الفصل الثامن

تاريخ الغساسنة

تمهيد

قامت دولة الغساسنة للروم مقام دولة المناذرة للفرس، بمعنى أنها كانت دولة حاجزة، اتخذ منها الروم مِجَنًّا يقيهم شر هجمات البدو عليهم من أطراف الصحراء من جهة، وليثيروهم ضد الفرس ويستعينوا بهم عليهم من جهة أخرى، وتاريخ هذه الدولة غامض، ولا تتفق المراجع العربية مع المراجع اليونانية إلا في النزر اليسير، والمؤرخون العرب أنفسهم يختلفون في عدد الملوك وأسمائهم وسني حكمهم، فهم عند حمزة الأصفهاني ٣٢ ملكًا، وعند ابن قتيبة ١١، وعند الجرجاني ٩، وعند المسعودي ١٠، ويرى الأستاذ نلدكه — وهو حجة في تاريخ الغساسنة — أن عدد الملوك لا يتجاوز عشرة حكموا مدة لا تتجاوز قرنًا وبعض قرن، بينا يحدد حمزة الأصفهاني لهم ستة قرون، وتقصي هذه الروايات ليس فيه كبير غناء ما دامت لا توجد آثار تتكلم، والغسانيون عند مؤرخي العرب من عرب الجنوب كالمناذرة، ولكن العلماء المحدثين لا يزالون يشكون في هذا، ويرجحون أنهم من عرب الشمال كما بينَّا سابقًا.

ولا نستطيع أن نحدد بدء قيام هذه الدولة بالضبط بسبب الخلافات التي أشرنا إليها، وأقصى ما يمكن أن نستخلصه من المراجع العربية أنه في الوقت الذي هاجرت فيه بعض القبائل إلى العراق، سارت فيه قبائل من قضاعة إلى الشام، فنزلوا في الإقليم المعروف الآن باسم «شرق الأردن» وكانت تسكنه قبائل تُعرف بالضجاعمة، فساكنوهم مدة، ثم لم تلبث أن هاجرت قبائل أصلها من أزد اليمن، أقامت مدة في تهامة في ماء يسمى غسان، فعُرفوا بأزد غسان. وقبل أزد غسان أن يدفعوا الإتاوة لقيصر الروم، يجبيها منهم الضجاعمة، الذين كانوا عمالًا لقيصر على الشام، ولكن — بعد قليل — قامت حرب بين الضجاعمة والغسانيين، بسبب الخلاف على الإتاوة، وانضم الروم إلى الضجاعمة، ولكن الغسانيين صمدوا، فلما رأى ملك الروم صبرهم، وأنهم أقوى من الضجاعمة، آثرهم عليهم وجعلهم عمالًا، وبذلك صارت لهم رئاسة العرب في هذه المنطقة، وتعهد الروم بأن يمدوا الغسانيين بأربعين ألف جندي من جند الروم، وتعهدت غسان بأن تمد الروم بعشرين ألف مقاتل إذا اعتدى الفرس على الروم، والظاهر أن الغسانيين — قبل أن يتصلوا بالروم — كانت لهم ملوك، ولكنا لا نعرف من أخبارهم شيئًا.

وتكاد تُجمع الروايات التاريخية، وما ورد في كتب الأدب على أن جفنة هو جد أسرة الغساسنة، وكان ملكهم يشمل المنطقة الواقعة إلى الشرق من نهري العاصي والشريعة «الأرنت والأردن»، ومن أطراف العراق بالشمال إلى خليج العقبة في الجنوب.

وسنكتفي بالكلام على ثلاثة من ملوكهم، هم الحارث بن جبلة، والمنذر بن الحارث، وجبلة بن الأيهم.

الحارث الثاني بن جبلة ٥٢٩–٥٦٩م

يلقبه مؤرخو العرب بالأعرج، وهو أول شخصية صحيحة في تاريخ الجفنيين، وكان يُعاصر الإمبراطور جستنيان وكسرى أنو شروان والمنذر الثالث ملك الحيرة، وقد رقاه الإمبراطور إلى رتبة بتركيوس وفيلارك أو ملك، وهي ثاني رتبة في الدولة بعد لقب الإمبراطور، والظاهر أنه كان يقصد بذلك أن يقيم منه خصمًا قويًّا في وجه المنذر ملك الحيرة.

