الفصل الرابع

تاريخ اليمن

(١) تمهيد

لا يصح الاعتماد في كتابة تاريخ اليمن على المصادر العربية إلا قليلًا.

أولًا: لأنها لم تتعرض بشيء من العناية إلا لمعالجة العصور المتأخرة من تاريخ اليمن، أما العصور السابقة لتلك، فإن ما كتبوه إن كانوا كتبوا شيئًا لا يجدر أن يسمى تاريخًا، إنما هو إلى الخيال والخيال السقيم أقرب، وثانيًا: لكثرة ما نلقاه من الاختلافات والتناقضات فيما كتبوا، ونضرب لذلك مثلًا بما كتبوه عن الدولة الحميرية: فبينما يذكر المسعودي أن عدد ملوكها خمسة، إذا بابن خلدون يجعلهم ثمانية، وأبي الفداء يجعلهم أحد عشر ملكًا، أما نشوان بن سعيد صاحب القصيدة الحميرية فإنه يعد في قصيدته أسماء ستة عشر ملكًا.

ولا يتفق هؤلاء في أسماء الملوك ولا في تعاقبهم، وإنما يتفقون في أن أولهم حمير وأن آخرهم الحارث. أما حمزة الأصفهاني فإنه يقول: إن بين حمير والحارث ١٥٠ أبًا، وطبيعي — وهذا الخلاف كما ترى فيما لا يكون عادة موضع خلاف بين المؤرخين — أن يكون أشد وأطغى في أعمال الملوك وأخبار الدولة.

وناحية أخرى تجعلنا نتردد في الاعتماد على ما كتبه معظم هؤلاء المؤرخين؛ تلك هي مدة الحكم التي نسبوها إلى بعض الملوك، ومن أمثلة ذلك ما ذكره حمزة الأصفهاني من أن أبرهة ذا المنار من ملوك التبابعة حكم ١٨٣ سنة، وأفريقش بن أبرهة حكم ١٦٤ سنة، والأقرن بن أبي مالك حكم ١٦٣ سنة، وأسعد أبا كرب حكم ١٢٠ سنة … إلخ.

والظاهر أن هذا الخلط في التاريخ لم يلفت أنظار المحدثين فحسب؛ بل لفت أنظار بعض النابهين من المؤرخين القدامى كابن خلدون، فلقد ورد في مقدمته وهي الجزء الأول من تاريخه في صفحاتها الأولى، ما نصه: «ومن الأخبار الواهية للمؤرخين ما ينقلونه كافة في أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقيا والبربر من بلاد المغرب، وأن أفريقش بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول — وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله — بقليل غزا أفريقيا وأثخن في البربر، وأنه الذي سماهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم، وقال: ما هذه البربرة؟ وذكر المسعودي أن أسعد كرب ملك الموصل وأذربيجان لقي الترك فهزمهم وأثخن، ثم غزاهم ثانية وثالثة كذلك، وأنه بعد ذلك غزا ثلاثة من بنيه بلاد فارس إلى بلاد الصغد من بلاد أمم الترك وراء النهر وإلى بلاد الروم، فملك الأول البلاد إلى سمرقند، وقطع القارة إلى الصين، فوجد أخاه الثاني الذي غزا سمرقند قد سبقه إليها، فأثخنا في بلاد الصين ورجعا جميعًا بالغنائم، وتركوا ببلاد الصين قبائل من حمير، فهم بها إلى هذا العهد، وبلغ الثالث إلى قسطنطينية فدرسها ودوخ بلاد الروم ورجع.» ثم يذهب ابن خلدون فيقول: «وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة عريقة في الوهم والغلط، وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة؛ وذلك أن ملك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيهم بصنعاء اليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس من الشرق وبحر السويس من الغرب كما تراه في مصور الجغرافيا، فلا يجد السالكون من اليمن إلى المغرب طريقًا من غير السويس، والمسلك هناك ما بين بحر السويس والبحر الشامي، ويبعد أن يمر بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن تصير من أعماله، هذا ممتنع في العادة، ولم يُنقل قط أن التبابعة حاربوا أحدًا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئًا من تلك الأعمال، وأيضًا فالشقة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كبيرة، أما غزوهم بلاد الشرق وأرض الترك وإن كانت طريقه أوسع من مسالك السويس إلا أن الشقة هنا أبعد وأمم فارس والروم معترضون فيها دون الترك، ولم ينقل قط أن التبابعة ملكوا بلاد فارس ولا بلاد الروم وإن كانوا يحاربون بلاد فارس على حدود بلاد العراق، فالأخبار بذلك واهية مدخولة، وهي لم تدخل في وجه صحيح.» ا.ھ.

هذا هو رأي واحد من نابهي المؤرخين العرب فيما كتبه زملاؤه المؤرخون في تاريخ العرب، ولكن يجب أن لا يحملنا هذا على تصديق كل ما كتبه هو نفسه عن تاريخ اليمن.

والسبب في ذلك واضح، وهو أن ابن خلدون نفسه لم يعتمد في كتابته على نقوش أو آثار، إنما اعتمد على الرواية لغيره من المؤرخين، ولم يكن له فضل عليهم إلا غربلة الروايات وتمييز الغث من السمين في نظره، وليس أدل على ذلك من أن أسماء الملوك التي حصل عليها العلماء المحدثون لا يوجد لها ما يقابلها، بل هي تختلف اختلافًا تامًّا عما أورده مؤرخو العرب، كما بين ذلك العلامة نيكلسون في كتابه تاريخ الأدب العربي الذي سنبين رأيه في الفقرة الثانية.

(٢) رأي الأستاذ نيكلسون

ورد في كتاب الأستاذ نيكلسون السالف الذكر ما خلاصته أن أسماء ملوك حمير وتعاقبهم لا يمكن أن يمت إلى الحقيقة بسبب، وأنه إن كانت هناك شخصيات تاريخية تحمل هذه الأسماء التي ذكرها مؤرخو العرب فلا يمكن أن ترجع إلى أزمنة متأخرة قبل ظهور الإسلام، ولعلها أسماء بعض الأمراء قليلي الأهمية الذين أضفت عليهم الأقاصيص ثيابًا من البطولة، وعلى من يشك في صحة هذا أن يقارن تلك الأسماء التي أوردها المؤرخون بما حصل عليه المستكشفون من النقوش، ولقد جمع الأستاذ مولر من بينها قائمة تتضمن أسماء ثلاثة وثلاثين من ملوك سبأ.

ويشعر تكرار بعض الأسماء بأن البلاد كانت تحكمها أسرات مالكة، وكان للملوك ألقاب تُضاف إلى أسمائهم، ومن بين هذه الأسماء ذمر علي – ويثغمر بين – وكرب إيل وتار يهنعم – وسمعهلي ينوف.

وعلاوة على ذلك فإن ملوك اليمن كانت لهم ألقاب مختلفة تشير إلى عدة فترات من التاريخ السبئي وهي:
  • (١)

    أمير سبأ «مكارب سبأ» ومكارب هذه تشير إلى الجمع بين الإمارة والكهانة.

  • (٢)

    وملك سبأ.

  • (٣)

    وملك سبأ وذو ريدان.

  • (٤)

    ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات.

  • (٥)

    ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات وعربهم في الجبال وفي تهامة.

وبهذه الطريقة صار من الممكن أن تعين على وجه التقريب العصور التي أسست فيها المباني المختلفة وحفرت فيها النقوش.

ويكاد المؤرخون يُجمعون على أن معظم ما وصل إلينا من الآثار يرجع إلى القرن الثامن قبل الميلاد وما قبله.

(٣) أدوار التاريخ اليمني القديم

يمكننا أن نقسم تاريخ اليمن قبل الإسلام تسهيلًا لمعالجته إلى الأدوار التاريخية الآتية:
  • (١)

    الدور الخرافي أو الدور الميثولوجي، وهو ليس من التاريخ الحقيقي في شيء، وعلى ذلك لا يمكن تحديد تاريخ له.

  • (٢)

    الدور البنطي (؟–٣٠٠٠ق.م) ولا يمكن أن نحدد له مبدأ ولا نعرف له عاصمة.

  • (٣)

    الدور المعيني (٣٠٠٠–١٠٠٠ق.م) وكانت العاصمة قرناو وموضعها الحديث معين إلى الشمال الشرقي من صنعاء، أما العاصمة الدينية فكانت يثيل ومكانها اليوم براقش.

  • (٤)

    الدور السبئي (١٠٠٠–١١٥ق.م) وكانت العاصمة في عهد المكارب صرواح، وفي عهد الملوك مأرب.

  • (٥)

    الدور الحميري الأول (١١٥ق.م–٣٠٠م) وكانت العاصمة ظفار إلى الجنوب الغربي من صنعاء.

  • (٦)

    الدور الحميري الثاني (دولة التبابعة ٣٠٠–٥٢٥م) وكانت العاصمة ظفار أيضًا.

  • (٧)

    الدور الحبشي (٥٢٥–٥٧٥م) وكانت العاصمة صنعاء.

  • (٨)

    الدور الفاسي (٥٧٥–٦٣٢م) وكانت العاصمة صنعاء.

(٣-١) الدور الخرافي

من المعروف أن التاريخ الأسطوري «الميثولوجي» لأية دولة يسبق عادة تاريخها الحقيقي، وأن أول من يذكره مؤرخو العرب من ملوك اليمن قحطان بن عابر الذي ينسب إليه عرب الجنوب، ويربطون نسبه بسام بن نوح عليه السلام، ويقولون إنه اتخذ صنعاء اليمن دارًا للملك ولبس التاج، وكان عادلًا حسن السياسة.

ثم ملك بعده ابنه يعرب، الذي قيل إنه أول من تكلم العربية، وأول من قيل له: أنعم صباحًا وأبيت اللعن، وينسبون إليه أنه كان كثير الفتوحات وأنه غزا الحجاز وتغلب عليها وولى عليها أخاه جرهمًا، كما ولى أخاه عاد بن قحطان على جبال الشحر، وعماد بن قحطان على أرض عمان، وينسبون إليه أيضًا أنه كان كثير العمارة وأنه أول من اختط المدن، وهو الذي قال عنه حسان بن ثابت:

تعلمتمو من منطق الشيخ يعرب
أبينا فصرتم معربين ذوى نفر
وكنتم قديمًا مالكم غير عجمة
كلامًا وكنتم كالبهائم في القفر

ويقال إنه لما حضرته الوفاة أوصى بنيه بحسن السيرة والسلوك بين الرعية وتعلم العلم، وترك الحسد، وإنصاف الناس، إلخ.

ولما مات ملك من بعده ابنه يشجب بن يعرب، وكان ضعيف الرأي واهن العزيمة خاملًا، فاستبد أعمامه به واستقلوا بحكم ما كان في أيديهم.

ولما مات خلفه ابنه عبد شمس الملقب بسبأ.

(٣-٢) الدور البنطي

لا نعلم متى ظهرت دولة بنط، ولكن التاريخ المصري القديم ينبئنا عن رحلات تجارية كانت تقوم إلى الجنوب عن طريق البر أو البحر للحصول على السلع الغالية القيمة التي كان يحتاج إليها للأغراض الدينية وغيرها، وأهمها البخور والصموغ الذكية الرائحة، والراتينج «القلقونية أو صمغ الصنوبر» والأخشاب العطرية.

وترجع هذه العلاقات التجارية إلى أيام الأسرة الخامسة المصرية؛ إذ تذكر النصوص أن الملك ساحورع من ملوك القرن السادس والعشرين قبل الميلاد قاد أول حملة بحرية في البحر الأحمر إلى أرض البخور أو بلاد بنط، التي كان يظن أنها بلاد الصومال الحديثة فحسب، ولكن ثبت أخيرًا أن لفظ بنط كان يدل على الأرض الواقعة على الطرف الجنوبي للبحر الأحمر، أو على جانبي باب المندب بشقيه الأفريقي والآسيوي، وقد أيد هذا الرأي أخيرًا البحوث التي قامت بها كلية الآداب بالجامعة المصرية سنة ١٩٣٧م، كما أيدته أيضًا بحوث الأستاذين رانجنز وفون وسمز، والتي نُشرت في كتاب «في أعالي اليمن» لمؤلفه هيوسكوت «طبع لندن سنة ١٩٤٢»، وقد كان هذا الرأي هو الذي نرجحه سنة ١٩٢٩، وفي خريطة رسمناها للإمبراطورية المصرية القديمة في أقصى نفوذها وضعنا بلاد بنط على جانبي باب المندب (راجع الأطلس الجغرافي التاريخي لزكي الرشيدي ومبروك نافع طبعة دار الكتب بمصر سنة ١٩٢٩ القسم التاريخي خريطة ١٧ ص٦٩).

