عبد مناف.

أما بيت عبد الدار فكان يتمتع بكافة المناصب الأصلية في مبدأ الأمر، ولكنهم — أثناء النزاع مع هاشم — انتزع منهم الكثير من المناصب الأقل أهمية، ولا شك أن المناصب التي احتفظوا بها لم تكن بدون أهمية، ولكنها وُزعت بين أفراد من الأسرة، وبذلك ضاعت فائدة تجمعها في يد واحدة، ولم تكن هناك محاولة متحدة ترمي إلى الحصول على نفوذ اجتماعي وسياسي هام.

أما سلالة عبد مناف — فإنها احتفظت بالزعامة الحقيقية بمكة، وانقسم بنو عبد مناف بدورهم إلى حزبين: هما بيت ابنه هاشم، وابنه عبد شمس ولقد احتفظ البيت الهاشمي بمنصبي الرفادة والسقاية، فكسب بذلك نفوذًا ثبته حسن إدارة المطلب، ثم ابن أخيه عبد المطلب من بعده، الذي اعتبرته مكة — كما اعتبرت أباه هاشمًا من قبل — زعيم شيوخ مكة.

أما فرع أمية بن عبد شمس فإنه كان كثير العلاقات بالبيوت الأخرى، وأكسبته علاقاته هذه نفوذًا، ولكنه كان شديد الغيرة من النفوذ الذي وصل إليه الهاشميون، وطالما حاول أن يذلهم، وأن يحط من قدر مكانتهم العالية، واحتفظ هذا البيت بمنصب هام — هو القيادة في الحرب التي ظلت منحصرة فيه، وأكسبته مجدًا عظيمًا، ويجب أن لا ننسى أن الأمويين كانوا أكثر غنى ونجاحًا في المتاجر من الهاشميين، مما حدا بعض المؤرخين إلى القول بأن نفوذ البيت الأموي وسلطانه كان أقوى من نفوذ الهاشميين.

وبلغ التنافس بين البيتين أشده إبان البعثة النبوية، ولكن باعتناق مكة الإسلام اختفت هذه المنازعات إبان الحماس الديني والفتوح الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، ولكن لا إلى الأبد، بل لتظهر في ثوب آخر في عصر الدولة الأموية. والآن لكي يسهل على القارئ تتبع هذه العلاقات بين أبناء قصي نضع تحت بصره الجدول الآتي مبينًا فيه تواريخ الميلاد — على وجه التقريب — نقلًا عن كتاب حياة محمد للأستاذ موير:

والآن — وقد فرغنا مما أردنا إيراده عن تاريخ الإمارة بمكة — فإننا نذكر فيما يلي فذلكة صغيرة عن تاريخ المدينة.

(١٩) تاريخ المدينة

تقع المدينة على سهل مرتفع في طرف الهضبة الغربية من الشمال، وإلى الغرب منها تنحدر الأرض انحدارًا سريعًا إلى ساحل البحر الأحمر، ويمتد الوادي منها إلى الجنوب حتى يصل إلى مكة التي تقع على خط طولها تقريبًا ولما كان البحر الأحمر ينعطف إلى الغرب في قسمه الشمالي كانت المسافة بين المدينة وبين البحر أطول من المسافة بين مكة والبحر.

والمدينة هي الاسم الذي أطلقه رسول الله عليه الصلاة والسلام عليها، وكانت قبل هجرته إليها تُسمى يثرب، وقد سبق أن قلنا: إن أصل هذا الاسم غير معروف تمامًا، ويطلق على المدينة طيبة أيضًا، كما يطلق عليها مدينة رسول الله، وهي تقع على الطريق التجاري من الجنوب إلى الشمال، ونظرًا لأنها تقع في أوطى موضع من السهل المذكور، كانت تتجمع إليها المياه المنصبة أيام الشتاء في برك بالقرب منها فتركد، ولذلك كانت تتفشى فيها الحميات، والأرض المحيطة بها — في المجموع — خصبة؛ لأن تربتها بركانية وإن كانت تشوبها الأملاح في بعض النواحي، وهي — بهذا الوصف — كانت تعتبر في الجاهلية من مراكز الزراعة، على عكس مكة، التي كانت تعتبر من مراكز التجارة.

