الفصل التاسع

تاريخ كندة

تمهيد

ذكر الأستاذ نيكلسون في كتابه «تاريخ الأدب العربي» أن دولة كندة كانت لتابعة اليمن ما كان اللخميون لملوك الفرس.

ودولة كندة هذه هي التي كانت تنتظم معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقًا وتمتد إلى طرف الشام والعراق من ناحية الشمال، وتمارس نفوذًا على قبائل عمان في الجنوب، ولم تكن دولة على غرار دولتي المناذرة والغساسنة، بل كانت عبارة عن اتحاد أو تحالف يجمع عدة قبائل، ولقد بدأ ظهورها في منتصف القرن الخامس الميلادي، واستمرت قائمة أكثر من قرن ونصف قرن.

والكنديون قد يكون أصلهم من عرب الجنوب، والظاهر أن التبابعة لجئوا إليهم ليهيمنوا لهم على الطرق التجارية الشمالية التي كانت ترتادها قوافل اليمن التجارية حتى يأمنوا اعتداء قبائل البدو الشمالية عليها، ولم يكن للكنديين مدن كما كان للمناذرة والغساسنة، ولكن الظاهر أنهم — بعد أن توطد سلطانهم — أصبحوا منافسًا خطرًا لهاتين الدولتين، وخاصة دولة المناذرة التي تمكنوا بممالأة الفرس من طرد ملكها المنذر الثالث، وضمها إلى حلفهم العظيم كما سيأتي.

ولا نجد ذكرًا في النقوش اليمنية للكنديين؛ ولكن الذي نستخلصه مما كتبه العرب هو: أن الكنديين كانوا يعيشون في الأصل في بلاد اليمن، ثم تفرقوا فنزلوا إلى حضرموت، وساكنوا الحضرميين في موضع يُعرف بكندة وهو الذي يُنسبون إليه، ثم حدث بينهم وبين الحضرميين خلاف وحروب كادت تأتي عليهم، ثم ضعفت كندة وظهر عجزها عن مواصلة الحرب، فهاجروا إلى الشمال، وتصادف في ذلك الوقت أن خلافًا وقع في قبيلة بكر التي تسكن شمال نجد فغلب السفهاء فيها على العقلاء، وأكل القوي الضعيف، فلجأ زعماؤها إلى تبع اليمن حسان، وطلبوا إليه أن يولي عليهم ملكًا، فاختار حجر بن عمرو زعيم الكنديين وكان أخاه من الرضاع أو أخًا غير شقيق له، وكان ذا رأي ووجاهة، وهو أول ملوك الكنديين في أغلب الروايات.

حجر بن عمرو الملقب بآكل المرار حوالي ٤٨٠م

قدم حجر إلى نجد وكان المناذرة قد ملكوا كثيرًا منها، ولا سيما مواطن البكريين فحاربهم واستخلصها منهم، فأجمع القوم على احترامه، وما زال كذلك حتى مات، ويقال إنه لقب بآكل المرار؛ لأنه بلغه أمرًا أغضبه فاستشاط غضبًا، وجعل يأكل المرار (وهو نبات مر إذا أكلته الإبل تقلصت مشافرها).

وبعد موت حجر ولي ابنه عمرو بن حجر مكانه، ولم يضف إلى المملكة أو الحلف قبائل جديدة ومن أجل ذلك سُمي بالمقصور.

الحارث بن عمرو

ولي بعد أبيه عمرو، وهو أشجع ملوك كندة، كان معاصرًا لقباذ ملك الفرس وكان ملكًا كثير المطامع، في أيامه فتح الأحباش اليمن، وأذهبوا دولة التبابعة، فضعف شأن ملوك كندة؛ لأنهم إنما كانوا يستمدون نفوذهم من اليمن، فوجه الحارث التفاته إلى المناذرة، وما زال يحسدهم على تقربهم من الأكاسرة، ويترقب الفرص لضم الحيرة إلى دولته حتى حانت عندما تغير قباذ ملك الفرس على المنذر الثالث وطرده من الحيرة بسبب رفضه اعتناق المزدكية، فاعتنقها الحارث وظفر من قباذ بتوليته الحيرة بدلًا من المنذر كما بينا ذلك آنفًا؛ ولقد رحبت قبائل معد وغيرها بملكه على الحيرة وتقربوا إليه بالطاعة، وطلبوا إليه أن يُولي عليهم من أبنائه من يحكمهم ليبطل ما قام بينهم من القتل، ففرق أولاده فيهم على النحو الآتي:
  • (١)

    حجر بن الحارث على أسد وغطفان.

  • (٢)

    شرحبيل بن الحارث على بكر بن وائل بأسرها.

  • (٣)

    معد يكرب بن الحارث على قيس عيلان بأسرها.

  • (٤)

    سلمة بن الحارث على تغلب والنمر بن قاسط.

