الفصل الثالث

النَّفسُ وَدِمَاغها

أرى أنَّ النَّفس والجسد يُؤثِّر كلٌّ منهما في صاحبه: فأيما تغير يعتري حالة النفس يُفضي إلى تغير في شكل الجسد، والعكس صحيح، فأي تغير في شكل الجسد يُفضي إلى تغير في حالة النفس.١
أرسطو
هذه العبارة الجامعة التي وردت في مستهل الفصل الرَّابع من كتاب «الفراسة»، والتي تُعزَى إلى أرسطو، ليس يعنيني في غرضي الحالي إن كانت لأرسطو حقًّا أم لواحد من تلامذته (قد يكون ثيوفراسطس)، غرضي الحالي هو أن أُبيِّن أن مشكلة الذهن-الجسم، والحل المقترح لها بواسطة التأثير المتبادل (التفاعل) Interactionism كانا هاجسين عامين لمدرسة أرسطو، لقد كان أعضاء هذه المدرسة الذين أخذوا بالمذهب القائل بأنَّ العقل لا مادي يأخذون أيضًا، ضمنيًّا ولكن بشكل واضح، بفكرة أن علاقة العقل-الجسم تقوم على التفاعل المتبادل الذي درجوا على اعتباره تفاعلًا غير ميكانيكي. كانت هذه الطريقة كما قلت آنفًا: هي الحل الذي أخذ به جميع المفكرين في هذا العصر، باستثناء الذريين Atomists الذين قالوا بالتفاعل الميكانيكي.
والدعوى التي أطرحها في هذا القسم هي دعوى بسيطة، وبادئ ذي بدء أودُّ أن أؤكد أنه كانت هناك أرضية مشتركة بين أرسطو وديكارت فيما يتعلق بمذهب لا مادية النفس ومذهب التفاعل المتبادل، وأيضًا فيما يتعلق بأخذهما بفكرة التفسير الماهوي Essentialist، إلا أن ديكارت قد صادف مصاعب معينة بصدد مشكلة التفاعل، فأصبحت المشكلة لديه هي كيف يتسنى لنفسٍ غير مادية أن تؤثر على عالم مادي يعمل بآلياتِ عمل الساعة، وكل ما فيه من عِلِّيَّةٍ فيزيائية إنَّما تقوم بالأساس وبالضرورة على الدفع الميكانيكي Mechanical Push.٢ الذي أريد أن أطرحه هنا هو أن ديكارت، حين حاول أن يجمع بين مذهب لا مادية النفس وتفاعلها المتبادل وبين مبدأ ميكانيكي وواحدي في العلية الفيزيائية، قد خلق مشكلة جديدة تمامًا وبلا داعٍ على الإطلاق، أدَّت هذه المشكلة إلى تَحَوُّل جديد في مشكلة العقل-الجسم (وأفضت لدى خلفاء ديكارت إلى مذهب التوازي Parallelism بين العقل والجسم، وإلى مذهب الهوية Identity من بعده).
كان ديكارت، كما قلت، من القائلين بمذهب الماهية Essentialism، وكانت أفكاره الفيزيائية قائمة على فكرة حدسية عن ماهية الجسم (وهو يعني بالماهية تلك الخصائص الثابتة لجوهرٍ ما)، وهو يؤسس صدق هذا الحدس على الضَّمان الإلهي. حاول ديكارت أن يُثبت، بحجج تبدأ من «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، أنَّ الله موجود، وأنه بحكم كماله لا يمكن أن يسمح بأن ننخدع عندما يكون لدينا حدس أو إدراك واضح ومتميز؛ إذن وضوح الإدراكات (وبعض الأفكار الذاتية الأخرى) وتميزها، هي عند ديكارت معايير للحق (الصدق) Truth موثوقٌ بها.
يُعرِّف ديكارت الجسم (المادة) بأنه شيء «ممتد» في المكان الثلاثي الأبعاد. الامتداد إذن هو ماهية الجسم أو المادة (وهذا لا يختلف كثيرًا عن نظرية أفلاطون في المكان في محاورة طيماوس، أو عن نظرية أرسطو عن المادة الأولى)، كان ديكارت يشارك كثيرًا من المفكرين السابقين عليه (أفلاطون، أرسطو، القديس أوغسطين) رأيَهم بأن العقل والوعي بالذات هما شيئان غير ماديين، وبما أنه قد أخذ بأن الامتداد هو ماهية المادة، فلم يكن بدٌّ له من أن يقول بأن النفس، ذلك الجوهر اللامادي، غير ممتدة (وقد أدى هذا بالفيلسوف ليبنتز إلى القول بأن الأرواح هي نقاطٌ إقليدية غير ممتدة، أي «مونادات» Monades). ماهية النفس إذن — وفقًا لديكارت — هي أنها جوهر «مفكر»، ومن الواضح أنه يعني بالتفكير هنا شيئًا مرادفًا للوعي أو الشعور، هذا التعريف للمادة أو الجسم كشيء «ممتد» هو ما أدى بديكارت مباشرة إلى صيغته الخاصة من النظرية الآلية للعِلِّيَّة، وهي النظرية القائلة بأن كلَّ علية في «العالم ١» (العالم المادي) تتم بواسطة «الدفع» Push.

كانت هذه نظرية قديمة بعض الشَّيء، إنَّها نظرية المحارب الذي يستخدم الَّسيف أو الرُّمح ويحمي نفسه بالدرع والخوذة، وهي نظرية الحِرفي الصانع: الخزَّاف أو بنَّاء السفن أو الحدَّاد (من الصعب أن تكون نظريةَ صاهرِ البرونز أو الحديد؛ لأن استخدام الحرارة يُسَخِّر عاملًا عِلِّيًّا مختلفًا عن مجرد الدفع، ولا هي نظرية الكيميائي القديم أو الحديث، ولا نظرية الشامان أو العراف أو المنجم، غير أن الدفع بطبيعة الحال هو أمر عالمي شامل وداخل في خبرة أي فرد منذ الطفولة).

كان ديمقريطس هو أول فيلسوف جعل الدفع هو (تقريبًا) القوة الشاملة، فحتى اتحاد الذرات هو في نظره يتم «جزئيًّا» بواسطة الدفع، حين تشتبك خطَّافات الذرات بعضها ببعض، وهو بهذه الطريقة «يرد» Reduce الجذبَ إلى الدفع.

وفي المقابل رفض ديكارت المذهب الذري، فقد كان توحيده بين الامتداد الهندسي وبين الجسمية أو المادية يحُول بينه وبين قبول المذهب الذري، وقد أدى به هذا التوحيد إلى حجتين ضد الذرية: فمن الممتنع أن يكون هناك خَلاء أو فضاء فارغ؛ لأن المكان الهندسي هو امتداد، أي هو نفس ماهية الجسم أو المادة، ومن الممتنع أن يكون هناك حد نهائي لقابلية الانقسام؛ لأن المكان الهندسي قابل للانقسام إلى ما لا نهاية، وعلى الرغم من ذلك فقد قبل ديكارت، بغض النظر عن نظرية الدفع، كثيرًا من الأفكار الكوزمولوجية للذريين (كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبل)، أولها جميعًا نظرية الدوامات، فلم يكن له بدٌّ من قبول هذه النظرية بحكم تعريفه لماهية المادة، فحيث إن هذا التعريف يُحتِّم عليه القول بأن المكان مليء، فكل حركة لا بد أن يكون لها، من حيث المبدأ، طبيعة الدوامة، مثل حركة أوراق الشاي في الفنجان.

والكوزمولوجيا الديكارتية، شأنها شأن كوزمولوجيا الذريين، تصور العالم في صورة آلة ميكانيكية ضخمة ذات تروس: دوامات معَشَّق بعضها ببعض ويدفع بعضها بعضًا، وجميع الحيوانات هي جزء من هذه الآلية الميكانيكية الضخمة، كل حيوان هو آلة ميكانيكية تحتية، مثل الدُّمَى الأوتوماتيكية التي تعمل بالماء والتي كانت في زمنه موضةً سائدة تزدان بها بعض حدائق النبلاء.

والجسد الإنساني ليس استثناء لهذه القاعدة، فهو أيضًا آلة ذاتية الحركة، باستثناء حركته الإرادية، فها هنا يوجد الاستثناء الوحيد في العالم كله، فالعقل الإنساني اللامادي قادر على أن يسبب حركات الجسم الإنساني، وبمقدوره أيضًا أن يعي بعض الانطباعات الميكانيكية التي تُحدثها القوى الفيزيائية، الضوء والصوت واللمس، في الجسم الإنساني.

من الجلي أن هذه النظرية في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم لا تنسجم تمامًا مع كوزمولوجيا ذات آلية كاملة.

ولكي نلمس ذلك يكفينا أن نقارن بين كوزمولوجيا ديكارت وكوزمولوجيا أرسطو.

فالنفس الإنسانية اللامادية والخالدة في فلسفة ديكارت شبيهة غاية الشبه بالنفس العاقلة أو العقل Nous في فلسفة أرسطو، فمن الواضح أن كلتيهما لديها ملكة الوعي بالذات، وأن كلتيهما لا مادية وخالدة، وقادرة على السعي نحو هدف ما عن وعي ودراية، وقادرة على أن تستخدم الجسم كأداة أو عضو لكي يحقق غاياتها.
والنفس النامية (النباتية) والنفس الحاسة (والنفس الشهوية والمتحركة) عند أرسطو تناظر ما أسماه ديكارت «الأرواح الحيوانية» Animal Spirits، وبعكس الانطباع الأول الذي تعطيه لفظة «روح»، فإن الأرواح الحيوانية عند ديكارت هي جزء من الجهاز الجسمي الميكانيكي المحض، إنَّها سوائل — سوائل من صنف نادر جِدًّا — تقوم في الحيوانات جميعًا وفي الإنسان بالكثير من العمل الآلي للدماغ، وتربط الدماغ بأعضاء الحس وبالعضلات والأطراف، وهي تنتقل في الأعصاب (ومِنْ ثَمَّ فهي استباق من ديكارت للإشارات الكهربية العصبية التي نعرفها الآن).

حتى الآن لا يوجد فرقٌ يُذْكَر بين نظريتي أرسطو وديكارت، غير أنَّ التَّفاوت سيغدو هائلًا إذا ما نظرنا إلى الصورة الكوزمولوجية ككل: يرى أرسطو إلى الإنسان بوصفه حيوانًا راقيًا، حيوانًا عاقلًا، ولكن جميع الحيوانات والنباتات، وحتى الكون الجمادي كله، هو عنده يسعى نحو أهداف وغايات، وما النباتات والحيوانات إلا درجات (بل ربما تكون درجات تطورية) تُفضي من الطبيعة الجامدة إلى الإنسان، فأرسطو إذن يقول بالغائية.

أمَّا عالم ديكارت فمختلف عن ذلك تمام الاختلاف، إنه عالم يتألَّف على وجه الحصر تقريبًا من عُدد ميكانيكية لا حياة فيها، فجميع النباتات والحيوانات هي آلات من هذا الصنف، والإنسان وحده هو من يتمتع بحياة حقيقية، هو الحي بحق، كانت هذه الصورة للعالم غير مقبولة عند الكثيرين، بل صادمة لمشاعرهم، وقد جعلتهم يشكُّون في صدق ديكارت وفيما إذا كان في حقيقة الأمر ماديًّا متخفيًا أدخل فكرة النفس في نظامه لخوفه من الكنيسة الكاثوليكية وليس لأي سبب آخر (والدليل على أنه كان يخشى الكنيسة أنه أحجم عن نشر كتابه الأول «العالم» عندما سمع بمحاكمة جاليليو وإدانته).

قد يكون هذا الشك لا أساس له، ومع ذلك فمن الصعب تجاهله. لقد أخذ ديكارت بالنظام الكوبرنيقي، وبالعالم اللانهائي لجيوردانو برونو «لأن المكان الإقليدي لا نهائي»، لعل الاستثناء الفريد الذي جُعِلَ للإنسان في كوزمولوجيا سابقة على كوبرنيقوس كان أمرًا مفهومًا، غير أنه لا ينسجم في إطار الكوزمولوجيا الكوبرنيقية.

وإذا كانت النفس عند ديكارت غير ممتدة، فهي رغم ذلك متموضعة في المكان، ومِنْ ثَمَّ فإنها تقع في نقطة إقليدية غير ممتدة، وديكارت في ذلك لا يبدو أنه استنتج هذه النتيجة من مقدماته (مثلما فعل ليبنتز مثلًا)، غير أنه حدد موضع النفس بالفعل داخل عضو ضئيل جِدًّا، هو الغدة الصنوبرية، وقال بأن الغدة الصنوبرية هي العضو الذي تحركه النفس الإنسانية بشكل مباشر، والنفس بدورها تؤثر على الأرواح الحيوانية تأثيرًا أشبه بتأثير صمام في مكبر كهربائي، فهي توجه حركات الأرواح الحيوانية، ومن خلال هذه الحركات توجه حركة الجسم.

وبعدُ فقد أدت هذه النظرية إلى صعوبتين خطيرتين، وأخطر الاثنتين هي هذه، فالأرواح الحيوانية (والتي هي ممتدة) تحرك الجسم بواسطة الدفع، والأرواح الحيوانية هي بدورها محرَّكة بالدفع، فهذه من المترتبات الضرورية عن نظرية ديكارت في العِلِّية، ولكن كيف لنفس غير ممتدة أن تمارس أي شيء يشبه الدفع على جسم ممتد؟ ها هنا يكمن تناقضٌ ذاتي.

كان هذا التناقض بعينه هو الدافع الرئيسي وراء تطور المذهب الديكارتي، فقد قام ليبنتز بإزالة هذا التناقض في النهاية كما سوف أبين، وكان في هذا الحل للمشكلة متأثِّرًا بتوماس هوبز الذي يُعَد مستبقًا له في ذلك بمعنى ما.

أمَّا الصعوبة الثانية فهي أقل خطرًا، فقد ذهب ديكارت إلى أن تأثير النفس على الأرواح الحيوانية هو بتغيير اتجاه حركتها، واعتقد أن هذا يمكن أن يتم بدون خرق لأيِّ قانون فيزيائي ما دامت «كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في السرعة) باقية (ثابتة).

وقد أثبت ليبنتز أن هذا خطأ، فقد اكتشف قانون «بقاء كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في الحركة، أي في اتجاه مُعطًى)، وأكَّدَ مرارًا أن قانون بقاء كمية الحركة يقتضي أن كمية الحركة Momentum، ومِنْ ثَمَّ اتجاه الحركة، يجب أن تكون باقية.
وبينما تُعد هذه ضربة قوية ضد رأي ديكارت الخاص، فلست أرى قوانين البقاء الفيزيائية تُشكل أي خطورة على من يقول بمذهب التفاعل المتبادل، ويمكننا توضيح ذلك بواقعة أن بوسع أي مركبة أو عربة أن تُقاد من الداخل دون خرق لأي قانون فيزيائي (ويمكن أن يتم ذلك بقوى طفيفة من مثل الإشارات اللاسلكية)، كل ما هو مطلوب هو:
  • (١)

    أن تحمل المركبة معها مصدرًا للطاقة.

  • (٢)

    أن يكون بقدرتها، لكي تغير اتجاهها، أن تعادل التغير بدفع كتلة ما — كالأرض مثلًا أو كمية ما من الماء — في الاتجاه المضاد (بوسع المرء أيضًا أن يقول: إذا صح وجود صعوبة كبرى هنا إذن لما كان بوسعنا أبدًا أن نغير اتجاهنا نحن، فكيفما كان اتجاهنا فإننا حين ننهض من الكرسي نقوم بدفع الأرض كلها في الاتجاه المضاد، وإن يكن ذلك دفعًا بالغ الضآلة، وهكذا يظل قانون بقاء كمية الحركة مصونًا).

وإذا قمنا، فضلًا عن ذلك، بتفسير مذهب ديكارت عن الأرواح الحيوانية، لا تفسيرًا ميكانيكيًّا بل فيزيائيًّا، بوصفها ظواهر كهربية، فسوف تغدو عندئذٍ هذه الصعوبة الخاصة برمتها غير ذات بال، حيث إن كتلة التيار الكهربي المغيِّر لاتجاهه تساوي صفرًا تقريبًا، ومِنْ ثَمَّ لا توجد مشكلة في معادلة النقلة (التحويلة) التي تغيِّر اتجاه التيار.

وجملة القول: إنَّ الصُّعوبة الكبرى في نظرية ديكارت في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم إنما تكمن في نظرية ديكارت في العِلِّيَّة الفيزيائية، والتي تقتضي أن كل فعل فيزيائي لا بد أن يكون بواسطة الدفع الميكانيكي.

(١) جذور التصور الديكارتي للمادة والتأثير العِلِّي المتبادل

في الفصل الأول من كتابه (المشترك) «النفس ودماغها» يُبيِّن بوبر كيف انسلخت النظرية الفيزيائية للمادة، خلال البحث الفيزيائي نفسه، من جلدها القديم، فلم تَعُد نظريةُ المادة «مادية»! واكتُشِفَت كياناتٌ جديدة غير مادية، مثل حقول القوى، احتلت الجانب الأكبر من رؤيتنا للعالم، ونَسَخَت فكرتَنا القديمة عن العلية الميكانيكية، وسيكون لكل هذا أثره في تقريب فكرة بوبر عن تفاعل الذات والدماغ إلى أفهامنا، ونفي الغرابة عن إمكانية تأثير الذات على العمليات الدماغية بواسطة «العِلِّيَّة الهابطة» من أعلى إلى أسفل، مما سيأتي تفصيله.

تفترض المادية الكلاسيكية (التي قال بها ليوسيبوس أو ديمقريطس)، شأنها شأن نظريات ديكارت وهوبز فيما بعد، أن المادة أو الجسم أو «الجوهر الممتد» يشغل أجزاء من المكان، وربما المكان كله، وأن الجسم يمكن أن «يدفع» Push جسمًا آخر، الدفع إذن أو التصادم هو تفسير التفاعل العِلِّي (التأثير بالتلامس)، والعالم أشبه بآلة كبيرة تعمل بآلية الدفع، تمامًا كما تعمل الساعة، وهو مُكوَّن من أجسام يدفع بعضها بعضًا كما تفعل التروس.٣

كان أول تجاوز لهذه النظرية هو تصور نيوتن للجاذبية، فالجاذبية النيوتونية تتخطى ديكارت من جهتين: (١) فهي تقول بالجذب لا بالدفع. (٢) وهي تقول بالتأثير المتبادل للأجسام عن بُعْد وبدون تلامس، وبذلك أعلن خلفاء نيوتن أن خاصية الجذب هي خاصية أساسية للمادة لا يمكن، ولا يلزمها، أن تفسَّر بأيِّ شيءٍ آخر.