وقد ظل المصريون القدماء يطلقون لفظ بنط على هذه البلاد الجنوبية رغم تقلب الدول عليها، وكانت تسمى عندهم أيضًا «نانتر» ومعناها أرض الله، ولقد أرسلت الملكة حتشبسيوت أول امرأة شهيرة في التاريخ وهي من ملكات الأسرة الثامنة عشرة المصرية (حوالي ١٥٠٠ق.م) حملة إلى بلاد بنط مكونة من خمس سفن كبيرة للحصول على أشجار البخور والأخشاب الثمينة والجواهر وسن الفيل والعنبر، وعند وصول الحملة إلى «الأرض المباركة» أي بنط قابلهم أميرها باريهو هو وزوجته آني، ومعهما ابنتهما وولداهما مقابلة ودية للغاية، وبعد تبادل الهدايا عاد الأسطول محملًا بالأشجار الغالية — ومن بينها شجرة المر — وبالتبر والذهب والحلقات المعدنية وأكوام من الصمغ النفيس وجلود الفهود وغير ذلك، وقد نجح سفراء حتشبسيوت — علاوة على الحصول على الأشجار الثمينة التي غرس بعضها في حديقة الإله آمون — في الحصول أيضًا على طاعة أهل بنط، وتجد أخبار هذه القصة بأجمعها مدونة على جدران المعبد الكبير الذي أنشأته حتشبسيوت في الدير البحري.

(٣-٣) الدور المعيني

يذكر بعض المؤرخين دولة معين في سياق كلامه عن السبئيين، ويعتبرها لذلك من الدول القحطانية، ولكن الكشوف الحديثة دلت على أن المعينيين سكنوا منطقة اليمن قبل السبئيين بعدة قرون، ومن المحتمل جدًّا أن تكون معين قد تعاصرت مع دولة بنط، وهي — على كل حال — أول دولة نستطيع أن نلمح بعض معالمها وسط ضباب التاريخ القديم لبلاد العرب الجنوبية، وقد ورد ذكرها في مؤلفات اليونان والرومان، فذكرها يلبني واسترابون وبطليموس وغيرهم، ونسبوا إليها الاشتغال بالتجارة، وأنها كانت مصدر غناهم، ولكنهم كانوا يعتبرونها تالية للدولة السبئية لا سابقة لها كما هو الواقع، أما كُتَّاب الغرب فلم يرد لها ذكر في كتبهم، وصمتوا عنها صمتًا تامًّا.

وفي عهد هذه الدولة كانت حملة حتشبسيوت التي أشرنا إليها في الفترة السابقة.

وقد أظهرت الكشوف الحديثة أسماء ما يزيد عن عشرين ملكًا من ملوك معين، وبرغم ذلك فإنا لا نستطيع أن نكتب تاريخ معين السياسي.

أما أسماء ملوك التي عرفت فهي:
  • (١)

    يثعيل صادق – وقاه إيل يثيع – أيليفع يشير – حفنوم ريان.

  • (٢)

    أيليفع يثيع – أبييدع يثيع – وقاه إيل ريام – حفنوم صادق – أيليفع يتوش.

  • (٣)

    أيليفع واقه – وقاه إيل صادق – أبيكرب يثيع – عمييدع نابط.

  • (٤)

    أيليفع ريام – هوفا عاثت.

  • (٥)

    أبييدع – كليكرب صادق – حفن ياثع.

  • (٦)

    يثعيل ريام – تبعكرب.

  • (٧)

    أبييدع حفنوم.

وأما ما يمكن أن يستخلص من الحوادث المبعثرة عن تاريخ معين، فنذكره فيما يلي:
  • (١)

    أن التجارة كانت السبب الأول في ثراء معين؛ لأنها كانت تفرض ضرائب على البضائع التي تمر بها، والتي كانت تنفرد بنقلها على الطريق البري.

  • (٢)

    أن النظام الحكومي فيها كان إقطاعيًّا، أو شبه ذلك.

  • (٣)

    أن نفوذها السياسي كان يمتد إلى بلاد كثيرة، بما يقع على الطريق التجاري، أو يتفرع منه، بدليل أنهم حصلوا على بعض نقود ونقوش وأختام معينية في جنوب فلسطين وعلى طول نهر الفرات الأدنى.

  • (٤)

    أنه كان يعيش إلى جوار معين بعض دويلات، مثل جمهورية قتبان التي كانت تطغى على أملاك معين.

  • (٥)

    أن السبئيين كانوا قبائل من البدو تغير على قوافل المعينيين.

  • (٦)

    أن السبئيين والقتبانيين تحالفوا على معين، وتمكنوا من إسقاطها.

  • (٧)

    أن المعينيين كانوا يتكلمون نفس اللغة التي كان يتكلمها السبئيون باختلاف في اللهجة.

  • (٨)

    أن نظام الوراثة في الحكم كان متبعًا، كما يُستنتج من تكرار بعض الأسماء الملكية.

  • (٩)

    أن أسماء آلهة معين — وقد عرفوا منها الكثير — تشبه أسماء الآلهة البابلية، ومنها اسم ود، ولكن المعلومات عنها — على حد تعبير دائرة المعارف البريطانية — تلي الجهل بها.

  • (١٠)

    أن عاصمة معين كانت تُسمى قرناو، وموضعها الحديث مدينة معين، التي تخلد ذكرى الاسم القديم، أما العاصمة الدينية فكانت يثيل، وموضعها مدينة براقش الحديثة، وكلتا البلدتين في الجوف الجنوبي إلى الشمال الشرقي من صنعاء عاصمة اليمن الحديثة.

(٣-٤) الدور السبئي

حكمت الدولة السبئية زهاء تسعة قرون، وهي أشهر دولة من دول بلاد العرب الجنوبية، حتى ليطلق اسم السبئية من باب التساهل على كل الدول التي حكمت في جنوب بلاد العرب، وقد تعاصر حكام هذه الدولة الأُول مع آخر الحكام المعينيين.

وينسب العرب تأسيسها إلى عبد شمس بن يشجب، الذي يقولون إنه لقب بسبأ؛ لأنه أكثر من الغزو في أقطار البلاد، وسبا خلقًا كثيرًا، وهو أول من سن السبي في العرب، فالسبئيون في نظرهم من سلالة القحطانيين، وهناك رأي يقول بأن السبئيين أصلهم من الأحباش، ولكن الأرجح أنهم قبائل من البدو وفدت من الشمال وسكنت اليمن إلى جوار المعينيين، فعاصروهم مدة كانوا يغيرون فيها على قوافل معين، حتى تمكنوا بمساعدة بعض الدويلات، مثل جمهورية قتبان، التي كانت قائمة إلى جوار معين من إسقاطها، وأقدم اشارة إلى السبئيين في الخارج، نقش يرجع إلى تجلات بلسر الثالث (٧٤٥–٧٢٧ق.م) مؤسس الإمبراطورية الأشورية الثانية، ونقش آخر يرجع إلى عهد سرجون الثاني (٧٢١–٧٠٥ق.م) يشير إلى يثعمر السبئي، ونقش ثالث يرجع إلى عهد سنحاريب حوالي (٦٨٥ق.م) يشير إلى كرب إيل السبئي، وتتحدث هذه النقوش عن هدايا كان يقدمها الحكام السبئيون إلى هؤلاء الملوك، يرى بعض المؤرخين أنها كانت جزية، ولكنها لم تَعْدُ الهدايا لتحسين العلاقات صيانة لمصالح العرب التجارية، وأورد الأستاذ فلبي في كتابه الأخير أنه توجد أدلة على أنه في عهد سليمان كانت توجد قبيلة عربية تُسمى سبأ تسكن الأقاليم التي تقيم بها الآن قبيلتا شمر والرولة، وزعماء سبأ هذه هم الذين يعقل أنهم قدموا الهدايا إلى سرجون الثاني وسنحاريب.

وتذكر التوراة — في سفر الملوك الأول الإصحاح العاشر — ملكة سبأ وزيارتها لسليمان. كما نجد أيضًا تفصيل قصة سبأ في القرآن الكريم في الآيات من ٢٠ إلى ٢٤ من سورة النمل، وقصة سيل العرم في الآيات من ١٥ إلى ١٩ من سورة سبأ.

وبمراجعة النقوش التي حصل عليها في بلاد اليمن، يمكننا أن نقسم تاريخ الدولة السبئية إلى قسمين: قسم يلقب فيه الحاكم بلقب مكارب سبأ، وقسم يلقب فيه الحاكم بلقب ملك سبأ.

وليست لدينا معلومات محددة عن أعمال كل من هؤلاء المكارب أو الملوك، ولا عن مدة حكم كلٍّ، ويتميز المكارب عن الملوك بأنهم كانوا يجمعون إلى الحكم الكهانة، أو الرئاسة الدينية، وكانت عاصمة المكارب قصر سراوح، ومكانة مدينة خريبة الحديثة إلى الشرق من صنعاء، أما عاصمة الملوك فكانت مدينة مأرب، التي تبعد نحو ستين ميلًا إلى الشرق من صنعاء، وتحدد سنة ٦٠٠ق.م تقريبًا لخاتمة عصر المكارب، وبدأ عصر الملوك، والفترة الثانية كانت أزهر عصور التاريخ السبئي.

وفي أسماء المكارب والملوك يلاحظ — أكثر من مرة — تعاقب اسم كرب بعد يثعمر، كما نلاحظ إضافة بعض الألقاب إلى أسماء الحكام، مثل وتار ومعناها العظيم، وذرح ومعناها الشريف، وبين ومعناها الممتاز، وينوف ومعناها السامي، ويهنعم ومعناها المسخر.

«كانت الكتابة اليمنية القديمة تدون بحروف منفصلة ساكنة ليست لها حروف حركة تحدد النطق بالكلمات، فهي من هذه الناحية تشبه المصرية القديمة، وضبط النطق بالألفاظ ليست إلا مسألة تخمينية، فلفظ مكارب مثلًا كان يُكتب م ك ر ب، ولفظ و ت ر يمكن أن ينطق وتار أو واتر، إلخ.»

وفيما يلي ثبت بأسماء مكارب سبأ وملوك سبأ التي حصل عليها:

المكارب

  • (١)

    زمر علي – سمهعلي ينوف – كرب إيل واتر – يثعمر بين.

  • (٢)

    سمهعلي – يدغيل ذرخ – يثعمر واتر – سمهعلي ينوف – يثعمر واتر – يدعيل بين.

  • (٣)

    يثعمر – كرب إيل بين – سمهعلي ينوف.

ملوك سبأ

  • (١)

    سمهعلي ذرخ – إيل شرح – كرب إيل.

  • (٢)

    يثعمر – كرب إيل واتر – يدعيل بين.

  • (٣)

    وهب إيل يحوز – كرب إيل واتر يهنعم.

  • (٤)

    وهب إيل – أنماروم يهمين.

  • (٥)

    زمر على ذارح – نشكرب يهمين – واتر واتروم يهمين – يكرب ملك واتر – يريم أيمن.

وبهذه المناسبة نذكر أن لقب مكارب كان يحمله الحكام الأُول لقتبان التي كانت تتعاصر مع العهد الأول السبئي، وكانت عاصمتهم تمنع، وقد عرفت أسماء عدد من حكام قتبان نذكرها فيما يلي:

يدعب ذبيان – شهير يجول – هوفاعم – شهير يجول يهرحب – درويل غبلان يهنعم – أبيشيم – شهير غبلان – بعم – زمر علي – يدعب يفول.

وكانت أسرة همدان في ذلك العصر تتطلع إلى العرش، وقد كشفت النقوش عن أسماء بعض أفرادها نذكرها فيما يلي:

أوس لات رفشان – يريم أيمن – بارج يهرحب – علهان – شعير أوتر – يريم أيمن – والأخيران هما ولدا علهان.

وفي أواخر هذا العصر بدأت أسرة حمير تظهر لأول مرة كعدو خارجي لدولة سبأ، وقد كشفت النقوش عن أسماء بعض شخصياتها نذكرها فيما يلي:

فرع ينهب – إلي شرح يحضب – يزل بين «والأخيران ولدا الأول» – نشا كرب يمن يهرحب.

