الفصل الأول

مَذهبُ التَّكذِيب

يبدو أنَّني لم أكن أكثر من صبيٍّ صغيرٍ يلهو على الشاطئ، أتسلَّى باكتشاف حصاةٍ أكثر نعومةً بين لحظة وأخرى، أو بالعثور على صَدَفَةٍ أكثر جمالًا، بينما محيطُ الحقيقة العظيم يتمدد أمامي مبهمًا كله غيرَ مستكشَف.

إسحق نيوتن
يقول بوبر في «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»:١

«عندما تلقيتُ قائمة بالمشاركين في هذه الحلقة الدراسية، وعلمت أنني مدعو للحديث إلى زملاء في مجال الفلسفة، رأيت بعد شيء من التردد والمشورة أنَّكم ربما تفضلون أن أتحدث إليكم عن تلك المشكلات التي أثارت اهتمامي أكثر من غيرها، وعن تلك التطورات التي ألممتُ بها إلمامًا وثيقًا؛ لذا فقد عقدتُ الرأيَ على أن أقوم بشيء لم أقم به من قبل: وهو أن أُقدِّم لكم تقريرًا عن إسهامي الشَّخصي في فلسفة العلم، منذ خريف عام ١٩١٩م عندما بدأت أشتبك لأول مرة بمشكلة «متى ينبغي أن تُعَد نظريةٌ ما نظريةً علمية؟» أو «هل ثمة معيار يحدد الصفة العلمية أو الوضع العلمي لنظرية ما؟»»

لم تكن المشكلة التي أرَّقتني آنئذٍ هي «متى تكون نظريةٌ ما نظريةً صادقة؟» ولا «متى تكون نظريةٌ ما نظريةً مقبولة؟» كان ما يؤرِّقني هو شيء آخر، كنت أريد أن أميز بين العلم والعلم الزائف، وأنا على إدراك واضح بأن العلم كثيرًا ما يخطئ، وأنَّ العلم الزائف قد يتفق له أن يعثر على الحقيقة.

كنت بالطبع على علم بالجواب الأوسع انتشارًا وقبولًا لهذه المسألة: وهو أن العلم يتميز عن العلم الزائف، أو عن الميتافيزيقا «بمنهجه التجريبي»، وهو منهج «استقرائي» في الصميم، ينطلق من الملاحظة أو التجربة، غير أن هذا الجواب لم يكن شافيًا بالنسبة لي، بل إنني على العكس كنت أصوغ مشكلتي في الغالب كمشكلة تمييز بين المنهج التجريبي الأصيل والمنهج غير التجريبي أو حتى «التجريبي الزائف»، أي المنهج الذي لا يرقى رغم احتكامه إلى الملاحظة والتجربة إلى مستوى العلم ولا ينزل منزلتَه، ولعل «التنجيم» Astrology من أمثلة هذا المنهج الأخير، وهو علم يستند إلى كمٍّ هائلٍ من الأدلة التجريبية القائمة على ملاحظة البروج وسيرة حياة الأشخاص.

غير أنَّ التنجيم لم يكن هو المثال الذي أفضى بي إلى هذه المشكلة، ومِنْ ثَمَّ فقد ينبغي عليَّ أن أُلقي بعض الضوء على المناخ الذي نشأت فيه مشكلتي والأمثلة التي أثارت لديَّ هذه المشكلة، كانت هناك ثورة في النمسا بعد انهيار الإمبراطورية النمسوية، وكان الجو يصخب بشعارات وأفكار ثورية، وبنظريات جديدة وجريئة، من بين هذه النظريات كانت نظرية النسبية لأينشتين بلا شك هي الأكثر استحواذًا عليَّ دون منازع، وثلاثٌ أخرياتٌ أثرن اهتمامي أيضًا: نظرية ماركس في التاريخ، ونظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية ألفرد أدلر المسماة «علم النفس الفردي».

كان هُراءٌ شعبي كبير يروج حول هذه النظريات، وبخاصة حول النسبية (كما يحدث حتى في هذه الأيام)، غير أنَّ الحظ قَيَّضَ لي من يذلل قطوف هذه النظرية وييسر لي دراستها، لقد كُنَّا جميعًا — أنا والحلقة الصغيرة من الطلبة التي كنت أنتمي إليها — مُنتَشين بنتيجة ملاحظات إدنجتون عن الكسوف، والتي جلبت أول تأييد هام لنظرية أينشتين في الجاذبية، لقد كانت تلك خبرة عظيمة لنا وتجربة كان لها أثر دائم على تطوري الفكري.

كانت النظريات الثلاث الأخرى التي ذكرتها هي أيضًا مثار نقاش عريض بين الطلبة في ذلك الوقت، وقد أتاحت لي الظروف أن أعرف ألفرد أدلر معرفة شخصية، بل أن أتعاون معه في عمله الاجتماعي بين الأطفال والشباب في أحياء الطبقة العاملة في فينا حيث أسس أدلر عيادات إرشاد اجتماعي.

في صيف عام ١٩١٩م بدأ يداخلني شعورٌ بعدم الارتياح لهذه النظريات الثلاث: النظرية الماركسية في التاريخ، والتحليل النفسي، وعلم النفس الفردي، وبدأ يخامرني شكٌّ حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية، ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلًا بسيطًا: «ما خَطْبُ هذه النظريات؟ لماذا تبدو مختلفة جِدًّا عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبشكل خاص عن نظرية النسبية؟»

ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أُفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت لم يكن بوسعه أن يقول بأنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية، من هذا يتبين أن ما كان يُؤرِّقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات الثلاث الأخرى، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات، لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات الثلاث وإن اتشحت بوشاح العلم تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، وتشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.

وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيَّما ما تتمتع به من قوة تفسيرية ظاهرة، لقد بدت هذه النظريات قادرةً فعلًا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص، وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقعَ التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد، وما إن تتفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهدَ مؤيدة لها أينما نظرت، كان العالم يعج بتحقيقات Verifications للنظرية، وما من شيء يحدث إلا وهو تأييد لها، بذلك بدا صدقُها أمرًا ظاهرًا، وبدا أيُّ منكرٍ لها مكابرًا مُبينًا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنَّها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان الكبت التي لم تُحلَّل بعد، والتي تصرخ طلبًا للعلاج.

كان العنصر المميز لهذا الأمر فيما أرى هو ذلك الفيض الذي لا ينقطع من «التأييدات» أو الملاحظات التي «تحقق» النظريات المعنية، وهو الشيء الذي كان معتنقوها يؤكدونه على الدوام، لم يكن بوسع الماركسي أن يفتح جريدة دون أن يعثر في كل صفحة على دليل مؤيدٍ لتفسيره للتاريخ، ليس في الخبر فحسب بل في طريقة عرضه التي تكشف عن التحيز الطبقي للصحيفة، وبخاصةً بالطبع فيما لم تقله الصحيفة، أمَّا المحللون الفرويديون فكانوا يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقًا دائمًا في «ملاحظاتهم الإكلينيكية»، أمَّا عن أدلر، فقد كان لي معه موقف شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام ١٩١٩م أن أدليت له عن حالة لم تبدُ لي أدلرية الطابع، غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية، رغم أنه حتى لم يرَ الطفل، فسألته وقد نالني دَهَشٌ: «فيمَ كل هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك ألف تجربة.» هنالك لم أتمالك نفسي قائلًا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفًا وواحدة.»

كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوَمَ من هذه الملاحظة الجديدة، لعله كان يُفسِّر كل ملاحظة بدورها في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يعدُّها إثباتًا جديدًا، كنت أسأل نفسي: «ماذا أثبتت؟ أثبتت أن حالةً قد أمكن تفسيرها في ضوء النظرية لا أكثر.» غير أن هذا لا يعني شيئًا ما دامت كل حالة يتصورها المرء يمكن أن تُفَسَّر في ضوء نظرية أدلر، وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد، ولتوضيح ذلك أودُّ أن ننظر في هذين المثالَين المختلفَين تمامًا من السلوك البشري: سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، وسلوك رجل يُضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل، بمقدور كل من النظرية الفرويدية ونظرية أدلر أن تُفسِّر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة، فحسب نظرية فرويد يُعاني الرجل الأول من «الكبت» Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب مثلًا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربًا من «التسامي» أو «التصعيد» Sublimation، وبحسب نظرية أدلر كان الرجل الأول يعاني من مشاعر الدونية (التي ربما ألجأته إلى محاولة إثبات أن لديه الجرأة على ارتكاب جريمة ما)، وكذلك كان الرجل الثاني (الذي أراد إثبات أن لديه الجرأة على إنقاذ الطفل)، لم يكن بوسعي أن أتصور أي سلوك إنساني يستعصي على التفسير في ضوء كل من النظريتين، إنهما دائمًا منسجمتان على قوام المشاهدات، «على قدها»، دائمًا مؤيَّدتان، «كانت هذه الحقيقة بالتحديد هي الدليل الدامغ على صحتهما في نظر المعجبين بهما، أمَّا بالنسبة لي فقد بدأ يتضح لعيني أن ما يبدو مظهر قوة في النظريتين هو بالضبط مَكمَن الضعف فيهما.»

أمَّا مع نظرية أينشتين فقد كان الموقف جِد مختلف، ولنأخذ مثالًا نموذجيًّا، وهو تنبُّؤ أينشتين الذي كانت نتائج حملة إدينجتون قد أيدته للتو، كانت نظرية الجاذبية لأينشتين تُفضي إلى نتيجة مُفادها أن الضوء لا بد أن ينجذب نحو الأجسام الثقيلة (مثل الشمس)، تمامًا كما تنجذب الأجسام المادية، وكنتيجة لذلك أمكن تقدير أن الضوء القادم من نجم ثابت بعيد يبدو موقعه الظاهري قريبًا من الشمس سوف يصل إلى الأرض من اتجاه من شأنه أن يجعل النجم يبدو مُبعدًا قليلًا عن الشمس، وبعبارة أخرى أن النجوم القريبة من الشمس ستبدو كما لو كانت قد تحركت قليلًا مبتعدة عن الشمس، وعن بعضها البعض، هذا شيء يتعذَّر على الملاحظة في الظروف العادية ما دامت هذه النجوم غير مرئية بالنهار بفعل التوهج الهائل للشمس، غير أن من الممكن أثناء كسوفٍ للشمس أن نأخذ صورًا فوتوغرافية لهذه النجوم، فإذا أخذنا صورةً لنفس المجموعة من النجوم أثناء الليل أمكننا مضاهاة المسافات في كلتا الصورتين والتحقق من الأثر المتوقع.

والآن، ما هو الشيء اللافت في هذه الحالة؟

إنَّه … «المخاطرة» التي ينطوي عليها هذا الصنف من التنبؤ، فإذا ما أظهرت الملاحظة أن الأثر المتوقَّع لا وجود له البتة تكون النظرية ببساطة قد دُحِضَت، إن النَّظريَّة هنا غير متساوقة مع نتائج ممكنة معينة للملاحظة، مع نتائج كان كل شخص في الحقيقة قمينًا قبل أينشتين أن يتوقعها، وهو موقف يختلف تمامًا عن الموقف الذي أسلفناه حيث تكشَّف أن النظريات المعنية كانت مساوقة لمعظم ألوان السلوك البشري المتباينة، بحيث يستحيل عمليًّا أن نصف سلوكًا بشريًّا يتعذَّر علينا أن ندَّعي بأنه تحقق لهذه النظريات.

قادتني هذه الاعتبارات في شتاء ١٩١٩م-١٩٢٠م إلى نتائج يمكننا الآن صياغتها كما يلي:
  • (١)

    من السهل أن نحصل على تأييدات، أو تحقيقات، لكل نظرية تقريبًا، إذا بحثنا عن تأييدات.

  • (٢)

    يجب ألا يُعتد بالتأييدات إلا إذا كانت نتيجةً لتنبؤات مخاطرة، بمعنى أننا إذا لم نستضئ بالنظرية المعنية لوجب أن نتوقع حدثًا غير متساوق معها، حدثًا جديرًا بدحض النظرية.

  • (٣)

    كل نظرية علمية هي نوع من «المنع» أو «الحَظْر»! إنها «تمنع» أشياء معينة أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية.