والحدث الآخر في تاريخ تجاوز المادية لذاتها كان هو اكتشاف طمسون Thomson للإلكترون، والذي شخَّصه طمسون على أنه شظية دقيقة من الذرة، هكذا أمكن للذرة أن تنقسم، وهي غير القابلة للانقسام بحُكم التعريف (Atom تعني حرفيًّا اللامنقسمة)، واستطاعت النظرية الجديدة — أن تُفسِّر الدفع بين أجزاء المادة (عدم قابلية المادة للاختراق) بواسطة التنافر الكهربي بين الجسيمات المتساوية الشحنة (القشرة الإلكترونية للذرات)، كان هذا شيئًا مقنعًا، غير أنه دمر فكرة أن الدفع هو نموذج لكل فعلٍ عِلِّيٍّ فيزيائي، وقد عرفت بعد ذلك جسيمات أولية لا يمكن وصفها بأنها أجزاء مادية مشحونة أو غير مشحونة؛ لأنها في الحقيقة غير ثابتة-إنها تنحَل، وفضلًا عن ذلك فحتى الجسيمات الثابتة مثل الإلكترونات يمكن أن تفنَى أزواجًا فتنتج الفوتونات (كمَّات الضوء)، ويمكن أن تُخْلَق من فوتون (شعاع جاما)، ولكن الضوء ليس مادة، وإن جاز لنا القول بأن الضوء والمادة هما شكلان من الطاقة.٤
هكذا تمَّ التخلي عن قانون بقاء المادة (أو الكتلة)، فالمادة ليست جوهرًا Substance؛ لأنَّها غير ثابتة، فمن الممكن أن تُدمَّر، ومن الممكن أن تُخْلَق، وحتى أكثر الجسيمات ثباتًا، أي النويَّات، يمكن أن تُدمَّر باصطدامها بجسيمات مضادة، إذ تتحول طاقتها إلى ضوء، لقد تَكَشَّف أن المادة هي «طاقة معبَّأة» قابلة للتحول إلى صور أخرى من الطاقة، وهي مِنْ ثَمَّ شيءٌ له طبيعة «العملية» Process، ما دام بالإمكان أن تتحول إلى عمليات أخرى مثل الضوء، ومثل الحركة والحرارة بطبيعة الحال.
بوسعنا أن نقول إذن إن نتائج الفيزياء الحديثة تهيب بنا أن نتخلى عن فكرة الجوهر أو الماهية، فليس هناك شيء من قبيل الكيان الثابت الدائم عبر الزمن من وراء جميع التغيرات (وإن كانت أجزاء المادة تفعل ذلك في الظروف العادية)، وليس هناك جوهر باقٍ يحمل خصائص الشيء أو صفاته، فالعالم الآن لا يبدو أنه تَجمُّعٌ من الأشياء، بل مجموعة من «الأحداث» Events و«العمليات» Processes (كما أكد ألفرد نورث هويتهد A. N. Whitehead بصفة خاصة).
بذلك يسع الفيزيائي الحديث أن يقول بأنَّ الأشياء المادية — الأجسام، المادة — لها بنية ذرية، ولكن الذرات لها بنية بدورها، وهي بنية يصعب أن نصفها بأنها «مادية»، ومن المتيقن أنها ليست «جوهرية» Substantial، هكذا يمكن القول، من خلال برنامج تفسير بنية المادة، بأن الفيزياء تحتَّمَ عليها أن تتجاوز المادية، لقد صارت (إلى جانب الجسيمات التي لم تعد مادة بالمعنى القديم) تتعامل أيضًا مع «حقول القوى» Fields of Forces، ومع شتى صور الطاقة الإشعاعية، وصار بعض الماديين الجدد يسمُّون أنفسهم «أصحاب النزعة الفيزيائية» Physicalists، والبعض الآخر احتفظوا بالتسمية القديمة واكتفوا بأن يُضْفوا عليها المعنى الجديد، غير أنهم جميعًا ظلوا على قناعتهم بأن الإنسان (والحيوان عامة) آلة، وكل ما فعلوه أن استبدلوا بالآلة الميكانيكية القديمة آلةً جديدةً قوامها العمليات الكهروكيميائية.٥

(٢) معنى الواقعية

لقد حاول بوبر أن يُبيِّن أن تطور المادية هو في الحقيقة تحرُّكٌ في اتجاه المثالية، غير أن هذه مثالية من صنف جديد، فلا تزال علاقة «الأفكار» بالعالم المادي بحاجة إلى تفسير، وهو من أجل ذلك يكرس نفسه لحل مشكلة «الواقعية» Realism، ولتعريف لفظة «واقعي» Real، يقول بوبر إنه لا يميل بصفة عامة إلى تناول المشكلات اللفظية والأسئلة التعريفية؛ لأنها قمينة أن تؤدي إلى مماحكاتٍ لفظية تطغى دائمًا على المشكلات الحقيقية (وهو ارتكاز بوبري هام يعبر عن رفضه لمذهب الماهية Essentialism في الفلسفة وفي العلوم الطبيعية والاجتماعية كما رأينا وسنرى في غير موضع)، غير أنه استثنى من ذلك تعريفًا واحدًا هو تعريف «الواقعي»، فما هو «الواقعي»؟ ومتى نقول عن شيء أنه شيء «واقعي» (حقيقي)؟
يعرِّف بوبر الشيء «الواقعي» (الحقيقي) بأنه ذلك الشيء الذي يمكنه أن يمارس تأثيرًا عِلِّيًّا (سببيًّا) على أشياء نسلِّمُ بواقعيتها للوهلة الأولى Prima Facie (أي أنها واقعية ما لم يُنقَض ذلك بدليل، أو أن إنكارها هو الذي يحمل عبء البيِّنة)، وهي تلك الأشياء المادية العادية الحجم (كالأشياء التي يمكن للطفل الرضيع أن يتناولها ويضعها في فمه)، وقد ظل الناس يتلكئون في قبول واقعية الذرات حتى جاءت نظرية أينشتين عن «الحركة البراونية» لتُقدِّم تفسيرًا لتلك الحركة المنظورة في ضوء التفسير العِلِّي للجزيئات الصغيرة المتحركة للسائل، وبذلك قدم تبريرًا وجيهًا لواقعية الجزيئات وبالتالي واقعية الذرات، وقد غدا وجودُ الذرات معرفةً عامةً عندما تسبَّبَ تفجيرُها الاصطناعي إلى تدمير مدينتين آهلتين (هيروشيما وناجازاكي).٦
غير أنَّ الأشياء أو الكيانات الواقعية قد تكون عينية أو مجردة، على تفاوت الدرجة، من هذه الكيانات المجردة في الفيزياء «القوى» و«حقول القوى» Forces  (مجالات القوى) Fields of Forces. إن لها طبيعة «نزوعية»: إنها نزوعٌ أو ميلٌ إلى التأثير والتفاعل، إنها كيانات نظرية عالية التجريد، غير أنها تتفاعل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع الأشياء المادية العادية التي نسلم جميعًا بواقعيتها، القوى والمجالات إذن «واقعية» Real، ومشكلة الماديين في رأي بوبر أنهم يحلون المشكلات ببساطة بأن يسموا كلَّ شيءٍ يتفاعل مع عالمهم «مادة» أو شكلًا من المادة، وبالتالي يرون أن ما ليس مادةً ولا شكلًا من أشكال المادة لا يمكن أن يتفاعل مع العالم الواقعي، هذه اللفتة شديدة الأهمية في فهم بوبر ونقده لمذهب التوازي وللمذهب المادي.٧

(٢-١) تهافت مذهب التوازي Parallelism

«التوازي» Parallelism صيغة شاذة من الصيغ الثنائية قال بها عدد غير قليل من مفكري العصر الحديث، بدءًا بجيولنكس وليبنتز وانتهاءً بفونت وماخ، ومُفادُ هذا المذهب أنَّ الوظائف الذِّهنيَّة والوظائف الفسيولوجية تمثل مجموعتين من الظواهر: ظواهر لا مادية وأخرى مادية (جسمية)، كل مجموعة منهما مغلقة على حالها وتجري «موازية» للمجموعة الأخرى بحيث إن هناك تناظرًا بين كل عنصر من عناصر إحدى المجموعتين ومقابِلِه في المجموعة الأخرى، فلكل حدث ذهني مُتلازِمٌ Correlate فسيولوجي يخصها وحدها، دون أن يكون بين المتلازمين، الذهني والفسيولوجي؛ أي تفاعل متبادل أو أي تأثير سببي، إن أحدهما لا يؤثر في الآخر ولا يتأثر به بأيِّ شكلٍ من الأشكال.
ها هنا تصطدم نظرية التوازي مع برهان «الواقعية» الذي قدمه بوبر والذي أسلفناه لتوِّنا، فإذا صح أن نشاط العالم المادي لا يُسفر عن نفسه في العالم الواقعي، لما كان بإمكاننا أن نعتبر العالم اللامادي واقعيًّا، ومن ثَمَّ يتعين علينا أن نأخذ بمذهب التأثير المتبادل لكي يتسنى لنا أن نعلل تأثير الأفكار، لقد أرادت نظرية التوازي أن تحتفظ بفكرة الثنائية دون أن تخترق قانون بقاء الطاقة، فأنكرت أي علاقة حقيقية بين الوظائف العقلية والوظائف الفسيولوجية، وهكذا، وخلال فهم ضيق للعلية، انتهت نظرية التوازي إلى القضية المتناقضة القائلة بأن العقل لا يمكن أن يوجد بدون جسم، وأنه مستقل عنه في الوقت نفسه وأنه موجود رغم كل ذلك.٨

أمَّا بوبر فيذهب إلى أن هناك عالمًا لا ماديًّا واقعيًّا يؤثر على العالم المادي، وهو يفسر بزوغ العقل اللامادي الواقعي تفسيرًا نشوئيًّا.

(٣) التطور العضوي: «العادات تتغير أوَّلًا»

يُنظَر عادة إلى الانتخاب الطبيعي Natural Selection على أنه تفاعل بين المصادفة العمياء (الطفرة Mutation) وبين قوى من الخارج ليس للكائن الحي بها يد، فأهداف الكائن العضوي ورغباته لا تقدم شيئًا ولا تؤخر، أمَّا نظريات لامارك وبطلر وبرجسون، والتي ترتكز على اختيارات الكائن وغاياته، فهي تناقض هذه الداروينية القديمة، وتقول بإمكان وراثة الصفات المكتسبة، وقد قام بولدوين ومورجان بتصويب هذه الأفكار في نظرتهما عن التطور العضوي، فذهبا إلى أن كل حيوان، وبخاصة في المستويات الأعلى من التطور، لديه مخزون متنوع من السلوك، وهو بتبني شكل جديد من السلوك يمكنه أن يغير البيئة، ومن خلال اختبارٍ حقيقيٍّ — لغذاء جديد مثلًا — يمكن أن يغير البيئة ويعرِّض نفسَه وسلالتَه من بعده لضغوطٍ انتخابية جديدة، وبذلك يكون من شأن رغبات الحيوان وأغراضه وتفضيلاته وخياراته أن تؤثر على نتيجة الانتخاب الطبيعي، بل إن بوسعنا أن نقول إن هذه الخيارات كثيرًا ما تكون حاسمة في مآل التطور، فمن الأرجح كثيرًا أن عادات الغذاء الجديدة هي التي تؤدي — بالانتخاب الطَّبيعي (وبطريق الطفرات العفوية) — إلى تكيفٍ تشريحي جديد، لا أن التغير التشريحي العفوي هو الذي يفرض عادات غذائية جديدة، والمثال النموذجي على ذلك هو الزراف الذي طالت رقابه بسبب المحاولات المستمرة للوصول إلى غذاء مرتفع، فبحسب الداروينية الحديثة، فإن تفضيل الزراف لهذا الغذاء جاء أوَّلًا فخلق ضغطًا انتخابيًّا يؤهل للبقاء تلك الأفراد الأطول عنقًا، وإلا فما جدوى الرقاب الطويلة لو أن أسلاف الزراف كانت قد اختارت لها بيئة قريبة المأخذ دانية الزرع؟
يوافق بوبر على أن كلا الطريقين في التطور جائز، ولكنه يؤكد على أنه في حالات كثيرة، وفي بعض الحالات الأشد خطرًا وأهميةً، كانت العادة هي التي تتغير أوَّلًا، هذه الحالات هي ما يُطلَق عليها اسم «التطور العضوي» Organic Evolution، والأهم من ذلك أن بوبر يختلف مع دارون في قوله بأن هذه المسألة (أي أولوية العادة أو البنية التشريحية) «غير ذات بال بالنسبة لنا»، ذلك أن لها عند بوبر أهمية هائلة، فالتغيرات التطورية التي تبدأ بأنماط سلوكية جديدة — بخيارات جديدة، بأغراض جديدة للحيوان — لا تجعل التكيفات أقرب فهمًا فحسب، بل هي تعود، فتسبغ على أهداف الحيوان وأغراضه الذاتية دلالة تطورية،٩ كما أن نظرية التطور العضوي تفسر لنا كيف تصبح آلية الانتخاب الطبيعي أكثر كفاءة عندما يكون لدى الحيوان مخزون سلوكي أكبر، ومِنْ ثَمَّ فهي تُبرِز القيمة الانتخابية لوجود حرية سلوكية فطرية معينة، بعكس التصلب السلوكي الذي يجعل من الصعب على الانتخاب الطبيعي أن يُفضي إلى تكيفات جديدة، ولعل هذه النظرية أن تُقرِّب إلى الفهم كيف بزغ العقل البشري، فكما نوَّه سير أليستر هاردي في كتابه «التيار الحي» فإن «هذه الصياغة الجديدة لنظرية دارون يمكن أن توضح علاقتها بروح الإنسان»، إن بمقدورنا أن نقول إن الإنسان حين اختار أن يتكلم وشغف بالحديث، فإنَّه اختار أن يطور دماغه وعقله، وأن اللغة ما إن ابتُكِرَت حتى مارست ضغطًا انتخابيًّا انبثق من تحته الدماغ البشري والوعي بالذات، فظهور اللغة هو الذي خلق الضغط الانتخابي الذي أدى إلى ظهور اللحاء المخي ومعه وعي الإنسان بذاته.١٠

(٤) لا جديد تحت الشمس: الردِّية والعِلِّيَّة الهابطة

يرى بوبر أنَّ النَّفس (الذات) تعتمد اعتمادًا كبيرًا على العمليات الكهروكيميائية للدماغ، إلا أنَّها غير متماهية مع هذه العمليات، وبوسعها رغم ذلك أن تؤثر في الوقت المناسب في تلك العمليات الدماغية بواسطة العِلية الهابطة (المتجهة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى).

من أقدم العقائد الفلسفية تلك العقيدة التي توجزها عبارة الكنسيين «لا جديد تحت الشمس»، هذا المعنى قائم أيضًا في المذهب المادي بجميع صوره، وبكل مذهب حتمي يؤمن بأزلية قوانين الطبيعة وثباتها، ويؤمن أنَّ النهاية كانت دائمًا قابعةً في البداية، وأن الأحداث منذ الأزل وإلى الأبد لا تعدو أن تكون ظهورَ ما كان كامنًا هناك وسفوره وانبلاجَه، وتحقُّقَ ما كان موجودًا «بالقوة» في باطن الطبيعة وقوانين الطبيعة.

كان الأساس المنطقي لهذه الآراء هو أنَّه «لا جديد تحت الشمس»، أو أنَّه «لا شيء يمكن أن يوجد من لا شيء»، كان الفيلسوف العظيم بارمنيدس يقول بهذا منذ ألفين وخمسمائة من الأعوام، واستنبط منه أن التغير أمرٌ محال، ومِنْ ثَمَّ فالتغير لا بد أن يكون وهمًا، وتبعه مؤسسو المذهب الذري، مثل ليوسيبوس وديمقريطس، بمعنى ما، حين قالوا بأنه لا يوجد ثمة غير ذرات لا تتغير، وأن هذه الذرات تتحرك في الخلاء، في فضاء خالٍ، ومِنْ ثَمَّ فإن التغيرات الوحيدة الممكنة هي حركات الذرات واصطدامها وإعادة اتحادها، بما في ذلك الذرات البالغة الدقة التي تكوِّن الأرواح البشرية.

بل إنَّ بعضًا من أهم الفلاسفة المعاصرين (مثل كواين) يقولون بأنه لا يمكن أن يكون هناك غير كائنات مادية، وأنه لا توجد أحداث ذهنية أو خبرات ذهنية. (هناك من يتخذ موقفًا وسطًا ويُقر بوجود خبرات ذهنية، غير أنه يقول: إنَّها أحداث جسمية بمعنًى ما أو «في هوية» مع أحداث جسمية.)

