خاتمة

ولا يسعنا في النهاية إلا أن نختم حديثَنا بما كان يحب بوبر أن يختم به أحاديثَه، وهو تصوره المبدِع عن «صراع النظريات»، إنه تصور ذكي أَلحَّ عليه بوبر وأكده مرارًا وتكرارًا، فهو مُنبَثٌّ في تضاعيف كتاباته كلها، وقد ختم به عملًا من أَجَلِّ أعماله «النفس ودماغها»، وختم به أكثر من مقال من مقالاته الهامة.

مع ظهور الإنسان العاقل Homo Sapiens، وربما قبل ذلك، بدأ مبدأ جديد للنمو، وهو التطور الثقافي، في التفاعل مع مبادئ التطور التي تحكم الأنواع الأخرى من الكائنات … إن السمة الأساسية في هذا التغيير كانت هي أن التعديل في المنتجات (المصنوعات) Artifacts — بدلًا من التعديل في الخصائص المورفولوجية أو التشريحية مثل الفك أو الأسنان أو الأيدي — أصبح هو الشكل الأساسي في آلية التكيف. يذهب بيكرتون إلى أن اللغة والقدرة على خلق المنتجات كانت هي العامل الحفاز للشكل الجديد نوعيًّا من التفاعل بين النوع والبيئة المميِّز ﻟ «الإنسان العاقل العاقل» Homo Sapiens Sapiens، وهو موقف يتفق بوضوح مع المنظور التاريخي الثقافي.١
ويلخص وستون لابار W. La Barre فكرة شكل جديد من الوراثة والتغير كما يلي: «مع ظهور الأيدي البشرية أصبحت الطريقة القديمة في التطور عن طريق الجسد طريقةً باليةً، خضعت كل الحيوانات السابقة على الإنسان لتطورٍ أوتوبلاستي (ترقيع ذاتي) لمادتها، مُسلِمةً أجسادها لتجارب في التكيف، في رهانٍ نشوئي أعمى من أجل البقاء، كانت المقامرة في هذه اللعبة عالية: الحياة أو الموت، أمَّا الإنسان فقد تم تطوره، على العكس من ذلك، من خلال تجارب «ألوبلاستية» (ترقيع غيري) على الأشياء خارج جسده، وتتعلق فقط بمنتجات يديه ودماغه وعينيه، وليس بجسده نفسه.»٢

من الخصائص الأساسية لهذا الشكل الجديد من العمل الذي تتوسطه اللغة/الثقافة أنه يراكِم التفاعلات «الناجحة» مع البيئة خارج الجسم، بالتالي على حين يُعد التغير الوراثي أساسًا تغيرًا داروينيًّا (أي أنه يحدث عن طريق الانتخاب الطبيعي الذي يقع على تغيرات غير موجهة)، فإن التطور الثقافي هو أساسًا تطور لاماركي، بمعنى أن الاكتشافات المفيدة التي يقوم بها جيلٌ يتم نقلها مباشرةً إلى الجيل الذي يليه.

الثقافة إذن يمكن أن تنتشر بمعزل عن مورِّثاتنا واستجابة لقرارات واعية، وفي حين لا يتضمن الانتخاب الطبيعي أي اختيارٍ واعٍ من جانب تلك الموروثات أو تركيباتها التي تصادف أعلى نجاح تناسلي، فإن الثقافة تتقدم في الغالب عن طريق الاختيار المتعمد لممارسات معينة من بين عدد كبير من المتاح منها، بهذا المعنى إذن تُعد الثقافة «غائية» Teleological أو هادفة بشكل غير متاح على الإطلاق للتطور البيولوجي.٣

هكذا نرى فكر بوبر العلمي متجسِّدًا في أرقى ما وصل إليه العلم الاجتماعي الجديد، غير أننا قلَّما نجد هذا العلمَ مصوغًا بهذه اللغة العالية الآسرة التي تميز كارل بوبر، ولا بهذا الجلال العقلي الأخاذ الذي يشيع في كتاباته.

يقول بوبر في كتابه «المعرفة الموضوعية»: «إن لنا أن نعد هذه الأساطير، وهذه الأفكار، وهذه النظريات من أهم منتجات العمل الإنساني وأميزها. إنها، شأنها شأن الأدوات، أعضاء تتطور خارج جِلدِنا. إنها مصنوعات خارج الجسد، ولنا مِن ثَمَّ أن نَعُد من أخص هذه المنتجات ذلك الذي أسميناه «المعرفة البشرية»، آخذين لفظة «معرفة» بالمعنى الموضوعي أو غير الشخصي، الذي يُتيح لنا أن نقول إنها توضع في كتاب أو تُذخَر في مكتبة أو تُدرَّس في جامعة.»

«يُنظَر عادةً إلى الانتخاب الطبيعي والضغط الانتخابي على أنهما نتاجان لصراعٍ عنيفٍ من أجل الحياة، غير أنه مع انبثاق العقل، وعالم ٣، والنظريات، تَغَيَّرَ الأمر، وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابةً عَنَّا، وتموت بدلًا مِنَّا، ومن وجهة نظر الانتخاب الطبيعي فإن الوظيفة الرئيسية للعقل وللعالم ٣ هي أنهما جعلا من الممكن استخدام منهج المحاولة وإقصاء الخطأ بدون إقصاءٍ عنيفٍ لأنفسنا، ها هنا تكمن القيمة البقائية الكبرى للعقل وللعالم ٣، فمع انبثاق العالم ٣ لم يَعُد الانتخاب بحاجةٍ إلى العنف: لقد أصبح بوسعنا أن نستبعد النظريات الزائفة بواسطة نقدٍ لا عنفي، لم يَعُد التطور الثقافي اللاعنفي مجرد حلم يوتوبي، بل أصبح نتيجة ممكنة لبزوغ العقل من خلال الانتخاب الطبيعي.»٤
١  Cole, M., Cultural Psychology, The pelknap press of Harvard University, 1998, pp. 163-164.
٢  La Barre, W. 1954, The human Mind. Chicago: University of Chicago Press, p. 90.
٣  Barash, D. P., 1986 The Hare and The Tortoise: Culture, Behavior and Human Nature. New York: Viking, p. 47.
٤  The Self and Its Brain, pp. 209-210.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