وكان جستنيان قد تهادن مع كسرى أنو شروان، حتى يتمكن من تنفيذ أغراضه في إعادة مجد الدولة الرومانية القديمة بالفتح في أفريقيا وأوروبا، ونجح بلساريوس قائد جستنيان في حروبه، فأدرك أنو شروان أنه تورط في هذه المهادنة فأوحى إلى المنذر الثالث أن يتحرش بالحارث بن جبلة، فادعى ملك الحيرة أن القبائل العربية النازلة على الطريق الحربية بين دمشق وتدمر خاضعة لسلطانه، ونازعه الملك الغساني هذه السلطة، فكان من أمرهما ما بيناه سابقًا، وجر النزاع بين التابعين — إذا صح هذا التعبير — إلى النزاع بين الدولتين الكبيرتين، فحمل كسرى على سوريا وآسيا الصغرى وكاد أن يفتح القسطنطينية، فانزعج القيصر جستنيان واستنهض قائده بلساريوس واستنصر بعرب غسان، فمشى جند الروم بقيادة هذين البطلين فأوغلا في أرض الجزيرة، وكأنما أراد بلساريوس أن ينال شرف الانتصار وحده، فخلف الحارث وراءه ولم يتصل به، فدارت الدائرة على الروم واضطر القيصر إلى طلب الصلح.

وقد ذكر المؤرخ تيوفانيس أن الحارث زار بلاط جستنيان في سنة ٥٦٣م، وكان ظهوره بزيه البدوي ذا أثر في نفوس أتباع الإمبراطور، وقد استطاع الحارث أثناء إقامته في القسطنطينية أن يظفر بتعيين الأسقف يعقوب البردعي المنوفستي العقيدة أسقفًا على عرب الشام، وقد عُرفت الكنيسة الشامية المنوفستية من ذلك الوقت باسم الكنيسة اليعقوبية.

المنذر بن الحارث

ويُعرف في المراجع البيزنطية باسم «المنداروس» ذكر الدكتور حسن إبراهيم في كتابه «تاريخ الإسلام السياسي» نقلًا عن أمراء غسان للأستاذ نلدكه: أنه في عهد المنذر بن الحارث بن جبلة، وقع شيء من الجفاء بين غسان والروم انقطع على أثره وصول المدد ثلاث سنوات، فانتهز عرب الحيرة هذه الفرصة وأغاروا على سوريا، فاضطر الروم إلى استرضاء الأمير الجفني، وعقدت محالفة بين إمبراطور الروم وملك الغساسنة، ثم ارتاب فيه الإمبراطور ونفاه إلى القسطنطينية ثم إلى صقلية، ولكن المنذر لم يلبث طويلًا في منفاه؛ فقد سخط على الإمبراطور أبناء المنذر الأربعة، وشقوا عصا الطاعة على دولة الروم، ثم أوغلوا تحت قيادة أخيهم الأكبر النعمان في الصحراء، وأخذوا يشنون الغارات على أراضي الدولة، غير أن القائد البيزنطي تمكن من القبض على النعمان وأخذه أسيرًا إلى القسطنطينية سنة ٥٨٣م، وقد تفرقت كلمة العرب في سوريا بعد أن حُمل المنذر أسيرًا إلى عاصمة الروم، وفككت عرى وحدتهم، فاختارت كل قبيلة منهم أميرًا لها، وكان من أثر ذلك أن التحق بعضهم بالفرس، ولما كثر التنازع والتطاحن بين القبائل العربية بعد فقد أميرها، أقام الروم مكان المنذر عاملًا.

وتستطيع أن تستنتج مما ذكره نلدكه أن رواية واحدة كانت تمثل على مسرحين: أحدهما في دمشق والآخر في الحيرة، فليس عزل النعمان الثالث وتعيين إياس بن قبيصة الطائي بدله على عرش الحيرة بمختلف عن أسر المنذر بن الحارث، وتعيين عامل جديد بدله، وإن اختلف ممثلو الرواية في كل حالة.

جبلة بن الأيهم

كان غزو الفرس للروم والاستيلاء على دمشق وأورشليم «٦١٣-٦١٤» هو الضربة القاضية على نفوذ الغساسنة.

وقد حدث سنة ٦٢٩م لما استرد هرقل بلاد الشام من الروم، أن ظهر أحد الغسانيين وهو جبلة بن الأيهم، وهو آخر ملوك الغساسنة، وقد أتى الإسلام على ملكه بعد سقوط الشام في أيدى المسلمين.

وقد انضم إلى جانب الروم في أثناء الفتح الإسلامي للشام ولكنه أسلم على أثر انتصار العرب في معركة اليرموك سنة ٦٣٦م في عهد الخليفة عمر، «واستشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته لكرم وفادته، وأحسن عمر منزلته وأجلَّه بأرفع رتب المهاجرين. ثم — على حد تعبير ابن خلدون — غلب عليه الشقاء، ولطم رجلًا من بني فزارة وطئ فضل إزاره وهو يسحبه في الأرض، ونابذه إلى عمر في القصاص فأخذته العزة بالإثم، فقال له عمر: لا بد أن أقيد منك، فهرب إلى قيصر، ولم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة ٢٠ھ.» وتذكر المراجع أنه ندم على فراره وارتمائه في أحضان بيزنطة، وينسبون إليه في ذلك شعرًا قاله.