غير أنَّنا نعرف اليوم أنَّ التَّطور — تطور العالم، وبخاصة تطور الحياة على الأرض — قد أتى بأشياء جديدة إلى الوجود، أتى بجِدَّةٍ Novelty حقيقية،١١ ونشهد اليوم فصيلًا من الآراء تجمع على أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به ولم يكن يومًا قابلًا للتنبؤ (على الأقل بالنسبة للمعرفة البشرية المحدودة)، وهذا هو معنى «الانبثاق» Emergence و«التطور الانبثاقي» Emergent Evolution، يرى بوبر أنَّ التطور «خالق» Creative، وأن تطور الحيوانات ذات الخبرة الواعية قد أتى بجديد إلى العالم، وقد كانت هذه الخبرات في البدء بدائية بسيطة، ثُمَّ تطورت إلى أنماطٍ أعلى، إلى أن بلغت نمط الوعي الذاتي عند الإنسان، فمع ظهور الإنسان تجلَّى معنى التطور الخالق؛ لأنَّ الإنسان أبدع عالمًا موضوعيًّا جديدًا، ذلك هو عالم منتجات العقل البشري … عالم الأساطير وحكايا الأشباح والنظريات العلمية والشعر والفن والموسيقى … إلخ، والذي يُطلق عليه بوبر «العالم ٣»، ويُميز بينه وبين «العالم ١» (العالم المادي) و«العالم ٢» (عالم الخبرات الذاتية).١٢
في بداية التكوين، وفي عالم لم يكن فيه أيِّ عناصر أكثر من الهيدروجين مثلًا والهيليوم، لم يكن بمقدور أي عالمٍ مُلِمٍّ بقوانين الطبيعة السارية آنئذٍ أن يتنبأ بجميع خصائص العناصر الأثقل التي لم تظهر بعد، ولا أن يتنبأ بظهورها، ولا كان بمقدوره أن يتنبأ حتى بخصائص أبسط الجزيئات المركبة كالماء، ويبدو أن العالم قد مرَّ بالمراحل التطورية التالية على أقل تقدير، والتي أنتج بعضُها أشياء ذات خصائص جديدة أو «انبثاقية» Emergent أو غير متوقعة على الإطلاق: (١) ظهور العناصر الثقيلة (شاملةً النظائر المشعة) وظهور السوائل والبلورات. (٢) ظهور الحياة. (٣) ظهور الوظيفة الحسية. (٤) ظهور الوعي بالذات والوعي بالموت (متصاحبًا مع اللغة البشرية)، أو حتى ظهور اللحاء المخي البشري. (٥) ظهور اللغة البشرية ونظريات النفس والموت. (٦) ظهور منتجات العقل الإنساني كالأساطير الشارحة أو النظريات العلمية أو الأعمال الفنية.١٣
مخطط لبعض مراحل التطور الكوني.
العالم ٣ (٦) الأعمال الفنية والعلمية (شاملة التكنولوجيا).
منتجات العقل الإنساني (٥) اللغة البشرية. نظريات النفس والموت.
العالم ٢ (٤) الوعي بالذات وبالموت.
عالم الخبرات الذاتية (٣) الإحساس (الوعي الحيواني).
العالم ١ (٢) الكائنات العضوية الحية.
عالم الأشياء الفيزيائية (١) العناصر الأثقل، السوائل والبلورات (صفر) الهيدروجين والهيليوم.

هذا بالطبع مخطط مفرط التبسيط، غير أنه يتميز بإبراز بعض الأحداث الكبرى في التطور الخالق أو التطور الانبثاقي.

ثمة حدس سبقي قوي يقف ضد قبول نظرية التطور الانبثاقي، فما دام العالم يتكوَّن من ذرات أو جسيمات أولية، إذن جميع الأشياء هي مركبات من مثل هذه الجسيمات، ومِنْ ثَمَّ فإن كل حدث في العالم ينبغي أن يكون قابلًا للتفسير، وقابلًا للتنبؤ من حيث المبدأ، في ضوء التركيب الجسيمي والتفاعل الجسيمي، وهكذا نكون قد وصلنا إلى ما يُسَمَّى «البرنامج الرَّدِّي» (الاختزالي) Programme of Reductionism، ولكي نشرح هذا البرنامج سنستعين بالمخطط التالي الذي يشمل كل مستويات الوجود، وسنضرب صفحًا عن بعض الاضطراب وبعض المصاعب التي ينطوي عليها المخطط، والتي إن دلت على شيءٍ فإنما تدل على أنَّ النَّسق الحيوي للوجود لا ينسلك في تراتب هرمي دقيق.١٤

الأنساق (الأنظمة) البيولوجية وأجزاؤها المكوَّنة

(١٢) مستوى الأنساق الإيكولوجية (البيئية).
(١١) مستوى مجتمعات الميتازوا والنباتات.
(١٠) مستوى الميتازوا (الحيوانات المتعددة الخلايا) والنباتات المتعددة الخلايا.
(٩) مستوى الأنسجة والأعضاء (وربما الإسفنج).
(٨) مستوى مجتمعات المتعضيات الوحيدة الخلية.
(٧) مستوى الخلايا والمتعضيات الوحيدة الخلية.
(٦) مستوى العضيوات (أعضاء الخلية) وربما الفيروسات.
(٥) مستوى السوائل والأجسام الصلبة (البلورات).
(٤) مستوى الجزيئات.
(٣) مستوى الذرات.
(٢) مستوى الجسيمات الأولية.
(١) مستوى الجسيمات تحت الأولية.
(صفر) مجهول (جسيمات تحت تحت أولية؟).

تفيد الفكرة الردِّية (الاختزالية) وراء هذا المخطط أنَّ الأحداث أو الأشياء في كل مستوى يجب أن تفسَّر في ضوء المستويات الأدنى، أو بتحديد أكثر، إن ما يحدث للكل يمكن تفسيره عن طريق تفسير بنية أجزائه والتفاعل بين هذه الأجزاء.

هذه الفكرة الردِّيَّة هي فكرة شائقة وهامة أيضًا، فحيثما أمكننا أن نفسر كياناتٍ أو أحداثًا واقعةً على مستوى أعلى بتلك الواقعة على مستوى أدنى أمكننا أن نقول: إنَّنا أحرزنا تقدُّمًا علميًّا كبيرًا، وأضفنا الكثير إلى معرفتنا بالمستوى الأعلى، الردية إذن برنامجٌ بحثيٌّ هام بل جزء من البرنامج العلمي الذي يهدف إلى التفسير والفهم.١٥
ولكن هل صحيح أن لدينا ما يبرر الأمل في إدراك هذه الغاية، أي تحقيق رد إلى المستويات الأدنى؟ أخشى أن الجواب هو النفي، فما أظن أنَّ هناك أمثلة لأي رد ناجح أو كامل، وما أظن أنَّ القائلين بالردية قد التفتوا إلى المصاعب القائمة في الجزء الأعلى من مخططنا التطوري، مثل رد تقلبات العجز التجاري البريطاني وعلاقاته بالدخل القومي إلى علم النفس ثُمَّ إلى البيولوجيا (أي رد الاقتصاد إلى السيكولوجيا وهذه إلى البيولوجيا)، وكذلك رد علم الاجتماع إلى علم النفس كما يدَّعي جون ستيوارت مل (والذي بيَّنتُ نقاط ضعفه في موضع آخر)، وحتى رد الكيمياء إلى الفيزياء يبقى ردًّا غير كامل، يومئ المخطط الخاص بمستويات الوجود بأن مبدأ العلية يَسْرِي من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى ولا يسري بالعكس على الإطلاق، ويُسَمَّى هذا المبدأ بالعِلِّيَّة الصاعدة Upward Causality، تُفيد العلية الصاعدة أنَّ ما يجري على مستوى أعلى يمكن تفسيره في ضوء المستوى الأدنى منه مباشرةً، وهكذا نُزُلًا إلى أن يتم التفسير في ضوء الجسيمات الأولية والقوانين الفيزيائية ذات الصلة، وقد يبدو للوهلة الأولى أنَّ المستويات الأعلى لا يُمكن أن تؤثر على المستويات الأدنى.
غير أنَّ فكرة التَّفاعل بين جسيم وجسيم أو بين ذرة وذرة قد تخلت عنها الفيزياء نفسها، فالبلورة مثلًا هي بناء هائل الامتداد المكاني مركب من بلايين الجزيئات، غير أنه يتفاعل ككلٍّ ممتدٍّ مع فوتونات أو جسيمات شعاعٍ من الفوتونات والجسيمات، إننا هنا بإزاء مثال هام «للعلية الهابطة» Downward Causality، فها هنا يؤثر الكل بوصفه كلًّا على فوتون أو على جسيم أولي أو على ذرة.

بل إنَّ العلية الهابطة لماثلة لنا في أي آلة ذاتية التحكم من خلال التغذية الراجعة، مثل الآلة البخارية، فها هو بناءٌ ماكروسكوبيٌّ ينظم أحداث المستويات الأدنى مثل تدفق الجزيئات التي تكوِّن البخار.

والنجوم أيضًا رغم أنها تبدو كتلًا غير مشكَّلة، هي أمثلة للعلية الهابطة، فوضع الذرات والجسيمات الأولية في مركزها تحت ضغط جاذبي مهول، وما ينتج عنه من اندماج بعض أنوية الذرات وتكوين أنوية عناصر أثقل، لهو مثال ممتاز على «العلية الهابطة» وعلى تأثير البنية الكلية على أجزائها المكوِّنة.

أمَّا الأمثلة الأكثر إثارة عن العلية الهابطة فإنما توجد في الكائنات العضوية وأنساقها الإيكولوجية، وفي المجتمعات المكوَّنة من هذه الكائنات.١٦ فالمجتمع مثلًا يظل يؤدي وظائفه حتى بعد موت الكثير من أعضائه، بينما يسبب إضرابٌ في صناعة حيوية كتوليد الكهرباء إلى معاناة الكثير من الأفراد، والحيوان قد يبقى بعد موت الكثير من خلاياه أو زوال عضو من أعضائه كالساق مثلًا، بينما يفضي موت الحيوان عاجلًا أو آجلًا إلى موت أجزائه المكوِّنة بما فيها الخلايا.١٧

هذه الأمثلة وغيرها كثير تثبت بوضوح وجود العلية الهابطة، وتجعل نجاح أي برنامج ردي أمرًا صعبًا إن لم يكن مستحيلًا.

(٥) اللاحتمية: التفاعل بين مستويات الانبثاق

يبدو أنَّ النَّظرة «الطبيعية» للعالم هي نظرة لا حتمية: فالعالم هو المنتج القصدي الصُّنع، للآلهة أو للرب، وعند هوميروس لآلهة شديدة التعسف، وخالق الكون عند أفلاطون (Demiurge) هو صانع، وربما تَبَقَّى هذا بَعْدُ في محرك أرسطو الذي لا يتحرك، فما تزال نظرة أرسطو لا حتمية بهذا المعنى، ولهذا الأمر أهمية خاصة، إذ كان لأرسطو نظرية مفصَّلة في العلل، إلا أن أهم العلل الأرسطية هي العلة الغائية Final Cause، لقد كان الغرض هو ما حرك العالم، هو ما جعله يهفو إلى هدفه، إلى غايته، إلى «كماله»، هو ما جعله أفضل، يُبيِّن هذا أن الفكرة الأرسطية الخاصة بالعلة الغائية لا يمكن أن نصفها كعلةٍ محتَّمةٍ بالمعنى المتداول لدينا، فمبدأ الحركة إنما هو «روح» Soul، إمَّا روح حيوانية أو إنسانية أو سبب إلهي، وما من حركة قانونية وعقلانية على نحوٍ تام إلا حركة السموات، تخضع أحداث عالم ما تحت فلك القمر للتغيرات القانونية للعقل، وإن تكن غير محددة بها تمام التحديد، ولكنها تخضع أيضًا لعلل غائية أخرى، وليس ثمة ما يشير إلى أن هذه يمكن أن تجمعها قوانين ثابتة، ولا سيَّما قوانين ميكانيكية، العلة عند أرسطو ليست ميكانيكية، والمستقبل ليس محدَّدًا تمامًا بقوانين.
كان مؤسسا المذهب الحتمي؛ ليوسيبوس وديمقريطس، أيضًا مؤسسي المذهب الذري والمذهب المادي الميكانيكي، قال ليوسيبوس (DK B2):١٨ «لا شيء يحدث عشوائيًّا أو بدون عِلَّة، وإنَّما كلُّ شيء يحدث وفقًا للعقل، وبالضرورة»، وبالنسبة لديمقريطس ليس الزمن دوريًّا، بل هو لا نهائي، وإلى الأبد تأتي عوالم إلى الوجود وترحل: «ليس لعلل الأشياء بداية، بل من زمن لا نهائي في الماضي، ومقدَّرة بالضرورة، تكون الأشياء التي وُجِدَت والأشياء الموجودة الآن والأشياء التي سوف توجد» (DK A39). ويروي ديوجينيس لائرتيوس عن تعاليم ديمقريطس (IX, 45): «جميع الأشياء تحدث وفقًا للضرورة، فالدوامة هي علة تكوين جميع الأشياء، وهذه يسميها الضرورة»، ويتهم أرسطو (De Generation Animalium, 789b2) ديمقريطس بأنه لم يعرف علة غائية: «أغفل ديمقريطس العلة الغائية، ولذا فإنه يرد كل عمليات الطبيعة إلى الضرورة.» ويعترض أرسطو (Physics 196a42) مرة أخرى بأنه وفقًا لديمقريطس؛ (لأنه يبدو أن ديمقريطس هو المعنيُّ) فإنَّ سماءنا وجميع العوالم تحكمها المصادفة (وليس الضرورة فحسب)، غير أن لفظة «مصادفة» هنا لا تعني العشوائية فيما يبدو، بل عدم وجود غرض، عدم وجود علة غائية.
ذهب ديمقريطس إلى أنَّ جميع الأشياء قد نشأت بواسطة دوامة من الذرات: أي الذرات مصطدمًا بعضها ببعض، يدفع بعضها بعضًا قُدُمًا، ويجذب بعضها بعضًا أيضًا لأن بعضها له كلَّابات يمكن للذرات من خلالها أن تتشابك وتكوِّن خيوطًا (Cp. DK A66; and Aëtius I 26, 2.)، كانت الرؤية الذرية للعالم ميكانيكية بحتة، ولكن هذا لم يمنع ديمقريطس من أن يكون من عظام المذهب الإنساني.

ظلت النظرة السائدة للعلم حتى وقتنا هذا نظرة حتمية ذات طبيعة ميكانيكية تقريبًا، من الأسماء الكبيرة التي أخذت بهذا الرأي في أزمنتنا الحديثة هوبز، وبرسلي، ولابلاس، وحتى أينشتين (كان نيوتن استثناءً)، ولم تصبح الفيزياء لا حتمية إلا مع ميكانيكا الكوانتم، ومع تفسير أينشتين الاحتمالي لسعة الموجات الضوئية، ومن تفسير هيزنبرج لصيغه اللاحتمية، وبخاصة مع تفسير ماكس بورن الاحتمالي لسعة موجات شرودنجر.

ولكي أناقش فكرتي اللاحتمية والحتمية فقد أدخلت في عام ١٩٦٥م استعارة «السحُب» و«الساعات»، فالسحابة بالنسبة للإنسان العادي غير قابلة للتنبؤ إلى حد كبير، ولا حتمية حقًّا، وإن الطقس لَمضرِب الأمثال في كثرة التقلب، وعلى النقيض من ذلك تُعَد الساعة قابلة للتنبؤ إلى حدٍّ كبير، والحق أن الساعة المُتقنة الصنع هي نموذج لنظامٍ ماديٍّ ميكانيكي وحتمي.

يمكننا إذ نأخذ السحب والساعات كنموذجين نبدأ بهما للأنظمة اللاحتمية والحتمية، أن نصوغ وجهة نظر مفكر حتمي، مثل ديمقريطس، كما يلي:

جميع الأنظمة الفيزيائية هي في الحقيقة ساعات.

إذن العالم بأسره هو آلية ساعة مكوَّنة من ذرات يدفع بعضها بعضًا مثل أسنان الترس، حتى السحب هي أجزاء من الساعة الكونية، رغم أنها بسبب تعقد الحركات الجزيئية فيها وتعذر التنبؤ بها عمليًّا قد تخلق فينا التوهم بأنها ليست ساعات بل سحبًا غير محدَّدة.

ولدى ميكانيكا الكوانتم، وبخاصة في صيغة شرودنجر، أشياء مهمة يمكن أن تقولها في هذه المسألة، إنها حقًّا تقول إن الإلكترونات تكوِّن سحابةً حول نواة الذرة، وإن مواضع وسرعات الإلكترونات المختلفة داخل السحابة هي غير محددة ومِنْ ثَمَّ غير قابلة للتحديد، وفي زمن أحدث شُخِّصَت الجسيمات تحت الذرية كبناءات معقدة، وقد ناقش ديفيد بوم (١٩٥٧م) احتمال وجود ما لا نهاية له من مثل هذه الطبقات التراتبية (المستوى صفر في المخطط ٢ في قسم ٧ قد يكون مؤسَّسًا على مستويات سالبة)، إذا صح هذا فسوف يجعل فكرة كون حتمي تمامًا وقائمٍ على ساعات ذرية فكرةً مستحيلةً.

وأيًّا ما كان هذا الأمر فإن تفسير النواة الذرية كمنظومة من الجسيمات في حركة سريعة، والإلكترونات المحيطة بها كسحابة إلكترونية هو تفسير كفيل بأن يقضي على حدس النظرية الذرية القديمة بوجود حتمية ميكانيكية، إن للتفاعل بين الذرات أو بين الجزيئات جانبًا عشوائيًّا، جانبًا اتفاقيًّا، «مصادفةً» ليس فقط بالمعنى الأرسطي الذي يضعها كنقيض ﻟ «الغرض»، بل مصادفة بالمعنى الذي يجعلها خاضعةً للنظرية الاحتمالية الموضوعية للأحداث العشوائية، لا لأي شيء من قبيل القوانين الميكانيكية المحددة.

هكذا فإن الدعوى القائلة بأن جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها السحب، هي في الحقيقة ساعات، قد تبين أنها دعوى خاطئة، وبحسب ميكانيكا الكوانتم فإن علينا أن نستبدل بها الدعوى المقابلة كما يلي:

جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها الساعات، هي في الحقيقة سحب.

يتبين أن المذهب الميكانيكي القديم هو وهم، خلقته واقعة أن الأنظمة الثقيلة ثقلًا كافيًا (الأنظمة المكونة من بضعة ألوف من الذرات، مثل الجزيئات العضوية الكبيرة، والأنظمة الأثقل) تتفاعل «تقريبًا» وفقًا لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية الخاصة بالساعة، شريطةَ ألا تتفاعل مع بعضها كيميائيًّا، فأنظمة البلورات — وهي الأجسام الفيزياء الصلبة التي نتناولها في أدواتنا المألوفة مثل ساعات يدنا ومنبهاتنا، والتي تكوِّن الأثاث الرئيسي لبيئتنا — تسلك بالفعل مثل الأنظمة الميكانيكية تقريبًا (ولكن تقريبًا فقط)، الحق أن هذه الواقعة هي مصدر أوهامنا الحتمية والميكانيكية.