  • (٤)

    النظرية التي لا تقبل الدحض بأيِّ حدث يمكن تصوره هي نظرية غير علمية، فعدم القابلية للدحض ليست مزيةً للنظرية (كما يظن الناس غالبًا) بل عيبًا.

  • (٥)

    كل اختبار أصيل للنظرية هو محاولة لتكذيبها، أو لدحضها، قابلية الاختبار هي قابلية التكذيب، غير أن هناك درجات من قابلية الاختبار، فبعض النظريات أكثر قابلية للاختبار من بعض؛ أي أكثر استهدافًا للدحض، إنَّها نظريات تخوض مخاطر أكبر.

  • (٦)
    الدليل المؤيد للنظرية يجب ألا يُعتد به ما لم يكن نتيجة لاختبارٍ أصيل للنظرية، وهذا يعني أنه يُمثل محاولةً خطرةً، ولكن غير ناجحة لتكذيب النظرية وأنا هنا أتحدث عن حالات «الأدلة التعزيزية» Corroborating Evidence.٢
  • (٧)
    عندما يتبين كذب بعض النظريات القابلة للاختبار، فإن مؤيديها يظلُّون متمسكين بها، وذلك مثلًا بإدخال «فرض مساعد» Auxiliary Hypothesis على سبيل التحايل (الغرض العيني المحدد) ad hoc،٣ أو بإعادة تفسير النظرية بشكل تحايلي بحيث تتفادى التفنيد، مثل هذا الإجراء ممكن دائمًا وميسور، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض على حساب مكانتها العلمية، فهو يحطم هذه المكانة أو يخفضها على أقل تقدير (وقد أطلقت على عملية الإنقاذ هذه فيما بعد «المناورة الاصطلاحية» Conventionalist Twist).
وجملة القول: إنَّ محك المنزلة العلمية لنظرية من النظريات هو «قابليتها للتكذيب» Falsifiability أو قابليتها للتفنيد Refutability أو قابليتها للاختبار Testability.

•••

وبوسعي أن أقدم أمثلة على ذلك من النظريات المختلفة التي سلف ذكرها. فمن الواضح مثلًا أن نظرية الجاذبية لأينشتين كانت تفي بمعيار قابلية التكذيب، وحتى ولو لم تسمح لنا أجهزة القياس آنذاك أن نَبُتَّ في نتائج الاختبارات بثقة تامة، فمن الواضح أن إمكان دحض النظرية كان قائمًا.

أمَّا علم التنجيم فلا يصمد للاختبار، فقد كان المنجمون مبهورين ومضللين بما كانوا يظنونه أدلةً مؤيِّدةً بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أي دليل عكسي. وفضلًا عن ذلك، فقد كان بوسعهم بما يضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموضٍ جَمٍّ أن يتملصوا من أي شيء كان حقيقًا أن يدحض النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقة، فهم لكي يتفادوا تكذيب النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار. ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصيةً على الإخفاق، تجعلها غير قابلة للدحض.

وأما النظرية الماركسية في التاريخ، فهي على الرغم من الجهود الصادقة التي بذلها بعض مؤسسيها وأتباعها، قد انتهت إلى تبني هذا الضرب من العرافة. فالماركسية في بعض صياغاتها الأولى (مثل تحليل ماركس لطبيعة الثورة الاجتماعية القادمة) كانت تنبؤاتها قابلة للاختبار، وتم في الحقيقة تكذيبها، إلا أنه بدلًا من قبول التفنيدات، فقد قام أتباع ماركس بإعادة تأويل كل من النظرية والدليل لكي يجعلوهما متوافقين. بهذه الطريقة يكونون قد أنقذوا النظرية من الدحض، ولكنهم دفعوا في ذلك ثمنًا باهظًا، ذلك أنهم تبنوا طريقة من شأنها أن تجعل النظرية غير قابلة للدحض. لقد منحوها «مناورة اصطلاحية»، وهم بهذه الحيلة قد حطموا مكانتها العلمية التي يدعونها ويُكثرون من الترويج لها.

وأما نظريتا التحليل النفسي «الفرويدية والأدلرية»، فتنتميان إلى فئة مختلفة. لقد كانتا ببساطة غير قابلتين للاختبار، غير قابلتين للدحض، إذ ليس بوسع أي سلوك إنساني يمكن تصوره أن يأتي مناقضًا لهما. وهذا لا يعني أن فرويد وأدلر غير مُصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيًّا لا أشك في أن كثيرًا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يُسهم ذات يوم إسهامًا كبيرًا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلًا للاختبار. غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن تلك «الملاحظات الإكلينيكية» Clinical Observations التي كان المحللون النفسيون يرون سذاجة أنها تؤيد نظريتهم لا تفترق في شيء عما يجده المنجمون في ممارساتهم من الشواهد اليومية المؤيدة لأقوالهم. وأما بالنسبة لملحمة فرويد عن الأنا والأنا الأعلى والهو، فهي لا يمكنها أن تدَّعي الصفة العلمية أكثر مما تدعيها حكايات هوميروس التي جمعها من جبال الأولمب، فهذه النظريات تصف بعض الوقائع، غير أنها تصفها كما تفعل الأساطير. إنها تحتوي على تصورات سيكولوجية جِد شائقة، ولكن ليس بطريقة قابلة للاختبار.
وقد كنت في الوقت نفسه على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جلها من الوجهة التاريخية، قد نشأت عن أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية، ومن أمثلة ذلك نظرية أمبدوقليس في التطور بواسطة المحاولة والخطأ، أو أسطورة برمنيدس التي تقول بأن العالم لَبِنَةٌ واحدةٌ ثابتة لا تتغير ولا يجري فيها أي شيء على الإطلاق، فهي إذا أضفنا إليها بعُدًا جديدًا، فإنها تُفضِي إلى تصور أينشتين عن العالم، الكتلة المصمتة (وهو أيضًا لا يستجد فيه شيء على الإطلاق، إذ إن كلَّ شيء فيه بلغة الأبعاد الأربعة محددٌ مرسوم منذ البداية). هكذا كنت أشعر أننا إذا كُنَّا بإزاء نظرية ما ووجدنا أنها غير علمية أو أنها «ميتافيزيقية» إن شئنا القول، فإن هذا لا يعني أنها غير ذات أهمية أو دلالة، أو أنها «بلا معنى» Meaningless أو «هراء» Nonsense. إنها لا يمكن أن تدَّعي أنها تستند إلى أدلة إمبيريقية بالمعنى العلمي رغم أنها يمكن بسهولة أن تكون — بمعنى نشوئي ما — نتاجًا للملاحظة.

(كانت هناك نظريات أخرى جد كثيرة من هذا الصنف قبل العلمي أو العلمي الزائف، بعضها للأسف كان يتمتع بنفوذ مساوٍ للتفسير الماركسي للتاريخ. منها على سبيل المثال التفسير العنصري للتاريخ، وهو مثال آخر لتلك النظريات المبهرة المفسرة لكلِّ شيءٍ والتي تَخلِب الأذهانَ الواهنة وتقع فيها موقع الوحي.)

المشكلة إذن التي كنت أسعى لحلها باقتراح معيار القابلية للتكذيب لم تكن هي مشكلة انعدام المعنى أو الدلالة. لا، ولا هي مشكلة «الصدق» Truth أو القبول، بل كانت مشكلة رسم خط (بأقصى قدر مستطاع من الدقة) يفصل بين عبارات (أو أنساق عبارات) العلوم التجريبية وبين جميع العبارات الأخرى، سواء كانت هذه عبارات ذات صبغة دينية أو ميتافيزيقية، أو كانت — ببساطة — عبارات علمية زائفة. كانت هذه هي المشكلة الأولى بالنسبة لي وقد أسميتها بعد سنوات (لعل ذلك كان في عام ١٩٢٨ أو ١٩٢٩) «مشكلة التمييز» Problem of Demarcation. كان معيار القابلية للتكذيب هو الحل لمشكلة التمييز، فهو يقول بأن العبارات أو أنساق العبارات، لكي تتصف بالصفة العلمية وتنزل منزلة العلم، ينبغي أن تتحلى بالقدرة على أن تَصطَرع مع ملاحظات ممكنة أو ملاحظات يمكن تصورها.

•••

والآن دعونا ننتقل من نقدنا المنطقي لسيكولوجية الخبرة (التجربة) إلى مشكلتنا الحقيقية، مشكلة منطق العلم. ورغم أن بعض ما قلته آنفًا قد يساعدنا هنا إذ يُخلِصنا من بعض تحيزاتنا النفسية إلى جانب الاستقراء، فإن معالجتي للمشكلة المنطقية للاستقراء لا صلة لها البتة بهذا النقد ولا بأية اعتبارات سيكولوجية، فإذا كنتم لا تعتقدون دوجماويًّا٤ في التفسير السيكولوجي المزعوم للاستقراء، فلكم الآن أن تصرفوا النظر عن قصتي برمتها باستثناء نقطتين منطقيتين اثنتين: (١) ملاحظاتي المنطقية عن قابلية الاختبار أو التكذيب بوصفها معيار التمييز. (٢) نقد هيوم المنطقي لمبدأ الاستقراء.
من الواضح مما سبق أنه كانت هناك صلة وثيقة بين المشكلتين اللتين أثارتا اهتمامي في ذلك الوقت: التمييز Demarcation، والاستقراء Induction (أو المنهج العلمي). لقد كان بميسوري أن أرى منهج العلم هو النقد، أي محاولة التكذيب. ورغم ذلك فقد اقتضت الأمور بضع سنوات لكي ألحظ أن المشكلتين — التمييز والاستقراء — هما بمعنى ما … شيءٌ واحد.

لقد عثرتُ مؤخَّرًا بطريق الصدفة على صياغة شائقة لهذا الرأي في كتاب فلسفي رائع لعالم فيزياء عظيم، هو كتاب ماكس بورن «الفلسفة الطبيعية للعلة والمصادفة». يقول ماكس بورن: «يُتيح لنا الاستقراء أن ننتقل من عدد من المشاهدات إلى قاعدة عامة، مثلًا أن الليل يعقب النهار والنهار يعقب الليل، ولكن في حين أن الحياة اليومية لا تملك معيارًا محدَّدًا لصواب أي استقراء، فقد قام العلم باصطناع مدونة أو دستور أو قاعدة حِرفية لتطبيق الاستقراء.» لم يكشف بورن في أيِّ موضع من أعماله عن مضامين هذا الدستور الاستقرائي (الذي يتضمن بحسب قوله معيارًا محددًا لصحة الاستقراء). غير أنه يؤكد أن «ليس هناك دليل منطقي يُحتِّم قبوله»، «إنها مسألة إيمان»، وهو من أجل ذلك «يود أن يُسَمِّي الاستقراء مبدأً ميتافيزيقيًّا.»

ولكن لماذا يعتقد بورن أن مثل هذا الدستور الخاص بقواعد الاستقراء الصحيح لا بد أن يكون موجودًا؟ هذا ما يتضح لنا عندما نسمعه يتحدث عن «الجموع الغفيرة من الناس الجاهلين بحكم العلم أو الرافضين له، ومن بين هؤلاء أعضاء جماعات مناهضة التطعيم، والمؤمنون بالطالع والتنجيم. لا جدوى من مناقشة هؤلاء، وليس بمقدوري أن أرغمهم على قبول نفس المعايير التي أعتقدها للاستقراء الصحيح: أعني دستور القواعد العلمية.» هكذا يتضح بجلاء أن «الاستقراء الصحيح» هنا كان المقصود منه أن يعمل كَمِحَك للتمييز بين العلم والعلم الزائف.

إلا أن من البين أن قاعدة الاستقراء الصحيح هذه أو صنعته ليست حتى ميتافيزيقية، إنها ببساطة لا وجود لها. ليست هناك قاعدة على الإطلاق تضمن لنا أن تعميمًا مستفادًا من ملاحظات صادقة، مهما كثر تكرارها وتواترها، هو تعميم صادق (بورن نفسه لا يعتقد في صدق الفيزياء النيوتونية بكل نجاحاتها رغم أنه يراها قائمةً على الاستقراء). ونجاح العلم هو أمر لا يستند على قواعد الاستقراء، بل يعتمد على الحظ والعبقرية والقواعد الاستنباطية الخالصة للدليل النقدي.