ملكة سبأ

لا يطعن عدم ذكر ملكة سبأ في النقوش ولا بين الأسماء التي ذكرناها آنفًا في صحة وجودها؛ فلقد ورد ذكرها في التوراة والتلمود والقرآن الكريم، ففي التوراة ورد في الإصحاح العاشر من سفر الملوك الأول، الآيات من ١–١٤ ما خلاصته أن ملكة سبأ سمعت بخبر سليمان، فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا وحجارة كريمة، وامتحنته بمسائل، فأخبرها بكل كلامها، وأنها لما رأت حكمة سليمان والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده … إلخ. قالت إنها لم تصدق الأخبار حتى أبصرت بعينيها، وأنها رأت ضعف ما سمعت، وقدست إله إسرائيل، وأن الملك سليمان أعطاها كل مشتهاها الذي طلبت، فانصرفت وذهبت إلى أرضها هي وعبيدها، وفي الكتب الدينية اليهودية كالتلمود والترجوم تفصيلات وشروح مما ورد في التوراة.

أما القرآن الكريم فقد ورد فيه ذكر سبأ في موضعين، الأول في سورة النمل الآيات من ٢٤–٤٤ وفيه تفصيل لزيارة ملكة سبأ لسليمان، والموضع الثاني في سورة سبأ الآيات من ١٥–١٩ وفيه ذكر لسد مأرب وسيل العرم وتفرق القبائل، وهذا الموضع الثاني سنعود إليه عند الكلام عن سد مأرب.

أما قصة ملكة سبأ الواردة في سورة النمل، فخلاصتها أن سليمان عليه السلام تفقد الطير فلم يجد الهدهد، فلما جاء الهدهد قال لسليمان أنه جاء من سبأ، وأنه وجد امرأة تملكهم تسجد هي وقومها للشمس، وأن سليمان بعث معه بكتاب ألقاه للملكة يطلب فيه ألا تعلو الملكة عليه وأن تأتي إليه مسلمة، وأن الملكة جمعت قومها وشاورتهم في الأمر، فقالوا أنهم قوم أولو قوة وأنهم رهن أوامرها، وأنها أرسلت بعد ذلك إلى سليمان بهدية تصانعه بها، فلما وصلت الهدية «أو الرشوة» سليمان لم يقبلها وأظهر أنه أغنى منها، ثم هدد بأن يرسل إلى بلادها جنودًا لا قِبَل لهم بها، وأنها على أثر هذا التهديد جاءت إلى سليمان الذي شيد لها صرحًا ممردًا من قوارير ووضع فيه عرشها، وأنها بعد أن رأت ما رأت، قالت: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

ويمكننا أن نستنتج من الآيات القرآنية التي وردت في ملكة سبأ ما يأتي:
  • (١)

    أن رسول سليمان عرف أخبار دولة جديدة على جانب من الغنى كانت تملكها امرأة.

  • (٢)
    أن أهل هذه الدولة كانوا يعبدون الشمس وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ.
  • (٣)
    أن دولة سبأ كان نظام الحكم فيها غير استبدادي بل شبه شورى، بدليل ما ورد في الآية ٢٣: إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ، ولم يقل تحكمهم، والحكم يفيد الحكم المطلق، والملك يفيد ولاية العرش فحسب، وبدليل ما ورد في الآية ٣٢: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ.
  • (٤)

    أن ملكة سبا تخوفت من سليمان وأرادت مسالمته بإرسال هدية إليه كأنما هي ترشوه.

  • (٥)

    أن سليمان رفض الهدية «أو الرشوة» وهدد بغزو سبأ.

  • (٦)

    أن الملكة أذعنت وجاءت إلى سليمان الذي أعد لها قصرًا وعرشًا أحاطه بما يأخذ بروعتها، وأنها في آخر الأمر آمنت بسليمان وأسلمت معه.

ويمكن أن نستنتج من ثنايا النصوص:
  • (١)

    أن دولة سبأ إبان هذه الفترة كانت ضعيفة النفوذ، بدليل أن الملكة تخوفت من سليمان وملك سليمان لم يكن يتجاوز القرن الغربي للهلال الخصيب إلا قليلًا، وقد حدى هذا ببعض المؤرخين إلى القول بأن هذه الملكة لم تكن تحكم بلاد سبأ الأصلية إنما كانت تحكم إحدى المقاطعات الشمالية الواقعة على الطريق التجاري الذي كان يطرقه المعينيون والسبئيون، وأن إمارتها هذه كانت على مقربة من فلسطين مقر حكم سليمان.

  • (٢)

    كما يمكن أن يُستنتج أيضًا أنها كانت تحكم في منتصف القرن العاشر قبل الميلاد؛ لأنها كانت تعاصر سليمان، وكان سليمان يحكم حوالي سنة ٩٥٠ق.م.

  • (٣)

    أنها كانت من المكارب الأُول الذين كانوا يجمعون بين الرئاسة الزمنية والرئاسة الدينية.

ولم يرد في العهد القديم أو القرآن الكريم ذكر لاسم هذه الملكة، ولكن المفسرين وبعض المؤرخين من العرب وبعض شراح التوراة، قالوا: إنها هي بلقيس بنت شرحبيل، أو بنت الهدهاد، معتمدين في ذلك على بعض الإسرائيليات، والواقع أنه كانت هناك ملكة تُسمى بلقيس، هي إحدى ملكات الطبقة الثانية من ملوك حمير المعروفة عند العرب بالتبابعة، حكمت في النصف الأول من القرن الرابع للميلاد، وكانت ذكراها لا تزال تعمر أذهان بعض الناس، فحسبوها الملكة المعنية في القرآن.

وقد يكون من المناسب هنا، أن نشير إلى ما يذكره مؤرخو العرب، عن الطريقة التي تولت بها بلقيس الحكم، إذ يقولون إن أحد التبابعة المسمى مالك، كان فاحشًا فاسقًا خبيثًا، لا يبلغه عن بنت ذات جمال إلا أحضرها وفضحها، حتى أتى بنت عمه بلقيس في قصرها، وكانت أعدت له رجلين وأمرتهما بقتله إذا دخل عليها، ولما قتلاه أحضرت وزراءه وأصدقتهم الخبر، وفوضت لهم أن يختاروا رجلًا يملكونه، فقالوا: لا نرضى بغيرك، وملكوها لما رأوا من شهامتها وإبائها، وذلك على رغم كراهية العرب لتولية النساء الحكم.

وقبل أن نختم الكلام عن ملكة سبأ، نرى أن نشير إلى أن بعض المفسرين وغيرهم من المؤرخين، يشيرون إلى أن سليمان تزوج من ملكة سبأ، وأنجب منها ولدًا، وللأحباش أسطورة انفردوا بها في هذا الصدد؛ إذ يعتبرون أن بيتهم المالك يرجع في أصله إلى ذلك الولد الذي أنجبه سليمان من سبأ، وهذا هو السر في أن نجاشي الحبشة كان يُلقب بالأسد الهابط من سبط يهوذا.

سقوط دولة سبأ

على الرغم من المبالغات التي تصحب الكلام عن غنى سبأ وحضارتها، إلا أنه مما لا شك فيه، أنها كانت في القرون السابقة للميلاد في أوج عظمتها وازدهارها، ولقد كان هذا الازدهار يعتمد على أساس واحد، هو التجارة؛ ذلك لأن الطرق البحرية بين ثغور بلاد العرب الشرقية والهند كانت عامرة منذ قديم الزمان، وكانت الحاصلات الهندية — وخاصة التوابل والحيوانات النادرة كالنسانيس والطواويس — تُنقل إلى ساحل عمان ومن هناك كانت تنقل عن طريق البر، حتى في القرن العاشر قبل الميلاد، إلى خليج العرب «البحر الأحمر»، ومن هناك كانت تُحمل في المراكب إلى مصر، حيث يشتريها الفراعنة والعظماء، وكانت صعوبة الملاحة في البحر الأحمر تجعل طريق البر مفضلًا في نقل المتاجر بين اليمن والشام، فكانت طرق القوافل تبدأ من مدينة شبوة «سابوتا عند اليونان والرومان» في حضرموت، وتسير إلى مأرب عاصمة سبأ، ومنها إلى مكة، ومنها إلى البتراء «بطره» فغزة على ساحل البحر المتوسط، وقد ظل رخاء السبئيين مستمرًّا حتى تحولت تجارة الهند عن الطريق البري إلى طريق البحر، والراجح أن ذلك كان في أيام دولة البطالسة التي قامت في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، بمشروعات تجارية ترمي إلى الأخذ بنصيب موفور من التجارة الشرقية، ومن المشروعات التي قاموا بها في تحقيق هذا الغرض، تعبيد الطريق بين قنا والقصير، وإعادة بطليموس الثاني (٢٨٥–٢٤٦ق.م) فتح القناة التي تصل النيل بالبحر الأحمر، وبذلك صارت السفن تأتي من الشرق رأسًا إلى مصر، واستطاع التجار المصريون من البطالسة أن يخرجوا من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي، وأن ينافسوا التجار العرب منافسة خطيرة، فعملوا بذلك على تخفيض أثمان السلع تخفيضًا واضحًا، بعد أن كان أهل الغرب يضجون من شدة الغلاء، ومن الأثمان الباهظة التي كان يفرضها عليهم التجار من عرب الجنوب ثمنًا لسلعهم، التي كانوا لا يجدون محيصًا عن دفع أثمانها نقدًا لشدة حاجتهم إليها في الأغراض الدينية أو الدنيوية.

وتذكر المراجع أن رجلًا إغريقيًّا في أواخر العصر البطليموسي، أحاط علمًا بخفايا الطرق البحرية، وتغييرات الرياح الموسمية، يُدعى هيبالس — ويلقبونه كولمبس تجارة البطالسة — نجح في الخروج إلى المحيط الهندي والعودة منه، وقد حمل معه حمولة من السلع المرغوب فيها، ذات القيمة العالية، ومن بينها القرفة والفلفل من الهند، وهي سلع كان الغربيون — بتمويهات التجار العرب — يعتقدون أنها من منتجات بلاد العرب الجنوبية، وقد قفى على أثر هيبالس هذا كثيرون غيره، فساهموا بذلك في ضرب الاحتكار العربي وتدميره، وترتب على ذلك أن انتقل ما كان بأيدي العرب إلى أيدي المصريين، وقلت إيرادات سبأ، فلم تعد تحتفظ بمنشآتها القديمة، كسد مأرب الذي أُهمل، وانتهى به الأمر إلى أن يتصدع في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد (حوالي سنة ١١٥ق.م) وكان تصدع سد مأرب، الذي كان من أعظم المباني السبئية العامة، والذي تكاتف أكثر من ملك سبئي على إقامته لأغراض اقتصادية، مؤذنًا بسقوط دولة سبأ النهائي، وهجرة كثير من سكان اليمن إلى الشمال.

وحادث تصدع سد مأرب أو سيل العرم، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في الآيات من ١٥–١٩ من سورة سبأ.

هذا؛ ونظرًا لأهمية سد مأرب، سنفرد للكلام عليه فقرات خاصة في آخر هذا الباب.

(٣-٥) الدور الحميري

في الوقت الذي أخذت فيه دولة البطالسة في الازدهار، والاستيلاء على مقاليد التجارة العربية، كانت دولة سبأ في دور الاحتضار، وانتهى الأمر بسقوطها كما بيَّنا، وعلى أثر سقوطها قامت مقامها الدولة المشهورة المسماة في التاريخ دولة حمير، ومن حسن حظ هذه الدولة، أن في الوقت الذي أخذت تظهر فيه، ابتدأت دولة البطالسة تضعف وتتلاشى أمام نفوذ دولة الرومان المتغلبة، وكانت نتيجة ذلك أن التجارة القديمة أخذت تعود إلى طريقها القديم طريق البر، كذلك كانت دولة القتبانيين قد سقطت أيضًا في بلاد اليمن، فلم يكن للحميريين منازع في الطريق التجاري.

وقد عمرت دولة الحميريين نحوًا من ٦٤٠ سنة، يقسمها المؤرخون عادة إلى قسمين، معتمدين في ذلك على اختلاف ألقاب الملوك الواردة في النقوش، وهما:
  • (١)

    دولة حمير الأولى: من ١١٥ق.م–٣٠٠م.

  • (٢)

    دولة حمير الثانية: من ٣٠٠م–٥٢٥م.