والمدينة أو يثرب من أهم مدن بلاد العرب بلا جدال، وازدادت أهميتها بعد أن أصبحت مهجر النبي عليه الصلاة والسلام، وضمت جثمانه الشريف، ولقد ظلت عاصمة الجمهورية الإسلامية الأولى إلى أن انتقل مقر الملك في عهد الأمويين إلى دمشق.

وتاريخ المدينة القديم غامض لا يُعرف أوله، وأول ما سمعنا عنها — في التاريخ الصحيح — أنها كانت واحة سكنها اليهود، ثم ساكنهم فيها بعد ذلك بعض القبائل التي هاجرت من اليمن.

أما مؤرخو العرب فإنهم يقولون: إن أول من نزل المدينة كان العمالقة ثم نزلها بعدهم اليهود، ذكر الدكتور ولفنسون في كتابه تاريخ اليهود في بلاد العرب، نقلًا عن الجزء ١١ من الأغاني ما يأتي: «كان ساكنو المدينة — في أول الدهر قبل بني إسرائيل — قومًا من الأمم الساحقة يقال لهم العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل غزو وبغي شديد، وكان ملك الحجاز منهم يقال له: الأرقم ينزل ما بين تيماء وفدك، وكانوا قد ملئوا المدينة ولهم بها نخل كثير وزرع، وكان موسى بن عمران قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى إلى العماليق جيشًا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعًا ولا يستبقوا منهم أحدًا، فقدم الجيش الحجاز، فأظهرهم الله على العماليق، فقتلوهم أجمعين إلا ابنًا للأرقم، كان وضيئًا جميلًا فضنوا به على القتل، وقالوا: نذهب به إلى موسى فيرى رأيه فيه، فرجعوا إلى الشام فوجدوا موسى قد تُوفي، فقالت لهم بنو إسرائيل: ما صنعتم، فقالوا: أظهرنا الله عليهم فقتلناهم ولم يبق منهم أحد غير فلان، كان شابًّا جميلًا فنفسنا به على القتل، وقلنا نأتي به موسى فيرى فيه رأيه، فقالوا لهم: هذه معصية، قد أُمرتم ألا تستبقوا منهم وألا تدخلوا علينا الشام أبدًا، فلما صنعوا ذلك قالوا: ما كان خيرًا لنا من منازل القوم الذين قتلناهم بالحجاز نرجع إليها فنقيم بها، فرجعوا على حاميتهم فنزلوها، فكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود بالمدينة.» وقال الدكتور ولفنسون: «ويضيف ابن خلدون إلى هذه الرواية أنه يشك في صحتها؛ لأنها لم توجد عند اليهود، ولأن اليهود لا يعرفون هذه القصة»، ويعود الدكتور ولفنسون فيذكر أن عناصر إسرائيلية يظن أنها قد هاجرت من ديارهم إلى الأقاليم العربية، في عصور مختلفة ولأسباب شتى، غير أنها بادت كما بادت قبائل عربية كثيرة ولم يبق من آثارها سوى اسمها، ثم أخذت جموع كثيرة من اليهود في القرن الأول والقرن الثاني بعد الميلاد تهاجر إلى الأرجاء العربية عمومًا، وإلى الربوع الحجازية بنوع خاص لأسباب يمكن تلخيصها فيما يأتي:
  • (١)

    زيادة عدد اليهود في فلسطين زيادة مضطردة، جعلت البلاد تضيق عن أن تسعهم وتنفسح لعملهم في سبيل الحياة.

  • (٢)

    حدث حوالي القرن الأول ق.م أن هاجمت الدولة الرومانية بلاد فلسطين، وقوضت أركان الدولة اليهودية المستقلة فيها … فاضطر من لم يكن يستطيع البقاء مع هذه الأحوال القاسية أن يلجأ إلى أرض الجزيرة العربية، التي كانت أحب إليهم من غيرها؛ نظرًا لأنظمتها البدوية الحرة، ونظرًا لوجود أقاليم رملية بعيدة، تعوق سير القوات الرومانية وتمنع توغلهم.