وبإمكاني أن ألخص بعض النتائج التي خلصت إليها كما يلي:
  • (١)

    الاستقراء، أي الاستدلال القائم على ملاحظات عديدة، هو خرافة. إنه ليس واقعةً سيكولوجية، ولا هو واقعة حياتية، ولا هو أحد الإجراءات العلمية.

  • (٢)

    الإجراء الفعلي للعلم هو السير بالحدوس الافتراضية: هو القفز إلى الاستنتاجات، غالبًا بعد ملاحظة فريدة (كما لاحظ مثلًا هيوم وبورن).

  • (٣)

    تعمل الملاحظات والتجارب في العلم كاختبارات لحدوسنا أو فرضياتنا؛ أي كمحاولات تفنيد.

  • (٤)

    هذا الاعتقاد الخاطئ في الاستقراء تخلقه حاجتُنا إلى معيار للتمييز، تلك الحاجة التي جرى العرف بطريق الخطأ على أن الاستقراء وحده هو الذي يَفي بها.

  • (٥)
    ينطوي هذا المنهج الاستقرائي، شأنه شأن معيار التحقيق Verification، على تمييز خاطئ.
  • (٦)

    لا فائدة البتة في أن نقول إن الاستقراء يجعل النظريات احتمالية فحسب، لا يقينية، ولا يؤدي هذا القول إلى أدنى تغيير في الموقف.

فإذا كانت مشكلة الاستقراء، كما سبق أن ألمحت، هي مجرد مثال أو جانب من مشكلة التمييز، لوجب إذن أن يزوِّدنا حلنا لمشكلة التمييز بحل لمشكلة الاستقراء. وهذا في اعتقادي هو وجه الأمر حقًّا رغم أنه لا يبدو جليًّا للوهلة الأولى.

ولعل من الخير أن نعود إلى بورن مرة ثانية لنحصل على صياغة موجزة لمشكلة الاستقراء. يقول بورن: «ليست هناك ملاحظة ولا تجربة، مهما مددناها وتوسعنا فيها، يمكن أن تمنحنا أكثر من عدد متناه من التكرارات»، ومن ثَمَّ «فإن العبارة (القانون) «ب تنتج عن أ» هي دائمًا تتجاوز الخبرة. ورغم ذلك فنحن نقوم بصياغة هذا الصنف من العبارات في كلِّ مكان وكل زمان، وأحيانًا نستخلصها من مادة ضئيلة.»

وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن المشكلة المنطقية للاستقراء تنشأ مما يلي:
  • (أ)

    كشف هيوم (الذي عبَّرَ عنه بورن خير تعبير) بأن من المحال تبرير أي قانون بواسطة الملاحظة أو التجربة، لأنه «يتجاوز الخبرة».

  • (ب)

    واقعة أن العلم يدفع بقوانين ويستخدمها «في كل مكان وزمان»، وبورن في ذلك يعبر عن اندهاشه — شأنه شأن هيوم — من «ضآلة المادة»، أي قلة الأمثلة الملاحظة التي قد يؤسس عليها القانون.

  • (جـ)

    مبدأ التجريبية الذي يقول بأنه في مجال العلم لا حكم لغير الملاحظة والتجربة في تقرير قبولنا أو رفضنا للعبارات العلمية، شاملة القوانين والنظريات.

هذه المبادئ الثلاثة المذكورة تبدو متعارضة للنظرة الأولى، وهذا التضارب الظاهري هو الذي يُشكِّل أزمة الاستقراء.

ولما واجه بورن هذا التعارض فقد استبعد «ﺟ»، أي مبدأ التجريبية (كما فعل كانت من قبل وكثيرٌ غيره بما فيهم برتراند رسل)، مفضِّلًا عليه ما أسماه «مبدأً ميتافيزيقيًّا»، ذلك المبدأ الميتافيزيقي الذي لم يحاول حتى أن يصوغه، مكتفيًا بالوصف الغامض «دستور أو قاعدة الصنعة»، والذي لم أشاهد له أي صياغة تحمل بصيصًا من الوعد وليست واضحة الخُلْف.

غير أن المبادئ من «أ» إلى «ﺟ» غير متعارضة في حقيقة الأمر. وبوسعنا أن نُدرك ذلك في اللحظة التي ندرك فيها أن قبول العلم لقانون أو نظرية … ما هو إلا قبول اختباري Tentative فحسب، بمعنى أن جميع القوانين والنظريات هي حدوس افتراضية (تخمينات)، أو فروض اختبارية (وهو موقف كنت أسميه أحيانًا «النزعة الافتراضية» Hypotheticalism)، وأن من الجائز لنا أن نرفض قانونًا أو نظرية في ضوء بَيِّنةٍ جديدة دون أن نلغي بالضرورة البينةَ القديمة التي أدَّت بنا في الأصل إلى قبولها.

وبإمكاننا أن نحتفظ تمامًا بالمبدأ التجريبي «ﺟ» ما دام مصير أية نظرية من حيث القبول أو الرفض تقرره الملاحظة والتجربة عن طريق نتائج الاختبارات. وما دامت النظرية صامدة لأقصى ما نستطيع تصميمه من اختبارات فهي مقبولة، فإذا لم تصمد فهي مرفوضة. غير أن النظرية لا تُستنتَج بأي معنى من المعاني من الأدلة الإمبيريقية. ليس ثمة شيء من قبيل الاستقراء السيكولوجي ولا الاستقراء المنطقي. فليس بالإمكان أن نستنتج من الأدلة الإمبيريقية غير كذب النظرية، وهذا الاستدلال هو استدلال استنباطي صرف.

لقد أثبت هيوم أن من غير الممكن أن نستنتج نظريةً من عبارات الملاحظة. غير أن هذا لا يمنع إمكانية أن ندحض نظرية بواسطة عبارات الملاحظة. ومن شأن الإدراك الكامل لهذه الإمكانية أن يجعل العلاقة بين النظريات والملاحظات على أتم الوضوح. هكذا يتم حل مشكلة التعارض المزعوم بين المبادئ «أ» و«ب» و«ﺟ»، ويتم معه حل «مشكلة هيوم» أو «مشكلة الاستقراء».

كارل بوبر، الحدوس الافتراضية والتفنيدات

(١) منطق التكذيب

بوسع المرء أن يتعرف على ثلاثة خيوط أساسية لفكر بوبر مجدولة معًا لتشكل فلسفته العلمية الجديدة:
  • (١)

    حله لمشكلة الاستقراء.

  • (٢)
    مشكلة «التمييز» Demarcation بين العلم واللاعلم.
  • (٣)

    توكيده على أهمية تبني أقصى درجات النقد، والتذرع الدائم بالموقف النقدي بوصفه عنصرًا أساسيًّا من عناصر العقلانية وسببًا جوهريًّا لنمو المعرفة.

ذلك أن الفلسفة بطبيعتها تساؤلٌ نقدي حول الافتراضات الأساسية التي نُسلِّم بها تسليمًا، ونبني عليها أنساقنا الفكرية دون أن نُسلِّط عليها أضواء النقد. هذا الموقف النقدي الصارم «الخيط الثالث» مرتبط أيضًا بمشكلة الاستقراء «الخيط الأول» ومشكلة التمييز «الخيط الثاني»؛ لأننا درجنا على الاعتقاد بأن ما يميز العلم من اللاعلم هو المنهج الاستقرائي، فصدقُ قضايا العلم مستمدٌّ من استناده إلى وقائع التجربة. والصورة المثالية التي يُثيرها في الذهن هذا المنهج الاستقرائي هي البدء بجمع ملاحظات خالصة دون فروض مسبقة تقدم لنا الوقائع بطريقة محايدة نزيهة. ومن تكرار هذه الملاحظات تبدأ أنماطٌ معينة في الظهور، وتؤدي بنا إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر الملاحظة. عندئذٍ نُجري الاختبارات التجريبية التي تُثبت صدق هذه الفروض، فترقى إلى منزلة النظريات.٥
يذهب بوبر إلى أن هناك مشكلتين تواجهان هذا التصور التقليدي للعلم:
  • (١)
    المشكلة الأولى هي أنه ليس هناك شيء من قبيل الملاحظة الخام المحايدة، بلا فروض مسبقة وبلا محتوى نظري. فجميعُ الملاحظات تتضمن فكرةً معينة عن طبيعة الشيء الملاحَظ تحدد لنا هذا الصنف من الأشياء وتفترضه مسبقًا. وهي إذن فكرةٌ محمَّلةٌ بالنظرية وسابقةٌ على أي استنتاج نستمده من الملاحظة. لا ملاحظة بلا فروض نظرية مسبقة. فأن يلاحظ المرء على الإطلاق هو أمرٌ يتضمن بالضرورة فروضًا نظريةً مسبقةً عن الشيء الذي يلاحظه. ونحن في جميع الأحوال عندما نلاحظ فإنما نلاحظ شيئًا ما بوصفه كذا أو كيت، هذا الكذا والكيت يحمل معه متضمنات نظريةً تأخذنا في الأغلب وراء المحتوى الخالص للملاحظة. عندما نقول على سبيل المثال: «هذا كوب من الماء»، فإن هذا التقرير يحمل معه في حقيقة الأمر فروضًا نظريةً حول سلوك تلك الكيانات المُشار إليها ﺑ «الكوب» و«الماء»، وهي فروض تنطوي على ما يتجاوز مادة الملاحظة الراهنة.٦
    ونحن عندما نتعرف على حدثين اثنين بوصفهما تكرارًا لنفس الحدث، فإننا هنا ننتقي بالضرورة جانبًا مُعيَّنًا يتشابهان فيه، ونضرب صفحًا عن بقية الجوانب التي يختلفان فيها. فهما بالتأكيد مختلفان، وإلا لما كانا حدثين متمايزين (مبدأ ليبنتز — هوية اللامتمايزات Identity of Indiscernibles). فالملاحظات لكي تكون ممكنة على الإطلاق تتضمن دائمًا بشكل صريح أو مضمر انتقاء شطر معين من ملامح البيئة ورفض الملامح الأخرى. ذلك أن المجال الممكن للأشياء التي بوسعنا أن نلاحظها هو مجال لا نهاية له، ومن ثَمَّ فنحن مضطرون إلى الاختيار، وما نختار أن نلاحظه إنما تحدده لنا اهتماماتٌ نظرية.
  • (٢)
    المشكلة الثانية هي مشكلة الاستدلال الاستقرائي Inductive Inference، ويُطلَق عليها بوبر اسم «مشكلة هيوم». في حالة الاستدلال الاستنباطي Deductive Inference من المحال أن تصدق مقدمات الاستدلال الصحيح دون أن تصدق نتيجته. فإذا قلنا مثلًا: [«جميع البشر فانون» و«سقراط من البشر»] فمن الضرورة أن «سقراط فان». أمَّا الدليل الاستقرائي فليس قاطعًا بهذه الطريقة، فقد تكون مقدماته صادقة ونتيجته رغم ذلك كاذبة.

تتصف النظريات العلمية بأنها قضايا عامة (كلية) تأخذ صيغة:

كل أ هو ب All As are Bs
وهي صيغة تتجاوز الأدلة المستمدة من التجربة «الخبرة» Experience، فالقضية المقررة هنا لا تلزم عن أي عدد متناهٍ من ملاحظاتنا لكل من «أ» و«ب». وإنما الذي يلزم هو فقط قضايا من الصيغة:
بعض أ هو ب Some As are Bs

إذ ليس هناك استحالة منطقية في أن أ القادمة في رتل الملاحظة لن تكون ب.