إن كل ترس من تروس ساعات يدنا هو بناء من البلورات، شبيكة من الجزيئات معلقة معًا، مثل الذرات في الجزيئات، بواسطة قوى كهربية، هذا غريب، ولكنه أمر واقع أن الكهرباء هي ما يتبطن قوانين الميكانيكا، وفضلًا عن ذلك فإن كل ذرة تتذبذب وكل جزيء يتذبذب، ذبذبات تعتمد سعة اهتزازها على درجة الحرارة (والعكس صحيح)، وإذا سخن الترس فسوف يتوقف عمل الساعة لأن أسنانه تتمدد (وإذا أمعن في السخونة فسوف ينصهر).

والتفاعل المتبادل بين الحرارة وساعة اليد هو أمر شائق للغاية، فمن ناحية يمكننا أن ننظر إلى درجة حرارة الساعة كشيء يحدده معدل سرعة ذراته وجزيئاته المتذبذبة، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نسخِّن الساعة أو نبردها بأن نضعها في وسط ساخن أو بارد، وبحسب النظرية الحالية تُعزَى الحرارة إلى حركة الذرات الفردة، وهي في الوقت نفسه شيء يقع على مستوى مختلف عن مستوى الذرات الفردة المتحركة — مستوى كلي أو انبثاقي — ما دام يحدده «معدل» سرعة ذراته «جميعًا».

تسلك الحرارة سلوكًا شبيهًا جِدًّا بسلوك سائل Caloric، وبوسعنا أن «نفسر» قوانين هذا السلوك باحتكامنا إلى الطريقة التي ينتقل بها أي ازدياد أو نقصان في سرعة ذرة (أو مجموعة ذرات) إلى الذرات المجاورة، يمكن وصف هذا التفسير على أنه «رد» Reduction: إنه يرد الخواص الكلية للحرارة إلى خواص حركة الذرات أو الجزيئات، غير أن الرد ليس كاملًا، لأن علينا استخدام أفكار جديدة؛ أفكار خاصة ﺑ «الاضطراب الجزيئي» وﺑ «أخذ المعدَّل»، وهذه في الحقيقة أفكار على مستوى كلي جديد.١٩

يمكن للمستويات أن تتفاعل فيما بينها (هذه فكرة مهمة لمذهب التفاعل بين العقل والدماغ)، فعلى سبيل المثال: لا تؤثر حركة كل ذرة فردة على حركات الذرات المجاورة فحسب، بل إن «معدل» سرعة «مجموعة» من الذرات ليؤثِّر على «معدل» سرعة «المجموعات» المجاورة من الذرات، وهي بذلك تؤثر (وهنا يقع تفاعل المستويات، بما فيه «العلية الهابطة») على سرعات كثير من الذرات الفردة في المجموعة، أية ذرات فردة؟ ذلك شيء لا يمكننا الإجابة عنه دون أن نتفحص تفاصيل المستوى الأدنى.

هكذا سوف يؤثر أي تغير في المستوى الأعلى (درجة الحرارة) على المستوى الأدنى (حركة الذرات الفردة)، والعكس أيضًا صحيح، على أنَّه بطبيعة الحال يمكن لذرة فردة، أو حتى لذرات فردة كثيرة، أن تزيد سرعاتها دون أن ترفع درجة الحرارة؛ لأنَّ بعض الذرات الفردة الأخرى المجاورة قد تخفض سرعاتها في الوقت نفسه، يحدث مثل هذا طوال الوقت في الدرجة الثابتة من الحرارة. ها هو ذا مثال يستوي لدينا على «العِلية الهابطة»؛ أي المستوى الأعلى إذ يؤثر على المستوى الأدنى (انظر أيضًا قسم ٧).

يبدو هذا مثالًا مهمًّا آخر للمبدأ العام القائل بأن المستوى الأعلى قد يمارس تأثيرًا مسيطرًا على المستوى الأدنى.

تعود السَّيطرة الأحادية الجانب، في هذه الحالة على الأقل، إلى الطبيعة العشوائية للحركة الحرارية للذرات، وبالتالي في ظني إلى الطبيعة السحابية للبلورة، فيبدو أنه إذا افترضنا جدلًا أن العالم ساعة حتمية كاملة فلن يكون ثمة إنتاج حراري ولا طبقات، وبالتالي لن يحدث مثل هذا التأثير المسيطر.

يُشير هذا إلى أن انبثاق المستويات أو الطبقات التراتبية، والتفاعل المتبادل بينها، يعتمد على لا حتمية أساسية للعالم الفيزيائي، فكل مستوى هو مفتوح للتأثيرات العِلية الآتية من المستويات الأدنى ومن المستويات الأعلى.

يتصل هذا بالطبع اتِّصالًا وثيقًا بمشكلة العقل-الجسم، بالتفاعل المتبادل بين العالم ١ الفيزيائي والعالم ٢ العقلي.٢٠

(٦) العوالم الثلاثة

سواء أمكن رد البيولوجيا إلى الفيزياء أم لا فمن الظاهر أن القوانين الفيزيائية والكيميائية جميعها تسري على الأشياء الحية من النباتات والحيوانات، وحتى الفيروسات. الأشياء الحية هي أجسام مادية. والأشياء الحية، شأنها شأن جميع الأجسام المادية، هي عمليات Processes. وهي شأنها شأن بعض الأجسام المادية (كالسحب مثلًا)، أنظمة مفتوحة Open Systems٢١ من الجزيئات: أي أنظمة تتبادل بعض أجزائها المكوِّنة مع بيئتها المحيطة. وهي تنتمي إلى عالم الكيانات الفيزيائية أو الحالات الفيزيائية.
تتفاعل كيانات العالم الفيزيائي (العمليات، القوى، مجالات القوى) مع بعضها البعض، ومِنْ ثَمَّ مع الأجسام المادية. ونحن بذلك نحدِس بأنها واقعية Real، وإن ظلت واقعيتها أمرًا حدسيًّا.
وإلى جانب الأشياء والحالات الفيزيائية هناك حالات ذهنية (عقلية) Mental States نحدِس بوجودها ونحدس بأنها واقعية ما دامت تتفاعل في أجسامنا.

يضرب بوبر مثالًا لحالة تُعد عقلية وجسمية معًا، هي ألم الأسنان. فتسوس الأسنان شيء مادي جسمي، والألم الناجم عنها (عبر سلسلة من العمليات الجسمية المحضة) هو شعور نفسي ذاتي ووعي عقلي ذهني. نحن هنا بإزاء عالَمَين اثنين: عالم فيزيائي، وآخر عقلي. غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فقد يدفعني الألم الذاتي الناجم عن الخلل الجسمي المادي إلى أن أقوم وأتجه إلى الهاتف وأتصل بعيادة الأسنان وأحجز موعدًا. إن «معرفتي» بوجود علمٍ معين هو طب الأسنان، ووجود عيادات الأسنان، ووجود هواتف ومواعيد وعلاجات … هذه المعرفة «العالم ٣» هي التي جعلتني أحرك جسمي وأقوم «العالم ١ — عالم المادة» لأنجز التصرف اللازم للتخلص من الألم «العالم ٢ — عالم الخبرة الذاتية».

هناك أصناف أخرى من الحالات العقلية التي تفسر الأفعال البشرية. قد يستمر متسلقُ جبالٍ في تسلقه مرغِمًا جسمَه على مواصلة الصعود وإن يكن جسمه منهكًا، نحن نتحدث عن طموحه، عن بلوغ القمة، عن عزيمته، بوصفها حالات عقلية قد تكون وراء مواصلته التسلق. وقد يضغط سائق سيارة بقدمه على الكابح لأنه يرى أضواء المرور تحولت إلى الأحمر، إن معرفته بقوانين الطريق هي ما يحمله على أن يفعل ذلك.

كل هذا واضح تمامًا، بل من نوافل القول. ومع ذلك فمن الفلاسفة مَن أنكر واقعية الحالات العقلية، ومنهم من يُسلِّم بواقعية الحالات العقلية ولكنه ينكر أنها تتفاعل مع عالم الحالات الفيزيائية، وهو عندي رأي بعيد عن القبول بُعدَ الرأي الرافض لواقعية الحالات العقلية.

يُطلَق على مسألة هل يوجد كلا النوعين من الحالات، الجسمية والعقلية، وهل يتفاعلان، أو هل يرتبطان معًا بطريقة أو بأخرى. يُطلَق على هذه المسألة «مشكلة الجسم-العقل» Body-Mind Problem، أو مشكلة العقل-الجسم، أو يُطلَق عليها المشكلة السيكوفيزيقية.
من الحلول التي يمكن تصورها لهذه المشكلة مذهب التفاعل Interactionism — أي النظرية القائلة بأن الحالات العقلية والحالات الجسمية تتفاعل معًا. يُفضي هذا بتحديد أكثر إلى وصفٍ لمشكلة الجسم-العقل على أنها مشكلة الدماغ-العقل، إذ يُحاجُّ بأن التفاعل يقع في الدماغ. وقد أدى هذا ببعض أصحاب مذهب التفاعل «وبخاصة إكلس» إلى صوغ مشكلة الجسم-العقل على أنها مشكلة وصف (بأقصى دقة ممكنة) ﻟ «الوصل» Liaison القائم بين الدماغ والعقل (The Brain-Mind Liaison).

يمكننا القول إن تبني مذهب التفاعل يمثل حلًّا لمشكلة الدماغ-العقل. ومثل هذا الحل ينبغي أن يدعمه تناول نقدي للآراء الأخرى ولمختلف الاعتراضات على مذهب التفاعل. يمكن أن نصف مذهب التفاعل على أنه نوع من برامج البحث، فهو يفتح الكثير من الأسئلة المفصَّلة، وسيتطلب الرد عليها الكثير من النظريات المفصَّلة.

يُقال أحيانًا أن حل مشكلة الدماغ-العقل يقتضي أن يجعل التفاعل بين أشياء متباينة، كالحالات والأحداث الجسمية … والحالات والأحداث العقلية، أمرًا مفهومًا.

وبينا أوافق على أن المهمة الرئيسية للعلم هي أن يُعزز فهمنا للأشياء، فإنني أعتقد أيضًا أن الوصول إلى الفهم الكامل، شأنه بالضبط شأن الوصول إلى المعرفة الكاملة، هو أمر يبقى إلى الأبد بعيدَ الاحتمال. وفضلًا عن ذلك، فإن الفهم قد يكون خادعًا. لقد وقرَ في عقلنا قرونًا ما بدا لنا فهمًا كاملًا لآليات عمل الساعة، حيث أسنان التروس يدفع بعضها بعضًا إلى الأمام، ثُمَّ تبيَّن أن هذا فهم شديد السطحية، وأن دفع جسم مادي لجسم آخر إنما يُفسَّر بواسطة التنافر فيما بين أغلفة الإلكترونات السالبة الشحنة الخاصة بذرات هذين الجسمين. على أن هذا التفسير وهذا الفهم هو أيضًا سطحي، كما تُبيِّن واقعتا الالتصاق والتماسك. هكذا يتبين أن الفهم النهائي ليس بالأمر اليسير حتى فيما يبدو أنه الجزء الأكثر بداءةً من العلم الفيزيائي. وحين ننتقل إلى التفاعل بين الضوء والمادة فنحن ندخل في منطقة من المعرفة تركت واحدًا من أعظم الرواد في هذا المجال، نيلز بور، في حيرة شديدة لدرجة أنه قال إنه في نظرية الكوانتم علينا أن نتخلى عن الأمل في فهم موضوعنا. ولكن رغم أنه يبدو أن علينا التخلي عن مثال الفهم الكامل، فإن وصفًا تفصيليًّا قد يُفضي بنا إلى فهمٍ جزئيٍّ ما.

هكذا فإن فهمًا من قبيل ما توهمنا يومًا أننا نحوزه في أمر الدفع الميكانيكي هو غير متوافر حتى في الفيزياء، وما يكون لنا أن نتوقعه في أمر تفاعل الدماغ-العقل، وإن كان مزيد من المعرفة المدققة عن عمل الدماغ قد يمنحنا ذلك الفهم الجزئي الذي يبدو أنه يمكن تحقيقه في العلم.

لقد تحدثت في هذا القسم عن الحالات الجسمية والحالات العقلية، غير أني أرى أن المشكلات التي نحن بصددها يمكن أن نجعلها أكثر وضوحًا بكثير إذا نحن أدخلنا قسمة ثلاثية. أوَّلًا: هناك العالم الفيزيائي — عالم الكيانات الفيزيائية — الذي أشرت إليه في بداية هذا القسم، هذا سوف أسميه «العالم ١».٢٢ ثانيًا: هناك عالم الحالات العقلية، شاملةً حالات الوعي والميول النفسية وحالات اللاوعي. هذا سوف أسميها «العالم ٢». ولكن هناك بَعدُ عالمًا ثالثًا: عالم محتويات الفكر ومنتجات العقل البشري في الحقيقة، هذا سوف أسميه «العالم ٣».٢٣

•••

هذا ببساطة هي العوالم الثلاثة التي يقول بها بوبر ويُقسِّم إليها الوجود:
  • (١)

    العالم ١: العالم الفيزيائي. الأجسام والحالات والأحداث الفيزيائي، القوى ومجالات القوى … إلخ.

  • (٢)

    العالم ٢: العالم السيكولوجي الذاتي، عالم الخبرة الذاتية الواعية وغير الواعية، العقل، الذهن.

  • (٣)
    العالم ٣: عالم منتجات العقل البشري من لغة ونظريات وأساطير ومشكلات ولوحات وكتب وسيمفونيات وسيارات وطائرات وحواسب (الجانب الفكري المثالي التجريدي من كل ذلك).٢٤
هذا العالم الأخير العالم ٣ هو الإضافة الحقيقية التي أضافتها بوبر إلى تصور العالم. إنه عالم «موضوعي» Objective بمعنى أنه مستقل عن عقول العالم ٢ التي أنتجته، و«واقعي» Real لأنه يدفع الناس إلى إنتاج أشياء وإنجاز أفعالٍ تؤثر على العالم ١ المادي الملموس.

وحين يقول بوبر إن العالم ٣ هو عالم موضوعي فإنه يعني ما يقول رغم ما يبدو في ذلك من غرابة لأول وهلة. فأشياء العالم ٣ هي من إنتاج الفكر الإنساني «العالم ٢»، غير أنها ما إن تتم صياغتها حتى يصبح لها وضعٌ موضوعيٌّ يتجاوز الذات، وتصبح «ملكًا» بشريًّا قائمًا برأسه، تصبح معرفةً بشريةً «بغير ذاتٍ عارفة». إنها مستقلة عن وعينا ولكنها لا يمكن أن تتجسد إلا من خلاله. إننا نقابل هذا «التجسيد» في البحث العلمي وفي أعمال الفن (التمثال مثلًا ينتمي إلى العالم ١، ولكن فكرته هي من العالم ٣). كذلك تتصف موضوعات العالم ٣ بأنها «واقعية»، حتى إن بلغت من التجريد غايته. فمشكلة تناقص ورود الأعداد الصماء على سبيل المثال هي مشكلة حقيقية أو «واقعية» حتى في غياب أي إنسان، وهي واقعية بنفس المعنى الذي ستُعد به قمة إفرست واقعية حتى لو يبلغها إنسانٌ قط.

(٧) العالم ٣ ومشكلة العقل-الجسم

العالم ٣ إذن عالم «واقعي» Real، رغم أنه عالم مجرد غاية في التجريد (أكثر تجريدًا حتى من القوى الفيزيائية). وهو واقعي لأسباب ليس أقلها أن موضوعاته هي أدوات لتغيير العالم ١؛ أي أنه يؤثر على ما اصطلحنا على أنه «واقع».

ولا يمارس العالم ٣ تأثيره على العالم ١ إلا من خلال التدخل الإنساني؛ أي تدخل صانعي العالم ٣، وبخاصة من خلال فهمه وفهم موضوعاته، وهذا الفهم هو عملية عقلية تنتمي إلى العالم ٢، أو إن شئت الدقة فهو عملية يتفاعل فيها العالم ٢ والعالم ٣.

من ذلك ينتج أن كِلا العالمين ٣، ٢ (منتجات العقل، وعملياته) واقعيٌّ حقيقيٌّ، وإن كان الاعتراف بذلك صعبًا على كل من يُقدِّرُ التراث العظيم للمادية ويُجِلُّه.

والآن، إذا سلَّمنا بالتفاعل بين العوالم الثلاثة، فربما يساعدنا فهمنا للتفاعل المتبادل بين العالم ٢ و٣ في فهم التفاعل المتبادل بين العالم ١ و٢، ذلك التفاعل الذي يُشكل جزءًا من مشكلة العقل-الجسم. فقد رأينا أن صنفًا من التفاعل بين العالمين ٢ و٣ وهو الفهم يمكن تفسيره بوصفه صنعًا لأشياء العالم ٣ ومقارنة بينها بالانتقاء النقدي، وأن شيئًا شبيهًا بذلك يبدو أنه يصدق على الإدراك البصري لأشياء العالم ١. يُشير ذلك إلى أننا يجب أن ننظر إلى العالم ٢ بوصفه عالمًا نَشِطًا فاعلًا منتِجًا وناقدًا (يصنع ويقارن). غير أن لدينا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن بعض العمليات النيوروفسيولوجية غير الواعية تؤدي هذا بالضبط. ولعل ذلك أن يُسهل علينا أن «نفهم» أن العمليات الواعية قد تمضي في مسارات شبيهة: إنه لأمر لا يند كثيرًا عن أفهامنا أن العمليات الواعية تؤدي مهام مثيلةً بتلك التي تؤديها العمليات العصبية.

وجملة القول إنه لا يتسنى للعالم ٢ (العمليات العقلية) أن يتصل بالعالم ٣ (الأفكار والنظريات …) إلا من خلال العالم ١ (العمليات الفسيولوجية، الكيميائية، الفيزيائية) والذي يعمل كنوع من الكمبيوتر (الدماغ، الآلة الدماغية).