  • (٣)

    بعد حرب اليهود والرومان (٧٠م) — التي انتهت بخراب فلسطين ودمار هيكل بيت المقدس، وتشتت اليهود في أصقاع العالم — قصدت جموع أخرى من اليهود بلاد العرب للمزايا السالفة.

ولم يلبث اليهود الذين نزحوا إلى المدينة أن استفادوا بذكائهم: فاقتنوا الضياع والأموال، وأصبحت تجارة المدينة بأيديهم، وتكاثر عدد النازحين منهم إلى المدينة، وظهر منهم عدة قبائل، أشهرها قريظة والنضير، ثم نزل المدينة بعد ذلك الأوس والخزرج بعد سيل العرم، واستوطنوها إلى جوار اليهود، وعاشوا في ضنك من العيش، وهوان وإذلال من اليهود، وكان على اليهود ملك شديد، استبد بالنازحين فاستجاروا بالتبابعة في رواية، وبالغساسنة في رواية أخرى، فجاءوا لنصرتهم، فكانت بين الفريقين حرب انتهت بقتل زعماء اليهود وأشرافهم بالخديعة، وأصبح الأوس والخزرج بعد ذلك أعز أهل المدينة، وتحالفوا مع اليهود، ثم دب دبيب الخلاف بين الأوس والخزرج، وتنازعوا السلطان، فجرت بينهم الوقائع، وكانت بينهم حروب طويلة، أشهرها المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث.

وما زال الخلاف قائمًا بينهم، يستعين فيه بعضهم ببعض قبائل اليهود على بعض، حتى كان اعتناقهم للإسلام، وهجرة النبي إليهم سنة ٦٢٢م؛ فآخى بينهم، وتناسوا ما كان بينهم من عداوة وأحقاد كادت أن تأتي عليهم.

ونحن نلخص في الفقرات التالية أشهر هذه الحروب أو الأيام كما أطلق عليها مؤرخو العرب.

(١٩-١) يوم سمير

سببه: أن رجلًا يقال له: كعب بن العجلان من بني ذبيان — نزل على مالك بن العجلان زعيم الخزرج محالفه، وأقام معه، فخرج كعب يومًا إلى السوق، فرأى رجلًا من غطفان ومعه فرس وهو يقول: «ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب.» فقال رجل: فلان الأوسي، وقال غيره: فلان الخزرجي، وقال ثالث: فلان اليهودي أفضل أهلها، وقال رابع: مالك بن العجلان. فدفع الغطفاني الفرس إليه، فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكًا أفضلكم، فغضب لذلك رجل من الأوس يقال له سمير وشمته وافترقا، ثم حدث بعد ذلك أن كعبًا قصد سوقًا لهم بقباء، فقصده سمير وانتظر حتى خلت السوق فقتل كعبًا، وأُخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى آل سمير يطلب قاتله، فقالوا: لا ندري من قتله، وترددت الرسل بينهم، هو يطلب سميرًا وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب، فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، ولجَّ الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا وافترقوا، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا، حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس، ثم أرسلت الأوس تطلب أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت الشاعر، وأجابهم إلى ذلك، وحكم المنذر بأن يعطوا كعبًا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، وفرحوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد تمكنت البغضاء والعداوة في نفوسهم.

(١٩-٢) يوم السرارة

وسببه أن رجلًا من بني عمرو من الأوس قتله رجل من بني الحارث من الخزرج، فعدا أهل القتيل على القاتل وقتلوه غيلة، وعرف ذلك أهله، فكانت حرب بين الفريقين شديدة، حمل راية الخزرج فيها عبد الله بن سلول، وراية الأوس حضير بن سماك، وصبر القوم بعضهم لبعض أربعة أيام، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك.