يترتب على ذلك أنه ليس هناك قضية علمية كلية يمكننا أن نبرهن على أنها صادقة بالضرورة، فالقوانين العلمية دائمًا تتجاوز الملاحظات الممكنة، ودائمًا تتخطى الخبرة المتاحة.٧ والاستدلال من التجربة إلى القوانين الكلية ليس دليلًا استنباطيًّا صحيحًا منطقيًّا، ولا هو استدلال يمكن تبريره بالتجربة، لأن الانتقال من: «الأدلة الاستقرائية قد صدقت فيما مضى» إلى: «إذن الأدلة الاستقرائية سوف تسري في المستقبل»، هو نفسه استدلال استقرائي. ومِنْ ثَمَّ فإن أي تبرير من هذا الصنف سيكون دائريًّا، أي منطويًا على «دور منطقي» Vicious Circle.٨
والحق أن الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يكون صحيحًا إلا إذا افترضنا أن الاطرادات Uniformities التي شملت الحالات التي تمت ملاحظتها هي اطرادات سارية على الحالات التي لم نلاحظها. ولكن هذا الافتراض ليس حقيقة منطقية «قبلية» a Priori٩ ينطوي إنكارُها على تناقض، ولا هو افتراض تبرره التجربة. إنه في الحقيقة «قفزة إيمانية»، ليس لها سند في العقل المحض ولا في التجربة الحسية، ولا يمكن تبريرها دون دور منطقي ظاهر.
هكذا يرفض بوبر الاستقراء، فالاستقراء عنده ليس منهجًا مثمرًا لصياغة نظريات علمية ولا هو منطق قويم لتبرير النظريات. وهو يزعم أنه قد حل مشكلة الاستقراء، ولكنه لم يحلها بتبرير الاستقراء، بل بطرح منهج علمي بديل عنه، ولكنه يؤدي نفس المهمة التي يؤديها الاستقراء من حيث إنه يتيح لنا أن نفضل نظرية على أخرى بناءً على أسس تجريبية. وبوبر في ذلك ملتزم بعدُ بالمبدأ التجريبي القائل بأن الملاحظة والتجربة هما المحك الوحيد لقبول النظريات العلمية أو لرفضها، ومثل هذه القرارات لا يمكن تبريرها بشكل «قَبْلي» (أي سابق على التجربة) a Priori. هكذا نكون قد نفذنا إلى لُب فلسفة بوبر؛ أي الفكرة القائلة بأن ما يميز العلم عن اللاعلم ليس هو الاستقراء كمنهج أو كمنطق تبريري، بل إن العلم يتكون من نظريات تتصف في آنٍ واحدٍ بأنها متسقة ذاتيًّا وبأنها يمكن، من حيث المبدأ، أن تُكَذَّب أو تُدْحَض.
يستخدم بوبر مصطلحات «الفروض» Hypotheses، «الحدوس الافتراضية» (التخمينات) Conjectures، «النظرية» Theory، «القانون العلمي» Scientific Law، على التعاوض. وذلك لسبب بسيط ومستمد من المبدأ الاستنباطي المُسَمَّى Modus Tollens:
ق تلزم عنها ك
لا − ك
إذن، لا − ق

وهو مبدأ يقول على التقريب: إنَّه إذا كان تقريرنا للقضية ق يستلزم تقريرنا للقضية ك، وكانت ك كاذبة، تكون ق هي أيضًا كاذبة. وبإمكاننا في هذه الصيغة أن نستبدل بالقضية ق الرمز ف الذي يمثل «فرضية» علمية كلية معينة، وأن نستبدل بالقضية ك الرمز ل الذي يرمز إلى عبارة تقرر «ملاحظة» معينة. عندئذٍ نظفر بالصيغة التالية:

ف تلزم عنها ل
لا − ل
إذن لا − ف
والنقطة الجوهرية التي ينبغي أن نلتفت إليها هنا هي أن هذه الصيغة تثبت الفارق المنطقي بين «التحقيق» Verification  و«التكذيب» Falsification. ففي حين لا يمكن إثبات صدق نظرية علمية كلية بأيِّ عدد متناهٍ من الملاحظات مهما ازداد ومهما ارتفع، فإننا من الوجهة المنطقية لا يلزمنا أكثر من ملاحظة حالة واحدة مناقضة للدعوى الكلية للنظرية لكي يتم تكذيبها أو دحضها. إذن من القضية الكلية «كل أ هو ب» (ف) يمكننا أن نستنبط القضية التالية: «من الخطأ أن بعض (حتى واحدة) أ ليس ب» (ل)، وأننا إذا لاحظنا أن «بعض (على الأقل واحدة) أ ليس ب» (لا − ل) لترتب على ذلك بالاستنباط المنطقي المحض أن «كل أ هو ب» قضية كاذبة (لا − ف). فالعبارة التقريرية «كل البجع أبيض» يمكن تكذيبها بملاحظة بجعة واحدة غير بيضاء، والتي يلزم عنها أن «ليس كل البجع أبيض». بذلك تكون نظرية ما قابلة للتكذيب Falsifiable، إذا وفقط إذا أمكن منها استنباط «عبارة ملاحظة» ما والتي إذا كذبت لكانت النظرية كاذبة. وعلى النظرية العلمية الأصيلة أن تستبعد حالةً ممكنةً منطقيًّا أي تحظرها أو تمنعها من الحدوث، وذلك بأن تحدد بأكبر قدر مستطاع من الدقة ماذا عسى أن تكون هذه الحالة. وهذا هو تأويل قول بوبر إن كل نظرية علمية هي نوع من المنع أو الحظر. فالنظرية الأصيلة يجب ألا تكون متساوقة مع كل الحالات الممكنة منطقيًّا. ويمكننا القول بتحديد أكثر: إن ما هو مستنبط من النظرية العلمية هو «عبارة أساسية» واحدة على الأقل تُمثل«مُكذِّبًا بالقوة» Potential Falsifier،١٠ مثل هذه العبارة ستكون «عبارة ملاحظة» Observation Statement تُشير إلى حدث ما قابل للملاحظة العامة. وهذا يستبعد «العبارات الوجودية» الخالصة التي تأخذ صيغة «بعض أ هو ب» من فئة العبارات العلمية، وذلك لأنها غير قابلة للاختبار. فليس هناك أي ملاحظة ممكنة تستطيع أن تدحض هذه العبارات الوجودية؛ لأنه يبقى هناك دائمًا مكان ما، إن صح التعبير، لم نفتش فيه بعد.
كان كارل بوبر مثقَّفًا علميًّا ومتابعًا لصيقًا لعلوم عصره. وقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة ونظريات أينشتين من جهة أخرى. يقول بوبر إن الماركسيين والفرويديين كانوا يرون أينما نظروا تأييدًا لنظرياتهم، بينما حاول أينشتين جهده أن يصوغ تنبؤًا شديد التحديد وقابلًا للملاحظة ومترتبًا على نظريته على انحناء الضوء، وهو تنبؤ من شأنه إذا ما كذَّبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويجهز عليها. إن نقطة الخلاف هنا ليست هي الواقعة السيكولوجية الخاصة بنفور الماركسيين والفرويديين من التسليم بوجود أدلة تدحض نظرياتهم، بل هي بالأحرى في طبيعة البنية المنطقية للنظريات الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها محصَّنة من التكذيب. كان الأمر الذي يُثير شكوك بوبر هو أن النظريات الماركسية والفرويدية كانت «مؤيدة» فقط، وأنها بدت مفسِّرة لكلِّ شيء لأنها، بسبب غموضها أو بسبب آلياتها المصممة للتملص من الأدلة المضادة كانت غير قابلة للدحض Irrefutable. مثل هذه النظريات تُعَدُّ خرقًا وانتهاكًا للموقف العلمي النقدي الذي تمسك به بوبر. ولكن هذا لا يعني أنها «لا معنى لها» باصطلاح الوضعية المنطقية، ولا يعني حتى إنها غير صادقة، بل يريد بوبر أن يقول إنها ليست علمية من حيث إنها غير قابلة للاختبار؛ أي أنه من الصعب تكذيبها إن لم يكن من المستحيل. فقد كانت هذه النظريات تُسيَّج باستمرار الشروط والمحاذير والتحفظات، بحيث لم يَعُد من الممكن أن تُستنبَط منها ملاحظات مضادة محددة. إنها لا تخبرنا بأي شيء محدد يُكذِّب النظرية إذا ما لاحظناه، أو بعبارة أخرى هي نظريات لا تُنبئنا بما عسى أن يكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة. وهو يعني أن معتنقي هذه النظريات قد تخلُّوا عن الموقف العلمي النقدي.

وتبقى الآن نقطة أخرى علينا أن نلمَّ بها قبل أن ننتقل من منطق التكذيب إلى منهجه، وهي تتعلق بالمقارنة بين نظرية نيوتن ونظرية أينشتين. لقد كانت الملاحظات تُقدم كل يوم أدلةً لا حصر لها تأييدًا لنظرية نيوتن، ولكن التأكيد وحده كما ألحَّ بوبر لا يكفي لتأسيس الصدق، وهذا هو الدرس الذي يريدنا بوبر أن نتعلمه ولا ننساه. لقد دبت التناقضات بين تنبؤات نظرية نيوتن وبين الملاحظات، مما أدى إلى نشأة نظرية منافسة لها هي نظرية أينشتين، على الرغم من التأييدات الهائلة لنظرية نيوتن.

(٢) منهج التكذيب

إذا كان منطق التكذيب بسيطًا تمامًا، فإن منهجَ التكذيب أكثرُ تعقيدًا بكثير. ذلك أن ما يمثل تفنيدًا لنظرية من النظريات هو أمر واضح من الوجهة المنطقية، أمَّا تقرير ما إذا كانت النظرية هي في الحقيقة مفنَّدة، فهو أمر مختلف تمامًا. والمشكلة ليست مقصورة على وجود مصاعب في عملية البت في حدوث التفنيد، بل إن بوبر أيضًا يسلم بوجود طرائق عديدة يمكن بها دائمًا تفادي وقوع تفنيدٍ ظاهر.

ثمة مشكلات عديدة تبرز أثناء محاولة التكذيب الفعلي لنظرية ما بواسطة النقاش النقدي والملاحظة والتجربة:
  • (١)
    من الممكن دائمًا التشكك في سلامة الملاحظات التي تمت، فلعلنا ارتكبنا خطأ ما في ملاحظاتنا. وهنا تدخل مشكلة الأساس التجريبي: إذا لم يكن بإمكاننا الوثوق في صدق عبارات الملاحظة التي نستخدمها لاختبار نظرياتنا، فليس بإمكاننا الوثوق في إن نظرياتنا تفندها هذه العبارات. ويعترف بوبر بأن ليس هناك «عبارات - ملاحظة» لا يرقى إليها الشك، فجميع عبارات الملاحظة نفسها تنطوي على شيء من المحتوى النظري، وهي مفتوحة لمزيد من الاختبار، غير أن هذا لا يفضي إلى نكوص (تراجع) لا نهائي Infinite Regress، فرغم أن جميع العبارات التجريبية قابلة للاختبار  «بالقوة» Potentially، فبوسعنا أن نسلم بصدقها مبدئيًّا أو اصطلاحيًّا Conventionally، ومِنْ ثَمَّ نستعملها لاختبار أو تكذيب نظريات تكون هذه العبارات مكذِّبات لها بالقوة Potential Falsifiers. وإذا كُنَّا في ريب منها، فما يزال بإمكاننا إجراء اختبارات أخرى، فليس هناك أسس تجريبية نهائية.
  • (٢)
    المشكلة الثانية تتعلق بحقيقة أن النظريات العلمية يتم اختبارها دائمًا جماعاتٍ وليس فرادى. فمن الضروري في اختبار أي نظرية أن نصف الشروط المبدئية بواسطة مجموعة من الفروض المساعدة؛ أي أن هناك نظريات أخرى معينة يشملها البحث تعمل كافتراضات متعلقة بظروف الاختبار. هذه الفروض أيضًا تُقدِّم الدلالة التكذيبية للملاحظة المستنبطة من النظرية. مثلًا حين تقوم بملاحظة معينة فقد نفترض أن الضوء ينتقل في خط مستقيم، هكذا تصبح صيغة التكذيب Modus Tollens أكثر تعقيدًا:
    ف + ف م (الفرضية + الفرضية المساعدة) تلزم عنها ل
    لا − ل
    إذن لا − ف

    الآن إذا شئنا الدقة، فكل ما يمكننا قوله في هذا الموقف المعقد هو أن عنصرًا ما في المجموع (ف + ف م) قد تم تفنيده — أي قد تكشف أنه كاذب — وهذا العنصر ليس بالضرورة هو النظرية ف التي نقوم باختبارها، بل قد تكون واحدة أو أكثر من الفرضيات المساعدة ف م. ما يمكننا أن نقوله هنا هو أن الفرضيات المساعدة نفسها مفتوحة للاختبار.