وكانت عاصمة كل من الدولتين مدينة ريدان، وهي المشهورة فيما بعد باسم ظفار، إلى الجنوب الغربي من صنعاء، وظفار هذه هي التي حلت محل مأرب عاصمة سبأ، وقرناو عاصمة معين.

وكان لقب الملوك في الدولة الحميرية الأولى «ملك سبأ وذو ريدان»، أما الدولة الحميرية الثانية «المعروفة عند العرب بدولة التابعية» فكان لقب ملوكها «ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات»، وقد أضيف فيما بعد كلمات: «وعربهم في الجبال وفي تهامة.»

ومن ملوك العصر الحميري الأول كشفت البحوث عن الأسماء الآتية:

ياسر يهنعم – شمر يهرعش – زمر علي بين – كرب إيل وتار يهنعم – هالك زمر علي ذارح – لعز نوفان يهصدق – ياسر يهصدق – زمر علي يهبر – فرع ينهب – إيل شرح يحضب – يزل بين – نشا كرب يمن يهرحب.

ومن ملوك الدولة الحميرية الثانية كشفت النقوش عن الأسماء الآتية:

ملكيكرب يهمين – داري أمر أيمن – أبو كرب أسعد «وهذان الأخيران ولدا الأول» شرحبيل يعفور – شرحبيل يكف – لحيعت ينوف – ذو شناتر – معد يكرب ينعم – ذو نواس.

وبرغم كشف هذه الأسماء، فإنا لا نستطيع أن نكتب تاريخًا خاصًّا لكل منهم، كما أنَّا لا نعرف على وجه الدقة مدة حكم كلٍّ.

الدولة الحميرية الأولى

حدثت في عصر هذه الدولة عدة حوادث، كان أهمها محاولة الرومان فتح بلاد العرب، وذلك أنهم حوالي سنة ٢٤ق.م في عهد الإمبراطور أغسطس قيصر أرسلوا حملة خرجت من مصر، تحت قيادة حاكمها أيلوس جالوس Aelius Gallus كان قوامها عشرة آلاف مقاتل، وكان هدفها الاستيلاء على طرق النقل التي كان يحتكرها عرب الجنوب، واستغلال موارد اليمن لمصلحة روما، وقد ساعد الحملة وزير دولة الأنباط المسمى سيلوس، وبعد مضي عدة شهور من توغلهم إلى الجنوب، استولوا على نجران، وكادوا أن يصلوا إلى مأرب، ولكن يظهر أن دليل الحملة سيلوس أنبه ضميره على خيانة بني جلدته العرب، وأحس بأنه يرتكب إثمًا فظيعًا في مساعدته للرومان، فتركهم يتيهون في الصحراء، التي لا يعرف مسالكها إلا العرب، واضطروا أن يتلمسوا طريقهم إلى ساحل البحر الأحمر، ومن ثم عبروا إلى الشاطئ المصري، وقد استغرقت عودتهم هذه ستين يومًا، وكان يرافق هذه الحملة المؤرخ المشهور استرابون، الذي كان صديقًا شخصيًّا لجالوس والذي صب جام غضبه على دليل الحملة سيلوس، وهكذا باء الجيش الروماني بفشل ذريع، ولم تفكر منذ ذلك الوقت روما ولا أية دولة غربية غيرها، في محاولة فتح بلاد العرب الصحراوية، وهذه الحملة تمت في عهد الملك إيلي شريح يحضب.

وفي عهد هذه الدولة أيضًا، حدث أن هاجر جماعة من أهل اليمن إلى بلاد الحبشة، فأنشئوا مستعمرة هناك، ونجحوا في إقامة ثقافة لم يكن من المحتمل أن يستطيع الأحباش الوطنيون الوصول إليها، ولا نعلم علم اليقين الأهداف التي حملت هؤلاء اليمنيين والحضارمة على استعمار الحبشة، إنما يرجح أن التجارة التي أشربتها نفوس العرب كانت الباعث على هذا الاستعمار، ويعتبر هذا الغزو العربي لأفريقيا أسبق من الغزو الإسلامي لها فيما بعد.

ويُنسب إلى أحد ملوك هذه الأسرة، المسمى إيلي شريحا «ولعله ليشرح ابن يحضب الذي ذكره ياقوت في معجم البلدان» من ملوك القرن الأول المسيحي، أنه أسس قصر غمدان المشهور في صنعاء، الذي كان مكونًا من عشرين طبقة، فكان بذلك أول ناطحة للسحاب روى التاريخ أخبارها، وقد شيد هذا القصر من الجرانيت والمرمر، وغطيت أعلى طبقة فيه بصفيحة واحدة من حجر المرمر، الذي بلغ من شفافيته أن يستطيع الإنسان النظر من خلاله والتطلع إلى السماء.

وكان الغرض من تأسيس هذا القصر وغيره من القصور، التي كانت شائعة في اليمن هو حماية الأمراء الحضر لأنفسهم من غارات البدو.

وكان نظام الحكم في هذا العصر الحميري الأول نظامًا إقطاعيًّا في أساسه، ولكنه كان خليطًا غريبًا من النظام القبلي القديم ونظام الطبقات والأرستقراطية والملكية الإقطاعية.

قرب نهاية هذا العصر الحميري الأول ابتدأت قوة عرب الجنوب تنزل من عليائها، وقد كان ذلك نتيجة لتذبذبهم بين الطريقين البري والبحري في نقل المتاجر، يضاف إلى ذلك مزاحمة الرومان لهم في الطريق البحري مزاحمة خطيرة وخاصة بعد تنظيم المتاجرة البحرية خلال القرن الأول الميلادي، ولو أنهم ثبتوا على الطريق البري عبر الحجاز، الذي كان غاصًّا بالمحطات الحميرية، وكان آمنًا لا يزاحمهم فيه آخرون، لكان خيرًا لهم، وهذا الطريق البري بمحطاته المتعددة، هو الذي أشار إليه القرآن الكريم في سورة سبأ آية ١٨-١٩ في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.

الدولة الحميرية الثانية

ولكن دولة حمير لم تلبث أن لمت شعثها حوالي سنة ٣٠٠ ميلادية، وضمت إليها القبائل المجاورة من بدو وحضر، فأخضعت حضرموت وكل بلاد اليمن، وأصبح لقب الملك الحميري هو «ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات»، وبعد مدة قليلة أضيفت ألقابًا أخرى وهي: «وعربهم في الجبال وفي تهامة»، ويفهم من هذا أن الدولة الحميرية الثانية أصبحت أشبه بالإمبراطورية، تخضع بلاد كثيرة لسلطانها، وهذه الدولة هي المعروفة عند العرب باسم دولة التبابعة، ويرسم المؤرخون العرب إلى ملوكها قصصًا أشبه بالخرافة منها بالتاريخ الحقيقي، وسنعود لذكرها في الفقرة التالية، أما النقوش فإنها تذكر لنا أسماء تسعة من ملوك حمير في ذلك العصر، وقد ذكرناها في فقرة [الدور الحميري].

ويمتاز هذا العصر الحميري الثاني بدخول المسيحية واليهودية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية، التي كانت تدور حوله عبادة النجوم والكواكب والشمس عنها، وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفستي القائل بأن المسيح له طبيعة واحدة تسلك سبيلها إلى الجنوب من الشام، وكانت روما تشجع هذه الديانة وتستعين بالأحباش الذين تنصروا أيضًا على نشرها، وكان غرض روما من تشجيعها للمسيحية، غرضًا سياسيًّا أكثر منه دينيًّا.

وانتشرت في الوقت نفسه الديانة اليهودية في بلاد اليمن، وكانت قد توطنت قبل ذلك في شمال بلاد العرب، وشجع الملوك الحميريون اليهودية، ليقاوموا المسيحية دين عدوهم السياسي والاقتصادي.

وفي منتصف القرن الرابع الميلادي، غزا الأحباش بلاد اليمن ولكنهم لم يلبثوا أن طردوا، وعاد الحكم إلى الحميريين، الذين ظلوا يحتفظون بلقبهم الطويل إلى الربع الأول من القرن السادس الميلادي.

واعتنق الملك التالي على العرش اليهودية، سياسة منه لكي يعارض السياسة الرومانية، ثم تولى بضعة ملوك كانوا يعتنقون اليهودية، وكان آخرهم ذو نواس، الذي يسميه المؤرخون اليونان ديمانوس، وهو الذي جعل اليهودية دين الدولة الرسمي، واضطهد النصارى في نجران كما سنبينه عند الكلام عن الدور الحبشي.

حمير والتبابعة عند العرب

اشتهرت هاتان الدولتان شهرة واسعة، إلا أن المبالغات التي ذكرها المؤرخون العرب جعلت من الصعب استخلاص شيء حقيقي مما ذكروه، ولا شك في أن نفوذ هذه الدولة التجاري جعلها تبسط سلطانها على بعض أجزاء الجزيرة العربية في الشمال، من ذلك أنها أقامت دولة في شمال شبه الجزيرة، تسمى دولة كندة، سنفرد لها فصلًا خاصًّا، ونكتفي هنا بذكر أشهر ملوك حمير والتبابعة مع نبذ من أخبارهم، كما ورد في كتب العرب.
  • (١)

    حمير — وهو في نظر نسابة العرب ابن سبأ — هو أول ملوكهم، كان أجمل أهل زمانه وأفرسهم، وقيل إنه كان أول من تتوج بالذهب، وكان مقر حكمه مدينة مأرب، وقد مد حكمه إلى حدود الصين، وكان ملكه خمسًا وثمانين سنة، وقيل: هو الذي أخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز، ولما مات وثب أخوه كهلان على الملك، ولكن أبناء حمير استردوه، وظلت كهلان في الحدود فيما يلي الصحراء.

  • (٢)

    ثم تعاقب عدة من الملوك كان أشهرهم في كتب العرب شداد بن عاد بن الملطاط، الذي قيل: إنه أخذ يغزو في البلاد حتى بلغ أقصى المغرب، وبنى مدنًا كثيرة.

  • (٣)

    ثم تولى آخرون، حتى آل الملك إلى عمرو بن عامر ماء السماء، المعروف بميزيقيا؛ لأنه كان يلبس كل يوم حليتين منسوجتين بالذهب، ويذكرون أن في عصره حدثت حادثة سيل العرم.

  • (٤)

    ثم تولى آخرون، حتى آل الملك إلى الحارث الرائش، وهو أول التبابعة — ويقولون إن عددها ١٣ ملكًا — وسمى بالرائش؛ لأنه أصاب غنائم كثيرة في غزواته وأدخلها أرض اليمن، فرشا الناس بالعطاء.

  • (٥)

    ثم ملك بعده ذو القرنين، وسمي كذلك لضفيرتين من شعره، كان يرسلهما على قرنيه؛ أي جانبي رأسه، ويعتقدون أنه هو الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.

  • (٦)

    ثم تولى ذو المنار، وسمي كذلك لأنه كان يرفع المنارة ليهتدي بها.

  • (٧)

    ثم تولى أفريقش، فغزا أرض المغرب، وبنى بها مدينة عظيمة.

  • (٨)

    ثم تعاقب الملوك، حتى تولت بلقيس بنت شرحبيل، وقد فندنا ما يُنسب إليها عند الكلام على ملكة سبأ.

  • (٩)

    وأشهر التبابعة على الإطلاق هو أسعد أبو كرب، الذي زعموا أنه غزا أذربيجان وفارس، ولقي الترك وهزمهم، وقتل وسبا ثم رجع إلى اليمن، وهابته الملوك، وهادنه ملوك الهند، ثم رجع لغزو الترك، وبعث ابنه حسانا إلى الصغد، وابنه يعفر إلى الروم، وابن أخيه شمر يرعش إلى الفرس، وأن شمر لقي ملك الفرس فهزمه، وملك سمرقند — التي تذكر القصة أن اسمها مشتق من اسمه — فقتله، وجاز إلى الصين فوجد أخاه حسانًا قد سبقه إليها، فأثخنا في القتل وانصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما، وبعث ابنه يعفر إلى القسطنطينية، فتلقوه بالجزية والإتاوة، فسار إلى رومية وحاصرها … إلخ.

  • (١٠)

    ومن ملوكهم حسان بن تبع، وينسبون إليه أنه استباح طسما ونصر جديسًا، كما بينا ذلك في فقرة [أقصوصة طسم وجديس].