(١٩-٣) يوم حاطب

توالت الحروب بعد يوم السرارة، حتى إذا مرت مائة سنة من يوم سمير — إذ بحرب تُعرف بيوم حاطب وقعت بين فريقين، وسببها: أن حاطبًا الأوسي — وكان شريفًا سيدًا في قومه — أتاه ضيف من بني ثعلبة، ثم غدا يومًا إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد الخزرجي، فقال لرجل من اليهود: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي، فأخذ الرداء وكسعه، فنادى الثعلبي: يا لحاطب، كُسع ضيفك وفُضح؛ وعرف حاطب بالأمر، فجاء وضرب اليهودي بالسيف فقتله، وعلم يزيد الخزرجي فأسرع خلف حاطب فلم يدركه، فقتل رجلًا من أهله، فقامت الحرب بين الأوس والخزرج، وسعى بينهما جماعة من فزارة بالصلح فلم تفلح مساعيهما، واستمرت الحرب بينهما سجالًا، يومًا للأوس ويومًا للخزرج، حتى انتهت بظفر الخزرج؛ وتجددت الحرب بعد ذلك، وكان الفريقان يتصالحان على الديات، وطال أمر الحرب حتى سئمت الأوس، فصارت إلى قريش بمكة تطلب محالفتها، فأجابت قريش طلب الحلف، ثم تحللت منه، فطلبت الأوس إلى بني قريظة وبني النضير الحلف على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك — ثم عادوا فنقضوا.

(١٩-٤) يوم بعاث

وتجدد الحلف بين قريظة وبني النضير من جهة، وبين الأوس من جهة أخرى، وأشعلوها حربًا على الخزرج، انضمت فيها إلى الأوس طوائف أخرى من اليهود وغيرهم، وانضم إلى الخزرج جهينة، وتداعى الفريقان إلى القتال، فكان بينهما يوم بعاث — وهو ناحية من أعمال قريظة على طريق مكة من المدينة غربًا، وكان على الأوس حضير بن سماك «والد أسد بن حضير»، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان، وكان حضير يحقد على الخروج أشد الحقد، فلما بدأ القتال دارت الدائرة على الأوس، ففروا نحو نجد فعيرهم الخزرج، فلما سمع حضير تعييرهم — برك وطعن بسنان رمحه فخذه وصاح: والله لا أعود حتى أُقتل فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا، فعاد الأوس إلى القتال مستبسلين مستيئسين حتى هزموا الخزرج شر هزيمة، وأخذوا يحرقون نخلهم ودورهم، وإن كادوا ليهلكوهم — لولا أن صاح صائح فيهم: يا قوم إن جوارهم خير من جوار الثعالب، فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم، وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس زعيمها حضيرًا مجروحًا فمات، وكذلك مات عمرو بن النعمان رئيس الخزرج، واستعادت اليهود بعد هذا مكانها بيثرب، وأضحى الأوس والخزرج أجراء عند اليهود، فأدركوا أنهم أخطئوا في تطاحنهم، وفكروا في عاقبة أمرهم، وتطلعوا إلى إقامة ملك عليهم يجمع شملهم، وحدث أن نفرًا من الخزرج خرجوا إلى مكة في موسم الحج، فلقيهم محمد عليه السلام، فسألهم عن شأنهم ودعاهم إلى الله فعرفوا أنه النبي الذي كانت تواعدهم به اليهود، فأجابوا دعوته وأسلموا.

وكانت وقعة بعاث هذه آخر الحروب بين الأوس والخزرج — إلى أن جاء الإسلام، وأجمع الفريقان أمرهم على نصرته، وهاجر إليهم النبي من مكة، وآخى بينهم، كما وادع اليهود، وعاهدهم بما يدخل شرحه في تاريخ السيرة النبوية، فلا حاجة إلى ذكره هنا.