  • (٣)
    المشكلة الثالثة وهي وثيقة الصلة بالمشكلة السابقة، هي أن من الممكن دائمًا تبني فروض عينية (تحايلية/غرضية) ad hoc لتحاشي التفنيد. والمقصود بالفروض العينية فروض معينة يتم وضعها، لا لشيء إلا لتجنب الدحض. مثال ذلك أن نظرية «كل الخبز مغذٍّ» يمكن تحصينها من أن يدحضها وجود بعض الخبز السام في فرنسا بأن تضيف إليه قضية «كل الخبز مُغذٍّ» تعبير «إلا في فرنسا».

وهناك طريقة تحايلية أخرى لتفادي الدحض، وهي ببساطة أن تُخرِج الشاهد المضاد الظاهر من التعريف نفسه. فإذا كُنَّا بصدد الفرضية «كل أ هو ب»، وداهمَنا شاهدٌ مضاد من أ الذي ليس ب، فمن الممكن القول بأننا إذا بدا لنا أننا لاحظنا واحدًا من أ الذي ليس ب، إذن ما لاحظناه لا يمكن أن يكون واحدًا من أ أصلًا. هذا الأسلوب يجعل الصفة ب جزءًا من التعريف المحدد لأي أ. هكذا يمكننا القول مثلًا إن بجعة غير بيضاء هي ليست بجعة على الإطلاق.

ويُعَدُّ استخدام الفروض العينية والمناورات الاصطلاحية في رأي بوبر نوعًا من الغش الفكري، ومِنْ ثَمَّ فمن اللازم اتخاذ بعض القواعد المنهجية لتجنب استخدام الفروض العينية. من ذلك اتِّباع المبدأ المنهجي القائل بأننا إذا قمنا بتعديل نظرية ما عن طريق إضافة بعض الفروض الجديدة بغرض تجنب التفنيد، فمن اللازم أن تكون هناك بعض المترتبات التي يمكن استنباطها من جماع [النظرية الأصلية والفروض المضافة الجديدة] والتي لم يكن من الممكن استنباطها من النظرية الأصلية غير المعدلة. وبتعبير آخر، يمكننا القول بأن الفروض المضافة أو المعدلة يجب أن تكوِّن فرضيةً جديدةً تكون قابلة للاختبار بطريقة لم تكن متاحة للفرضية الأصلية: أي أن هذه الفروض يجب أن تكون قابلة للاختبار بحد ذاتها بشكلٍ مستقلٍ. من هنا، فنحن نرفض «كل الخبز مغذٍّ، إلا في فرنسا» بوصفها عينية «تحايلية» ad hoc، إذ ليس لها مترتبات جديدة قابلة للاختبار لم تكن أيضًا اختبارًا ﻟ «كل الخبز مغذ». والعكس غير صحيح؛ لأن هناك مترتبات قابلة للاختبار ﻟ «كل الخبز مغذ»، والتي ليست اختبارًا ﻟ «كل الخبز مغذ إلا في فرنسا.»
من الواضح أن بعض الفرضيات أكثر قابلية للاختبار أو التكذيب من بعض، فنظرية «كل الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة» (ف١) أقل قابلية للتكذيب من «كل الكواكب تتحرك في مسارات بيضاوية «إهليلجية»» (ف٢)؛ لأن ف١ أقل تحديدًا بخصوص أي الأدلة يمكن أن تدحضها. وبتعبير آخر يمكن القول بأن ف١ «أقل منعًا» من ف٢، إن صدقها يتساوق مع نطاق من الملاحظات الممكنة أكبر بكثير مما تفعل ف٢، ذلك أن ف٢ لا تقول فقط بأن الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة، بل تحدد أيضًا نوع الحلقة بدقة. وعليه يمكن أن نقول بأن جميع الملاحظات التي ستُكذب ف١ ستُكذب ف٢، ولكن بعض الملاحظات التي ستُكذَّب ف٢ لن تُكذَّب ف١. فإذا كانت الكواكب تتحرك في أيِّ شكل غير الشكل البيضاوي، فسوف تكون ف٢ كاذبة، في حين أنها ما دامت تتحرك في أي شكل حلقي فإن ف١ ستكون صادقة. يعبر بوبر عن هذه النقطة بقوله: كلما زاد المحتوى المعلوماتي للنظرية كانت أكثر قابلية للتكذيب؛١١ إنها تنبئنا أكثر عن الحالة التي عليها العالم، وذلك بأن تستبعد عددًا أكبر من الحالات الممكنة منطقيًّا، فالمحتوى المعلوماتي يزداد بازدياد مجموعة العبارات التي لا تتساوق (تتماشى) مع النظرية.
ويُشير بوبر أيضًا إلى أن قابلية التكذيب/والمحتوى المعلوماتي لنظرية ما يتناسبان عكسيًّا مع «احتماليتها» Probability، فالمحتوى المعلوماتي ﻟ «تحصيل الحاصل» Tautology هو صفر، ذلك لأن تحصيل الحاصل لا ينبئنا بشيء عن حالة العالم المحدد الذي وُجِدنا فيه. مثال ذلك أن ١ + ١ = ٢ في جميع «العوالم الممكنة». وهي تحصيل حاصل فارغ من المحتوى المعلوماتي. ومثال آخر: «إما أن السماء تمطر أو أنها لا تمطر»، فهي لا تخبرنا خبرًا ومحتواها المعلوماتي = صفر، أمَّا احتماليتها فهي أعلى الاحتماليات وتساوي ١، واحتمالية صدق ف٢ (جميع الكواكب تتحرك في مسار بيضاوي) أقل بكثير من احتمالية صدق ف١ (جميع الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة)، ذلك أن فئة «المكذِّبات بالقوة» Potential Falsifiers ﻟ ف١ هي فئة فرعية من مكذِّبات ف٢ فمثلًا «الكواكب تتحرك في خط مستقيم» سوف تُكذِّب كلًّا من ف١، ف٢، ولكن «الكواكب تتحرك في دائرة» ستُكذِّب ف٢ ولكن لن تُكذِّب ف١ لأن الدائرة نوع من الحلقة المغلقة.

(٢-١) تقدم المعرفة

يذهب بوبر إلى أننا نحقق تقدُّمًا في معرفتنا، ونقارب الحقيقة، بواسطة عملية محاولة وخطأ. ويقدم نظرة تطورية لنمو المعرفة العلمية تتخذ الصورة التالية:
م١ ن، ن١ أ، أ١ م٢
حيث م١ تشير إلى مشكلة معينة، تقوم إزاءها باقتراح «حل اختباري» Tentative Solution أو «نظرية اختبارية» (ن ن١)، ثُمَّ نحاول عندئذٍ استبعاد النظريات الكاذبة بتعريضها لاختبار قاسٍ ونقد شديد (أ أ١)، عندئذٍ يبرز موقف جديد أو مشكلة جديدة (م٢)، وهكذا تنمو المعرفة باطراد، في حلقات متتالية تبدأ من مشكلة وتنتهي بمشكلة، ولكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة. هذه الجدة هي التي تكفل التقدم المستمر للمعرفة.١٢
يحقق العلم تقدمه بواسطة «الحدوس الافتراضية» Conjectures و«التفنيدات» Refutations. فنحن نتعلم من أخطائنا. نحن نبدأ من مشكلات ولا نبدأ من ملاحظة محايدة، أي أننا نبدأ من الخطأ! من الفشل في تفسير ظاهرة ما. فمجرد الملاحظة لا تُشكِّل مشكلة، فنحن لا نعي مشكلة قط إلا في ضوء نظرية قائمة تفشل في تفسير ملاحظة معينة. ونحن لا نحاول حل المشكلة باقتراح أكثر النظريات احتمالًا — فالنظريات الأكثر احتمالًا تنطوي على أقل محتوى معلوماتي — بل باقتراح حلول جريئة أو تخمينات شديدة القابلية للتكذيب؛ لأنها شديدة التحديد والدقة فيما تقوله عن العالم. عندئذٍ يمكننا اختبار هذه النظريات باختبارات قاسية وفاصلة، وهي اختبارات قاسية لأن ما تستلزمه النظرية غير متساوق مع قطاع عريض جِدًّا من الملاحظات الممكنة، بوسعنا حدسيًّا أن نرى قسوة الاختبار ستزداد كلما قلت احتمالية النظرية، ستكون النظرية الجديدة جريئة وغير محتملة، وستكون اختباراتها قاسية لأنها تتضمن رفضًا لجزء من الخلفية المعرفية للنظريات العلمية السائدة في حقبتها التاريخية. فنظرية أينشتين مثلًا كانت جريئة بالنسبة للافتراضات النظرية السائدة في زمنها؛ لأنها ناقضت الافتراض الشائع في زمنها بأن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة.

ومن الجدير بالذكر في مذهب بوبر التكذيبي أن مصدر النظرية العلمية هو أمر لا صلة له البتة بوضعها العلمي، أي بتحديد ما إذا كانت النظرية علمية أم لا. فالنظرية لا تكون علمية ما لم تكن قابلة للتكذيب، يستوي في ذلك أن تكون النظرية قد جاءت من المختبر أو من نفحة إلهام. بالطبع قد تكون إحدى الطرق أكثر خصوبة من غيرها كوسيلة لإنتاج نظريات أصيلة، ولكن هذا لا علاقة له بالسؤال عما إذا كانت عبارة ما هي عبارة علمية أم غير علمية، ولا علاقة له بالسؤال عن مدى أصالتها العلمية إن كانت عبارة علمية. ليست هناك طريقة آلية يمكن بها للعلم أن يحقق تقدمًا، وبوبر في ذلك يرخي العنان للتأمل الخيالي الجريء، فالعلم ليس أقل احتياجًا للخيال من أي فن من الفنون.

يقول بوبر إننا في حقيقة الأمر لا نأتي إلى العالم كملاحِظين سلبيين محايدين، بل نحن نولد مزودين بتوقعات أو ميول فطرية معينة، تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها النظريات المشيدة عن وعي ودراية. والحق أن جميع الحيوانات تقوم في سلوكها بتفعيل حلول فطرية للمشكلات.١٣ ولكن في حين قد تكون هذه «النظريات» الفطرية قبلية سيكولوجيًّا Psychologically a Priori فإن ذلك لا يعني أنها صحيحة قبليًّا a Priori Valid. إن أهم فارق بين الإنسان والحيوانات الأخرى هو قدرة الإنسان على أن يجعل نظرياته تموت نيابةً عنه! بوسع الإنسان أن يتبنى نظريات جديدة بدلًا من التشبث بنظرياته والموت معها، وبوسع المرء أن يرى جدوى هذه القدرة حين ينعم النظر في الطريقة التي ما ينفك الزنبور يخبط بها زجاج النافذة بلا هوادة، وفشل من ثَمَّ في حل «مشكلة» الهروب.

ونحن في الأحوال العادية لن نكون في موقف اختبار نظرية واحدة بمفردها، بل سيكون علينا أن نختار بين عدد من النظريات المتنافسة. وحتى لو صادفنا ملاحظة تُكذِّب نظرية معينة، فنحن لن نُقدِم على رفض النظرية ما لم نعثر على نظرية أفضل منها نستبدلها بها. حقيقة الأمر أن قواعد بوبر المنهجية تطالبنا أن نتريث في رفض نظرية بعد شاهدٍ مكذِّبٍ واحد، وألا نتعجل في التخلي عنها إلا بعد تواتر تكذيبات قوية وبعد أن نعثر على نظرية أفضل.

