الفصل الخامس

نظرة نقدية

قد تؤَوَّل الفلسفة على أنها تعاقبٌ دائمٌ لميلاد الأفكار، وقد تؤوَّل على أنها تعاقب دائم لمصارع الأفكار. وقديمًا قال شيشرون إنه لا يوجد رأي مخالف للعقل لم يقل به من قِبَل بعض الفلاسفة. وهو قول حق، وأحق منه أنه لا يوجد رأي سديد محكم لم يجد له من الفلاسفة من يناوشه وينال من وجاهته. وقد كانت آراء بوبر من هذا الصنف الأخير. لم يَسلَم الرجل طوال حياته من سهام نقدية كَثُرَتْ كثرة المعارك العنيفة التي أضرم أوارها. وهي انتقادات تعكس لنا تأثيره الفكري الهائل من جهة، وتهيب بنا من جهة أخرى أن نتدبر هذه الانتقادات ونُنْعم فيها النظر، حتى تكتمل لنا صورة الرجل الذي جعل النقدَ ماهيةَ الفلسفة، وأحبَّ النقد حتى وَسَم به مذهبَه كله وأفرغ لنفسه مكانًا عزيزًا في التراث الفلسفي تحت اسم «العقلانية النقدية».

في القسم الخاص بالسيرة الذاتية من كتاب «فلسفة كارل بوبر»١ (وهو مجموعة مقالات نقدية لعددٍ من كبار الفلاسفة والعلماء مشفوعة بردود بوبر)، يحكي بوبر عن لقائه الأول بفتجنشتين. وهو مثال يعكس لنا البونَ الكبير الذي كان يَفصِل ما بين تصور بوبر للفلسفة والتصور الذي كان سائدًا في إنجلترا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل الستينيات على التقريب. في عام ١٩٤٦ دُعِيَ بوبر لتقديم ورقة علمية في كمبردج «تعرض بعضَ الأحاجي الفلسفية». كانت صياغة الدعوة تَشِي بأن كاتبها هو فتجنشتين الذي كان يُنكر وجودَ مشكلاتٍ فلسفية حقيقية، ويرى المشكلات الفلسفية «أشباه مشكلات» أو مجرد «ألغاز» يتكفل التحليل الدقيق بتبديدها باستخدام «اللغة العادية». وكعادته، واجه بوبر التحدي دون مواربة بأن قال إنه إذا رأى أن ليس هناك مشكلات فلسفية حقيقية لَمَا كان فيلسوفًا. ومن الواضح أن فتجنشتين بعد نقاشٍ قصيرٍ أيقَنَ أن بوبر حالةٌ ميئوس منها، فاندفع خارجًا من الغرفة وصَفَقَ البابَ خلفَه.

هكذا في أوج نفوذ فتجنشتين بقيَ بوبر خارج التيار الرئيسي للفلسفة الإنجليزية، ماضيًا في طريقه الفلسفي بإصرارٍ وعزمٍ وحِسٍّ عنيدٍ بما هو مهم حقًّا وما هو مجردُ تناقُرٍ حول ألفاظ. هكذا كان الحال. وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فقد كانت هذه حقبةً انقلبَت فيها الفلسفة على نفسها وانشغل الفلاسفةُ بتبديد حفنةٍ من الأحاجي الناجمة عن الاستخدام اللغوي والتي ضللت أسلافهم وأوقعتهم في مشكلاتٍ كاذبةٍ. ولا عجب أن كان بوبر هو الفيلسوف المُفضَّل عند الفيزيائيين وأهل الاقتصاد والتاريخ والسياسة، وبينما كان هؤلاء يُقَدِّرون أهميةَ المسائل التي شَغلَت بوبر والتي نَذَرَ لها نفسه، كان فلاسفة التيار السائد الأكاديميون يرونه متواضعَ المستوى محدودَ القدرة.