وتضطلع «اللغة» بدورٍ خطيرٍ في حسم مشكلة العقل-الجسم. تعد القدرة على تعلم اللغة جزءًا من البنية الجينية للإنسان، غير أن التعلم الفعلي للغة معينة هو عملية «ثقافية»، أي عملية ينظمها العالم ٣. تعلم اللغة إذن هو عملية تتداخل وتتفاعل فيها المواهب الجينية الناشئة بالانتخاب الطبيعي مع العملية الواعية للتعلم والاستكشاف، وهي عملية قائمة على التطور الثقافي. وهذا يدعم فكرة وجود تفاعل بين العالم ٣ والعالم ١، ويدعم بالنظر إلى حججنا السابقة وجود العالم ٢.٢٥
هكذا يمكننا القول بأن الطفل هو بمعنى ما صانعُ نفسه ونتاجُ إنجازه. إنه هو ذاته نتاج العالم ٣ إلى حد ما. إن القدرة اللغوية التي يكتسبها تزيد من تمكنه من بيئته المادية ووعيه بها، وبنفس القدر أيضًا تزيد من وعيه بذات. إن تكوُّن الذات هو عملية كدح واكتساب وتطور. الذات ليست «معطاة» Given منذ البداية، بل تنشأ نشوءًا وتكوينًا وتدرُّجًا ولا تأتي جملةً واحدةً. إنها «تنبثق» في التفاعل مع الذوات الأخرى ومع منتجات الثقافة، وبخاصة مع اكتساب اللغة. فاللغة تلعب دورًا هامًّا في عملية النضج وتكوُّن الذات والوعي بها. إن الحجة الديكارتية الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» تفترض وجود اللغة مسبقًا واستخدام الضمائر.٢٦

(٨) ما هي النفس؟

يودُّ بوبر أن يقول بوضوح ودون لبس إنه على قناعة بوجود الأنفس.٢٧ غير أن النفس لا توجد عند الميلاد — لا تُلقَى في الجسد إلقاءً كما ظن أفلاطون. إنها انبثاقٌ فرديٌّ يتم بدأب منذ مرحلة الرضاعة، ويعتمد على النمو والتطور والتعلم. النفس ليست جوهرًا وليست شبحًا في آلة، على حد تعبير جلبرت رايل، وإنما هي الوعي بالذات والتفرد، ذلك الوعي الإنساني الانبثاقي الذي يُعَد النتاج الأخير لعملية تطور طويلة جرت تحت ضغوط الانتخاب الطبيعي. والذاكرة متطلب أساسي لعملية الوعي بالذات والشعور بالتفرد الذي يدوم طوال الحياة. وعن طريق التعلم يغدو الطفل على وعي بجسده وبيئته والشخصيات الهامة له في هذه البيئة. ومن خلال اهتمام هؤلاء الأشخاص به بالإضافة إلى معرفته بجسده يتعلم الطفل في الأوان المناسب أنه هو نفسه شخص. وفي المرحلة اللاحقة يصبح التعلم معتمدًا إلى أبعد حد على اكتساب اللغة وفهمها.

ويؤكد بوبر أنه ليس هناك شيء من قبيل النفس «الخالصة» أو «المحضة»، أي الكائنة هناك من قبل أي خبرة. وإنما النفس عنده هي نتاج ميول فطرية وخبرة مكتسَبة وبخاصة الخبرة الاجتماعية، فالطفل البشري الذي ينشأ في عزلة اجتماعية هيهات له أن يبلغ الوعي بالذات. فليست اللغة وحدها بحاجةٍ إلى تعلم، بل الإدراك نفسه.

ومن التجارب الشائقة التي أجراها العلماء في باركلي تلك التي قسموا فيها الفئران إلى مجموعتين، إحداهما رُبِّيَت في جماعات من اثني عشر فردًا تعيش في قفص كبير مع تشكيلة من مواد اللعب والنشاط تتغير كل يوم. أمَّا المجموعة الثانية فقد رُبِّيَت في عزلة وعاشت في أقفاصِ مختبرٍ تقليدية. كانت النتيجة الرئيسية هي أن الحيوانات التي عاشت في بيئة غنية بالمنبهات تضخَّم فيها لحاءُ المخ بعكس الحيوانات التي عاشت في بيئات رتيبة مقفرة. ونتجت هذه الزيادة عن تكاثر المشتبكات العصبية Synapses وتفرعات الخلايا العصبية (التشجرات) Dendrites والخلايا الدبقية Glial Cells. من الواضح إذن أن الدماغ ينمو من خلال العمل والفعل، ومن خلال الاضطرار إلى حل المشكلات بشكلٍ نشط.٢٨
وينكر بوبر هوية Identity العقل والدماغ، فالدماغ ليس هو العقل، والعمليات الدماغية ليست عمليات عقلية وإن كان النشاط الدماغي المكثف شرطًا ضروريًّا للعمليات العقلية. وهناك وصل Liaison وثيق بين الدماغ والذات الواعية، غير أن هذا الوصل ليس علاقة ميكانيكية، فالدماغ في جوانب معينة يُشبه الكمبيوتر. وقد نوَّه بعض كبار علماء الأعصاب في دراسات أعطاب المخ بأن نمو مركز جديد للكلام في النصف المخي غير المعطوب يذكِّرهم بعملية إعادة برمجة الكمبيوتر. غير أن الكمبيوتر لا حول له بدون المبرمج. وعلى ذلك يمكننا أن نمضي فنقول إن الدماغ مملوكٌ للذات وليس العكس. والذات هي دائمًا تقريبًا في حالة نشاط، ونشاط الذوات (الأنفس) هو النشاط الأصيل الوحيد الذي نعرفه. والذات السيكوفيزيقية النشطة هي المبرمج النشط للدماغ (أي للكمبيوتر). إنها المنَفِّذ الذي أداته الدماغ. العقل كما قال أفلاطون هو رُبَّانٌ أو قائدٌ وليس مجموعًا كليًّا أو حزمةً أو تيارً من خبراته كما يومئ هيوم ووليم جيمس، ففي هذا التصور نوعٌ من السلبية.
والنفس ليست «أنا خالصة»، أي مجرد ذات، بل هي ثرية إلى حد مذهل، إنها أشبه بالقائد، تلاحظ وتتخذ أفعالًا في الوقت نفسه. إنها تفعل وتعاني وتتذكر الماضي وتخطط للمستقبل وتُبرمجه، وتتوقع وتُقدِّر، إنها تنطوي في تتابع سريع أو في الوقت نفسه على رغبات وخطط وآمال وقرارات بأفعال ووعي واضح بأنها ذات فاعلة، مركز نشاط. وهي مدينة كثيرًا في هذه الذاتية لتفاعلها مع الأشخاص الآخرين (الذوات الأخرى) ومع العالم ٣.٢٩ وكل هذا يتفاعل تفاعلًا وثيقًا مع «النشاط» الضخم الجاري في دماغها.

(٩) التعلم من الخبرة: الانتخاب الطبيعي للنظريات

النفس ليست شيئًا ثابتًا. النفس تتغير، فنحن نبدأ أطفالًا، ثُمَّ ننمو، ثُمَّ نشيخ. ورغم ذلك فإن استمرارية النفس تؤكد أن النفس تبقى هي ذاتها بمعنى ما. وهي في ذلك أكثر ثباتًا وهويةً من الجسد المتغير (والذي يحتفظ أيضًا بهوية واحدة بمعنى ما). تتغير النفس ببطء نتيجة لتقدم العمر، ونتيجة للنسيان. وتتغير بمعدل أسرع كثيرًا نتيجة للتعلم من الخبرة.

ويتم التعلم من الخبرة بواسطة «الفعل والانتخاب». فأفعالنا قائمة على أهداف ورغبات معينة، وعلى توقعات ونظريات معينة، وبخاصة توقع تحقيق أهدافنا واختياراتنا. أي أن أفعالنا تتم وفقًا لبرامج فعل. ووفقًا لهذه الوجهة من الرأي فإن التعلم من الخبرة هو في جوهره عملية تعديلٍ لتوقعاتنا ونظرياتنا وبرامج فعلنا. إنها عملية تعديل وانتقاء، وبخاصة من خلال تفنيد توقعاتنا. لا يمكن للكائنات العضوية أن تتعلم من الخبرة، وفقًا لهذا الرأي، إلا إذا كانت نَشِطة، وإذا كان لها أهداف وتفضيلات، وإذا كانت تُنتج توقعات. وحيث إن بوسعنا أن نستبدل بالحديث عن امتلاك توقعات امتلاك نظريات أو برامج فعل، فبوسعنا أن نصوغ كل هذا بقولنا إننا نتعلم بواسطة تعديل نظرياتنا وبرامج فعلنا بواسطة الانتخاب، أي بالمحاولة ونبذ الخطأ.٣٠
تنطبق هذه النظرية في عملية التعلم وتسري بالتساوي على التعلم التكيفي على مستوى السلوك الحيواني، وعلى مستوى تكوين المعرفة الموضوعية كالنظريات العلمية، وعلى التكيف بالانتخاب الطبيعي على المستوى الأكثر بداءة أي مستوى التكيف الجيني. في هذه المستويات الثلاثة جميعًا (المستوى الجيني، والمستوى السلوكي، ومستوى تكوين النظريات العلمية) تبدأ التغيرات التكيفية دائمًا من بنيات معطاة معينة:
  • هذه البنية على المستوى الجيني هي الجينوم (بنية الدنا DNA).
  • وعلى مستوى السلوك الحيواني والإنساني هي المخزون الموروث جينيًّا من الأشكال الممكنة للسلوك، بالإضافة إلى قواعد السلوك المنتقلة بالعرف (بعض هذه، على المستوى البشري، ينتمي إلى العالم ٣).

  • وعلى المستوى العلمي تتكون البنية من النظريات العلمية السائدة التي تنتقل بالعرف ومن المشكلات غير المحسومة.

هذه البنيات أو نقاط البدء تنتقل دائمًا بواسطة «التلقين» Instruction. فالجينوم يتم نسخه بوصفه قالبًا أو طبعةً، وبالتالي بالتلقين. وينتقل العرف بالتلقين المباشر، بما فيه المحاكاة. غير أن التغيرات التكيفية الجديدة في البنية الموروثة تتم في المستويات الثلاثة جميعها عن طريق «الانتخاب الطبيعي» Natural Selection: عن طريق التنافس ونبذ المحاولات الاختبارية غير الصالحة. في هذه العملية تقع الطفرات أو الانحرافات التصادفية بعض الشيء تحت الضغط الانتخابي للصراع المتبادل، أو تحت الضغط الانتخابي الخارجي الذي يقصي الانحرافات الأقل نجاحًا. هكذا يتبين أن القوة المحافظة هي «التلقين» Instruction، وأن القوة التطورية أو الثورية هي «الانتخاب» Selection.

على كلِّ مستوى من المستويات يبدأ التكيف من بنية شديدة التعقيد والتي يمكن أن توصَف (وصفًا استعاريًّا بعض الشيء إذا أخذنا المستوى الجيني باعتبارنا) بأنها بنية النظريات الشديدة التعقيد المتلقاة حول البيئة، أو بأنها بنية «توقعات». ويتألف التكيف (أو التعلم التكيفي) من تعديل لهذه البنية الشديدة التعقيد بواسطة طفرات محاولة، وبواسطة الانتخاب.

تبدو هذه الطفرات، على المستوى الجيني، عشوائيةً تمامًا، أو عمياء. غير أنها على المستوى السلوكي ليست عمياء تمامًا؛ لأنها تتأثر دائمًا بالخلفية المعرفية (الثابتة لحظيًّا) والتي تشمل البنية الداخلية للكائن العضوي، وتتأثر ببنية الأهداف وبنية والخيارات الخاصة بالكائن (وهي بنية ثابتةً نسبيًّا). أمَّا على مستوى تكوين نظريات العالم ٣ فتأخذ الطفرات طابع الاستكشافات البصيرة المخطَّطة للمجهول.

يتسم التكيف على المستوى السلوكي وعلى المستوى العلمي بأنه عادةً عمليةٌ ناشطةٌ بشدة. ويكفي أن ينظر المرء إلى حيوان صغير وهو يلعب، وإلى السلوك الذي أسماه بافلوف «السلوك الاستكشافي» و«السلوك الحر». صحيح أن هذه النشاطات مبرمجة جينيًّا إلى حد كبير، إلا أن من الممكن أن تقمعها قيودٌ (ضوابطُ) بيئية. في حالة التعرض لمثل هذه الضوابط يعجز الحيوان عن التعلم، ويعجز دماغه عن النمو والنضج. فمن الثابت (من تجارب روزنزفيج وغيره) أن النمو الجديد الهائل للخلايا الدبقية وزوائد التشجرات والوصلات المشتبكية يعتمد على نشاط الأفراد واتصالهم النشط ببيئة ثرية.

وعلى المستوى العلمي تُعد الكشوف عملية ثورية وإبداعية، وهي دائمًا أيضًا نتاجٌ لنشاطٍ كبير: نتاج لطريقة جديدة في النظر إلى المشكلات، ونتاج نظريات جديدة، ونتاج أفكار تجريبية جديدة، ونقد جديد، واختبارات نقدية جديدة.

وعلى المستويات الثلاثة جميعها هناك تفاعل وتآزر بين الميول المحافظة والميول الثورية. فمن شأن الميول المحافظة أن تحمي الإنجاز البنائي المعقد وتحفظه، ومن شأن الميول الثورية أن تُضيف تنويعات جديدة إلى هذه البنيات المعقدة.٣١

ونحن لا نجد في أيٍّ من هذه الإجراءات التكيفية لتعلُّم أشياءَ جديدة وصنع كشوفٍ تكيفية أيَّ أثرٍ من قبيل الإجراءات الاستقرائية، أو أي شيء من قبيل الكشف بالاستقراء أو التكرار. فالتكرار وإن كان يلعب بالفعل دورًا ما في التكيف السلوكي، إلا أنه لا يُسهم في الكشوف. إنه بالأحرى يعمل على أن يستوعب الكشف الذي تم، ويحوله إلى وتيرةٍ غير إشكالية، ومِنْ ثَمَّ يجعله شيئًا لا شعوريًّا. (هكذا الحال مثلًا في المهارات المكتسبة مثل المشي وقيادة الدرَّاجة والعزف على البيانو …) التكرار أو الممارسة ليسا طريقة لاكتساب تكيفات جديدة، بل طريقة لتحويل التكيفات الجديدة إلى تكيفات قديمة، إلى خلفية معرفية مُسلَّم بها، إلى ميول لا شعورية.

لقد طالما تحدث بوبر عن أكذوبة الاستقراء، أي الوهم القائل بأننا نكتشف الاطرادات بأن نستمدها من الملاحظات المتكررة أو التجارب. وها هو يعيد واحدة من حججه في هذا المقام:٣٢

إن جميع الملاحظات (بل جميع التجارب) هي شيءٌ مُشْرَبٌ بالنظرية ممتزجٌ بها. إنها تأويلاتٌ في ضوء النظريات. إننا لا نلاحظ إلا ما تجعله مشكلاتُنا (وموقفنا البيولوجي واهتماماتنا وتوقعاتنا وبرامج فعلنا) أمرًا مَعنيًّا ذا صلة. وبالضبط كما أن أدواتنا التي نستخدمها في الملاحظة قائمةٌ على نظريات، كذلك أعضاء حِسِّنا نفسها التي بدونها لا يمكننا أن نلاحظ. فليس ثمة عضوٌ حسيٌّ خِلوٌ من نظريات توقعية مدمجة به جينيًّا. مثال ذلك أن الضفدع يعجز عن رؤية ذبابة بالقرب منه إذا كانت لا تتحرك، إنه لا يميزها كفريسة سانحة. هكذا نجد أن أعضاء حسنا هي نتاج التكيف، وبوسعنا القول بأنها «نظريات»، أو تُضمِر نظريات. إن النظريات تأتي قبل الملاحظة، ومِنْ ثَمَّ فهي لا يمكن أن تكون نواتجَ لملاحظات متكررة.

علينا إذن أن نتخلَّى عن نظرية الاستقراء بواسطة التكرار، وأن نستبدل بها نظرية تقول بتنويعةٍ اختبارية من النظريات أو برامج الفعل، واختبارها النقدي من خلال استخدامها في أفعالنا.٣٣

(١٠) النفس مِرْساةٌ في العالم ٣

لا شك أن الحيوان يشعر ويعي، ولا شك أن الحيوانات تتألم كثيرًا إن أُصيب بأذى، وأن الكلب ينبهج كثيرًا حين يعود صاحبه. غير أن الإنسان وحده هو القادر على الوعي بذاته والتأمل في نفسه. ومن المتيقن أن كل كائن عضوي لديه برنامج فعل، غير أن الإنسان وحده هو من يملك القدرة على أن يعي بأجزاء هذا البرنامج وأن يراجعها مراجعة نقدية. وتضطلع اللغة في هذه العملية بدور أساسي. وما من معنى يتأمله المرء ولا إبداع يبدعه إلا هو مستند إلى اللغة أو إلى النشاط الرمزي عمومًا، فما دام المرء يضمر حدسًا ما دون تمثيل رمزي معين، فإنه يظل متوحِّدًا بالحدس ممتزجًا به، ولا يملك مِنْ ثَمَّ تقليبه ونقده. ولكن بمجرد أن يصوغ هذا الحدس أو يدوِّنه في صورةٍ رمزيةٍ فإنه «ينفصل» عنه، ويصبح قادرًا على أن ينظر إلى حدسه بطريقة «موضوعية»، باعتباره شيئًا من أشياء العالم ٣، فينقده ويتعلم منه، وربما يتعلم من رفضه.

قد تكون للحيوانات العليا شخصيةٌ وطبعٌ، وتكون لها فضائل ورذائل، فيكون الكلب مثلًا شجاعًا مخلصًا ودودًا أو يكون شريرًا وخائنًا. إلا أن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يسعى إلى أن يصبح إنسانًا أفضل، أن يتحكم في مخاوفه ويسيطر على اندفاعاته ويقوِّم عيوبه.