ومحك المفاضلة بين النظريات المتنافسة يكون كالتالي: علينا أن نفضل النظرية ن٢ على النظرية ن١ إذا كانت ن٢ تحل جميع المشكلات التي تحلها ن١ وتحل المشكلات التي فشلت ن١ في حلها (أي حيث تم دحض ن١)، وتقدِّم حلولًا لبعض المشكلات الإضافية التي لا تقول ن١ عنها شيئًا، وبالتالي تتيح فرصة لمزيد من التكذيب. وبتعبير آخر، علينا أن نختار النظرية التي تفسر كل ما تفسره النظرية السابقة وتفسر ما فشلت النظرية السابقة في تفسيره، وتقدم تفسيرًا لظواهر إضافية لا تفسرها النظرية السابقة. والإيفاء بهذه الشروط يضمن لنا ألا تكون نظريتنا الجديدة هي هي النظرية القديمة مضافًا إليها فرض تحايلي (غرضي/عيني) ad hoc لا يخدم غير غرض واحد، وهو تفادي التفنيدات الواضحة أو الإخفاقات الظاهرة.
بوسع المرء أن يوجز فلسفة العلم عند بوبر فيما يلي: تتقدم المعرفة عن طريق اقتراح نظريات تفسيرية جريئة، أي اقتراح تفسيرات ذات محتوًى معلوماتي عالٍ وذات قابلية عالية للتكذيب، ثُمَّ تعريض هذه النظريات لاختبارات قاسية وفاصلة، ثُمَّ إحلال نظريات أفضل محل النظريات المكذَّبة. وبمقدورنا القول بأننا استبدلنا بالنظرية نظريةً أفضل وأكثر أصالةً ومعقولية، حتى لو لم يتم تكذيب النظرية القديمة بشكل نهائي، إذا كانت النظرية الجديدة — شريطة ألا تكون قد كُذِّبَت — قادرةً على أن تفسر كلَّ ما فسرته النظرية القديمة، وأشياء فَشِلَت النظرية القديمة في تفسيرها، وتقدم أيضًا تفسيرات لأشياء لم تقدم لها النظرية القديمة شيئًا. أي أن النظرية الأفضل ن٢ سوف تشتمل على النظرية ن١ بوصفها اقترابًا نحو الحقيقة. فإذا كان أي تكذيب للنظرية ن١ سيُعدُّ تكذيبًا للنظرية ن٢ وكان العكس غير صحيح، فإذن تكون النظرية ن٢ مفضلة عقلانيًّا على النظرية ن١ (شريطة ألا تكون ن٢ قد تم تكذيبها). ومعنى ذلك أننا ننتقي النظرية التي هي أكثر قابلية للتكذيب — وبالتالي أكثر محتوى معلوماتيًّا — ما لم تكن قد نالها التكذيب.١٤

(٢-٢) تعزيز النظريات Corroboration

إذا صمدت نظريةٌ ما لمحاولاتٍ مستمرة لتكذيبها باختبارات قاسية، عندئذٍ يمكننا القول بأنها على درجة عالية من التعزيز، وليس يعني ذلك أن صدقها قد ثبت بشكل نهائي، أو حتى إنها غدت أكثر احتمالية. فتعزيز نظرية ما في وقت ما هو في الحقيقة تقرير عن درجة قابليتها للتكذيب، ومدى قسوة الاختبارات التي تعرضت لها، والطريقة التي صمدت بها لهذه الاختبارات. ومن المنطقي أن يزداد تعزيز النظرية بازدياد قابليتها للتكذيب (شريطة ألا تكون قد كُذِّبَت) لأن قسوة الاختبارات التي يمكن أن تصمد لها يزداد بازدياد قابليتها للتكذيب.

ويعجل بوبر بإنكار أن يكون مفهوم التعزيز عودة جديدة لفكرة الاستقراء، ذلك أن التعزيز المقيَّض لنظرية ما لا يقول شيئًا البتة عن ثباتها في المستقبل أو عن أدائها في المستقبل. وكلما قلت احتمالية النظرية زادت درجتها من التعزيز الممكن. فبإمكان النظرية الأقل احتمالية أن تخوض اختباراتٍ أشدَّ قسوة، وبالتالي أن تكون أكثر تعزيزًا. وهذا يقدم مرة ثانية بيانًا عن المفاضلة العقلية بين النظريات: تُعَد ن٢ مفضلة على ن١ إذا كانت ن٢ تصمد لكل الاختبارات التي تصمد لها ن١، وتصمد لاختباراتٍ لم تصمد لها ن١، وتمضي لتفسر وقائعَ إضافيةً هي مترتباتٌ عن ن٢ قابلةٌ للاختبار، وإذا كانت ن٢ لم يتم تفنيدُها بعد.

(٢-٣) مذهب اللامعصومية Fallibilism

من الجلي وفقًا لموقف بوبر أننا لا يمكننا على الإطلاق أن نبرهن على أن نظرية ما هي نظرية صادقة، ذلك أننا لا يمكننا على الإطلاق أن «نعرف»، بمعنى أن نؤسس صدق نظرية بشكل نهائي لا يعود بعده أي احتمال بأن نكون مخطئين. بهذا المعنى يُعَد بوبر من القائلين بمذهب اللاعصمة أو اللامعصومية الذي قال به شارلس بيرس C. Pierce١٥ (١٨٣٩–١٩١٤) من قبل: فمن المتعذر أن نكون على يقينٍ تامٍّ بأننا قد عثرنا على الحقيقة. إن جميع نظرياتنا هي افتراضات حدسية وتخمينات مفتوحة دومًا للاختبار. ولعل بإمكاننا إذ ذاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من بعض؛ لأنها صمدت للاختبارات أكثر من غيرها.

(٢-٤) الصدق ومظهر الصدق Truth and Verisimilitude

وما دمنا حريصين على الحقيقة «الصدق» Truth فعلينا أن نكون حريصين على استبعاد أي نظرية نكتشف أنها كاذبة، لأننا بهذه الطريقة ربما نعثر على نظرية تكون صادقة. وبوبر في ذلك واضح تمامًا في تمييزه بين أمرين:
  • الأول: ما إذا كانت نظرية ما صادقة أو كاذبة بصفة موضوعية من حيث هي متطابقة أو غير متطابقة مع الوقائع (ق تكون صادقة إذا، وفقط إذا، كانت متطابقة مع الوقائع).
  • الثاني: أن «نعرف» ما إذا كانت ق متطابقة مع الوقائع.

وقد أخذ بوبر عن المنطقي العظيم ألفرد تارسكي (١٩٠٢–١٩٨٣) تعريفه للصدق:

ق صادقة إذا، وفقط إذا، ق.

ذلك أن كل عبارة غير ملتبسة هي إما صادقة أو كاذبة، وليس هناك احتمال ثالث، ولكن تقريرنا «متى» تكون قضية ما متطابقة مع الوقائع هو أمر مختلف تمامًا. ويذهب بوبر إلى أننا لا نملك أبدًا، ولسنا في موقع يمكِّننا أن نقول إننا قد بَرهَنَّا أو بَرَّرنا صدق نظرية.١٦
ورغم ذلك فإن تعريف الصدق بأنه «تطابق» Correspondence (تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان كما تقول العرب، أو بتعبير آخر تطابق العبارة مع الوقائع التي تقررها العبارة)، يمكن أن يعمل كمبدأ تنظيمي Regulative Principle: إنه شيء ما يمكن أن نبتغيه وندانيه. ومن الحق أنه كلما زاد تعزيز إحدى النظريات فمن المعقول أن نحزِر بأننا نقترب من الحقيقة وندانيها. ويطلق بوبر على درجة اقتراب نظرية ما من الصدق اسم «مظهر الصدق» Verisimilitude الخاص بهذه النظرية. وهو يشتق فكرة مظهر الصدق من المحتوى المعلوماتي للنظرية: محتوى النظرية ن هو جميع تلك القضايا التي تلزم عن ن. ومحتوى ن يمكن إذن أن ينقسم إلى: «محتوى الصدق» Truth Content (فئة جميع العبارات الصادقة التي تلزم عن ن)، و«محتوى الكذب» Falsity Content (فئة جميع العبارات الكاذبة التي تلزم عن ن)، ومظهر صدق ن هو محتوى صدقها مطروحًا منه محتوى كذبها. فإذا كُنَّا نقارن بين ن١ ون٢ فإن مظهر صدق ن٢ يكون أكبر من مظهر صدق ن١ إذا كان محتوى صدقها أكبر من ن١ ولكن محتوى كذبها أقل، أو كان محتوى كذبها أقل ولكن محتوى صدقها أكبر. وبتعبير آخر، إذا كانت تترتب على ن٢ عبارات صادقة أكثر من ن١ ولكن لا يترتب عليها عبارات كاذبة أكثر، إذن تكون ن٢ أقرب إلى الصدق.١٧

إذا كانت ن٢ تلزم عنها جميع العبارات الصادقة التي تلزم عن ن١، وتلزم عنها بعض العبارات الصادقة التي لا تلزم عن ن١، ولا تلزم عنها عبارات كاذبة أكثر من ن١، فمن المعقول إذن أن نقول إن ن٢ هي أقرب إلى الصدق من ن١؛ إن ن٢ لديها مظهر صدق أكبر حتى لو كانت كاذبة. هكذا يمكننا عقليًّا أن نفضل ن٢ على ن١ إذا كُنَّا ننشد الحقيقة حتى لو كانت ن٢ كاذبة، شريطة ألا يكون محتوى كذب ن٢ كبيرًا جِدًّا.

ثمة صلة بين مظهر الصدق ودرجة التعزيز الخاصتين بنظرية ما، فإذا قارنَّا بين نظريتين من حيث درجة التعزيز ووجدنا أن جميع الاختبارات التي صمدت لها ن١ قد صمدت لها أيضًا ن٢، وأن ن٢ قد صمدت لبعض الاختبارات التي لم تصمد لها ن١، وأن ن٢ لم تفشل في اختبارات أكثر من الاختبارات التي فشلت فيها ن١، فمن المعقول إذن أن نفضل ن٢ على ن١، ذلك أن بإمكاننا أن نحدس بأن ن٢ لديها مظهر صدق أكبر؛ إنها أقرب إلى الحقيقة. إنها ستكون أكثر قابلية للاختبار من ن١؛ سيكون لها محتوى معلوماتي أكبر، ستخبرنا أكثر عن الحالة التي عليها العالم. ورغم أننا لم تتم لنا البرهنة على صدق ن٢ (هناك احتمال حقًّا ما دمنا غير معصومين أن تكون كاذبة)، فإن بوسعنا أن نُعْرب عن تفضيلنا العقلي للنظرية ن٢ بوصفها أشد تعزيزًا من ن١، وأقرب منها إلى الصدق. النظرية ن٢ أكثر قابلية للاختبار وتصمد لاختبارات أكثر مما تصمد لها ن١.

(٢-٥) واقعية بوبر

من خلال تقبل بوبر لنظرية التطابق في الصدق، يمكن القول بأنه واقعي ميتافيزيقي Metaphysical Realist، أي أنه يرى أن نظرياتنا، إن صدقت، تُشير إلى واقع مستقل عن الذهن ومستقل عن نظرياتنا. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يسمح لهذه الواقعية الميتافيزيقية أن تأخذنا بعيدًا، أو أن تكون أكثر من «فكرة تنظيمية». فلا يزال علينا أن نقرر متى تكون نظرياتنا متطابقة مع الأشياء كما هي عليه بالفعل. ونحن لا يسعنا أن ننظر «من خارج» نظرياتنا إلى الواقع، ولا نملك إلا أن نعده واقعًا ذلك الذي تخبرنا أفضل نظرياتنا، في ضوء النقد والاختبار الجاريين، أنه الواقع. ويذهب بوبر إلى أن من غير المحتمل أننا سنكتشف «الحقيقة» عن العالم أبدًا. وبوبر مناوئ في العلم للنزعة الأداتية Instrumentalism التي تقول بأن النظريات العلمية لا تُشير إلى كيانات حقيقية تفسر مسار ملاحظاتنا، بل هي بالأحرى «أدوات» و«وسائل» نافعة تقدم كل ما هو مطلوب، دون جزم بواقعيته، من أجل التنبؤ الدقيق عن مسار خبرتنا. تُعد القوانين العلمية، وفقًا لهذه الوجهة من الرأي (الأداتية)، قواعد لا حقائق.١٨
وبوبر مناوئ أيضًا لمذهب الماهية Essentialism الذي يقول إن بإمكاننا أن نكتشف واقعًا نهائيًّا نفسر في ضوئه كل شيء آخر. ويرى بوبر أن هذا الموقف يُسفِّه مساعينا الدائمة نحو تفسيرات أفضل. إنما يتخذ بوبر خطًّا وسطًا يكون العلم بمقتضاه هو محاولة أصيلة لتفسير بعض الأشياء الحقيقية التي نعرف أو نفترض أنها حقيقية بواسطة أشياء أخرى مجهولة، وتتطلب الكشف ويمكن اختبار صدقها بمعزل عن الظواهر المطلوب تفسيرها، ولكن لا نهاية للعمق الذي يمكننا أن نوغل فيه التماسًا للتفسيرات.