(١٩-٥) أيام العرب الأخرى

والآن — وقد أتينا على أهم ما كان بين الأوس والخزرج من حروب — فإنَّا نرى أن نذكر في هذا الباب أيضًا أهم أيام العرب العدنانية في غير يثرب، ونريد أن نذكر هنا أن أيام العرب هذه أو حروبهم — لم تكن حروبًا بالمعنى المعروف لدينا الآن؛ بل كانت لا تعدو أن تكون غارات — يقصد منها السلب والنهب والأسر دون أن تُراق في معظمها الدماء، ولقد ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن كتابة تاريخ حقيقي لهذه الغارات المشهورة أمر يكاد يكون مستحيلًا، وذكر أن السيوطي المؤرخ العربي المعروف كان إذا استعلم من أعرابي عن حادثة من الحوادث التاريخية — لا يرتاح حتى يدعمها العربي له بأبيات من الشعر، ويرى نيكلسون أن الشعر — الذي كان يعتبر في مبدأ الأمر مؤيدًا للحوادث التاريخية — قد انعكس به الأمر، فأصبح هو النواة التي أخذت تلفق حولها الروايات، وتخترع بمهارة أو بغير مهارة ما ينسجم مع الأشعار المروية من قصص وأخبار.

على أن هذا لا يعني أن كل ما رُوي من أيام العرب لا أصل له؛ إذ من الثابت المؤكد أن البيئة البدوية كانت لا تخلو من أمثال هذه الحروب والغارات، بل كان العجيب أنها تخلو منها، وعلى أي حال فإن ما ذكره المؤرخون من أخبار أيام العرب — وإن كان لا يتضمن وقائع ثابتة — فإنه يلقي ضوءًا، ويصف بأمانة كبيرة، الطريقة التي كانت تدار بها هذه المنازعات القبلية، فوق أنه يلقي ضوءًا على بعض صفات العرب ومميزاتهم.

ونحن نلخص لك هنا بعضًا من أهم هذه الحروب المشهورة في التاريخ والأدب العربي، ونخص بالذكر منها حرب البسوس وحرب داحس والغبراء.

حرب البسوس

هي الحرب التي قُتل فيها كليب زعيم بني تغلب، وقبل أن نتكلم على سبب هذه الحرب وأدوارها، نرى لزامًا علينا أن نذكر كلمة صغيرة، عن مكانة قبيلة تغلب وبكر، في أواخر القرن الخامس الميلادي.

في القرن الخامس الميلادي تجمعت عدة قبائل عدنانية تحت راية واحدة واحتكرت المقام في المنطقة التي تمتد من الخليج الفارسي إلى بادية الشام، تحت رعاية إحدى الدول الكبرى، فتدخل في حوزة الفرس على يد المناذرة، أو الروم على يد الغساسنة، أو حمير على يد كندة، وكان أكثر خضوعها لدولة حمير باليمن — يؤدون لها الإتاوة كل عام، وتولي عليها حمير أميرًا من أمراء القبائل، وأشهر من تولى على بدو الشمال — تحت رعاية دولة اليمن — زهير بن جناب الكلبي، في أواسط القرن الخامس للميلاد، وكان شجاعًا ذا عقل وسداد، وبسط نفوذه على بكر وتغلب من ربيعة، فكان يحكم فيهم، ويتقاضى الإتاوة أو الخراج منهم، في مقابل النعجة والكلأ والمرعى.

وحدث ذات عام أن أمحلت الأرض، فتأخروا عن الدفع، فأغلظ عليهم، فشقوا عصا الطاعة، وشجعهم على ذلك ما أصاب اليمن في حروبها مع الحبشة، وقاد حركة انفصالهم هذه واحد من فرسانهم المشهورين — يُسمى كليبًا، من قبيلة تغلب التي كان مقامها في المنطقة الممتدة من المرتفعات الوسطى إلى بادية الشام، في شمال بلاد العرب، ونجح كليب في تكوين حلف من قبيلة تغلب وبكر وغيرها من القبائل، انتصر بهم نهائيًّا على اليمن — وهزموهم، ولم يدفعوا إليهم إتاوة أو خراجًا، وارتفع بذلك صيت كليب؛ فملكته قبائل معد عليها، وأصبح نفوذه مضرب الأمثال، فكان لا تُوقد نار مع ناره، ولا يرد أحد مع إبله، وكان يحمي مواقع السحاب، ويقول: وحش أرض كذا في جواري فلا يُصاد، وكان كليب بن ربيعة هذا متزوجًا من بكرية، تُسمى جليلة بنت مرة، أخت جساس بن مرة — الذي يُسمى الحامي الجار، وكان لجساس خالة تُسمى البسوس، ونزل بالبسوس رجل يسمى سعد الجرمي، له ناقة اسمها سراب، وكانت ترعى مع نوق جساس، وحدث أن كليبًا خرج يومًا يتعهد الإبل.