  • (١١)

    ومن الملوك تبان أسعد، الذي يقال إنه بعد عودته من الغزو في المشرق مر بيثرب ليحاربها، لأنهم قتلوا ابنًا له غيلة، فكان سكان المدينة — يثرب — يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فأعجبه ذلك، وكلمه حبران من أحبار اليهود فمال إلى دينهم واعتنقه.

  • (١٢)

    ومن الملوك حسن بن تبان أسعد أبي كرب، ويقال إنه سار بالجيش يريد أن يطأ بهم أرض الأعاجم، حتى إذا وصلوا العراق كرهت حمير المسير معه، فكلموا أخًا له يقال له عمرو فقتله وملكه الجيش، ولم ينهه من الحميريين إلا ذو رعين، الذي كتب رقعة وختمها وأعطاها للملك.

  • (١٣)

    ومنهم عمرو بن تبان أسعد، الذي منع عنه النوم عندما ولي الملك بسبب وخز ضميره لقتل أخيه، فأخذ يقتل كل رجل أشار عليه بقتل أخيه حتى خلص إلى ذي رعين فقال له: إن لي عندك براءة، قال: وما هي؟ قال: الكتاب الذي دفعت إليك، فأخرجه فإذا فيه البيتان الآتيان:

    أَلَا من يشتري سهرًا بنوم
    سعيد مَن يبيت قرير عين
    فإما حمير غدرتْ وخانت
    فمعذرة الإله لذي رعين
  • (١٤)

    وآخر ملوك التبابعة هو ذو نواس، وتتفق المراجع العربية مع الآثار والمراجع اليونانية في أخبار هذا الملك، ويقولون: إنه سمي ذو نواس؛ لأنه كان يرسل ذوائب من شعره على ظهره، وكان يهوديًّا، وهو صاحب حادثة الأخدود التي ورد ذكرها في القرآن الكريم في سورة البروج الآيات من ٤ إلى ٨، وتتلخص هذه الحادثة في أنه اضطهد النصارى، وحارب أهل نجران واقتحم مدينتهم، وقبض على عدد كبير منهم وأحرقهم بالنار، مما أدى إلى استنجادهم بالإمبراطور جوستنيان إمبراطور الدولة البيزنطية التي كانت تنتحل لنفسها حق الإشراف على النصارى، فكان أن أرسل الإمبراطور إلى ملك الحبشة لقربه من بلاد اليمن وبصفته نصرانيًّا، فأغارت الحبشة على اليمن، وأسقطت دولة التبابعة حوالي سنة ٥٢٥ للميلاد كما سنبينه في الفقرة التالية:

(٣-٦) الدور الحبشي من ٥٢٥–٥٧٥

ليست هذه أول مرة غزت فيها الحبشة اليمن، بل لقد سبق أن غزتها قبل ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقد عثر النقَّابون على أثر باللغة الحبشية تسمى به ملك الحبشة «ملك أكسوم وحمير وريدان وسلحين»، وقد أشرنا إلى غزو آخر في الفقرة السابقة.

ولم يكن الصراع بين الحبشة وحمير إلا صراعًا بين اليهودية والمسيحية وكانت الحبشة المسيحية تعضدها الدولة البيزنطية، التي كانت تنتحل لنفسها حماية المسيحيين كما قدمنا. على أن هذا التعضيد من جانب الدولة البيزنطية لم يكن خالصًا لوجه الدين؛ بل كان للعوامل الاقتصادية والرغبة في السيطرة على تجارة المشرق أثر كبير فيه، ولقد نجحت المحاولة في الآخر في سنة ٥٢٥ إذا استمر خضوع اليمن للأحباش أكثر من نصف قرن، هذا ما تقوله المراجع اليونانية، ويميل إلى الأخذ به المستشرقون، أما المؤرخون العرب فيرجعون أسباب الغزو الحبشي إلى قصة أصحاب الأخدود، وهي في نظرنا تعتبر السبب المباشر للحرب ولا تنفي تطلع الرومان إلى ذلك من قبل، ونحن نلخصها في الفقرة التالية:

قصة أصحاب الأخدود

كان ذو نواس يهوديًّا، وبنجران بقايا من أهل دين عيسى بن مريم، لهم رئيس يقال له عبد الله بن التامر، وكان من بقايا أهل دين عيسى رجل صالح يقال له فيميون وكان سائحًا لا يُعرف بقرية إلا خرج منها إلى غيرها، فما زال يضرب في الأرض حتى وصل إلى نجران، فوجد القوم هناك يعبدون نخلة، فقال: لو دعوت إلهي الذي أعبده لأهلك النخلة، فقالوا: افعل، لئن فعلت دخلنا في دينك وتركنا ما نحن عليه، فصلى فيميون ودعا الله تعالى فأرسل عليها ريحًا فجففتها وألقتها، فاتبعه عند ذلك أهل نجران.

وكان ذو نواس متعصبًا لليهودية، وتابعته حمير عليها، كراهية منهم للأحباش الذين يعتنقون المسيحية، واتخذ ذو نواس من قتل غلامين يهوديين تكأة للفتك بنجران، فسير إليهم جيشًا كبير العدد، ودخل مدينتهم وخيرهم بين اليهودية وبين القتل، فاختاروا القتل، فخد لهم الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف حتى قتل قريبًا من عشرين ألفًا، ويرى الدكتور إسرائيل ولفنسن في كتابه «تاريخ اليهود في بلاد العرب»، أن عدد القتلى مبالغ فيه؛ إذ لم تكن نجران سوى بلدة صغيرة لا يزيد سكانها عن بضع مئات، وفضلًا عن ذلك لم يقتل كل أهالي نجران، بدليل أن لهم ذكرًا في أخبار صدر الإسلام، فليس من شك في أن عدد القتلى لم يدرك عشرين ألفًا بوجه من الوجوه، فهي مبالغة ظاهرة سببها أن اضطهاد ذي نواس للنصارى كان عنيفًا جدًّا، حتى إنه ترك آثارًا أهاجت النفوس العربية في البادية والحاضرة، وقتلى نجران هم الذين أنزل الله تعالى فيهم قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (الآيات من ٤ إلى ٨ من سورة البروج).

ودفع ذو نواس ثمن اضطهاده غاليًا؛ إذ فر رجل من نجران يُسمى دوس ذو ثعلبان إلى إمبراطور الدولة البيزنطية، فاستنصره على ذي نواس وجنوده وأخبره بما فعل بهم، فقال له قيصر: بعدت بلادك عنا، ولكن سأكتب إلى النجاشي ملك الحبشة وهو على هذا الدين وقريب منكم، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يأمره بنصره.

غزو الحبشة لليمن

أرسل ملك الحبشة — وتسميه النقوش كلب إلى أصبحا — إلى بلاد اليمن سبعين ألف جندي، يقال إن مراكب من مصر هي التي حملتهم إلى شاطئ اليمن، وأمر على الجيش رجلًا يقال له أرياط ومعه قائد يسمى أبرهة الأشرم «أبرهة شكل من اسم أبراهام» فساروا في البحر حتى نزلوا بساحل اليمن، وجمع ذو نواس جنوده والتقى بالحبشة عند ساحل عدن، ولكن جنود اليمن لم يكونوا مخلصين لذي نواس، فلم يلبثوا أن تفرقوا دون كبير قتال، ولما رأى ذو نواس ما نزل به وبقومه اقتحم البحر بفرسه فغرق، ودخل أرياط اليمن فهدم معظم حصونها وأذل حمير فقتل ثلث رجالهم، وبعث إلى النجاشي بثلث سباياهم، واتخذ أرياط صنعاء مقرًّا للمستعمرة الجديدة، وهكذا ضاع استقلال اليمن، وتحققت أطماع قيصر الروم، وكل ما بقي من الذكريات الرائعة لتلك الذكريات الحميرية هو تخليد اسمها في شخص قبيلة من عدن.

اليمن تحت حكم الحبشة

نذكر هنا نصًّا كاملًا لما أورده الدياربكري نقلًا عن ابن إسحاق في الجزء الأول من كتابه «الخميس في تاريخ أنفس نفيس» عن حكم الحبشة لليمن:

أقام أرياط السنين باليمن يحكمها باسم نجاشي الحبشة، ثم نازعه أبرهة الحبشي، حتى تفرقت الحبشة عليهما، فانحاز إلى كل واحد منهم طائفة منهم، ثم سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الناس أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع أن تلقى الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها شيئًا بعد شيء، فابرزْ إليَّ وأبرزُ إليك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط: أنصفت، فخرج إليه أبرهة وكان رجلًا لحيمًا قصيرًا وكان ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا جميلًا طويلًا وفي يده حربة، وخلف أبرهة غلام له يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة فضرب بها أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته، فبذلك سُمي أبرهة الأشرم، وحمل الغلام على أرياط من خلف أبرهة فقتله وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن، فلما بلغ ذلك النجاشي غضب غضبًا شديدًا، وقال: عدا عليَّ وعدا على أميري فقتله من غير أمري. ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فحلق أبرهة رأسه وملأ جرابًا من تراب اليمن ثم بعث به إلى النجاشي، ثم كتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، اختلفنا في أمرك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة، وأضبط لها وأسوس منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فتبر قسمه فيَّ، فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، وأقام أبرهة باليمن.

(أ) محاولة أبرهة غزو الكعبة

لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس — وهي تحريف للكلمة اليونانية إكليزيا ومعناها كنيسة — بصنعاء وهي كنيسة لم يُرَ مثلها في زمنها، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت كنيسة لم يُرَ مثلها، ولستُ بمنتهٍ حتى أصرف إليها حج العرب، فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجلان من قبيلة، فقيم فأتيا الكنيسة فدنسا قداستها ثم لحقا بأهلهما، فأُخْبِرَ بذلك أبرهة وعرف أنهما وثنيين من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة، فغضب وحلف ليسيرنَّ إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وكان مع الجيش ثلاثة عشر فيلًا بينها فيل كبير اسمه محمود «وكلمة محمود تحريف للفظ ماموث Mammoth ومعناها فيل»، وخرج على الجيش رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر فقاتلهم، فهُزِمَ ذو نفر وأُخِذَ أسيرًا، ثم خرج عليه نفيل الخثعمي فانهزم نفيل وأُخِذَ أسيرًا، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، ومر على الطائف فبعثت معه ثقيف أبا رغال ليدله على الطريق حتى أنزله المغمس، فلما نزله مات أبو رغال فرجمت العرب قبره، وبعث أبرهة نفرًا إلى مكة فساق أموال أهلها وساق فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم بعث واحدًا من حمير إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له: إنني ما جئت لحربكم بل جئت لهدم هذا البيت، وانطلق عبد المطلب مع الحميري إلى أبرهة فأذن له بالدخول، وكان عبد المطلب رجلًا عظيمًا جليلًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة أجلَّه وأكرمه، فنزل عن سريره وأجلسه إلى جنبه على بساط وقال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فقال عبد المطلب: حاجتي أن يرد عليَّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة: كنتَ أعجبتني حين رأيتك، ثم زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في إبلك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه؟! فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل وللبيت رب يمنعه، وأمر أبرهة برد إبله إليه، وانصرف عبد المطلب إلى قريش وأخبرهم الخبر، فأخذوا يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة، ثم انطلقوا إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها، وحاول أبرهة توجيه الفيل إلى مكة، فألقى الفيل نفسه إلى الأرض، فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض، ثم أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل من البحر، يقول ابن الأثير: إنها أمثال الخطاطيف، مع كل طير منها ثلاثة أحجار تحملها، حجر في منقاره وحجرين في رجليه، فقذفتهم بها، وهي مثل الحِمِّص والعدس … إلخ.

وكانت النتيجة أن انهزم جيش أبرهة وفشلت حملته.

وكان سبب تدمير الجيش الحبشي انتشار الجدري، وهو الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ وهذا العام الذي حدثت فيه هزيمة الحبشة هو المعروف بعام الفيل نسبة إلى الفيل الذي رآه العرب لأول مرة في هذه الحملة، وفي هذا العام ويقابل ٥٧١ كان ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام.