(٢-٦) المعرفة موضوعية

عندما يتحدث بوبر عن «المعرفة» Knowledge، فهو لا يشير إلى حقائق مؤسسة أو مبررة بشكل نهائي. يؤكد بوبر فضلًا عن ذلك أنه عندما يتحدث عن «المعرفة» فإنما يتحدث عن المعرفة «بالمعنى الموضوعي». ويقصد بذلك أن يميز تمييزًا دالًّا بين المعرفة الذاتية لأي شخص وبين المعرفة الموضوعية كما هي مصوغة في اللغة وموجودة في الكتب والدوريات بالمكتبات ومؤسسات البحث ومفتوحة للتفحص والاختبار العام. بهذا المعنى، فإن المعرفة العلمية شيء موضوعي. ثمة علاقات منطقية موضوعية موجودة بين العبارات المصوغة في اللغة، بغض النظر عما إذا كان أي شخص على دراية فعلية بها أم لم يكن. وتتضاءل أهمية ما يعتقده العلماء الأفراد بالقياس إلى النمو الموضوعي للمعرفة. إن الخطأ الكامن فيما يسميه بوبر «فلسفة الاعتقاد» Belief Philosophy هو أنها تحاول أن ترى المعرفة بوصفها صنفًا (مؤكدًا بشكل خاص) من الاعتقاد.

(٢-٧) العوالم الثلاثة

يميز بوبر في الحقيقة الأمر بين عوالم ثلاثة متبادلة التأثير والاعتماد:
  • العالم ١: هو العالم الفيزيقي.
  • العالم ٢: هو العالم العقلي الذاتي.
  • العالم ٣: هو العالم الموضوعي للنظريات والرياضيات والأدب والفن … إلخ الذي توجد داخله علاقات منطقية موضوعية، وهي موضوعية بمعنى أنها مستقلة عن وعي العقول الفردية ودرايتها.
تنشأ موضوعات العالم ٣ بواسطة عقول العالم ٢، استجابة في الأغلب مشكلات مدرَكة في العالم ١، غير أنها ما إن تتم صياغتها حتى يصبح لها وضع موضوعي يتجاوز نِيات الفرد. ومع ذلك فقد ركزت الفلسفة التقليدية على المعرفة بمعناها الذاتي، أي ما يتسنى للشخص المفرد أن يعرفه؛ وكان منطلقها هو أنه من العقل الفردي فقط ومما يمكن أن يعرفه العقل الفردي بالفعل يمكن تبرير أية دعاوى معرفية جديدة. إلا أن معظم المعرفة البشرية بالمعنى الموضوعي ليست معروفة من قِبَل أي شخص بالمعنى الذاتي. فالمعرفة البشرية، وبخاصةً المعرفة العلمية، تتألف كلها تقريبًا من «معرفة بغير ذات عارفة».١٩
أدرك بوبر مدى الثراء والخصب الذي تنطوي عليه فكرة «موضوعية المعرفة»، فهي علاج ناجع لتلك الذاتية المفرطة التي تسود مجالات كالفن والأدب وربما الأخلاق. يريد بوبر أن يقول إن هذه الأنشطة وإن تكن اختراعات بشرية، فهي ليست مجرد تعبير عن مشاعر إنسانية ذاتية. فكما أن الرياضيات من اختراع العقل البشري، ولكنها تخضع لمعايير موضوعية وتضم مشكلات حقيقية وإجابات صحيحة أو خاطئة عن هذه المشكلات، كذلك الحال بالنسبة للفن مثلًا، فهو يطرح مشكلاته الخاصة ثُمَّ يحلها أو يفشل في حلها.٢٠
من الجلي أن هناك أوجه شبه كبيرة بين عالم بوبر الثالث وبين عالم المثل الأفلاطوني أو عالم الصور الموضوعية. غير أن هناك فرقًا حاسمًا بينهما: وهو أن العالم ٣ عند بوبر ليس ثابتًا بأيِّ حال من الأحوال بل يتغير باستمرار ويتطور كلما نمت المعرفة وتقدمت من خلال الفحص النقدي للمعارف التي تم لنا تحصيلها. وقد سبق أن ألمحنا إلى رفض بوبر لمذهب الماهية Essentialism أي رفضه لوجود واقع نهائي علينا أن نكتشفه ونفسر في ضوئه كل شيء آخر.
يقول بوبر في كتاب «النفس ودماغها»: «وفي حين أؤكد على وجود موضوعات العالم ٣، فأنا لا أعتقد أن الماهيات موجودة، بمعنى أنني لا أعزو أي وضع وجودي لموضوعات تصوراتنا أو أفكارنا أو لمسميات هذه الأسماء. وأرى أن التأملات النظرية حول طبيعة أو تعريف الخير أو العدل … إلخ تفضي إلى مماحكات لفظية وأن علينا اجتنابها. إنني مناوئ للمذهب الذي أسميته «مذهب الماهية»، ومن ثَمَّ أرى أن الماهيات العقلية الأفلاطونية لا تضطلع بأي دور في العالم ٣ (أي أن عالم ٣ الأفلاطوني — رغم أنه يُعدُّ استباقًا واضحًا للعالم ٣ الذي قلتُ به — يبدو لي بناءً عالم خاطئًا). ومن جهة أخرى فلست أحسب أن أفلاطون كان على استعداد لقبول كيانات من قبيل المشكلات أو الحدوس الافتراضية — وبخاصة الكاذبة منها — داخل عالم الموضوعات العقلية الذي قال به.»٢١

(٢-٨) مجمل مذهب التكذيب

للتنبؤ أهميةٌ عظيمةٌ تمنحنا أفضلية بقاءٍ كبرى على أعضاء الفصائل الأخرى من الكائنات. وتعتبر القدرة على التنبؤ معيارًا للعلم الصحيح بصفة عامة، فالتنبؤات الصحيحة هي المحك الذي تختبر به النظريات، وإذا تعذر اختبار نظرية ما بسبب عقمها من التنبؤات القابلة للاختبار بقيت هذه النظرية عديمة القيمة. وتؤكد التوصيفات التقليدية على أهمية «تحقيق» النظرية، أو إثباتها بالملاحظة والتجربة. غير أن التحقيق مهما امتد وتواتر لا يملك أن يقدم برهانًا نهائيًّا على صحة النظرية. ولننظر، لتقريب ذلك، إلى هذه القضية التجريبية الشهيرة:

جميع الدببة القطبية بيضاء.

إن هذه النظرية تتنبأ بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة سيكون أبيض، قد نقول عندئذٍ إن هذا يحقق النظرية، ولكن الحقيقة أن هذا لا يُعَدُّ برهانًا نهائيًّا على صدق النظرية ما دام هناك احتمال على أيِّ حال بأن يأتي الدبُّ التالي لهذا غيرَ أبيض. ولو صَدَقَ هذا وأتى الدب التالي غير أبيض فإن هذه الملاحظة بمفردها تكفي لتكذيب النظرية تكذيبًا حاسمًا ونهائيًّا. هكذا نرى أن تحقيق النظريات لا يتأتى دفعة واحدة، بل تَربو ثقتُنا فيها رويدًا رويدًا، أمَّا التكذيب فقد يُجهِز عليها في ضربةٍ واحدةٍ قاضيةٍ. التكذيب إذن هو الذي يحسم أمر القضية وليس التحقيق.٢٢
من صفة العلم الأصيل إذن أنه «قابل للتكذيب» Falsifiable. وقد بيَّن بوبر أن هناك أنظمة فكرية معينة تنتحل صفة العلم، علينا أن نرفضها ونعدها «علمًا زائفًا» أو «شبه علم» Pseudoscience، نظرًا إلى أنها لا تُسفر عن تنبؤات قابلة للتكذيب [«شبه س» أو «س الزائف» هو أيما شيء يبدو كما لو أنه س، ولكنه يتكشف عن غير ذلك]. من الأمثلة التي ذكرها بوبر للعلم الزائف: النظرية الماركسية في التاريخ (كما عَدَّلها أتباعُ ماركس)، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الفردي لأدلر. فالمنطق يقتضي أنها لو كانت علومًا حقيقية لكان بإمكانها تحديد ما عساه أن يُعدَّ تكذيبًا أو تفنيدًا لها (للعلوم الأصيلة كثير من حالات التكذيب بالقوة لا بالفعل). ولكن لا بالماركسية ولا الفرويدية ولا الأدلرية قد اجتازت اختبار التكذيب في رأي بوبر، إنها علومٌ زائفةٌ ترفض من حيث المبدأ السماحَ بإجراء عملية التكذيب على قضاياها. إنها مُسَيَّجة، في صيغتها ذاتها، بتحفظاتٍ والتواءاتٍ والتباساتٍ تجعلها «محصنة» Immunized من التكذيب أصلًا وأساسًا، وتجعلها مساوقةً لكل ملاحظة ممكنة، وتجعلها ملائمةً للشيء ونقيضه. وهي تأبى بحكم صيغتها ذاتها، أن تُفشي لنا بما عسى أن تكون عليه الأشياء الملاحَظة لو أن قضاياها كانت كاذبة. وهي من أجل ذلك صفرٌ من المحتوى المعلوماتي، ولا تأتينا بنبأ عن هذا العالم المحدَّد الذي نعيش فيه، وهي إذن علمٌ زائف أو شبه علم.٢٣
يقول بوبر موجِزًا منهجَ جميع العلوم التي تستند إلى التجربة:

تُفضي بنا الاختبارات إلى انتخاب الفروض التي صمدت أمامها، أو حذف الفروض التي لم تثبت أمامها فاطَّرحناها. ومن المهم أن نتبين ما يلزم عن هذا القول من نتائج. وهي أن الاختبارات يمكن النظر إليها جميعًا على أنها محاولات ترمي إلى استئصال النظريات الكاذبة، أو اكتشاف مواضع الضعف في النظريات حتى ننبذها إن كان الاختبار يكذبها. وتبدو هذه النظرة أحيانًا مخالفة لأهداف العلم، إذ يُقال إن غايتنا إثبات النظريات، لا حذف الكاذب منها. ولكن استهدافنا إثبات النظريات إلى أقصى درجة نستطيعها هو نفسه الذي يدعونا إلى إخضاعها لأقسى أنواع الاختبار، فينبغي أن نحاول اكتشاف وجوه النقص فيها، وينبغي أن نحاول تكذيبها. وقد لا نستطيع القول إنها صمدت أمام الاختبارات العسيرة إلا إذا فشلت جهودنا التي نبذلها لتكذيبها. وهذا هو السبب في أن اكتشاف الشواهد المؤيدة للنظرية يكاد لا يكون له شأن إلا إذا حاولنا اكتشاف ما يكذبها وفشلنا في هذه المحاولة. ذلك أننا إذا لم نتخذ إزاء النظريات موقفًا نقديًّا، فسوف نعثر دائمًا على ما نريد؛ أي أننا سنبحث عما يؤيدها وسنجده، وسنصرف النظر عن كلِّ ما يمكن أن يهدد النظريات التي نفضلها فلا تقع عليه أبصارُنا. وهكذا يسهل الحصول على ما يبدو لنا أنه حُجَّة هائلة على صدق نظرياتنا، ولو نظرنا إلى هذه النظريات نظرة نقدية لتبين لنا كذبها. هكذا إذا أردنا لمنهج الانتخاب عن طريق الحذف أن يقوم بعمله، وإذا أردنا أن نضمن البقاء للنظريات الصالحة وحدها علينا أن نجعل كفاحها من أجل الحياة عسيرًا.