في جميع هذه الأمور يأتي الفارق بين الإنسان وغيره من الكائنات من ارتكاز النفس البشرية على العالم ٣، وبخاصة على اللغة البشرية. فاللغة هي التي تتيح لنا أن ننعكس على أنفسنا ونجعل منها موضوعًا لتأملنا النقدي. ذلك أن للغة طابعًا اجتماعيًّا، وأنها تمكِّننا من أن نتحدث عن غيرنا من الناس وأن نفهمهم عندما يتحدثون عن أنفسهم.٣٤

هذه الصبغة الاجتماعية للغة، وهذا الفضل الذي ندين به للغة، وبالتالي للآخرين، في جعلنا بشرًا مدركين عاقلين، يثبت لنا بوضوح أننا صنيعة العالم ٣، الذي هو بدوره صنيعة ما لا يُحصى من العقول البشرية.

يتألف العالم ٣ كما أسلفنا من منتجات العقل البشري، إلا أن العقل البشري يتفاعل بدوره مع هذه المنتجات، فهناك تغذية راجعة Feed-back، فعقل الرسام مثلًا أو المهندس يتأثر إلى أبعد حد بالعمل نفسه الذي يقوم بإنجازه، ويتأثر كذلك بأعمال الآخرين السابقين عليه والمعاصرين له. هذا التأثير يجري عن وعي وعن غير وعي، ويفعل فعله في اختياراته وتوقعاته وبرامجه. وبقدر ما نحن نتاجٌ لعقول الآخرين ولعقولنا ذاتها يمكننا القول بأننا نحن أنفسنا ننتمي إلى العالم ٣.

يقول إمانويل كانت: «إن الشخص هو تلك الذات المسئولة عن أفعالها». وبقدر ما يكون الشخص مسئولًا عن أفعاله أمام الآخرين وأمام نفسه يمكن أن يُقال إنه يفعل بطريقة عقلانية، ويمكن وصفه بأنه فاعل أخلاقي، أو ذات أخلاقية.

ونحن بالطبع حين نُسَمِّي شخصًا ما «فاعلًا أخلاقيًّا» Moral Agent بهذا المعنى، فإن ذلك لا يتضمن حكمًا إيجابيًّا بأنه شخص مسئول أو عقلاني، أو بأنه بالفعل يتصرف بطريقة صائبة أو عادلة أو أخلاقية، فالفاعل الأخلاقي قد يكون فعله مستأهلًا للوم أو حتى إجراميًّا. فالحكم على أفعاله من الوجهة الأخلاقية سيتوقف على بواعث أفعاله، أي على الأهداف التي ينتويها من أفعاله، وبخاصة على الطريقة التي نظر بها إلى الآخرين ومصالحهم وأخذها بالاعتبار.٣٥
في كتابه البالغ الأهمية «نظرية في العدالة»، يُدخِل جون رولز J. Rawls فكرة «خطة الحياة» Plan of Life ليصور الغايات والأهداف التي تجعل من الإنسان «شخصًا أخلاقيًّا موحَّدًا واعيًا». هذه الفكرة عن خطة حياة من صنع الإنسان تنتمي إلى العالم ٣ أقترح لها شيئًا من التعديل، فليست وحدةُ خطة الحياة أو ثباتها هو ما يلزم لتأسيس وحدة النفس، بل حقيقة الأمر أن وراء كل فعلٍ يُتَّخَذ هناك خطة، هناك مجموعة من التوقعات (أو من النظريات)، والأهداف والاختيارات؛ خطة مفتوحة للتطور والنضج وربما للتغيير الجذري على أثر استبصارٍ نظريٍّ جديدٍ مثلًا. هذه الخطة النامية هي، بحسب رولز، ما يسبغ الوحدة على الشخص ويحدد طابعه الأخلاقي إلى حد كبير. وهذه الفكرة قريبة الشبه جِدًّا من فكرة بوبر القائلة بأن أنفسنا «ترسو» في العالم ٣، وإن كان بوبر يؤكد بدرجة أكبر، إلى جانب أهدافنا وخياراتنا، على توقعاتنا ونظرياتنا عن العالم (العالم ١، ٢، ٣) التي يعتنقها الشخص مِنَّا في وقت بعينه. إن امتلاكنا لمثل هذه الخطة «المتغيرة»، أو لمجموعة النظريات والخيارات، هو ما يجعلنا نتخطى أنفسنا، أي نتجاوز رغباتنا وميولنا الغريزية.

ثمة جانب بطولي كبير في الحياة الإنسانية، وأعني به تلك الأفعال التي تتسم بالعقلانية غير أنها تهدف لأشياء تصطدم مع مخاوفنا، ومع غريزة الأمن والسلامة بداخلنا.

انظر إلى تسلق الجبال الشاهقة، إفرست على سبيل المثال، إنه يبدو لي دائمًا تفنيدًا لافتًا لوجهة النظر المادية على الإنسان. فأن تجابه الصعاب لذاتها وتواجه الأخطار الماحقة من أجل ذاتها فحسب، وتمضي في ذلك إلى حد الإنهاك التام: كيف يمكن لهذه الأفعال المضادة لغرائزنا الطبيعية أن تفسَّر في ضوء المذهب الفيزيائي أو السلوكي؟ لعل المذهبين أن يفسرا حالاتٍ قليلة يطمح فيها المُخاطر إلى المجد والشهرة. غير أن هناك كثيرًا من المتسلقين يزدرون الشهرة ولا يبالون بالصيت. إنهم يعشقون الجبال، ويحبون قهر الصعاب من أجل قهر الصعاب، إنه جزء من خطة حياتهم.

أليس شيءٌ شبيه بذلك هو جزء من خطة حياة كثير من عظام الفنانين والعلماء؟ وأيًّا ما كان تفسير ذلك، حتى لو كان التفسير هو الطموح، فهو ليس تفسيرًا فيزيائيًّا. بل يبدو التفسير لي هو أن العقل — بشكلٍ ما — الذات الواعية … قد تمت لها السيادة وتولَّت زمام الأمر.٣٦
ومجمل مذهب بوبر في النفس أن ليس هناك شيء من قبيل «الجوهر النفسي» Psychical Substance الذي يوجد بمعزل عن الجسم.٣٧ غير أن الحديث عن نفس جوهرية على سبيل الاستعارة هو أمر لا بأس به على الإطلاق، خاصةً إذا حرصنا على أن نستبدل بالجوهر «عمليات» كما تنبأ هيراقليطس. إننا بالتأكيد نَخبُر أنفسنا ﮐ «جوهر»، بل يبدو أن فكرة الجوهر نفسها مستمدة من هذه الخبرة، وهو ما يفسر لماذا تبدو هذه الفكرة شبيهة جِدًّا بفكرة الروح. ولعل أسوأ ما في هذه الاستعارة هو أنها لا تُبرِز الطبيعة الناشطة للنفس. وإذا كان المرء من الرافضين لمذهب الماهية Essentialism فلا يزال بوسعه أن يصفَ النفسَ على أنها «شبه جوهر»، أي على أنها ذلك الشيء الذي يبدو جوهريًّا لوحدة الشخص المسئول وديمومته.

إن ما يميز النفس (بعكس العمليات الكهروكيميائية للدماغ والتي تعتمد عليها النفس اعتمادًا متبادلًا) هو أن جميع خبراتنا وثيقة الارتباط ومدمجة، لا بخبرات الماضي فحسب، بل أيضًا ببرامج فعلنا المتغيرة، وتوقعاتنا، ونظرياتنا، أي بنماذجنا الشارحة عن البيئة المادية والثقافية، الماضية والحاضرة والمستقبلة، متضمنة المشكلات التي تطرحها علينا لتقييمها ولتطوير برامج فعلنا في ضوئها. غير أن كل هذه الأشياء تنتمي جزئيًّا على الأقل إلى العالم ٣.

هذا التصور العلائقي للنفس يظل غيرَ كافٍ تمامًا، وذلك بسبب الطبيعة الناشطة والتكاملية الصميمة للنفس. وحتى بالنسبة للإدراك الحسي والذاكرة، فإن نموذج «المُدخَل» (وربما «المُخرَج» أيضًا) ليس وافيًا تمامًا، إذ أن كل شيء يعتمد على برنامج متغير باستمرار: فهناك انتقاء نشِط، وهضمٌ نشِط جزئيًّا وتمثُّل نشِط، وكل من هذه العمليات يعتمد على تقييمات نشطة.٣٨

(١١) وهْم المصاعب الديكارتية في التفاعل المتبادل

بعد أن افترض ديكارت وجود جوهرين متمايزين تمامًا: العقل (ماهيته فكر) والمادة (ماهيتها امتداد)، تعذَّر عليه أن يفسر التفاعل الظاهر بينهما دون التورط في خرق قوانين البقاء. وقد ورث تابعوه نفس التركة التصورية فلم يجدوا بُدًّا من نبذ مذهب التفاعل وتفسير العلاقة بين النفس والجسد تفسيراتٍ تورطت هي أيضًا في أخطاء أخرى خاصة بها.

ويرى بوبر أن الأمر الذي خلقَ المشكلة لديكارت ووضَعَ العقبةَ الكئود ليس هو افتراض جوهرين متمايزين، بل هو تصوره الخاص عن العِلِّيَّة الفيزيائية. لقد تصور المادة جوهرًا ممتدًّا والعالم آلة مادية تعمل بالدفع (التلامس/التصادم) كما تعمل الساعة. غير أن هذا التصور العتيق للعِلية الفيزيائية قد تجاوزته الفيزياء الحديثة التي لم تعد تتحدث عن كثرة من الجوهر بل عن كثرة من شتى أنماط القوى، أي عن كثرة من شتى المبادئ التفسيرية المتفاعلة.

يرى بوبر أنه قد تغلب على مصاعب التفاعل الثنائي دون خرق لقوانين بقاء الطاقة. وأوضح أن بالإمكان مثلًا أن تُدار مركبة من الداخل دون انتهاك لأي قانون طبيعي، وأن تُقاد من الخارج بالاعتماد على قوى طفيفة من مثل الإشارات اللاسلكية. وكل ما هو مطلوب عندئذٍ هو أن تحمل المركبة مصدرها الخاص من الطاقة.

يقول بوبر: «لعل أوضح مثال مضاد للدعوى القائلة بأنه لا يؤثر على الشيء إلا شيءٌ مثله هو هذا: في الفيزياء الحديثة نجد أن تأثير الأجسام على الأجسام تتوسطه مجالات Fields — مجالاتٌ جاذبيةٌ وكهربيةٌ. وهكذا فالشبيه لا يؤثر على شبيهه، بل إن الأجسام تؤثر أوَّلًا على المجالات وتُعدِّلها، وعندئذٍ يؤثر المجال (المعدَّل) على جسمٍ آخر.»٣٩

وهكذا يتبين أن الصعوبة الخاصة بتفاعل العقل-الجسم لم تنشأ إلا كنتيجة للتصور الديكارتي الخاطئ عن العِلِّية الفيزيائية.

(١٢) المادية ومبدأ الاقتصاد

في القسم ١٨ من الجزء الأول من «النفس ودماغها» يتناول بوبر المذهب المادي بالتمحيص والنقد. ويستهل نقده بالحديث عن مبدأ الاقتصاد (البساطة/نصل أوكام) في صلته بالمذهب المادي، ومدى تدعيمه لهذا المذهب. يقول بوبر: «من المؤكد أن المادية الجذرية (الراديكالية) هي موقف متسق ذاتيًّا، فهي وجهة نظرٍ إلى العالم كانت، على حد علمنا، وافيةً يومًا ما؛ أعني قبل انبثاق الحياة وبزوغ الوعي.»

على أن هناك شيئًا من الصعوبة جعل يستشعرها الآن معظمُ الذين يتبنون هذه النظرية ويدافعون عنها، فهي لا تريحهم تمامًا لأن كل شيء لديهم يبدو مناقضًا لها: اعتقادهم نفسه، كلماتهم نفسها، حججهم، واقعة أنهم يقدمون نظرية (بما هي نظرية). ومن أجل أن يتغلب المادي الجذري على هذه الصعوبة فلا مهرب له من أن يتبنى السلوكية الجذرية Radical Behaviorism ويطبقها على نفسه، فنظريته واعتقاده فيها ليس شيئًا، فليس ثمة غير التعبير الفيزيائي في كلمات، وربما في حجج ليس ثمة غير السلوك اللفظي والحالات النزوعية التي تؤدي إليه.
إن ما يزكي المذهب المادي الجذري أو المذهب الفيزيائي الجذري هو بالطبع أنه يقدم لنا صيغة بسيطة لعالَمٍ بسيط، وهو أمر يبدو جذَّابًا، بالضبط لأننا في مجال العلم نبحث عن النظريات البسيطة.٤٠ غير أنني أعتقد أن من المهم أن نلاحظ أن أمامنا طريقين مختلفين يمكننا بهما أن نبحث عن البساطة، يمكن أن نطلق عليهما باختصار «الرد الفلسفي» Philosophical Reduction و«الرد العلمي» Scientific Reduction: يتميز الأول بمحاولة تبسيط رؤيتنا للعالم، ويتميز الثاني بمحاولة تقديم نظريات جريئة وقابلة للاختبار، وتتمتع بقدرة تفسيرية عالية، وباعتقادي أن الثاني بالغ النفع والأهمية، في حين لا قيمة للأول ما لم تكن لدينا أسباب وجيهة لافتراض أنه يناظر الوقائع الكائنة عن العالم.

الحق أن طلب البساطة بمعنى الرد الفلسفي لا العلمي قد يكون مُوبِقًا، ذلك أنه حتى في محاولة الرد العلمي لا بد لنا أوَّلًا أن نحيط إحاطةً كاملةً بالمشكلة المطلوب حلها، ولذا فإن من المهم للغاية ألا يصرفنا التحليل الفلسفي عن المشكلات الشائقة باعتبارها غيرَ مشكلة. فإذا كان هناك على سبيل المثال أكثر من عاملٍ واحدٍ مسئولٍ عن أثرٍ ما، فمن المهم ألا نصادر على الحكم العلمي ونحتله بوضع اليد، إذ أن هناك دائمًا خطرًا قائمًا هو أن نرفض الاعتراف بأية أفكار غير تلك التي اتفق أنها بحوزتنا، متغاضين عن المشكلة، منكرين وجودها أو مقللين من حجمها. ويزداد الخطر إذا ما حاولنا تسوية المسألة مقدَّمًا عن طريق الرد الفلسفي، فالرد الفلسفي يُغشِّي أبصارنا أيضًا عن أهمية الرد العلمي.

إنما في ضوء هذه الاعتبارات ينبغي، في رأيي، أن ننظر إلى المقاربة الفيزيائية الجذرية لمشكلة الوعي، فالمشكلة ليست فقط أن ظواهر الوعي تطرح علينا شيئًا يبدو مختلفًا تمامًا عما عسانا أن نجده، بنظرتنا الراهنة في العالم الفيزيائي،٤١ بل هناك أيضًا تلك التغيرات اللافتة والعجيبة، من وجهة نظر فيزيائية، التي اعترت البيئة المادية للإنسان من جراء فعله الواعي والغرضي كما يبدو. وهو أمر لا يمكن التغاضي عنه، ومشكلة لا يمكن إنكارها على نحو دوجماطيقي.
بل إنني لأزعُم أن اللغز الأكبر في الكوزمولوجيا قد لا يكون في الانفجار العظيم Big Bang الأول، ولا مشكلة لماذا كان وجودٌ ولم يكن عدم (فمن الجائز تمامًا أن تتكشف هذه المشكلات عن أشباه مشكلات)، بل في أن العالم خلاق بمعنى ما: إذ خلق الحياة، ومن الحياة خلق العقل — وعينا نحن البشر — الذي يُنير العالم، والذي هو خالقٌ بدوره. ولعل من أجلِّ النقاط التي ضمَّنها هربرت فايجل إضافته الملحقة (١٩٦٧) بمقاله «العقلي والجسمي» The Mental and the Physical تلك التي يروي فيها عن أينشتين قوله في محادثةٍ معه بأنه «لو لم يكن ثمة هذا الضياء الداخلي لكان العالم مجرد كومة من النفاية»، ويُنبئنا فايجل أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعله يَعْدِل عن المذهب الفيزيائي الجذري (كما أسميه) ويقبل نظرية الهوية Identity Theory، التي تعترف بواقعية العمليات العقلية ولا سيَّما عمليات الوعي.
ومن الجدير بالاعتبار أيضًا أنه في حين أن مطلبنا في العلم هو البساطة، فإن من غير المحقق ما إذا كان العالمُ نفسه هو بتلك البساطة التي يظنها بعضُ الفلاسفة.٤٢ أين ذهبت البساطة التي كانت تتحلى بها النظرية القديمة عن المادة (نظرية ديكارت أو نيوتن أو حتى بوسكوفيتش)؟ لقد انتهت. ذلك أنها اصطدمت مع الوقائع. والمصير نفسه قد لحق بالنظرية الكهربية عن المادة، والتي بدا طوال عشرين أو ثلاثين عامًا أنها تعطي أملًا في بساطةٍ أكبر حتى من سابقتها. وها هي نظرياتنا الحالية في المادة، ميكانيكا الكوانتم، يتكشف أنها أقل بساطة مما كان يأمل المرء (وبخاصة حين ننظر إليها في ضوء التجربة الفكرية لأينشتين/بودولسكي/روزن. وفي ضوء نتائج ج. س. بل، س. ج. فريدمان، ر. أ. هولت). ومن الواضح أيضًا أنها غير مكتملة: فعلى الرغم من النتيجة التي وصل إليها ديراك والتي قد تُفَسَّر على أنها التنبؤ بمضادات الجسيمات، فمن الصعب أن نقول بأن نظرية الكوانتم قد أدَّت إلى التنبؤ بشتى الجسيمات الأولية الجديدة التي اكتُشِفَت حديثًا أو إلى تفسيرها. من الصعب إذن أن نسلِّم بأن مطلب البساطة هو مطلب حاسم حتى داخل الفيزياء. علينا على وجه الخصوص ألا نحرم أنفسنا من المشكلات الشائقة والمرهقة — والتي يبدو أنها تشير إلى أن نظرياتنا الأثيرة غير صحيحة أو غير مكتملة — بأن نقنع أنفسنا بأن العالم حقيق بأن يكون أكثر بساطة لو انعدمت هذه المشكلات. غير أن هذا هو بالضبط ما يفعله الماديون المحدثون فيما يبدو لي.
ولعلِّي كنتُ حَرِيًّا أن أعتبر المذهب الفيزيائي الجذري نظريةً شافيةً فكريًّا لو أنها كانت متوافقة Compatible مع الوقائع. ولكنها غير متوافقة مع الوقائع، كما أن الوقائع، وهي ما هي من التعقد وصعوبة الاستيعاب مرهِقةٌ فكريًّا. من هنا يبدو لي أن الخيار الحقيقي إنما هو بين الاستسهال الفكري (ولنسمِّه التراخي والبَطَر) من جهة، وبين الكدح والجَهد من جهة أخرى.٤٣
عندما يشتبك الماديُّون في جدل ضد الثنائية، فإنهم في الأغلب يوجهون سهام نقدهم إلى الثنائية الديكارتية، أي ثنائية الجوهر Substance Dualism. فقد ذهب ديكارت إلى أن العقل جوهر منفصل ومتميز عن الدماغ ويوجد في عالم الجواهر العقلية. غير أن القول بالثنائية لا يستلزم بالضرورة الاعتقاد في الثنائية الديكارتية. فهناك اختيارات أخرى متاحة أمام المرء غير المادية وغير ثنائية الجوهر. هناك ثنائيات أخرى لا ديكارتية، منها على سبيل المثال «ثنائية الخصائص» Property Dualism التي تقول بأن العقل لديه خصائص معينة غير فيزيائية. وليس يعني ذلك أن العقل يوجد في عالم مستقل عن الجسم، بل يعني فحسب أن الأحداث الذهنية لها خصائص لا يمكن وصفها بحدود فيزيائية.
وكثيرًا ما يذكر الماديون بمعرض نقدهم للثنائية حقيقةً أننا منذ عهد ديكارت قد كشفنا أن الدماغ هو مصدر الوعي، وهي حقيقة لم تَعُد محل خلاف، ولا تُعتبَر حجة للمادية وحدها. إذ أن ثنائية الخصائص تقول بأن العقل «متقوِّم» بالمادة المعقدة المخية ولا يقوم بذاته.٤٤ غير أن هذه هي «أولوية» Primacy المادة لا «حصريتها» Exclusivity. المادة أوَّلًا لا حصرًا. وإذا كانت الكشوف العلمية قد قوَّضت الثنائية الديكارتية أو أضعفتها، فهي لا تنهض دليلًا ضد ثنائية الخصائص. فحقيقة أن عمليات الدماغ تؤدي إلى أحداث عقلية هي حقيقة تتقبلها ثنائية الخصائص ولا تجفل منها. وذلك لأن هذه الحقيقة لا تستلزم بالضرورة أن الأحداث العقلية «ما هي إلا» العمليات المادية الدماغية، أو أن الشخص ما هو إلا آلة فيزيائية.