على أن مقام الحارث في الحيرة لم يطل، فما هو إلا أن مات قباذ سنة ٥٣١م وآل الملك إلى أنو شروان حتى أعاد المنذر الثالث وطرد الحارث، ففر بماله وأولاده فتبعتهم خيل المنذر، ولحقتهم بأرض كلب؛ فهرب الحارث تاركًا ماله وإبله فانتهبها المنذر، وأسر ثمانية وأربعين من بني آكل المرار من بينهم عمرو ومالك ابنا الحارث، فأمر المنذر بهم فقتلوا في ديار بني مرين، وفيهم يقول امرؤ القيس الشاعر الكندي:

ملوك من بني حجر بن عمرو
يساقون العشية يقتلونا
فلو في يوم معركة أصيبوا
ولكن في ديار بني مرينا
ولم تغسل جماجمهم بغسل
ولكن في الدماء مرملينا
تظل الطير عاكفة عليهم
وتنتزع الحواجب والجفونا

أما الحارث فظل في بني كلب حتى قُتل، وقيل: مات عقب تتبعه ظبيًا مدة ثلاثة أيام.

أما أبناؤه قد ظلوا على ما خلفهم أبوهم عليه، ولكن المنذر الثالث أخذ يسعى بينهم بالوقيعة انتقامًا لنفسه منهم ومن أبيهم حتى تحاربوا، فقُتل شرحبيل ملك بكر في معركة تُعرف عند العرب بيوم الكلاب «وهو ماء بين البصرة والكوفة» قتله رجال أخيه سلمة الحاكم على تغلب، وبلغ أخاه معد يكرب قتله فجزع، وكذلك أدرك سلمة في الآخر نوايا المنذر السيئة، فخرج من تغلب، والتجأ إلى بكر بن وائل فأذعنت له، وقالوا: لا يملكنا غيرك، فبعث إليهم المنذر الثالث يدعوهم إلى طاعته فأبوا، فسار إليهم وكانت بينه وبينهم المعركة المعروفة عند العرب بيوم أوارة الأول الذي انتصر فيه المنذر عليهم، وأسال دمهم على جبل أوارة، وأحرق النساء.

وكان طبيعيًّا بعد قتل الأخوين سلمة وشرحبيل أن يضعف أثر ملوك كندة ويتضعضع نفوذهم، وأول ما ظهر ذلك كان في خروج بني أسد على حجر بن الحارث ونبذهم طاعته ورفضهم دفع الإتاوة إليه، فحاربهم عليها وأخضعهم، وأباح أموالهم، وحبس أشرافهم، وكانت النتيجة أنهم حقدوا عليه، واغتنموا فرصة فقتلوه.

امرؤ القيس بن حجر الكندي

كان حجر قبل موته قد عهد إلى أحد أصحابه أن يدفع بتركته من سلاح وخيل إلى أي واحد من أبنائه الكثر لم يجزع لموته، ونفذ الصديق الوصية فمر على أبناء حجر الواحد بعد الآخر، وروى لهم حكاية مقتل حجر، فكلٌّ جَزِعَ، حتى إذا أتى امرأ القيس وكان ببعض أرض اليمن يلعب النرد مع بعض أصحابه فلم يجزع، وانتوى الثأر لأبيه على الرغم من أن أباه كان مهملًا له في صباه بسبب قوله الشعر وتشبيبه بالنساء، فأسلم إليه الصديق المال والسلاح، وأخذ امرؤ القيس يطوف بقبائل العرب يستنصرها على قتلة أبيه بني أسد، فمنهم من كان يمده، ومنهم من كان يرفض خشية بطش بني أسد، وإغضاب المناذرة والفرس، حتى انتهى به الأمر إلى أن يستودع أمواله ودروعه الشاعر اليهودي السموأل الذي كتب له كتابًا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يطلب إليه فيه أن يتوسط لامرئ القيس عند قيصر الروم ليساعده على الانتقام من قتلة أبيه وبخاصة لأن ملوك الحيرة — وهم عمال الفرس أعداء قيصر — ساعدوهم.

وقبل الحارث ما أشار به السموأل، وسار امرؤ القيس يقصد قيصر، ولكنه مات في الطريق عند أنقرة في خبر تجد تفصيله في كتب الأدب، فارجع إليه.

ولم يبق بعد موت امرئ القيس من ملوك كندة إلا معد يكرب على قيس عيلان وبعض أمراء صغار لهم شبه سيادة على بعض قبائل العرب التي كانت ضمن مملكة كندة قبل تضعضعها، وما زال الأمر كذلك حتى جاء الإسلام فاكتسح هذه الدويلات إن صح هذا التعبير، كما اكتسح دولتي المناذرة والغساسنة فلم نعد نسمع عنها شيئًا في التاريخ.

وليس للكنديين حضارة خاصة؛ لأنهم كما أسلفنا كانوا بدوا ليس لهم مدائن أو حصون، والشيء المهم في قيام دولتهم القصيرة العمر هو أنه كان أول محاولة في داخل بلاد العرب لتوطيد مجموعة من القبائل حول سلطة مركزية لها زعيم واحد، ولم تخلد أو تنجح هذه المحاولة؛ لأن التوحيد العام نجح على يد نبي الإسلام محمد عليه السلام.

وسينطبق كلامنا عن حال العرب الاجتماعية في الشمال على الكنديين؛ لأنهم على الرغم من إرجاع معظم المؤرخين أصلهم إلى الجنوب، لا يختلفون عن عرب الشمال في كثير أو قليل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