هذا هو باختصار منهج كل العلوم التي تستند إلى التجربة. لكن ماذا نقول عن المنهج الذي نحصل بواسطته على النظريات أو الفروض؟ ماذا نقول عن التعميمات الاستقرائية، والطريق الذي نمضي فيه من الملاحظات إلى النظريات؟ سأجيب عن هذا السؤال بجوابين:
  • (أ)

    لا أعتقد أننا نستخدم في أي وقت تعميمات استقرائية بمعنى أننا نبدأ بالملاحظات، ثُمَّ نحاول اشتقاق النظريات منها. ورأيي أن الاعتقاد بأننا نسير في العلوم على هذا النحو ضرب من خداع البصر. فنحن في كل مرحلة من مراحل البحث العلمي نبدأ بشيء له طبيعة النظرية، وذلك كالفرض، أو الحُكم المسبق، أو المشكلة (وهي قد تكون في كثير من الأحيان مشكلة تقنية). وهذه الأشياء توجه ملاحظاتنا على نحو معين، فتساعدنا على انتخاب ما قد تكون له أهمية في نظرنا من بين عدد لا حصرَ له من الأمور الملاحظة.

  • (ب)

    إنه لا أهمية من وجهة النظر العلمية للاعتقاد بأننا نتوصل إلى نظرياتنا بالقفز إلى النتائج دون مبرر أو بمجرد العثور عليها بطريق المصادفة «أو بالحدس» أو بطريق الاستقراء. فالسؤال عن كيفية حصولنا على النظريات أول الأمر هو سؤال شخصي (إن صحَّ التعبير)، في حين أن السؤال عن كيفية اختبارنا النظريات هو وحده الذي يهتم به العلم. وطريقة الاختبار التي وصفناها هنا طريقة خصبة، إذ تُفضي بنا إلى ملاحظات جديدة، وتسمح بتبادل الأخذ والرد بين النظرية والملاحظة.

كل ذلك لا يصدق فقط على العلوم الطبيعية، إذ أعتقد أنه صادق على العلوم الاجتماعية كذلك. بل إن عجزنا عن رؤية الأشياء قبل التفكير فيها يكون أوضح في العلوم الاجتماعية منه في العلوم الطبيعية. ذلك أن معظم الأشياء التي تدرسها العلوم الاجتماعية، إن لم تكن كلها، أشياء مجردة، ومن ثَمَّ مركبات نظرية.٢٤

(٢-٩) الدرس الأخير

يجب أن نشير إلى أن كثيرًا من الناس قد اختلفوا مع بوبر بشدة في حكمه على العلوم الثلاثة المذكورة، رغم أنه لم ينكر أنها ذات معنى، ولم يَنفِها من ساحة الفكر الخصب الذي يمكن أن يطوَّر ذات يوم إلى علمٍ أصيلٍ قابلٍ للتكذيب.

ومهما يكن الحكم النهائي على الماركسية والتحليل النفسي وعلم النفس الفردي، فإن من الجدير بالملاحظة أن كلًّا من الفلاسفة وعامة الناس كثيرًا ما يَدَّعون أشياءَ تبدو لأول وهلة أنها حقائق عن العالم، إلا أنها في الواقع غير قابلة للتكذيب أو الدحض. وكثيرًا ما يَفتِنُهم ما تتمتع به آراؤهم من «احتمالية» عالية، من حيث إنها متماشيةٌ مع كل ملاحظةٍ ممكنةٍ، ومنسجمةٌ مع جميع الشواهد الكائنة، ومؤيَّدةٌ بأي حدث يمكن تصوره، ومحصَّنةٌ من الدحض بترسانةٍ من الفروض الاحتيالية والمناورات التعريفية. يظن هؤلاء أن عدم قابلية آرائهم للدحض هو مظهر صدق ودليل قوة، وما يدرون أن هذا بعينه هو مَكمنُ الضعف فيها ومَوطِنُ القصور. إنها آراءٌ لا تُنبؤُنا عن العالم نبأً محدَّدًا، ولا تزيدنا علمًا بالأشياء، ولا تقول لنا ماذا كُنَّا حَريِّين أن نرى لو أن هذه الآراء كانت كاذبة. إنها تُرجِف بكل شيءٍ عدا شيءٍ واحد: ما عسى أن تتخذ الأشياء من مجرى. وما عسى أن يكون عليه مسارُ الأمور لو أنها كانت كاذبة.

قد يدَّعي البعض على سبيل المثال أن كل فعل إنساني هو فعل أناني، والذين يقولون بذلك لن يقبلوا عادةً الأمثلة المضادة العادية مثل تطوع الناس للخدمة في المستشفيات، ولن يقبلوا أي دليل يمكن أن يكذِّب رأيَهم في الطبيعة البشرية، وسوف يردون مثلًا على أي مثال مضاد بهذه الطريقة: ما دامت فاطمة تساعد المرضى في المستشفيات بمحض إرادتها، إذن مساعدة المرضى هي بالضرورة شيء تريد أن تفعله، وفعلُك لأي شيء تريد أن تفعله هو فعلٌ أناني، وهم بذلك يقومون بمناورة تعريفية تنقذ دعواهم من الدحض، ولكنها تنال من مكانتها العلمية ومن محتواها المعلوماتي. إن الدعوى التي تسمح برفض كل الأمثلة المضادة بهذه الطريقة هي شبه دعوى أو دعوى زائفة، وإقامة مثل هذه الدعاوى، في الحقيقة، هو شيءٌ يُشبه إلى حد كبير ممارسة العلم الزائف.٢٥
١  آثرتُ أن أستهل هذا الفصل وكذلك الفصل الثالث «النفس ودماغها»، بنصٍّ حرفيٍّ لكارل بوبر، رأيت أنه هام ومفتاحي، ويتيح للقارئ أن يُصغي إلى صوت بوبر نفسه ويعايش ميلاد أفكاره المحورية بشكل مباشر، على أن يكون ذلك مدمجًا بنص الكتاب وجزءًا من سياق الحديث غير ناشز عنه ولا مفحم عليه، وجدير بالتنويه أن هذين النصين لبوبر لم يسبق نقلهما إلى المكتبة العربية فيما أعلم، فهما من ترجمة كاتب السطور وعلى مسئوليته.
٢  سيأتي الحديث عن معنى التعزيز في مصطلح بوبر في موضعه.
٣  يترجمها الدكتور عبد الحميد صبرة «عيني»، وأقترح بدلًا منها كلمة «تحايلي» أو «احتيالي»؛ لأنَّها أقدر على نقل كل ظلال المعنى الخاص بالتعبيرة اللاتينية ad hoc، وتعني حرفيًّا «من أجل ذلك»، أي «لهذا الغرض» أو «خصيصًا لهذا الغرض (بعينه)»، وهي تحمل دائمًا معنى التحايل لبلوغ الطلب، و«الاحتيال» في العربية هو «طلب الشيء بالحيلة»، ويحمل دائمًا معنى المقصد العيني المحدد، كما أن تعبيرة ad hoc تأتي صفةً أحيانًا وظرفًا أحيانًا أخرى، وفي الحالة الظرفية تتبين أفضلية كلمة «احتيالي»، إذ أستطيع أن أقول: «بشكل احتيالي» ولا أستطيع أن أقول «بشكل عيني» دون أن أهدر قدرًا كبيرًا من المعنى المقصود.
٤  فضلت كلمة «دوجماوي» على «دوجماطيقي» على سبيل التخفيف والتجريب معًا، وبمأمنٍ من الالتباس على كلِّ حال.
٥  John Ehand, Philosophy and Philosophers, Logical positivism and Falsificationism, Penguin Books, 1993, p. 272.
٦  يُذكِّرنا هذا الحديث أيضًا بما ألحَّ عليه هيدجر، وجادامر من بعده، من استحالة الفهم بدون فروض مسبقة. إن محاولة الوصول إلى تأويل مُبرَّأ من أيِّ تحيزٍ أو فرض مسبق هي محاولةٌ عابثةٌ؛ لأنها تمضي في حقيقة الأمر ضد الطريقة التي يتم بها الفهم. إن ما يظهر من «الشيء» أو «الموضوع» Object هو ما يسمح له المرء أن يظهر، وهو أمرٌ يتوقف على فروضه المسبقة ومنظومته اللغوية. ومن السذاجة أن نفترض أن ما هو «هناك حقًّا» هو أمرٌ «واضحٌ بذاته». بل إن تعريف ما نفترض وضوحه الذاتي هو نفسه شيءٌ يقوم على حشدٍ غير مرئي من الفروض المسبقة، تلك الفروض الحاضرة العتيدة في كل بناء تأويلي يُشيِّده المؤوِّل الذي يظن نفسه «موضوعيًّا» وبريئًا من الفروض المسبقة. لقد أماط هيدجر اللثام عن هذا الحشد من الفروض المسبقة القائمة والمندسَّة في كل تأويل ممكن، وذلك في تحليله لعملية الفهم. (للمزيد عن استحالة الفهم بدون فروض مسبقة، انظر كتابنا «فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا» الفصل الثامن والتاسع، دار النهضة العربية، بيروت، ٢٠٠٣.)
٧  Popper, K. R., The Logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, London, 1976, p. 63.
٨  الدور المنطقي هو تَوَقُّف الشيء على ما يتوقف عليه (تعريفات الجرجاني).
٩  قَبْلي (سبقي، أولي) هنا، بالمعنى الكانتي، تعني سابق على التجربة ومستقل عنها وغير متوقف عليها. وكل ما هو قبلي يكون كليًّا وضروريًّا (المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، ١٩٧٩).
١٠  القوة هي الاستعداد في الشيء، والإمكان فيه لأن يوجد بالفعل (ابن رشد، تلخيص ما بعد الطبيعة).
١١  من حيث المبدأ، أو من حيث الصورة المنطقية.
١٢  Popper, K. R., Objective Knowledge. The Clarenton Press, Oxford, 1972, p. 119.
١٣  Popper, K. R., Objective Knowledge, p. 261.
١٤  Popper, K. R., Objective Knowledge, p. 81.
١٥  يُنسَب مذهب اللاعصمة أو اللامعصومية (استحالة العصمة من الخطأ) إلى الفيلسوف الأمريكي تشارلس بيرس؛ وهو يعني بذلك أن ليس من الضروري أن تكون الاعتقادات يقينية أو مبنية على اليقين، فإن لنا أن نقنع أحيانًا باعتقاداتنا في الظروف التي نتشوف فيها إلى دليل جديد يدفعنا إلى مراجعة رأينا، غير أنه قد يوافينا في أوانه. وفي الحق أن علينا — ما دام هذا هو حالنا دائمًا — أن نعتصم بهذه الروح، وتتذرع بهذا الموقف وإلا وقعنا في الارتيابية. وبذلك يُعد هذا الموقف «منزلة بين منزلتين»، ويُفرِغ له موقفًا وسطًا بين موقفين كلاهما مَعيب: الموقف الدوجماطيقي الوثوقي من ناحية، والموقف الارتيابي الشكي من ناحية أخرى. راجع في ذلك: برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، عالم المعرفة، ١٩٨٣، الجزء الثاني، ص٢٤٢-٢٤٣. ومن الحق أن فكر تشارلس بيرس بعامة كان استباقًا مدهشًا لفكر بوبر وآرائه المحورية. انظر في ذلك: بريان ماجي، أخلص أتباع بوبر، في كتابه «تاريخ الفلسفة» الذي سيأتي ذكره، ص١٨٧-١٨٨.
١٦  Popper, K. R., Conjectures and Refutations, p. 223.
١٧  Ibid, p. 385.
١٨  Popper, K. R., and Eccles, J. C., Remarks on The Term “Real”. In, The Self and Its Brain, corrected second printing, Springer International, 1985, pp. 9-10.
١٩  Popper, K. R., Objective Knowledge, p. 109.
٢٠  Peter Singer, “Discovering Karl Popper”, In The New York Review of Books, May 2, 1974.
٢١  Popper, K. R., and Eccles, J. C., The World 1, 2, and 3, in The Self and Its Brain, pp. 36–50.
٢٢  Earle, W. J., Introduction to Philosophy, McGraw-Hill, Inc., 1992, pp. 65-66.
٢٣  Ibid, pp. 67-68.
٢٤  كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي (طبع بعنوان بؤس الأيديولوجيا)، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، طبعة دار الساقي، بيروت ولندن، ١٩٩٢، ص١٣٨-١٣٩.
٢٥  Earl, W. J., Introduction to Philosophy, p. 68.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