والحق أن بوبر نفسَه مسئولٌ عن هذا الانطباع الخاطئ؛ فقد كان أسلوبه الشخصي غير محبَّب لزملائه الإنجليز. كانت كتبُه ومقالاته تنضَح بالتزامه الشديد بأهمية موضوعه، فتحولت هذه الكتب إلى أسلحةٍ يشن بها حربًا ضد ما يراه خطأ، ويُمطر خصومه بالحجج من كل صَوب، وأحيانًا بالسخرية والسُّباب. ولم يكتَفِ بذلك، بل كان يقع أحيانًا في التكرار الممل والاعتداد المنفِّر. (ويكفي أن نذكر أنه كرر في كتابه «المعرفة الموضوعية» في ثلاثة مواضع على الأقل أنه هو الذي أطلق على مشكلة الاستقراء اسم «مشكلة هيوم»!) وربما ألحَّت عليه الرغبة في أن يُمطر خصومه بالحجج وملكت قواه فجعلته يخلط حجةً قويةً بحجةٍ ضعيفةٍ، ويقبَل كلَّ ما تورده عليه قريحتُه ويناجيه به طبعُه. ورغم أن المرء يؤيد بوبر في قناعته بأن الحجة الحقيقية أجدَى من الملاحظات الموحِية التي اعتاد فتجنشتين وأتباعُه أن ينثروها في أعمالهم، فإن بوبر نفسه قد «أرخَصَ عملةَ الحجة» باستخدامه لأي حجة تقع عليها يدُه دون تمييز.٢

ورغم حرص بوبر على وضوح أفكاره وتحديدها، وتحرِّيه الدقة والنصوع في عرضها، وتجنبه لأي التباس يفتح مجالًا لإساءة الفهم أو للمماحكة اللفظية، فقد اختَلَف أتباعُه في فهم الكثير من أفكاره المحورية، وانقسموا حول تصور مذهبه. وتعددت التأويلات فيمن كان حريصًا على ألا يصير تأويلًا! وقد كان بوبر نفسه يشكو كثيرًا من أنه يُساء فهمه. وكان محرر كتاب «فلسفة كارل بوبر» يُصاب بالإحباط إذ يفشل الحوار بين بوبر ونُقاده لأن مقالاتهم، وفقًا لقول بوبر، موجهةٌ ضد آراءٍ لم يَقُل بها قط! وقد تكرر هذا الإحباط في مناسبات كثيرة بحيث إن المرء ليُساوره شكٌّ في أن يكون الكاتب — أي بوبر — مسئولًا عن ذلك قدرَ مسئوليةِ المفسِّر أو الناقد.

وفيما يلي بعض الاعتراضات الشهيرة التي وُجِّهَت إلى فلسفة بوبر، نسردها باقتضاب لكي تكتمل الصورة التي رسمناها حتى الآن لفيلسوف النقد، ولكي نَعي أن الفلسفة هي بطبيعتها نقدٌ حتى للنقد نفسه.٣

(١) فلسفته العلمية

(١-١) ماذا أنجز بوبر في فلسفة العلم؟ وكيف يرتبط إنجازُه بمشكلة الاستقراء؟

إن العلم وفقًا لتراث يرتد في الزمن إلى فرنسيس بيكون، ينطلق من تراكم الملاحظات المستنيرة. فبعد أن يجمع العالِمُ ما يكفي من البيانات فإنه سيلاحظ أن «نمطًا» معيَّنًا قد بدأ يبزغ. وسيفترض أن هذا النمط يُومئ إلى قانونٍ علميٍّ ما. عندئذٍ يحاول أن يؤيد هذا القانون بإيجاد مزيدٍ من الأدلة التي تدعمه، فإذا نجح في ذلك يكون قد «حقق» Verified فرضيته؛ يكون قد اكتشف قانونًا جديدًا من قوانين الطبيعة.
يرفض بوبر هذه النظرة ويبدأ من النقطة المنطقية البسيطة التي تفيد بأن العبارة الكلية من مثل «كل البجع أبيض» لا يمكن البرهنة عليها بملاحظة أي عدد كان من البجع الأبيض (فلعلنا فشلنا في اكتشاف بجعة سوداء في مكان ما)، ولكن من الممكن أن تُكَذَّب حالما رأينا بجعةً سوداءَ واحدة مفردة. يتبين من ذلك أن القوانين العلمية ذات الصياغة الكلية لا يمكن «تحقيقُها» على نحو حاسم في حين يمكن دحضها؛ ولذا فمن الخطأ أن نبدأ بتكديس ملاحظات، ومن الخطأ أن نبحث عن شواهدَ مؤيِّدةٍ للنظرية، بل ينبغي أن ننطلق من حدوسٍ افتراضيةٍ جريئةٍ (مستمدة من الحدس أو العبقرية أو ما شئت)، ثُمَّ نحاول تفنيدَها. من بين أي نظريتَين متنافستَين نعتبر النظرية التي تعرضت لخطرٍ أكبرَ من التكذيب، ولكن لم يتم تكذيبُها هي النظرية الأكثر «تعزيزًا» Corroboration. وليس يعني ذلك أنها صادقة (فقد تُكذَّب في المستقبل)، بل يعني أنها «أقرب إلى الصدق» من منافستها. فمن الممتنع في العلم أن نعرف أننا اكتشفنا الحقيقة رغم وجود مثل هذه الحقيقة. إنها «فكرةٌ مرشدةٌ» أننا نحاول الاقتراب، ولكن لا نستطيع التيقن من الوصول.
وقد اعترض كلٌّ من هيلاري بُتنام Hilary Putnam وتوماس كون T. Kuhn بأننا من الممكن دائمًا أن ننكر أن نظريةً ما قد تم تكذيبُها من خلال ملاحظةٍ تبدو للوهلة الأولى أنها تكذبها. فقد نقول مثلًا إن الملاحظة المسجَّلة غير صادقة، أو نقول مثلًا إنه إذا كان الطائرُ الملاحَظ أسودَ إذن فهو بحكم التعريف ليس بجعةً مهما شابَهَ البجعَ في صفاته الأخرى. وبصفة عامة، فإن النظريات العلمية لا تُختبَر منفصلةً، بل مرتبطة بفروض أخرى؛ ومِنْ ثَمَّ فبالإمكان إنقاذُ النظرية وتفسيرُ الملاحظة بأن ننسب الخطأ إلى أحد الفروض الأخرى. وقد سبق أن أوضحنا أن بوبر لم يُغفِل هذا الاعتراض. والحق أنه ذَكَرَه في أقدم كتاباته. وكان ردُّهُ هو أن القاعدة المنهجية تُوجب علينا أن نتجنب «تحصين» نظرياتنا بهذه الطريقة، رغم أنه يعترف أن من الحكمة في بعض المواقف أن نحاول الاحتفاظ بالنظرية برغم الملاحظات الشاذة. غير أن قول بوبر في هذه المسألة يفتقر إلى الدقة، وربما لذلك لم يُقنِع ناقديه. وفي الوقت نفسه يحذرنا بوبر من طلب الدقة في مواطن لا تؤمَّل فيها الدقة، ويقول إن علينا أن نسترشد بالظروف الخاصة بكل حالة. وبذلك يتشبث بوبر بموقفه المحوري، وهو اللاتماثل Asymmetry بين التحقيق والتكذيب.