وكانت إبله وإبل جساس مختلطة، فنظر إلى سراب فأنكرها، فقال جساس — وهو معه: هذه ناقة جارنا الجرمي. فقال كليب: لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحي، فقال جساس: لا ترعى إبلي إلا وهذه معها، فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها، فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها، لأضعن سنان رمحي في لبتك، ثم تفرقا، وقال كليب لامرأته: أترين في العرب رجلًا مانعا مني جاره؟ فقالت: لا إلا أخي جساسًا، ثم إن كليبًا خرج إلى الحمى وجعل يتصفح الإبل، فرأى ناقة الجرمي، فرمى ضرعها، فولت — ولها رغاء — حتى بركت بفناء صاحبها، فلما رأى ما بها صرخ بالذل، وسمعت البسوس صراخ جارها، فخرجت إليه فلما رأت ما بناقته وضعت يدها على رأسها وصاحت، فسمعها جساس، فخرج إليها وقال لها: اسكتي إني سأقتل غلالًا أفحل إبل كليب، وكان لكليب عين يسمع ما يقولون، فقال: لقد اقتصر من يمينه على غلال، ولم يزل جساس يطلب غرة كليب، حتى إذا خرج يومًا آمنًا ركب جساس فرسه وأخذ رمحه وأدرك كليبًا فوقف كليب، فقال له جساس: يا كليب الرمح وراءك، فقال: إن كنت صادقًا أقبل إلى أمامي، ولم يلتفت إليه، فطعنه فأرداه عن فرسه، وطلب كليب شربة ماء فلم يغثه، ولكنه أمر رجلًا كان معه فجعل عليه أحجارًا لئلا تأكله السباع، وانصرف جساس حتى أتى أباه مرة، وقال له: طعنت طعنة يجتمع بنو وائل غدًا لها رقصًا؛ لقد قتلت كليبًا، فجعل مرة يتهيأ للحرب مع قومه، فشحذوا السيوف وقوموا الرماح.

ولما علم قوم كليب بمقتله دفنوه — وقد شقوا الجيوب وخمشوا الخدود وخرجت الأبكار وذوات الخدور والعواتك وقمن للمأتم، وقلن لأخت كليب: أخرجي جليلة امرأة كليب عنا فإنها أخت قاتلنا، فخرجت تجر أعطافها وأتت مرة، وكان لكليب أخ اسمه مهلهل، وهو الفارس الشاعر المشهور، وكان وقت مقتل كليب يشرب مع همام بن مرة أخي جساس، فلما أفاق مهلهل وعرف بمقتل أخيه، جز شعره وقصر ثوبه، وهجر النساء وترك الغزل، وحرم القمار والشراب، وجمع إليه قومه، وأرسل رجالًا منهم إلى مرة والد جساس، وهو في نادي قومه، فقالوا له: إنكم أتيتم عظيمًا بقتلكم كليبًا بناقة وقطعتم الرحم وانتهكتم الحرمة، وإنا نعرض عليكم خلالًا أربعًا لكم فيها مخرج، ولنا فيها مقنع، إما أن تحيي كليبًا، أو تدفع إلينا قاتله جساسًا نقتله به، أو أخاه همامًا فإنه كفؤ له، أو تمكننا من نفسك فإن فيك وفاء لدمه، فقال لهم مرة: «أما إحيائي كليبًا فلست قادرًا عليه، وأما جساس فإنه غلام طعن طعنة على عجل وركب فرسه ولا أدري أي بلاد قصد، وأما همام فإنه أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة كلهم فرسان قومهم فلن يسلموه بجريرة غيره، وأما أنا فما هو إلا أن تجول الخيل جولة فأكون أول قتيل، فما أتعجل الموت؛ ولكن لكم عندي خصلتان: أما إحداهما، فهؤلاء أبنائي الباقون فخذوا أيهم شئتم بصاحبكم، وأما الأخرى فإني أدفع إليكم ألف ناقة سود الحدق حمر الوبر، فغضيوفقنا إلى خير ما نرجو، وأن ب القوم وقالوا: لقد أسأت، تبذل لنا صغار ولدك وتسومنا اللبن من دم كليب، ثم نشبت الحرب بينهم ودامت أربعين سنة، وقال مهلهل عدة قصائد يرثي كليبًا فيها ويطلب ثأره.