والدليل الذي تستند إليه ثنائية الخصائص في تفنيدها لهذه الردية المادية هو أن كل شخص يَخْبُر الأحداث العقلية الخاصة به بطريقة لا يمكن للملاحظ الخارجي أن يخبرها. هذه الذاتية التي تتحلى بها العمليات العقلية هي التي تجعلها من نمط وجودي خاص لا يمكن رده إلى الحالات المخية.

إننا «نعرف» إحساساتنا الخاصة وعواطفنا ومشاعرنا، بينما «نستنتج» إحساسات الآخرين استنتاجًا. ومِنْ ثَمَّ فإن «الوعي» شيء «ذاتي». ربما استطاع حاسوب متطور في المستقبل أن يعدد لنا مشاعرنا بطريقة موضوعية من خلال تفرس الدماغ، غير أنه لن يستطيع أن «يَخْبُر» هذه المشاعر ويكابدها. ذلك أن للمجريات العقلية بعض الخصائص التي تتعذَّر على الملاحظة الخارجية بغض النظر عن مدى تقدم المعرفة وتطور التكنولوجيا.٤٥ فالدماغ والعقل شيئان مختلفان لأن العقل لا تمكن معرفته إلا من موقع «المتكلم» First Person، بينما يخضع الدماغ للملاحظة الخارجية ويقبل الدراسة الموضوعية.٤٦ يقول توماس ناجل في مقاله الشهير What is it like to be a bat?: «أمَّا الشيء المحال فهو أن تُضَمِّن في وصف فيزيائي للعالم حقائق عما تشبه أن تكون الحالات الذهنية في خبرة صاحبها.» من هنا فرغم أن الوعي ينبثق من عمليات الدماغ فهو لا يمكن أن يُعرَف إلا من موقع ذاتي، وبالتالي فهو لا يقبل الرد إلى عمليات الدماغ.٤٧

•••

يبدو المذهب المادي كأنه مستعد للتضحية بالحقيقة من أجل البساطة! أو كأنه يُملي على الحقيقة شروطَه بدلًا من أن يُذعن لشروطِها، أو كأنه يطلب من الحقيقة أن «تتخفف» قبل أن تتكشف! وينسى أن أوكام نفسه، صاحب النصل الشهير، لم يكن يقصد أن نجتز بنصله «الكائنات» Entia، بل كان يؤكد أن «الكائنات» لا يمكن للمنطق المساس بها، فالعقل لا يخلق الكائنات، بل يدركها.٤٨ ويباهي المذهب المادي بمزية البساطة، ولكن البساطة لا تكون مزية إلا إذا كانت تقبض على جُمْع المشكلة، وهي لا تعود مزية إذا كانت تُفلت جانبًا هامًّا من الظاهرة دون تفسير. إنما نريد البساطة المفتوحة العينين لا البساطة التي تغض الطرف عن عوامل هامة ضالعة في إحداث الظاهرة. من هنا لا تصح تزكية الواحدية لأنها واحدية، بل لأنها تفسر كل جوانب الظاهرة (العقل) تفسيرًا اقتصاديًّا. ومن حقنا أن نفضل عليها الثنائية أو التعددية إذا كانت هذه أوفى بغرض التفسير وأكثر إحاطة بالظاهرة المعنية، ظاهرة العقل.

تذييل: نظرية التفاعل عند جون إكلس

يقول جون إكلس John C. Eccles في الجزء الثاني (الخاص به) من كتاب «النفس ودماغها»: ثمة بصفة عامة نظريتان تحاولان تفسير كيف ينتظم سلوك الحيوان «والإنسان» في وحدة جوهرية، تلك الوحدة التي هي ظاهرة للعيان على نحوٍ جليٍّ تمامًا:
  • النظرية الأولى: هي التفسير المتأصل في الواحدية المادية وفي مختلف صور التوازي. وفي النظرية النيورولوجية (العصبية) الحالية تتفاعل مختلف المُدخلات الواردة إلى الدماغ خلال جميع الترابطات البنيوية والوظيفية لتُفضي إلى مُخرَج تكاملي في صورة أداء حركي. وتضطلع العلوم العصبية بتقديم صورة مترابطة ومكتملة لهذه المسألة. وقد نجح علم الأعصاب في تقديم تفسيرات مقبولة لجميع الحركات الأوتوماتيكية وتحت الشعورية حتى المعقد منها. غير أني أعتقد أن الاستراتيجية الردِّية Reductionist سوف تفشل في تفسير المستويات الأعلى من الأداء الواعي للدماغ البشري.٤٩
  • والنظرية الثانية: هي التفسير الثنائي التفاعلي، والذي نشأ خصيصًا وعُنيَ أساسًا بالعلاقة بين العقل الواعي بذاته وبين الدماغ البشري. وبقي دوره بالنسبة لنصف الكرة المخي غير السائد هو دور خِلافي غير مؤكَّد. تذهب هذه النظرية إلى أنه عند مواضع معينة من نصف الكرة المخي (مناطق الوَصل Liaison Areas) هناك تفاعلات متبادَلة جوهرية مع العقل الواعي بذاته، إنْ مِن حيث الأخذ أو العطاء، الاستقبال أو الإرسال.٥٠
هناك عوالم ثلاثة كما ذهب بوبر: عالم ١ و٢ و٣.
  • عالم ١: هو عالم الأشياء والحالات الفيزيقية المادية.
  • عالم ٢: هو عالم حالات الوعي والمعرفة الذاتية بجميع أنواعها.
  • عالم ٣: هو عالم الثقافة التي صنعها الإنسان شاملة كل المعرفة الموضوعية.
هناك أيضًا تفاعل بين هذه العوالم، هناك تفاعل متبادل بين عالم ١ و٢، وبين عالم ٢ و٣ عبر عالم ١:
  • فعندما تسجل المعرفة الموضوعية للعالم ٣ على أشياء العالم ١ (الكتب، اللوحات، الآلات، الأبنية)، فهي لا يمكن أن تُدرَك إدراكًا واعيًا، إلا عندما تسقط إلى الدماغ بواسطة مستقبلاتٍ (أعضاء استقبال Receptor Organs) مناسبة  ومسارات واردة Afferent Pathways.
  • ويؤثر العالم ٢ «الخبرة الواعية» بدوره على العالم ١ تأثيرًا واسعًا، في الدماغ أوَّلًا ثُمَّ في انقباضات العضلات — وهي العملية التي نفترض حدوثها في الحركة الإرادية.

وبوسعنا أن نصوغ التفاعل الثلاثي الذي نفترضه كما يلي:

حيث عالم ٢ عالم ١ يتضمن مشكلة الفعل الإرادي، وعالم ١ عالم ٢ يتضمن مشكلة الإدراك الواعي. غير أنه عندما ينخرط العقل الواعي بذاته في تفكير إبداعي حول مشكلات أو أفكار، فإن هناك فيما يبدو تفاعل مباشر بين عالم ٢ وعالم ٣.٥١
والشكل التالي يمثل التفاعل بين الدماغ والعقل. ينقسم عالم ٢ (الخبرة الذاتية) إلى ثلاثة مكونات أساسية:
  • (١)

    الحس الخارجي: الرؤية والسمع والشم والذوق والألم واللمس.

  • (٢)

    الحس الداخلي: الأفكار والمشاعر والذكريات والأحلام والخيالات والمقاصد.

  • (٣)

    وهي لُب العالم ٢: النفس أو الأنا التي هي أساس الهوية الشخصية وديمومتها التي يَخبرها كل مِنَّا طوال حياته.

figure
مناطق الوصل المخية في نصف الكرة السائد (مناطق من لحاء المخ السائد تضطلع بالوظيفة اللغوية والفكرية، أهمها منطقتا برودمان ٣٩ و٤٠ والمنطقة قبل الجبهية Prefrontal Area).

إن لدينا خبرة مستمرة ودائمة بأن بوسع العقل الواعي بذاته أن يؤثر على أحداث الدماغ، يتجلى ذلك في أوضح صورة في الفعل الإرادي. ويتجلى أيضًا في محاولتنا تذكُّر شيءٍ أو لفظةٍ أو التعبير عن فكرة … إلخ.

يمارس العقل الواعي بذاته تأثيره على المراكز العصبية النشطة في المستوى الأعلى من النشاط الدماغي، أي في مناطق الوصل «بين الدماغ والنفس/العقل» بنصف الكرة المخي السائد. يقوم العقل الواعي بذاته بتعديل الأنماط/النماذج الدينامية المكانية/الزمانية للأحداث العصبية. وبذلك يمارس العقل الواعي دورًا تأويليًّا ومسيطرًا على الأحداث العصبية.٥٢

العقل الواعي بذاته هو الذي يُضفي الوحدة على الخبرة الواعية وليس الآلية العصبية لمناطق الوصل بنصف الكرة المخي. وبتعبير آخر فإن الوحدة التي نَخبرها في أنفسنا تأتي لا من المُركَّب النيوروفسيولوجي بل من الخاصة التكاملية الدَّمجية للعقل الواعي بذاته. ونحن نَحدِس بأن العقل الواعي ينشأ لكي يُضفي هذه الوحدة النفسية (وحدة النفس) في جميع خبراتها وأفعالها الواعية.

يبدو أن العقل الواعي يتفرس أنشطة وحدات مناطق الوَصل باللحاء المخي. ومن لحظة إلى أخرى يتخير وحدات مخيةً معينةً ليتفرسها وفقًا لاهتمامه اللحظي (ظاهرة الانتباه Attention). ويقوم بدمج مختلف الأنشطة ليعطي الخبرة الواعية الموحَّدة.٥٣

هذه الوظيفة الانتقائية «الانتباه» والدمجية التكاملية «الوحدة» يقوم بها العقل الواعي بذاته وليس أي شيء آخر. للعقل إذن دورٌ إيجابيٌّ فعَّال ومسيطر (بعكس السلبية التي تتصف بها الخبرة الواعية في نظريات التوازي). بل إن الدور الإيجابي للعقل لَيمتد في فرضيتنا بحيث يُحدث تغييرات في الأحداث النيورونية (العصبية). فالعقل لا يكتفي بقراءة أو تفرس انتقائي للأنشطة الجارية في الآلية العصبية، بل إنه ليُغيِّر هذه الأنشطة ويُعدلها ويحوِّرها، حين أتبع مثلًا خطًّا معيَّنًا من التفكير، أو حين أحاول أن أقبض على ذكرى معينة (أتذكر شيئًا وأستعيده) يبدو أن العقل الواعي ينخرط عندئذٍ في عملية بحث وتَحَسُّس خلال مناطق مختارة من الآلية النيورونية، ومِنْ ثَمَّ يكون بوسعه أن يحرِف أو يشكل الأنشطة الدينامية ونماذجها وفق رغبته أو اهتمامه. وثمة جانب هام لهذا التدخل من قِبَل العقل في عمليات الآلية العصبية يتجلى في قدرته على إحداث حركات جسدية وفق الفعل الإرادي الذي يرغبه، ويمكن أن نسمي ذلك «أمرًا حركيًّا».