(ب) سوء سيرة الأحباش في اليمن

لم يكد يعود أبرهة إلى اليمن حتى مات، فملك بعده ابنه يكسوم، فأساء السيرة في اليمن وأذلهم، وتولى بعده أخوه مسروق فسار على خطته، فلما اشتد البلاء على أهل اليمن فكروا في التخلص من الحبشة بأي ثمن كان، وقاد حركتهم هذه رجل من الأشراف يُسمى ذو يزن كان قد اعتدى أبرهة على زوجه، فاستنصر عليه كسرى فأبطأ عليه حتى مات ببابه، وتولى ابنه سيف بن ذي يزن قيادة الحركة من بعده، وسيف بن ذي يزن هذا بطل من أبطال القصص والتاريخ معًا، والظاهر أن الحركة الوطنية في اليمن ضد الأحباش لقيت في آخر الأمر تعضيدًا من فارس؛ لأن الأحباش هم صنائع عدوتها بيزنطة، على أن الغريب في الأمر أن سيف بن ذي يزن، وهو يعتقد أن اليمن لا يمكن أن تتخلص من الأحباش إلا بتدخل أجنبي، لم يلتمس التدخل من فارس مباشرة، إنما لجأ إلى قيصر الروم بالقسطنطينية، وكان طبيعيًّا أن لا يعير قيصر الروم أمره اهتمامًا؛ لأنه هو الذي حرك الأحباش لغزو اليمن، فولى وجهه شطر النعمان بن المنذر ملك الحيرة يطلب إليه تقديمه لكسرى ملك الفرس لعرض قضيته، وقبل النعمان بن المنذر الوساطة.

(٣-٧) الدور الفارسي

قال الدكتور هيكل باشا في كتابه «حياة محمد»: «فلما دخل النعمان على كسرى دخل سيف بن ذي يزن معه، وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه وقد جمع فيه أجزاء عرش دارا، وكانت موشاة بصور رسوم المجرة، فإذا كان في مشتاه وُضعت هذه الأجزاء يحيط بها ستار من أنفس الفراء، تتدلى أثناءه ثريات من فضة وأخرى من ذهب ملئت بالماء الفاتر، ونُصب فوقها تاجه العظيم، يضيء فيه الياقوت والزبرجد واللؤلؤ بالذهب والفضة، مشدودًا إلى السقف بسلسلة من الذهب، فما يلبث من يدخل إلى مجلسه أن تأخذه رهبته حين يراه، وكذلك كان شأن سيف بن ذي يزن، فلما تطامن وسأله كسرى عن أمره وما جاء فيه قص عليه أمر الحبشة وظلمها لليمن.»

وتروي كتب التاريخ الأخرى أن كسرى قال: بعدت بلادك مع قلة خيرها، فلم أكن لأورط جيشًا من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم، وخرج سيف فنثر ذلك المال على حاشية الملك، وسمع كسرى فاستدعاه وقال له: كيف تعمد إلى حباء الملك تنثره للناس، فقال: وما أصنع بهذا، ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهبًا وفضة، يقصد سيف أن يرغبه فيها، فنجحت حيلة سيف، فأرجأ الأمر حتى يستشير رجال دولته، فقال قائل منهم: أيها الملك، إن في سجونك رجالًا قد حبستهم للقتل، فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم، وإن يظفروا كان ملكًا ازددته، فبعث معه كسرى من كان في سجونه وكانوا ثمانمائة رجل، واستعمل عليهم وهزر وكان ذا سن فيهم وأفضل أولئك المجرمين حسبًا، وتقول القصة: إنه لطعنه في السن كانت جفونه مدلاة فوق عينيه، فكان إذا أراد الرمي عصبوا له جفنيه إلى أعلى حتى يتمكن من إصابة الهدف.

وأبحرت الحملة يرافقها سيف في ثمان سفائن، غرقت منها سفينتان ووصلت السفائن الست إلى شاطئ حضرموت وعليها الجيش الفارسي، وقد بلغت عدته ستمائة وانضم إليهم عدد كبير من اليمنيين، ووصلت أخبار الجيش إلى مسروق حاكم الحبشة، فخرج على رأس قوته ليلاقي الغزاة، ويقولون إنه أحرق سفنه حتى لا يفكر الجيش في العودة، ثم تصافَّ الجيشان، فقال وهزر: أروني ملكهم، فأشاروا إلى رجل على الفيل عاقد تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء في حجم البيضة، وأطلق وهزر سهمه فصك الياقوتة التي بين عيني مسروق، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ونكص عن دابته، وكان سقوط الملك نذير الفشل في صفوف الأحباش الذين تفرقوا، فتعقبهم الفرس والعرب بالقتل والتذبيح، ودخل وهزر صنعاء بعد أن هدموا له بابها؛ لأنه لم يرد أن يدخلها منكسًا رايته، وتختلف الروايات في تفصيل ما حدث بعد ذلك، فمعظم المراجع العربية تقول: إن وهزر أرسل إلى كسرى يعلمه بالفتح فبعث إليه بأموال، فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن، فعاد وهزر إلى فارس، وجلس سيف على سرير اليمن، واتخذ قصر غمدان مقرًّا له، وجاءته وفود العرب تهنئه ومن بينها وفد برئاسة عبد المطلب زعيم مكة الذي أكرم سيفٌ وفادته وخصه بعشرة أمثال ما أعطى الآخرين، ثم أخذ سيف يطوف بلاد اليمن يطلب الأحباش فلا يقف على أحد منهم إلا قتله، وكان يبقر بطون النساء، ولم يُبْقِ من الأحباش إلا جماعة قليلة جعلهم عبيده، فكانوا يمشون بين يديه بالحراب حتى إذا خلوا به في الصحراء وقد خرج إلى الصيد انقضوا عليه بالحراب وقتلوه ثم هربوا، وبلغ الخبر كسرى فبعث إليهم وهزر ثانية في أربعة آلاف فارس، وأمره أن لا يترك باليمن حبشيًّا ولا سلالة حبشي من عربية، وفعل وهزر ما أمره كسرى فعينه كسرى حاكمًا على اليمن يبعث إليه بخراجها. هذه رواية معظم الكتب العربية. أما بعض المراجع الأجنبية فتقول بأن الفرس بسطوا نفوذهم على اليمن مباشرة، وكان وهزر مندوبًا ساميًا له الحكم الفعلي، ولسيف بن ذي يزن الحكم الرسمي إلى أن قُتل.

ولما مات وهزر أقام كسرى مكانه ابنه المرزبان ثم حفيده، وكان خامس ولاة الفرس على اليمن وآخرهم باذان الذي اعتنق الإسلام في سنة ٦٢٨م، وهي السنة السادسة للهجرة، وظل واليًا عليها حتى سنة ٦٣٢م، وهي السنة التي دخلت فيها في حوزة الإمبراطورية العربية، وبذلك انتهى حكم فارس.

وانتهت في نفس الوقت أهمية اليمن في مجرى التاريخ العربي؛ إذ حلت محلها الحجاز في استرعاء الانتباه العام.

ونصف في الفقرات التالية أهم مظاهر الحضارة في دول بلاد اليمن القديمة منذ أقدم العصور إلى أن ظهر الإسلام.

(٤) الحكومة والحالة الاجتماعية

كانت حكومات اليمن تقوم على قبائل لا تربط بينها روابط القربى بقدر ما تربط روابط المصلحة، وكان نظام الحكم ملكيًّا وراثيًّا في الأبناء أو الإخوة، وفي بعض الأحيان كان يشرك الملك ابنه معه في الحكم على غرار ما كان يصنع ملوك الأسرة الثانية عشرة المصرية، وكان للنساء حق وراثة العرش كالرجال، كما حدث في الدولة المصرية القديمة أيضًا، ولكن الملكية لم تكن مطلقة، بل كانت مقيدة؛ إذ كانت توجد مجالس لها صفة نيابية تمد الملك بالمشورة والنصيحة وتساعده في المسائل التشريعية، تؤيد ذلك النقوش التي كشفت كما يؤيده القرآن الكريم في قصة سليمان وملكة سبأ التي أشرنا إليها آنفًا؛ إذ قالت لما ألقي إليها كتاب سليمان يطلب إليها فيه أن تأتي مسلمة: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (الآية ٣٢ من سورة النمل). فالنقوش هنا تتفق مع ما جاء في القرآن تمامًا.

ثم إن نظام الحكم الذي كان في قتبان وفي غيرها من الحكومات كان يسمح لمجلس من الشيوخ بأن يهيمن إلى حد ما على تصرفات الملك ولو أن السياسة العامة كانت تقررها جمعية عمومية من رجال القبائل.

وكانت الأوامر الملكية تصدر على هيئة مراسيم، وتُكتب في غالب الأحيان على لوحات من البرونز أو الحجر وتُعرض في الطرق العامة أو المعابد ليراها الناس جميعًا، وقد عثر المنقبون على مجموعة كبيرة من هذه اللوحات التي كثيرًا ما كانت تُزخرَف من أعلاها أو أسفلها بنقوش مختلفة يمثل بعضها أبا الهول المجنح أو النخيل أو غير ذلك، وكان الملوك يلبسون مآزر محوكة بالذهب ويتحلون بأساور ثمينة في أذرعهم، ويمكننا أن نستنتج من رسوم الملوك على النقود أنهم كانوا يرسلون شعور رءوسهم ولا يرسلون شواربهم أو لحاهم، كما كان يفعل قدماء المصريين.

وساد الحكم الإقطاعي في اليمن، فكان الملك على رأس المملكة والبلاد تقسم إلى مخاليف «جمع مخلاف»، وكل مخلاف يقسم إلى محافد «جمع محفد»، وكل محفد يقسم إلى قصور أو حصون، وأصحاب المخاليف يسمون أقيال «جمع قيل»، وأصحاب المحافد يسمون أذواء «جمع ذو»، وفي الغالب كان المحفد يُنسب إلى أشهر قصر فيه، والمخلاف إلى أشهر محفد فيه، وفي بعض الأحيان كان ينسب كل إلى إله المنطقة، وكثيرًا ما كان يطغى أحد الأقيال على مخلاف جاره إذا أنس من نفسه قوة فيضمه إليه، بل وكان يطمع بعض الأحيان أحد الأقيال في الملك، فينزل الملك عن عرشه ويتولى مكانه، وكان يساعد هؤلاء أن الملوك قلما كانوا يعتنون بتنظيم الجند لقلة الحروب والفتوح، ويشبه هذا النظام كثير الشبه النظامي الإقطاعي الذي قامت عليه الأسرة الثانية عشر في تاريخ مصر القديم، أو النظام الإقطاعي في العصور الوسطى في أوروبا، وكانت طبقات الشعب تشبه طبقات النظام الإقطاعي فكان هناك أشراف وملاك ورقيق عدا جاليات الأجانب، وكانت تفرض على الأراضي ضرائب ثلاث، وليست لدينا معلومات عن قيمة هذه الضرائب، ولكن النقوش تدل على أنها كانت تحدد والمحاصيل في الحقول، وكان للكهنة الحق في فرض الضرائب وفي أخذ الزكاة، وكان يسخر الناس في تشييد المباني العامة.

وذكر استرابون أن الرياسة في العائلة كانت لأكبرها سنًّا، وأن أموال العائلة ومتاعها كان شركة بين أفرادها، وأن زواج الأخت وزواج الأم وجمع المرأة بين أزواج عدة كان معروفًا، كما كان يُعاقب بالموت من يتزوج من غير أسرته، وبعض هذا كان شائعًا عند قدماء المصريين، فقد كان الأخ يتزوج أخته والابن يرث أباه في زوجاته، ولا نعلم مبلغ صحة ما ذكر عن اليمانيين.

(٥) التجارة والزراعة والصناعة والفنون

قامت حضارة بلاد اليمن على التجارة بحكم توسطها بين أمم العالم القديم، فكانت تأتي إليها المتاجر من الهند وجزائر الهند الشرقية وبلاد الصين وسواحل أفريقيا، فترسو بها السفن على شواطئ اليمن ثم تنقل إلى صنعاء أو مأرب حيث تحملها ظهور الإبل في قوافل ضخمة إلى الشام والعراق ومصر وحوض البحر الأبيض المتوسط، وكانت سبأ تتقاضى مكوسًا وضرائب جمركية على البضائع المارة بها، وكانت قوافلها تحمل متاجر البلاد الشمالية إلى اليمن، كما كانت تحمل معها بعض الإماء من غزة أو يثرب أو غيرها للخدمة في المعابد، وكان أكثر ما تحمله القوافل إلى الشمال الذهب والقصدير والعاج والتوابل وريش النعام والقطن والحجارة الكريمة، وكان من بين ما تحمله إلى الشمال بعض ما تنتجه أرض اليمن نفسها كالبخور والمر واللادن والعطور والطيب والصموغ مما كان يحتاج إليه في المعابد، وكانت ترجع القوافل بحاصلات الشمال التي أهمها الحنطة والزيوت والخمور والمنسوجات والأصباغ والآنية وسبائك الفضة، وكانت التوابل والبخور من السلع المقدسة التي لا يجوز أن يتجر فيها كل إنسان، والتي كانت قاصرة — كما ذكر بليني — على ثلاثة آلاف عائلة من الأشراف كانوا يدفعون عنها زكاة لمعبد شبوة.