وكانت أول واقعة فيهم دارت الدائرة فيها لبني تغلب، ثم التقوا يوم واردات فاقتتلوا قتالًا شديدًا فظفرت تغلب أيضًا، وكثر القتل في بكر؛ فقُتل همام أخو جساس فمر به مهلهل، فلما رآه مقتولًا قال: والله ما قُتل بعد كليب أعز عليَّ منك، وتالله لا تجتمع بكر بعدكما على خير أبدًا، ووقعت بينهما وقعات أخرى كان الظفر فيها لتغلب، وكانت تغلب تطلب جساسًا أشد الطلب، فقال له أبوه، الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سيرًا في خمسة نفر، وبلغ الخبر إلى مهلهل، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلًا من شجعان أصحابه فساروا مجدين فأدركوا جساسًا فقاتلهم، فقُتل أبو نويرة وأصحابه، ولم يبق منهم غير رجلين، وجرح جساس جرحًا شديدًا مات منه، وقُتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضًا، فعاد كل واحد إلى أهله، فلما سمع مرة قتل ابنه جساس قال لمهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساسًا، فاكفف عن الحرب ودع اللجاج والإسراف، وأصلح ذات البين فهو أصلح للحيين وأنكى لعدوهم؛ فلم يجب إلى ذلك، وكان الحارث بن عباد قد اعتزل الحرب فلم يشهدها، فلما قُتل جساس وهمام ابنا مرة أرسل بجيرًا ابنه وكتب معه إلى مهلهل: أرسلت ابني إليك، فإما قتلته بأخيك وأصلحت بين الحيين، وإما أطلقته وأصلحت ذات البين، فقد مضى من الحيين في الحروب من كان بقاؤه خير لنا ولكم، فلم يكن من المهلهل إلا أن أخذ بجيرًا فقتله، وقال: «بل بشسع نعل كليب»، وعرف الحارث الخبر، فأقسم لا يُصالح تغلبًا حتى تأكله الأرض، وأتوه بفرسه النعامة، وكان ولي أمر بكر، وكان أول يوم شهده هو يوم تحلاق اللمم «سمي بذلك لأنه أمر بكرًا بحلق رءوسهم حتى يميزهم النساء الذين حملوهم معهم ليقتلوا جرحى تغلب ويعنوا بجرحى بكر»، وقد انتصر البكريون في هذا اليوم، وأسر الحارث مهلهلًا وهو لا يعرفه ثم خلى عنه. ثم كان بين القومين أيام أخرى أهمها يوم النقبة ويوم الفصيل لا داعي إلى شرحها، ويكفي أن نذكر أنه في تمام السنة الأربعين لبدء الحرب تدخل المنذر الثالث ملك الحيرة لإنهاء ذلك الصراع.

وهكذا انتهت تلك الحرب التي استمرت أربعين سنة مات في أثنائها الشيوخ، وشاخ الشبان وشب الولدان، وولدت طبقة من الناس لم تكن في الحسبان، وكان سببها حادثة تافهة، هي قتل الناقة سراب، التي ضرب العرب بها المثل، فقالوا: «أشأم من سراب» كما قالوا: «أشأم من البسوس»، ولا تزال أسماء الزعماء من التغلبيين والبكريين تجرى على ألسنة الناس في البلاد المتكلمة بالعربية.