والآن وقد أتينا على تاريخ آخر الغساسنة يجمل بنا أن نشير إشارة خفيفة إلى حضارتهم.

حضارة الغساسنة

لا شك في أن درجة الثقافة التي وصل إليها الغساسنة جيران البيزنطيين كانت أعلى مما استطاع منافسوهم عرب الحيرة الوصول إليه، وكانت دولتهم تمتد في الطرف الشمالي الغربي من بلاد العرب، إلى الشرق من نهر الأردن، ابتداء من المنطقة الواقعة على مقربة من بطرة في الجنوب، إلى ما يجاور الرصافة في الشمال الشرقي.

ويبدو أنه في عهد حكم الغساسنة، وأثناء الحكم الروماني السابق له، قد نمت حضارة عربية، وتطورت على طوال الحدود الشرقية لسوريا، وكانت مزيجًا من العناصر العربية والشامية واليونانية، وكان من مظاهر ذلك ما يشيدونه من المدن والقرى والقصور والقلاع، التي كانت تُعرف بالمسالح، والتي كانت تكوِّن خط دفاع في أطراف حوران، يفصل بينها وبين البادية، ومن أشهر القصور التي بنوها القصر الأبيض والقلعة الزرقاء وقصر المشتى، وكذلك شيدوا عدة أقواس نصر، وحمامات عامة، وقناطر للمياه، ومسارح وكنائس، حتى لقد كانت السفوح الشرقية والجنوبية لحوران عامرة بما يقرب من ثلاثمائة مدينة وقرية لا نجد قائمًا في أيامنا هذه منها إلا بضع خرائب وأنقاض.

وكان ملوك غسان يقتنون كثيرًا من الجواري الروميات، ويكثر في قصورهم المغنون من مكيين وبابليين ويونانيين، والموسيقيون من كلا الجنسين، وكانوا يسرفون في شرب الخمر، وإذا صح ما رواه أبو الفرج في «الأغاني» من أن جبلة كان إذا جلس للشراب فُرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضُرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب وأُوقد له العود الندي إن كان شاتيًا، وإن صائفًا بطن بالثلج، وأتى هو وأصحابه بكساء صيفية يتفضل «يمتاز» هو وأصحابه بها، وفي الشتاء بالفراء وما يشبهها، نقول — إذا صح هذا — كان دليلًا على ما تمتع به الغساسنة من ترف وحضارة، وقد وُجد عدد كبير من شعراء العرب في ملوك غسان أعظم رعاة لهم، وعندما نشب الخلاف بين النابغة الذبياني والملك الحيرى وجد النابغة في بلاط غسان خير ملجأ له، وقد حارب لبيد أحد أصحاب المعلقات في جانب الغساسنة في معركة حليمة كما زار بلاطهم، وامتدحهم في الجاهلية حسان بن ثابت الشاعر المدني قبل أن يصبح شاعر النبي عليه السلام.

أما ديانة الغساسنة فكانت — بحكم جوارهم للروم — النصرانية، ولكنها كانت على المذهب المنوفستي الذي كان شائعًا في منطقتهم، والذي عُرف فيما بعد باسم المذهب اليعقوبي نسبة إلى يعقوب البرادعي الرهوي.

أما لغتهم فكانت العربية، ولكنهم أيضًا اتخذوا لغة الشام الآرامية لغة ثانية لهم فكان شأنهم في ذلك شأن كل القبائل العربية التي سكنت أرض الهلال الخصيب كالتدامرة والمناذرة، أعني أنهم كانوا مزدوجي اللغة.

ولم تكن عاصمة الغسانيين واحدة كما كانت عاصمة المناذرة الحيرة، وفي مبدأ دولتهم كانت عاصمتهم معسكرًا متحركًا، ثم اتخذ لهم فيما بعد عاصمة ثانية في الجابية، وقد ذكر بعض المؤرخين أن عاصمتهم كانت دمشق أو جلق القريبة منها، وقال آخرون: البلقاء، وقال غيرهم: تدمر، وقال بعضهم: صفين، ومهما يكن من أمر فمما لا شك فيه أنهم أقاموا بجلق فترة غير قصيرة من الزمن، وتقع جلق إلى الجنوب الغربي من دمشق وإلى الشمال من نهر اليرموك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