أما الصناعة فقد اشتهرت بها بلاد اليمن من قديم، فكانت تنسج المواد الخام التي كانت تستوردها من الهند، والبُرُد اليمنية مشهورة، وأكثر منها شهرة السيوف التي كانت تصنع هناك، وقديمًا كانوا إذا أرادوا امتداح سيف قالوا: «سيف يماني»، وكذلك كانت تُدبغ الجلود وتُصنع منها الدروع السميكة.

ووجه أهل اليمن قديمًا عناية للزراعة، ولم يكونوا يزرعون السهول المنبسطة فحسب؛ بل كانوا يزرعون سفوح الجبال أيضًا بعد تهيئتها طبقات الواحدة تلو الأخرى، وقد عُنُوا عناية كبيرة بمسائل الري وحفر القنوات لتوصيل الماء إلى مدرجات السفوح المنزرعة، كما أنشئوا مئات السدود لخزن الماء في أيام المطر ورفع مستواه ليصل إلى السفوح، وكانوا يُعْنَون بوجه خاص بزراعة النباتات النادرة والفواكه والكروم، حتى لقد ذكر الهمداني صاحب كتاب صفة جزيرة العرب أسماء أكثر من عشرين صنفًا من العنب.

وكان أهل اليمن الأقدمون مهرة في فن العمارة ونحت الأحجار، يدلنا على ذلك ما خلفوه وراءهم من سدود وقصور وحصون ومدائن ومعابد وحياض لخزن الماء، وإن ما ذكره الهمداني من وصف قصر غمدان ومن أنه كان عشرين طبقة بعضها فوق بعض، بين كل سقفين عشرة أذرع، ومن أن بانيه لما بلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة ليس فيه مبالغة، ويدل على مهارتهم، وأن ما بقي من الآثار يصعب على الإنسان أن يرى الفواصل بين حجارتها، وكانت تزخرف مبانيهم نقوش كتابية ورسوم تمثل حيوانات أو زخارف من ورق الشجر، وهي تدل جميعها على مهارة في الحفر الغائر في الحجر. أما صناعة التماثيل فلم تكن متقدمة كما كانت عند المصريين واليونان أو حتى عند الآشوريين، فكان الجسم ينحت كتلة صماء، أما الوجه فكانت لا تجري فيه أية حياة ولا يعبر عن شيء، وكانت النسبة في معظم الأحيان بين أجزائه خاطئة، والظاهر أن القوة الفنية للابتكار لم تكن قوية فيهم، فإن أحسن نماذجهم الفنية في الآنية أو التماثيل يظهر فيها الأثر الأجنبي إن لم تكن صنعتها يد أجانب، وصكوا عملتهم في أول الأمر على غرار العملة اللاتينية، ولكن صناعتها تدهورت في آخر الأمر وكانت تقليدًا ضعيفًا للنقود الرومانية.

وكان لأهل اليمن نظام غريب في تشييد مدافنهم ومعابدهم، فمدينة مأرب عاصمة سبأ تدل أنقاضها الحالية على أنها كانت مستديرة الشكل تمامًا، ويرجح أن ذلك كان راجعًا إلى اعتبارات دينية، وكان بعض مبانيهم بيضي الشكل كالأثر المعروف الآن باسم حرم بلقيس ولعله كان معبدًا، ونلاحظ أن معظم المدائن اليمانية كانت تُبنى على مرتفعات، وهذا طبيعي في بلاد حارَّة كبلاد اليمن.

وقد عرف اليمانيون العقد المدبب، ولا تزال كثير من الأحواض التي بنوها لخزن المياه مستعملة إلى الآن، أما قصور اليمن فقد أطنب شعراء العرب في التغني بها ووصفها في أشعارهم، ولا تزال أنقاض بعضها قائمة إلى الآن.

أما أشهر مباني العرب، فهو سد مأرب، ولأهميته سنفرد له فقرتين، نذكر فيهما تاريخه وتصدعه وما ترتب على ذلك.

(٦) اللغة والدين

كان أهل اليمن يتكلمون لغة سامية، ولكنها ليست اللغة العربية الشمالية التي نتكلمها الآن، وهي تمتُّ إلى الحبشية بصلة، ويعتبرها علماء اللغات من لغات القسم الجنوبي للمجموعة السامية، وقد تفرعت إلى لهجات بحسب عصور الحكم، منها اللهجة المعينية واللهجة السبئية واللهجة الحميرية. والكتابة اليمنية القديمة ليست لها حروف حركة تحدد النطق بالكلمات، فهي من هذه الناحية تشبه الكتابة المصرية القديمة. وضبط النطق بالألفاظ فيها ليست إلا مسألة تخمينية. وحروف الكتابة لا تتصل، إنما يفصل بين الكلمات فاصل، وأبجديتها مثل الأبجدية الفينيقية مقتطعة من الأبجدية السينائية التي كشفت في السنوات الأخيرة في سرابيط الخادم بسيناء، وكان كل من تجار العرب والفينيقيين قد نقلوها من سينا، وهذه مأخوذة من الخط المصري القديم. ويُعرف الخط اليمني القديم بالمسند، وهو اسم أطلقه علماء المسلمين عليه؛ لأن الحروف فيه تستند إلى أعمدة، وتتكون الأبجدية من تسعة وعشرين حرفًا، هي الحروف الثمانية والعشرون للأبجدية العربية، تضاف إليها السين الثانية العبرية، وكان اليمنيون يكتبون من اليمين إلى اليسار، وبعض النقوش القديمة يُقرأ منها سطر من اليمين إلى اليسار وسطر من اليسار إلى اليمين على التعاقب، وقد ظل الخط الحميري «المسند» يُقرأ إلى صدر الإسلام، حتى أدخل الإسلام في بلاد اليمن مع العقيدة الدينية لغة القرآن «العدنانية المضرية أو القرشية الفصحى» ومحا محوًا تامًّا كل اللهجات الجنوبية، التي كانت قد ضعفت لأسباب شتى، ونسي أهل اليمن مع نسيانهم للغتهم القومية أخبار أقوامهم السابقين (راجع تاريخ اللغات السامية، الدكتور إسرائيل ولفنسون، والجزء الأول من كتاب الأساس للدكتور العناني).

هذا؛ ولا يزال المستشرقون يجدون صعوبة كبيرة في ترجمة النقوش العربية الجنوبية، وأن معاني شطر كبير منها لا يزال موضع خلاف بينهم.

وقد ذكر الأستاذ فلبي في مقدمة كتابه الأخير عن عصر ما قبل الإسلام الذي أشرنا إليه آنفًا أنه يستطيع أن يدعي أنه قد قرأ بقدر الاستطاعة وهضم بالفعل كل النقوش العربية الجنوبية، وعدتها نحو ٦٠٠٠ نقش، هي كل التي كشفت أو على الأقل نشرت … وأنه عندما يعتزم تفصيل المختصر الذي كتبه عن تاريخ العرب قبل الإسلام بالتدريج وينتوي أن يؤيد آراءه بإضافة ملحق إلى الكتاب يتضمن ترجمة إنجليزية لكل النقوش العربية الجنوبية ذات الأهمية التاريخية.

ولا شك أن اليمانيين الأقدمين كانت لهم آداب؛ لأنهم ضربوا في المدنية بسهم وافر، ولكن لم يصلنا من آدابهم شيء، أما النقوش التي وصلتنا فإنها لا تتضمن إلا أدعية واستغفارات أو مراسيم ملكية تتعلق بالري أو الضرائب أو ما شاكل ذلك، وقد قسمها العلماء إلى الأقسام الستة التالية:
  • (١)

    نقوش معمارية وجدت على جدران المعابد وغيرها من المباني العامة تخليدًا لذكرى بانيها أو من اشتركوا في إقامتها.

  • (٢)

    نقوش تاريخية دونت عليها أخبار بعض المعارك، أو أعلن فيها ذكرى بعض الانتصارات.

  • (٣)

    نقوش دينية محفورة على لوحات من البرونز أقيمت في المعابد قربانًا للآلهة.

  • (٤)

    نقوش جنائزية أو قبريات.

  • (٥)

    قوانين عسكرية محفورة على أعمدة في مداخل المباني العامة أو المعابد.

  • (٦)

    نقوش تتضمن وثائق قانونية تنم عن نظام دستوري طويل العمر.

أما ما يُنسب إلى بعض ملوكهم من شعر أو غيره بالعربية الفصحى، فليس إلا بعضًا من خيال المؤرخين والمتأخرين.

أما ديانتهم فقد نقلت إلينا النقوش أسماء معابد كثيرة، وأكثر من مائة إله، ولكن لا نعرف عن هذه الآلهة إلا أسماءها، ولا شك أن بعض الآلهة كان يعبد في كل البلاد، وأكبر آلهتهم الشمس، وكانت لها مظاهر متعددة في جهات مختلفة، ومن بين آلهتهم عطار الذي يدل على كوكب الزهرة، ولعل اسمه مشتق من أشتار البابلي أو عشتوريت الكنعاني، وكان القمر من بين آلهتهم الكبرى، ويرى بعض العلماء أنه كانت له الأفضلية على الشمس على اعتبار أنه المعبود الذكر، وأن الشمس الأنثى زوجته، وكان يُسمى عندهم ورح أو شهر أوسين، وكان لكل منطقة إلهها المحلي، فكانت معين تعبد الإله ود، وقتبان تعبد الإله عم، وسبأ تعبد الإله المقاه، وهمدان تعبد الإله تعلب ريام، ولعل هذه الآلهة المحلية أو القبلية كانت مظاهر لإله القمر، وهناك في النقوش ما يشير إلى أن القمر والشمس والزهرة كانت تكوِّن أسرة مقدسة، كما كان أوزوريس وإيزيس وحوريس يكونون ثالوثًا مقدسًا عند المصريين، وكان الثور وقرنا الثور والهلال تعتبر من رموز القمر كما كانت البقرة هاتور عند المصريين القدماء.

وفي بعض الأوقات كان الملوك يعبدون بعد موتهم بوصف كونهم آلهة، وكان اليمنيون يعتقدون أن الشعب هو سليل الملك، وأن الملك هو الابن البكر للإله، وكثيرًا ما نرى عبارة «الإله والملك والشعب» على النقوش، ولم يكن للآلهة تماثيل كما كان عند المصريين القدماء، وكان الناس يتقدمون إلى الآلهة بتماثيل لأشخاصهم لكي تبارك أعمالهم، كما كانوا يقربون لهم قرابين من الضحايا والبخور، وكانوا يؤدون الحج في فصول معلومة من السنة، وكان شهر الحج يُسمى ذو الحجة أو ذو المحجة، وعرفنا أيضًا أسماء بعض شهورهم، ويمتُّ عدد منها بصلة إلى الزراعة، وكان اسم الكاهن في لغتهم «رشو» ولعل معناها المعطي.

وزاد النفوذ اليهودي في أواخر أيام دولة الحميريين، وتهود بعض ملوكهم، وكان من آثار اليهودية أن شاع ذكر اسم «الرحمن» في النقوش دلالة على الله.

ودخلت النصرانية بلاد اليمن قبل الغزو الحبشي، وانتشرت بعد ذلك الفتح، ولكنها لم تلقَ قبولًا؛ وذلك لأنها كانت تعتبر دليلًا على السيطرة الأجنبية، وأسس أبرهة كنيسة القليس المشهورة في صنعاء، ولكنها لم تلقَ ارتيادًا كبيرًا، أما الفتك بالنصارى في نجران فكانت له أسباب سياسية كما كانت له أسباب دينية.

(٧) سد مأرب أو سد العرم

أشار القرآن الكريم إلى سد مأرب وتصدعه في قوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (سورة سبأ الآيات من ١٥ إلى ١٧).

وغني عن البيان أن القرآن الكريم في هذه الآيات يشير إلى تصدع واحد من التصدعات التي أصابت السد أكثر من مرة، فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس بعده، وكان منها ذلك الذي حدث سنة ١١٥ق.م، والذي حدث سنة ٤٥٠م، وسنة ٥٤٠م، ولا نعلم علم اليقين إلى أيها يشير القرآن الكريم.