هذا؛ وإذا صح التقدير فإن هذه الحرب تكون قد استمرت من سنة ٤٩٠ إلى ٥٣٠ ميلادية.

ونلخص الآن حربًا أخرى، جرت بين فرعين من بني غطفان، هما عبس وذبيان؛ تلك هي حرب داحس والغبراء.

حرب داحس والغبراء

السبب الذي قامت هذه الحرب من أجله بين عبس وذبيان يرجع إلى سوء تصرف قام به الذبيانيون في حفلة سباق أقيمت بين خيول عبس وخيول ذبيان؛ وداحس اسم حصان كان يملكه زعيم من عبس، والغبراء اسم لفرس كان يملكها شيخ ذبيان، وخلاصة النزاع أن صاحبي الحصان والفرس اتفقا على أن يجرياهما، وجعلا الرهان مائة ناقة، ويكون منتهى الغاية مائة غلوة، والمضمار أربعين يومًا، ثم أرسلاهما إلى رأس الميدان وكان في موضع الغاية شعاب كثيرة؛ فأكمن صاحب الغبراء فتيانًا اعترضوا داحس الذي كان سابقًا ثم ردوه عن الغاية، حتى برزت عليه الغبراء، وقد قام ذلك النزاع في النصف الثاني من القرن السادس، بعد أن عُقد الصلح في حرب البسوس بفترة قصيرة، وظل الفريقان تخمد بينهما الحرب وتقوم مدة طويلة استمرت إلى ما بعد ظهور الإسلام، وفي هذه الحرب اشتهر عنترة بن شداد العبسي بجولاته الصادقة، وقد عاش عنترة فيما بين سنتي ٥٢٥–٦١٥ تقريبًا، وهو يعتبر من أعظم أبطال العرب، وأشهر شعراء العصر الجاهلي، ولا يخفى أن قبيلتي عبس وذبيان، كانتا تسكنان في وسط بلاد العرب، وكانت تجمع بينهما صلات القربى؛ إذ كانا ينتميان — كما تقول الرواية العربية — إلى الجد الأكبر غطفان.

وكنا نريد أن نذكر حرب الفجار، التي وقعت في الأشهر الحرم في أواخر القرن السادس الميلادي وما تبعها من حلف الفضول، ولكنا آثرنا أن نرجئ الكلام عنهما إلى كتابنا الثاني عن تاريخ العرب في عهد النبي؛ لأن رسول الله قد شهد كلًّا من الحرب والحلف في شبابه قبل البعثة، فالحرب — وإن كانت من تاريخ ما قبل الإسلام إلا أنها كانت ذات أثر في حياته عليه السلام بعد الإسلام.

والآن وقد انتهينا من ذكر أشهر أيام العرب، فإنَّا نختتم هذا الفصل في تاريخ الحجاز، ونعقد فصلًا جديدًا للحجاز في فجر الإسلام، نعالج فيه الحالة الدينية والاجتماعية في البيئة العربية الشمالية، ونضمنه شتات ما عساه أن يكون فاتنًا من تاريخ عرب الشمال، لنمهد بذلك لتاريخ بلاد العرب على عهد رسول الله الذي سنعالج حوادثه البارزة في كتاب ثان إن شاء الله تعالى.

ولسنا في حاجة إلى القول بأن كلامنا في هذا الفصل، سينصب في مجموعه على عرب الشمال، وإن كان سيلمس عرب الجنوب أيضًا الذين لخصنا تاريخهم في الفصل الرابع من هذا الكتاب؛ وذلك لأنا سنعالج بلاد العرب — فيما يلي — كوحدة واحدة قبيل ظهور الإسلام، أو في العصر المعروف بعصر الجاهلية الذي يشمل القرن أو القرنين السابقين مباشرة لظهور الإسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