ونكرر أن السمة الأساسية لفرضيتنا هي الدور الإيجابي الفاعل للعقل الواعي بذاته في تأثيره على الآلية النيورونية لمناطق الوصل بالدماغ.٥٤
١  النَّفس ودماغها: تعليقات تاريخية حول مشكلة العقل-الجسم، قسم ٤٨ (ديكارت: تَحوُّل في مشكلة العقل-الجسم).
٢  تترجِم إحدى رسائل الأميرة إليزابيث أميرة بوهيميا إلى ديكارت عام ١٦٤٣م هذه المشكلة التي يتحتم أن يصطدم بها كلُّ من يفكر داخل إطار الجوهرين والعلية الميكانيكية، تقول الأميرة في رسالتها: «كيف يتسنى للروح البشرية أن تحدد حركة الأرواح الحيوانية في الجسم بحيث يؤدي الأفعال الإرادية، وهي التي لا تعدو أن تكون جوهرًا واعيًا، فتحديد الحركة يبدو أنه لا يتأتى على الإطلاق إلا بدفع الجسم المتحرك، وأنه يعتمد على صنف الدفع الذي يستمده مما يحركه، أو مرة أخرى على طبيعة سطح هذا الشيء الأخير وعلى شكله، أمَّا الشرطان الأولان فيتضمنان التلامس، وأمَّا الثالث فيتضمن أنَّ الشيء الدافع لديه امتداد؛ غير أنَّك تنفي الامتداد تمامًا من فكرتك عن الروح، والتلامس يبدو لي غير متوافق مع كون شيءٍ ما لا ماديًّا» (Anscombe, Elizabeth and Peter Geach, Descartes: Philosophical writings. Indianapolis: Bobbs-Merrill Company, 1954, pp. 174-5).
٣  The Self and Its Brain, p. 6.
٤  Ibid, pp. 6-7.
٥  Ibid, pp. 7-8.
٦  Ibid, p. 9.
٧  Ibid, p. 10.
٨  Ibid, pp. 182-183.
٩  كارل بوبر: بحثًا عن عالم أفضل، ترجمة د. أحمد مستجير، الألف كتاب الثانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٦٦، ص٢٤–٢٦.
١٠  Ibid, pp. 11–14.
١١  Ibid, p. 14.
١٢  Ibid, pp. 15-16.
١٣  Ibid, p. 16.
١٤  Ibid, p. 17.
١٥  Ibid, p. 18.
١٦  للدكتور رسل فيرنالد R. D. Fernald عالم الأعصاب في ستانفورد، أبحاثٌ كثيرةٌ مثيرةٌ عن تأثير التغيرات الاجتماعية على خلايا المخ (مثال ساطع على العِلِّيَّة الهابطة). من ذلك أبحاثه الشهيرة على سمك البلطي الأفريقي التي أيدت الرأي القائل بأن كيفية التفاعل الاجتماعي لِذَكر السمك تُغير خلايا دماغه المسئولة عن حجمه ولونه وقدرته على التكاثر، فقد وجد أنَّ الذكر العدواني المسيطر على منطقة نفوذٍ كبيرة تكون الخلايا الدماغية في مهاده التحتي Hypothalamus أضخم ستة أضعاف من خلايا الذكور الألطف طبعًا، وقد وجد فضلًا عن ذلك أن أبعاد هذه الخلايا ذات «طواعية» Plasticity ومرونة، فإذا ما صادف الذكر المسيطر ذكرًا آخر أكبر منه وأشد عدوانيةً فإن نيورونات (خلايا عصبية) المهاد التحتي للذكر المهزوم سرعان ما تنكمش، وكذلك تنكمش خُصِيُّه وتقل قدرته على الإنجاب، ومن الممكن إحداث هذه التغيرات في المعمل بِدَفع الذكر الفرد بيئيًّا إلى اتخاذ الدور المسيطر أو الخاضع، فتتبع ذلك مباشرة تغيراتُ خلايا الدماغ، لقد تم التحقق بدقة من أنَّ التغيرات السلوكية تحدث أوَّلًا وتفضي إلى التغيرات الدماغية. (لمعرفة المزيد عن التأثيرات السلوكية على الدماغ، انظر بحث د. رسل وَد. فيرنالد بالاشتراك مع س. أ. هوايت: Behavioral influences on the brain. Progress in Hormone Research. 52: 455–474.)
١٧  في مقال بعنوان «الطب النفسي البيولوجي والنزعة الردية» يقول ﻫ. كارلسون وَم. كامبينين: «إن فكرة الرد برمتها تتناقض مع فكرة العلية الهابطة … فقد أمكن لِباردو وآخرين (١٩٩٣م)، باستخدام التصوير الطبقي بإطلاق البوزيترون PET، قياس تغيرات في تدفق الدم المخي المحلي لمتطوعين أسوياء أثناء تكدير ذاتي للمزاج.» كما خَلَصَ جابارد (١٩٩٢م) في دراسة أخرى إلى أنَّ المؤثرات السيكولوجية تُفضي إلى تغيرات وظيفية وتشريحية دالة في الدماغ البشري، وهناك أيضًا بعض الدراسات الإكلينيكية يبدو أنَّها تدعم الفكرة القائلة بأن العمليات السيكولوجية والاجتماعية تفعل فعلها في الظواهر البيولوجية بمعنى أكثر شمولًا وكليةً، من هذه الدراسات دراسة شبيجل وآخرين (١٩٨٩م) الذين أثبتوا أن العلاج النفسي الاجتماعي قد يُطيل بقاء المرضى بسرطان الثدي المنبث، ومنها دراسة فوزي وآخرين (١٩٩٣) على مرضى الميلانوما الخبيثة والتي خلصت إلى نفس النتيجة، بل لقد اقترح البعض (مول، ١٩٨٧م) في ضوء ما ثبت من التأثيرات السيكوبيولوجية المتبادلة، أنَّ العلاج النفسي ينبغي اعتباره علاجًا بيولوجيًّا، جملة القول إذن: «إنَّ البحث عن تفسير يتطلب مِنَّا أن نتطلع إلى مستويات أخرى بجانب المستوى البيولوجي: المستوى السيكولوجي والاجتماعي» (Hasse Karlsson and Matti Kamppinen: Biologica Psychiatry and Reductionism-Empirical Findings and Philosophy, British Journal of Psychiatry (1995), 167, p. 435.) ويقول د. ليون إيزنبرج: «الخبرة تشكِّل الدماغ في عملية تستمر طوال الحياة، إن تمثيل أصابع اليد في اللحاء المخي هو أكبر على الناحية اليمنى (التي تمثل الجانب الأيسر للجسم) لدى عازفي الكمان المحترفين، حيث هو أكبر مما هو لدى بقية الناس (إلبرت وآخرون، ١٩٩٥)، وهو أيضًا يتضخم لدى القارئين بطريقة بريل (ستير وآخرون، ١٩٩٨م)، وهو ينكمش بعد فصل التعصيب الوارد (موجيلنر وآخرون، ١٩٩٣م)، إنَّ الوظيفة والتركيب البنائي للدماغ هما في جريان دائم» (Leon Eisenberg: Is psychiatry more mindful of brainier than it was a decade ago? The British Journal of Psychiatry 2000, 176: p. 2).
١٨  DK = Diesl & Kransz (1951-2).
١٩  المسألة هي ما إذا كان القانون الثاني (الاحتمالي) للديناميكا الحرارية قابلًا للردِّ التام إلى تفاعل الذرات والجزيئات الفردة، وجوابي هو: النتائج الاحتمالية تتطلب من أجل اشتقاقها مقدمات احتمالية وبالتالي غير فردية.
٢٠  Ibid, p. 35.
٢١  أو «منظومات» أو «أنساق». والمنظومة المفتوحة هي كل منظومة لديها مرونة ويمكن أن تُكيَّف وتُعدَّل. والنظام المفتوح في البيولوجيا هو ذلك النظام الذي لا يخضع للقوانين القياسية للديناميكا الحرارية الخاصة ببقاء الطاقة، وبالإنتروبي … إلخ. بل هو مفتوح لمُدخلات جديدة ولنمو وتغير جديد. «تتميز الأنظمة المفتوحة، مقارنةً بالأنظمة المغلقة للفيزياء التقليدية، بخصائص فريدة. فهي أنظمة تظل على الدوام في حالة تعامل مع البيئة من حولها وتبادلٍ للمادة. ولا تنفك تأخذ مادةً وتعطي، وتبني مكونات وتهدم. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أن تحتفظ بثباتها النسبي بإزاء التغيرات البيئية، غير أن هذا الثبات هو نتاج التفاعل المستمر مع الخارج والدفق المستمر للمادة المتبادلة. وبمقدور الأنظمة المفتوحة أيضًا أن تُصلح ذاتها وتستعيد توازنها كلما تعرضت لظروف خارجية مناوئة.
تتصف حالة الثبات بالأنظمة المفتوحة بما يُسَمَّى ﺑ Equifinality (تكافؤ غائي): إنها بعكس التوازنات في الأنظمة المغلقة والتي تحددها حالاتها البدنية، قد تبلغ حالة لا تتوقف على حالاتها البدئية ولا تتوقف على الزمن ولا تحددها إلا أحكام النظام نفسه. تُظهِر الأنظمة المفتوحة، كما أسلفنا، خصائص ديناميكية حرارية تبدو مفارقة: يقتضي القانون الثاني للديناميكا الحرارية أن مآل الأحداث الفيزيائية (أي الأنظمة المغلقة) موجَّهٌ إلى زيادة الإنتروبي وطمس الفروق وحالات الاضطراب القصوى. أمَّا في الأنظمة المفتوحة فإن بالإمكان جلب «الإنتروبي السالب» مع انتقال المادة، ومِنْ ثَمَّ تستطيع هذه الأنظمة أن تحفظ نفسها في الظروف الحرجة وتبقى على مستوى عالٍ من التنظيم والتعقيد. بل إن بإمكانها أن تتقدم نحو مزيدٍ من التنسيق والتمايز، كما هو الحال في عملية النمو والتطور» (Ludwig von Bertalanffy, General System Theory and Psychiatry, in Silvano Arieti (ed.), American Handbook of Psychiatry, vol. 1, Second Edition, Basic Books, Inc., publishers, New York, 1974, pp. 1100-1101).
٢٢  يقول بوبر: لقد أخذتُ باقتراح سير جون إكلس (١٩٧٠) بالحديث عن «عالم ١» و«عالم ٢» و«عالم ٣»، بدلًا من «العالم الأول» و«العالم الثاني» و«العالم الثالث» مثلما كنتُ أفعل قبل صدور كتاب إكلس Facing Reality (مواجهة الواقع)، الذي قَدَّمَ فيه هذا الاقتراح.
٢٣  The self and its brain, pp. 37-38.
٢٤  Ibid, pp. 45-46.
٢٥  Ibid, pp. 47-48.
٢٦  Ibid, p. 49.
٢٧  يقول بوبر: إنَّ هذا شيء أوضح من أن يُكتَب، ولكنه لا بد أن يُقال، ذلك أن بعض كبار الفلاسفة قد أنكره. كان ديفيد هيوم واحدًا من أوائل هؤلاء، والذي أدى به تفكيره إلى الشك في وجود نفسه ذاتها. وقد تبعه في ذلك كثيرون … تقول نظرية هيوم الرسمية (إن جاز لي أن أسميها كذلك) بأن النفس لا تعدو أن تكون المجموع الكلي (الحزمة) لخبراتها. وهو يُحاجُّ (صائبًا من وجهة نظري) بأن الحديث عن نفس «جوهرية» ليس يسعفنا كثيرًا. إلا أنه يعود مرة تلو الأخرى يصف الأفعال على أنها «صادرة» من «طبع» الشخص. وفي رأيي أننا لا نحتاج أكثر من هذا لكي يمكننا أن نتحدث عن نفسٍ من النفوس.
٢٨  Ibid, p. 112.
٢٩  Ibid, p. 120.
٣٠  بالطبع قد تتغير أيضًا أهدافنا وتفضيلاتنا في عملية التعلم، ولكن كقاعدة عامة مثل هذه التغيرات نادرة وبطيئة، وإن كان لها في بعض الأحيان طابع التحول الحاسم Conversion.
٣١  Ibid, pp. 132–134.
٣٢  أهم الحجج الأخرى هي ما يُطلِق عليه بوبر «مشكلة هيوم»: أي مشكلة الاستدلال الاستقرائي Inductive Inference، وهي مشكلة عتيدة مفادها أنه، على عكس الاستدلال الاستنباطي الذي تصدق نتيجته بالضرورة إذا ما صدقت مقدماته، فإن الدليل الاستقرائي ليس قاطعًا على هذا النحو، فقد تكون مقدماته صادقة ونتيجته رغم ذلك كاذبة. تتصف النظريات العلمية بأنها قضايا «كلية» (صيغتها «كل أ هو ب»)، وهي صيغة تتجاوز الأدلة المستمدة من الخبرة، فالقضية المقررة هنا لا تلزم عن أي عدد متناهٍ من ملاحظاتنا لكل من «أ» و«ب»، وإنما الذي يلزم هو فقط قضايا جزئية (صيغتها «بعض أ هو ب»)، إذ ليس هناك استحالة منطقية في أن «أ» القادمة في رتل الملاحظة لن تكون «ب». يترتب على ذلك أن ليس هناك قضية علمية كلية يمكننا أن نبرهن على أنها صادقة بالضرورة. فالقوانين العلمية دائمًا تتجاوز الملاحظات الممكنة ودائمًا تتخطى الخبرة المتاحة (Popper, K. R., The logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, London, 1976, p. 63).
والاستدلال من التجربة إلى القوانين الكلية ليس دليلًا استنباطيًّا صحيحًا منطقيًّا، ولا هو استدلال يمكن تبريره بالتجربة؛ لأن الانتقال من: «الأدلة الاستقرائية قد صدقت فيما مضى» إلى: «إذن الأدلة الاستقرائية سوف تَسري في المستقبل» هو نفسه استدلال استقرائي. ومِنْ ثَمَّ فإن أي تبرير من هذا الصنف سيكون دائريًّا، أي منطويًّا على «دور منطقي».
وبتعبير آخر يمكننا القول بأن الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يكون صحيحًا؛ إلا إذا افترضنا أن الاطرادات التي شملت الحالات التي تمت ملاحظتها هي اطرادات سارية على الحالات التي لم نلاحظها. ولكن هذا الافتراض ليس حقيقة منطقية «قَبْلية» a Priori ينطوي إنكارُها على تناقض، ولا هو افتراض تبرره التجربة. إنه في الحقيقة «قفزة إيمانية» ليس لها سند في العقل المحض ولا في التجربة الحسية، ولا يمكن تبريرها بغير دورٍ منطقيٍّ ظاهر.
٣٣  Ibid, pp. 134-135.
٣٤  Ibid, p. 144.
٣٥  Ibid, p. 145.
٣٦  Ibid, pp. 145-146.
٣٧  يقول بوبر: «ليس ثَمَّ ما يدعونا إلى الاعتقاد بوجود روحٍ خالدةٍ أو جوهر نفسي يمكن أن يوجد بمعزل عن الجسم (ويبقى بعد فنائه)، وأترك الاحتمال مفتوحًا، والذي أعتبره بعيدًا، بأن تُغَير نتائجُ البحث النفسي حكمي في هذه النقطة.»
٣٨  Ibid, pp. 146-147.
٣٩  Ibid, 182.
٤٠  أغلب الفلاسفة على قناعة بأنه افتراض تساوي بقية الأشياء Ceteris Paribus، فإن النظريات الأبسط هي الأفضل. أمَّا البساطة التراكيبية، أو «الأناقة» Elegance، فتقيس عدد ووجازة المبادئ الأساسية للنظريات. وأما البساطة الأنطولوجية، أو «الاقتصاد» Parsimony، فيقيس عدد أنواع الكيانات التي تفترضها النظرية (موسوعة ستانفورد الفلسفية، مادة «بساطة» Simplicity). وبصفة عامة، يمكننا القول إن مبدأ البساطة هو مصادرة أساسية في التفكير العلمي، تفيد أن من واجبنا ألا نكثر من العناصر التفسيرية بغير ضرورة؛ أي أن نُعِد أبسط التفسيرات الصالحة هو التفسير الصحيح. هكذا لا يسمح العلم إلا بأقل عدد ممكن ولا غِنى عنه من المسلَّمات في تفسير أي ظاهرة: فإذا كُنَّا بإزاء فرضيتين، ومع تساويهما في جميع الأشياء الأخرى، فإن الفرضية الأبسط تُعَد هي الصحيحة. إنه «مبدأ مُوجِّه» و«مصادرة كشفية» تُشير علينا بأن نتوقع من الطبيعة أنها تستخدم أبسط الطرق الممكنة للوصول إلى أية غاية لها.
٤١  يقدم لنا الوعي كيفيات Qualia محسوسة للخبرات من قبيل الإحساس بألم أو سماع صوت أو رؤية لون، تلك الخصائص الذاتية للحالات العقلية كما تقع في خبرة الفرد ووعيه، وهي التي تحدد كُنه خبرةٍ ما أو تحدد «ماذا تشبه أن تكون» What it is like مكابدة هذه الخبرة، باستعارة التعبير المأثور عن توماس ناجل في مقاله الشهير What is it like to be a bat?. إن الخبرة الواعية شأن ذاتي يستعصي على الفهم العلمي الموضوعي، وعلى المعرفة العلمية الفيزيائية بما فيها المعرفة النيوروفزيولوجية مهما تقدمت. وفي كتابه «العقل الواعي» يحاج الفيلسوف ديفيد شالمرز بأن أي وصف نيوروفيزيولوجي ممكن للوعي سوف يترك وراءه «فجوة تفسيرية» Explanatory Gap مفتوحة ما بين العملية الدماغية وخصائص الخبرة الواعية. ذلك أنه ليس بمقدور أي نظرية نيوروفيزيولوجية أن تجيب عما أُطلق عليه «السؤال الصعب» The Hard Question: لماذا يتعين على تلك العملية الدماغية المعينة أن تُفضي إلى خبرة واعية؟ إن بوسعنا دائمًا أن نتصور عالمًا يعج بمخلوقات لديها تلك العمليات الدماغية دون أن يكون لديها خبرة واعية على الإطلاق. أمَّا في عالمنا القائم فإن الوعي يمثِّل كيانًا واقعيًّا لا يمكن إغفاله، ولا يسعفنا العلم الفيزيائي في «رَدِّه». لنتأمل الألوان على سبيل المثال: نحن نعرف أن للألوان علاقةً ما بالامتصاص الانتقائي وبانعكاس الموجات الضوئية المختلفة السعة، ونعرف أيضًا أن رؤية الألوان تشتمل على كثير من العمليات النيوروفيزيولوجية المعقدة. فهل هذا هو «كل ما هنالك»؟ كلا، فيبدو أن هناك بعدُ شيئًا آخر: هناك … «خبرتنا باللون». هناك الوعي وخواصه الذاتية القائمة بمعزلٍ والمتأبية على أيِّ ردٍّ فيزيائي. يترتب على ذلك أن أية قائمة صحيحة موضوعيًّا وكاملةً تمامًا لما هو كائن في العالم (أنطولوجيا) ينبغي أن تتضمن، بالإضافة إلى الأشياء من قبيل المجرات والإلكترونات والكائنات العضوية والنسيج العصبي — الخبرات المختلفة للأفراد … خبرات الوعي بكل درجاته بما فيها الأحلام.
٤٢  أشار بعض المناطقة إلى أن استخدام مبدأ البساطة (الاقتصاد) يتطلب أوَّلًا تساوي جميع المزايا الأخرى للنظريات المقارنة، وإلا لكان علينا أن نسلم بنظرية العناصر الأربعة ونظرية الكواكب الخمسة بدعوى أنهما أكثر اقتصادًا مما نعرفه الآن! بديهي إذن أن علينا أن ننبذ النظرية الأبسط إذا كانت غير متفقة مع الوقائع. يقول برتراند رسل: «إن ما يفعله العلم في حقيقة الأمر هو اختيار الصيغة الأبسط التي تتفق مع الوقائع. ولكن من الجلي أن هذه مجرد قاعدة ميثودولوجية وليست قانونًا للطبيعة. فإذا ما تبين بعد ذلك أن الصيغة الأبسط لم تعد سارية على الوقائع فإن علينا أن نختار أبسط الصيغ التي تسري.» (Russell, B., On the notion of cause, with applications to the free-will problem. In H. Feigl & M. Brodbeck (Eds.), Readings in the philosophy of science. New York: Appleton-Century-Crofts, 1953, p. 401) ولعل من الحصافة إذن قبل التهليل للمادية واقتصادها أن نتذكر أن مبدأ الاقتصاد لا يكون معيارًا حقيقيًّا للمقارنة بين نظريتين، ولا يكون محكًّا ذا صلة أصلًا، ما لم يثبُت تعادل النظريتين فيما دون ذلك، أي ما لم يثبت في حالتنا هذه أن المادية والثنائية تفسران مجريات العالم بنفس الكفاءة. وإلا فمن حق الثنائي أن يقول (مع ديفيد شالمرز): «تمامًا مثلما ضحى مكسويل بالنظرة الميكانيكية البسيطة إلى العالم، فدفع بفرضية المجالات الكهرومغناطيسية لكي يفسر ظواهر طبيعية معينة، فنحن بحاجة إلى أن نضحي بالنظرة المادية (الفيزيائية) إلى العالم لكي نفسر الوعي» (Chalmers, D. J., The conscious mind: In search of a fundamental theory. Oxford: Oxford University press, 1996, p. 169).
٤٣  The self and its brain, pp. 60–62.
٤٤  Addis, L. (1984). Parallelism, interactionism, and causation. In P. A. French, J. T. E. Uehling & H. K. Wettstein (Eds.), Causation and causal theories (Midwest studies in philosophy, Vol. 9, pp. 329–344). Minneapolis: university of Minnesota Press.
٤٥  Natsoulas, T. (1984). Gustav Bergmann’s psychophysical parallelism. Behaviorism, 12, 41–69.
٤٦  Meehl, P. E., & Feigl, H. (1991). The determinism-freedom and body-mind problems. In C. A. Anderson & K. Gunderson (Eds.), P. Meenl, Selected philosophical and methodological papers (pp. 97–135). Minneapolis: University of Minnesota Press.
٤٧  Nagel, T. (1979). What is it like to be a bat? In T. Nagel, Mortal questions (pp. 165–180). Cambridge: Cambridge university Press.
٤٨  د. محمد مهران، فلسفة برتراند رسل، دار المعارف، القاهرة، ١٩٧٦، ص٣٥٤–٣٦٠.
٤٩  The self and its brain, p. 358.
٥٠  Ibid, pp. 358-359.
٥١  Ibid, pp. 359-360.
٥٢  Ibid, 362.
٥٣  Ibid, p. 363.
٥٤  Ibid, pp. 363-364.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