وكتب الهمداني في كتاب «الإكليل» منذ عشرة قرون عن السد ما ملخصه: «سبأ كثيرة العجائب، والجنتان عن يمين السد ويساره، وهما اليوم غامرتان، وإنما عفتا لما اندحق السد، أما مقاسم الماء من مداخر السد فيما بين الضياع فقائمة كأن صانعها فرغ من عملها بالأمس.» ولقد ظل الناس في شك من أمر السد بعد رواية الهمداني حتى تمكن المستشرق الفرنسي أرنو من الوصول إلى مأرب سنة ١٨٤٣م، وشاهد آثاره ورسم له خريطة ووصفه وصفًا جاء مطابقًا في مجموعة لما قاله الهمداني.

ورد في الجزء الثاني من «رحلة إلى بلاد العرب السعيدة» للأستاذ نزيه العظم آخر من زاروا مأرب ما خلاصته:

على مسافة ١٤٥ كيلومتر تقريبًا إلى الشرق الشمالي من صنعاء، تجتمع سيول اليمن الغربية مع السيل الذي يأتي من الشمال، والسيل الذي يأتي من الجنوب، وتؤلف جميع هذه السيول شبه بحيرة كبيرة مستديرة ومرتفعة من جهة الغرب والشمال والجنوب، ومنخفضة من جهة الشرق حيث تسير جميعها شرقًا في مجرى سيل واحد يطلق عليه اسم أكبرها أي اسم ذنه «إذنه» وتدخل جميعها في واد كبير في جبل يقال له: بلق، فنقسمه إلى جبلين؛ الشمالي ويقال له: بلق الأيسر، والجنوبي ويطلق عليه: بلق الأيمن؛ لأنه واقع على يمين الآتي إلى مأرب، ويزداد اتساع الوادي بين البلقين كلما سار الإنسان إلى جهة الشرق إلى أن يبلغ عرضه ٥٠٠ متر، ثم يأخذ في الضيق إلى أن يبلغ نحو ١٧٥ مترًا في مخرجه بآخر الجبلين بمكان يقال له مربط الدم، وهو المكان الذي بُني فيه سد العرم، ولم يُبْقِ سيل للعرم للسد ههنا أثرًا غير مخرج الماء، وهو كناية عن جدار مبني بالتوازي إلى جانب جبل بلق الأيمن، وفيه مخرج واحد للماء قائم إلى جانب الجبل وعرضه أربعة أمتار ونصف تقريبًا، وجداره الواحد هو عبارة عن صخرة عظيمة في جانب الجبل عليها بعض الكتابة الحميرية الآتي نص ترجمتها: «يثعمر بين بن سمهعلي ينوف حاكم سبأ، ثقب الحجر الرخامي في حوض حبايض في الجهة الشمالية.»

هذا خلاصة بعض ما كتبه آخر رائد، استطاع أن يظفر من إمام اليمن بتصريح بزيارة مأرب في سنة ١٩٣٦.

(٧-١) وصف السد والغرض منه وتصدعه

ليست ببلاد اليمن أنهار دائمة الجريان، ولكن تنزل بها أمطار غزيرة في فصل واحد من فصول السنة هو الصيف، فتَخْلُف الأمطارَ سيولٌ عظيمة تنساب في الأودية بين الجبال، فيجري بعضها إلى البحر، وينساب بعضها في الصحاري، وتكون في بعض الأحيان هذه الأمطار بغزارة حتى تكون خطرًا على الزراعة، فإذا ولَّى فصل المطر ظمئ القوم وجفت زروعهم، فدفعتهم الحاجة — وهي أم الاختراع كما يقولون — إلى اتقاء خطر الغريق وخطر الحريق فأقاموا الخزانات لضبط المياه واختزانها ورفعها إلى سفوح الجبال وتوزيعها على قدر الحاجة. وقد ذكر الهمداني أسماء عدة لسدود كان أهمها سد مأرب، وسد مأرب عبارة عن حائط ضخم أقيم في عرض وادي أذنه، ويبلغ طوله ٨٠٠ ذراع وعرضه من أسفل ١٥٠ ذراعًا، وارتفاعه بضعة عشر ذراعًا، وكان ينتهي من أعلى بسطحين مائلين على زاوية منفرجة، تكسوهما طبقة من الحصى، والظاهر أنه بني بالتراب والحجارة، وكانت به منافذ ينصرف منها الماء إلى الجنتين اليمنى واليسرى، وكانوا يقفلونها بعوارض ضخمة من الخشب أو الحديد ويفتحونها متى شاءوا.

وتقع مدينة مأرب إلى الشمال الشرقي من السد، وبينها وبينه متسع من الأرض تبلغ مساحته ٣٠٠ ميل مربع كان قفرًا قاحلًا، فأصبح بعد تدبير الماء بالسد غياضًا وبساتين هي المعبر عنها بالجنتين اليمنى واليسرى.

وقد اختلف مؤرخو العرب فيمن بنى السد؛ فقيل: بَنَتْهُ بلقيس. وقيل: حمير. وقيل: سبأ. وقد أشرنا في الفقرة السابقة إلى ترجمة النقش الذي نقله الأستاذ نزيه العظم، ومنه يُستنتج أن يثعمر بين بن سمعهلي ينوف اشترك في بناء السد، وقد ترجم الأستاذ مولر نقشًا وجد على الجانب الأيسر نص ترجمته «أن سمهعلي ينوف بن زمر على مكارب سبأ اخترق بلق وبنى رحب لتسهيل الري.» وسمهعلي هذا هو والد يثعمر المذكور، ويُستنتج أن كلًّا منهما بنى حائطًا، وكلاهما من ملوك القرن الثامن قبل الميلاد، ولعلهما أول من قام ببناء السد، ولكنهما لم يتمكنا من إتمامه، فأتمه أخلافهما الذين ذكرت أسماء بعضهم في أماكن متعددة من السد، وإذن نستطيع أن نقرر أن السد لم يتم في عهد ملك واحد، شأن كل مشيدة ضخمة، وليس لروايات العرب في ضوء هذه النقوش نصيب من الصحة.

أما تصدع السد فالظاهر — كما قال الأستاذ الخضري في الجزء الأول من تاريخ الأمم الإسلامية — أنه لما تطاولت الأزمان على ذلك السد أهمل من شأنه فتصدعت جوانبه، ولم يحمل هجمات السيول المتواردة عليه والمياه المحجوزة خلفه فانكسر، وفاضت المياه على ما أمامه من القرى والمزارع فأتلفتها، وكان ذلك حوالي سنة ١١٥ أو ١٢٠ قبل الميلاد كما قاله العالم سيديو؛ أي قبل الهجرة بسبعة قرون ونصف قرن تقريبًا، وكان تصدعه الحد الفاصل بين سقوط سبأ وقيام دولة حمير، وقد أثبتت الكشوف الحديثة أن السد رُمِّمَ بعد ذلك التصدع المشهور عدة مرات، بدليل أنهم حصلوا على نقش بين أنقاض ذلك السد يرجع إلى عهد أبرهة الحبشي في منتصف القرن السادس الميلادي في سنة ٥٤٢م أو ٥٤٣م، وخلاصته أن أبرهة جاءه النبأ بتهدم السد فبعث إلى القبائل بإيفاد الحجارة والأخشاب والرصاص لترميمه، فرُمم واستغرق العمل في ذلك زهاء السنة.

وللمؤرخين من العرب قصة طريفة تتعلق بتصدع السد؛ إذ يقولون إن الملك عمرو بن عامر ماء السماء الملقب ميزيقيا قالت له زوجته المسماة ظريفة، وكانت امرأة كاهنة، إذ حلمت حلمًا أن كارثة ستحدث، فقالت له: اذهب إلى السد فإن رأيت الجرذ ينخب بمخالبه، ويحمل الحجارة الكبيرة بقدميه الخلفيتين، فتأكد بأن الكارثة حادثة، فذهب عمرو إلى السد، ولشدَّ ما كانت دهشته؛ إذ رأى فأرًا يحرك صخرة هائلة لا يقدر على زحزحتها من موضعها خمسون رجلًا، فتيقن عمرو من أن السد لا بدَّ متصدع، فاستقر عزمه على أن يبيع ممتلكاته ويبرح مع أسرته، ولكي لا يرتاب الناس في أمره دبر الحيلة الآتية؛ إذ دعا زعماء قومه إلى مأدبة فاخرة، واتفق مع ابنه على أن يلطمه في أثناء الحفل، وفعل الابن ما طلب أبوه، فصاح عمرو: يا للعار، وأقسم أن لا يقيم في بلد يلطم فيها وجهه، ثم عرض كل أملاكه للبيع فتهافت الناس على شرائها، ولما تم له بيع ممتلكاته أخبر الناس بالخطر الذي يهددهم، ثم بارح مأرب على رأس جمهور صغير منهم إلى الشمال، ولم تمضِ أيام على رحيله حتى جاء السيل ففزعت البلاد ولم يبقَ من الأرضين والكروم إلا ما كان في رءوس الجبال، وتفرق القوم أيدي سبأ. وبصرف النظر عما تنطوي عليه هذه القصة من خرافة فإنها تشير إلى أن الهجرة حصلت قبل التصدع، وهناك رأي يقول بأن الهجرة إنما كانت بعد أن خرب السد وأتلف الأرض والزرع، ويرجح الأستاذ الخضري في الجزء الأول من محاضراته الرأي الثاني لسببين، أولهما أن مفارقة البلاد والنزوح كلية عن الوطن ليس بالأمر الهين، ولا يقدم عليه قوم لمجرد تكهن كاهنة، والثاني ما جاء في القرآن الكريم في سورة سبأ الآيات من ١٥ إلى ١٩ مما يدل بوضوح على أن سيل العرم أصابهم، وبدَّل في شكل أرضهم وهم يقيمون بها. وممن سار على هذا الرأي العلامة الفرنسي سيديو.

ولا حاجة بنا إلى القول بأن تصدع السد لم يكن إلا السبب المباشر لمجموعة من الأسباب التاريخية الطويلة بين اقتصادية واجتماعية وسياسية خارجية وداخلية أدت إلى تفكك المجتمع العربي الجنوبي وسقوطه النهائي، كان يجهلها المؤرخون القدامى فتلمسوها في قصة وضعوها عن ذلك الفأر الذي جعلوه يحدث ذلك الانقلاب الخطير في التاريخ.

(٧-٢) تفرق قبائل اليمن في الشمال بعد تصدع السد

بعد تصدع السد ترك أهل مأرب اليمن، وبدءوا يرتادون مواضع من الجزيرة تصلح لسكناهم — هكذا تقول الروايات العربية التي لا يُسلِّم بصحتها معظم المؤرخين المحدثين — ونحن نثبت هنا خلاصة ما أورد العرب عن أشهرهم.
  • (١)

    بنو ثعلبة بن عمرو بن عامر؛ الذين منهم الأوس والخزرج، ساروا نحو يثرب وبها جماعة من بني إسرائيل متفرقون في نواحيها فاستوطنوها معهم وأقاموا بها حتى غلبوهم عليها.

  • (٢)

    بنو حارثة بن عمرو؛ وهم خزاعة الذين ساروا إلى مكة، وافتتحوا الحرم وأجْلَوْا عنه سكانه وهم جرهم.

  • (٣)

    عمران بن عمرو؛ وقد انعطف نحو عمان فنزلها، واستوطنها هو وبنوه وهم أزد عمان.

  • (٤)

    بنو جفنة بن عمرو؛ وهذا سار مع أولاده إلى الشام، وهم الذين أصبحت أبناؤهم الملوك الغساسنة، وغسان ماء في تهامة نُسب هؤلاء إليه.

  • (٥)

    لخم بن عدي؛ الذين منهم نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة، وأول من اتخذها منهم منزلًا عمرو بن عدي بن نصر الذي ملك بعد جذيمة الوضاح.

  • (٦)

    طي، وهؤلاء نزلوا جبلي أجا وسلمى لما رأوه هناك من الخصب.

  • (٧)

    كلب بن وبرة؛ من قضاعة، أقامت ببادية السماوة إلى الشمال من نجد.

هؤلاء هم أشهر الذين تحركوا، وقد بقي باليمن كثير من قبائل حمير وكندة ومذحج وغيرهم، وكانت السيادة لحمير التي كونت الدولة الحميرية كما بينَّا آنفًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