وقد يكون من المفيد أن نوضح ذلك بمثال، ولعل المثال الذي استرعى انتباه بوبر بشكلٍ حاسمٍ أن يُفيدنا أكثر من غيره:

عندما خمَّن أينشتين بأن الأشعة الضوئية التي تمر بالقرب من جسم ثقيل كالشمس سوف تعاني انحرافًا عن مسارها الطبيعي، لم يكن هذا التأثير قد لوحظ من قبل على الإطلاق، ولم تتنبأ الفيزياء النيوتونية بمثل هذه الظاهرة. فلما تمت الملاحظة وتأيَّد تنبؤ أينشتين اعتُبِرَ ذلك تكذيبًا لقوانين نيوتن رغم الكم الهائل من «التحقيق» الذي لَقِيَته عبر القرون. رغم ذلك فقد كان بالإمكان في حقيقة الأمر أن نتمسك بنظرية نيوتن وذلك بإدخال فروض عينية (تحايلية) ad hoc لكي تشرح الظواهر. غير أن هذا بَدا غيرَ مقبول إذ تَبيَّنَ أن النظرية الجديدة تفسر الأمور بطريقة أكثر «بساطة» (اقتصادًا). لقد نجح أينشتين في أن يفسر كلَّ ما نجح نيوتن في تفسيره علاوةً على تفسيرِ واحدةٍ مما فَشِل٤ في تفسيره. ومِنْ ثَمَّ لم تتمكن نظرية نيوتن من الصمود، إذ إن نظرية أينشتين هي أكثر اقترابًا من الحقيقة. وقد استحقت البقاء لكي تواجه مزيدًا من الاختبار.

هذا تَقَدُّمٌ كبيرٌ في المنهج العلمي بلا ريب، ولكن هل هو أيضًا حلٌّ لمشكلة الاستقراء؟ يدَّعي بوبر في أكثر من موضع أنه حل، ويشكو من أن الفلاسفة الآخرين لم يميزوا حَلَّه وأن نقاده لم يفهموه. تُرَى ما هي هذه المشكلة المُشهَّرة العتيدة … مشكلة الاستقراء؟ تتلخص مشكلة هيوم حول الاستقراء في الآتي:

«هل لدينا ما يُبرر الاستدلال من أمثلةٍ لنا بها خبرةٌ إلى أمثلةٍ ليس لنا بها خبرة؟ لقد شاهدنا الشمس، على سبيل المثال، تُشرق مراتٍ سابقةً عديدةً، فهل هذا يبرر اعتقادنا بأنها سوف تشرق مرةً تالية، غدًا مثلًا؟»

كيف يُجيب بوبر عن سؤال هيوم؟ من الواجب أوَّلًا أن نلاحظ كيف يُفسِّر سؤال هيوم. لقد اعتبره بحق لا مجرد مشكلة تعميم من حالات مفردة إلى جميع الحالات، بل كمشكلةٍ حول الاستدلال من حالاتٍ ماضيةٍ إلى حالةٍ مستقبلية مفردة. وهو يوافق هيوم أيضًا أن وصف اعتقادنا بشروق الغد بأنه احتمالي غير يقيني لا يحل المشكلة.

عندئذٍ يقول بوبر إن سؤال هيوم يجب أن تُعاد صياغتُه، وهو يريد من إعادة الصياغة أن يحوِّل المشكلة من سؤال عن حالات مفردة إلى سؤال عن نظريات تفسيرية كلية. وهو يجيب عن السؤال المعدَّل إجابتَه المتوقعة، وهي أن الملاحظات لا يمكن أن تبرِّر الدعوى بأن نظريةً كلية هي نظريةٌ صادقةٌ، بل يمكنها فقط أن تتيح لنا القول بأنها كاذبة، وأن الملاحظات يمكن أن تبرر تفضيلَنا لبعض النظريات على الأخرى.

غير أن نقاد بوبر أشاروا إلى أن هذا لا يبدو أنه إجابة عن سؤال هيوم! فالنظرية القائلة بأن الشمس تشرق كل يوم وإن كانت قد صمدت للتكذيب بالأمس، فهل يُعَد هذا سببًا للاعتقاد بأنها سوف تصمد للتكذيب غدًا؟ هذا هو ما أراد هيوم أن يعرفه.

يرد بوبر بأنه أجاب عن هذا السؤال. وجوابه: لا، الاستقراء ليس له من مبرر. فكون النظرية قد «تعززت» في الماضي «لا يُفضي لنا بأي شيءٍ مُطلَقًا عن أدائها في المستقبل»، وإن أشد النظريات تعزيزًا من الجائز أن تخفق غدًا. «من الجائز تمامًا أن العالم كما نعرفه، بكل اطِّراداته الدالة من الوجهة العملية، قد ينهار تمامًا في الثانية القادمة.»

إن انهيار العالم بالطبع أمر ممكن، غير أن من الواضح أن لنا ما يبرر الرهان بثقل ضد حدوث الانهيار في الثانية القادمة حتى لو كان مبررنا الوحيد هو أن العالم لم يتقوض في أيِّ ثانية سابقة من الثواني التي لدينا بها علم، وأننا لا نملك أساسًا للاعتقاد بأن هذا الانهيار هو أكثر احتمالًا في الثانية القادمة مما كان في أي ثانية أخرى.

أثبت هيوم رغم ذلك أن هذه الحجة المعقولة تفترض ببساطة أن الملاحظات الماضية تبرر بالفعل تنبؤات المستقبل. وعندما نحاول أن ندافع عن هذا الافتراض على أساس أن أولئك الذين افترضوا في الماضي أن المستقبل سوف يجيء على غرار الماضي قد تبين أنهم على صواب، فإننا نكون قد افترضنا مرة ثانية ما أردنا في الأصل أن نثبته. ومِنْ ثَمَّ فهو افتراض قد يبدو من المحال أن ندافع عنه دون «دور منطقي» ومن المحال أيضًا أن نتفادى اتخاذه.

يريد بوبر أن يقول إن بإمكاننا أن نتجنب افتراض أن المستقبل سوف يجيء (أو من المحتمل أن يجيء) على غرار الماضي، وهذا هو ما دعاه لأن يزعم أنه حل مشكلة الاستقراء. يقول بوبر إنني في غِنى عن اتخاذ هذا الافتراض إذا انطلقنا من صياغة حدوس افتراضية وحاولنا أن نكذِّبها.

غير أن المسألة للأسف لم تُحسَم بعد. فإذا أنا لم أفترض أن انبثاق الماء من الصنبور في الماضي كلما أدرت المقبض هو سبب لأن أعتقد بأنه سينبثق اليوم، فمن الجائز لي بنفس الدرجة من المعقولية أن أمد الكوب تحت المصباح الكهربي بدلًا من الصنبور! يرد بوبر على هذه المسألة البراجماتية بأننا يجب كأساس للفعل أن نفضل «النظرية الأفضل اختبارًا». وهذا لا يمكن أن يعني أكثر من النظرية التي صمدت للتفنيد في الماضي، ولكن لماذا نفضلها عقليًّا ما دام بوبر يقول بأن التعزيز الماضي لا علاقة له بأداء النظرية في المستقبل؟ يقول بوبر إن من «العقلانية» أن نفعل ذلك، «بالمعنى الأوضح لي من معاني هذه الكلمة … فأنا لا أعرف شيئًا أكثر «عقلانية» من نقاش نقدي يدور بكفاءة.»

هكذا يقع بوبر في «المماحكة» اللغوية التي نَذَرَ نفسَه لمناهضتها!

لقد طالما ازدرَى فلسفة التحليل اللغوي إلى أن راقَته الآن حجةُ الفلاسفة التحليليين المسماة The Paradigm Usage of a Word والكلمة هنا هي كلمة «عقلي» أو  «عقلاني» Rational. وهي حجة لا تُثبت شيئًا، فالألفاظ كما قال بوبر مرارًا لا تهم ما دمنا لا نسمح لها أن تضللنا. والحق أن حجة بوبر ليست أفضل حالًا من حجة ستروصن Strawson الذي زعم أن الاستقراء هو استدلال صحيح (منتِج/صائب) لأن الاستدلال الاستقرائي هو «برادايم» (نموذج شارح) لما نعنيه من كلمة «استدلال صحيح» Valid. بل إن مساواة بوبر بين «النقاش النقدي الجيد» وبين فكرة «العقلانية» هي أكثر خذلانًا، ذلك أننا لن تتوافر لنا فكرةٌ عن كيف ندير «نقاشًا نقديًّا جَيِّدًا» قبل أن نعرف كيف نُبرهن على أن نظرية بعينها هي الأكثر احتمالًا بأن تصمد في المستقبل.
ولا يزال السؤال الأكثر جوهرية هو: كيف يمكننا حتى من الوجهة النظرية أن نفضل فرضيةً على أخرى، أو نعتبر نظريةً أقرب للصدق من الأخرى، إذا لم تكن لتعزيزات الماضي أيُّ دلالة مستقبلية. فبدون فرضية الاستقراء لن تكون لحقيقةِ أن نظريةً ما قد فُنِّدَت بالأمس أيةُ صلة بصدقها اليوم. والحق أنه في الوقت الذي يستغرقه قولنا «هذه النتيجة تعزز نظرية أينشتين دون نظرية نيوتن» تكون قد تبددت كل دلالة لهذه الملاحظة، ولا يعود بإمكاننا أن نمضي لنقول «إذن نظرية أينشتين هي أكثر اقترابًا من الصدق». يتبين من ذلك أن اطِّراحَ فرضيةِ الاستقراء يجعل نظريةَ بوبر نفسه في نمو المعرفة العلمية بلا معنى. فرغم أن بوبر مُحِقٌّ في أن الاستقراء ليس وسيلةً للكشف العلمي فإنه يبقى مبدأً لا غنى عنه، وتظل المشكلةُ المنطقية للاستقراء عصيةً وبعيدةً عن الحل، وليست أكثرَ اقترابًا منه عما كانت عليه قبل أن يعالجها بوبر.٥

(١-٢) يؤكد بوبر أنه مناهض للمذهب الاصطلاحي Conventionalism

(هو المذهب القائل بأن كل ما يبدو لنا موضوعيًّا Objective أو محدَّدًا بالطبيعة by Nature هو في حقيقته ظاهرةٌ من صنع الإنسان Artifact وأمرٌ يتوقف على الاتفاق البشري والقرار الإنساني شأنه شأن آداب اللياقة أو النحو أو القانون). ويؤكد بوبر دائمًا التزامَه بنظرية التطابق (التناظر) Correspondence٦ في الصدق، الأمر الذي يضعه في المعسكر «الواقعي» Realist عن جدارة. ورغم ذلك فهو يشجب (مقتفيًا في ذلك خُطَى كانت) بشدة وجهةَ النظر الوضعية/التجريبية القائلة بأن «العبارات الأساسية» Basic Statements (أي عبارات الملاحظة عن معطيات الحس مصوغة في زمن المضارع) هي عبارات «معصومة من الخطأ» Infallible. ويبرهن بوبر بإقناع على أن مثل هذه العبارات الأساسية ليست مجرد «تقارير» عن إحساسات مسجَّلة على نحو سلبي، وإنما هي أوصاف لما هو ملاحَظ، بعد تأويله من جانب الملاحِظ بالإحالة إلى إطار نظري محدَّد. ومِنْ ثَمَّ فإن هذه العبارات الأساسية غير معصومة، وهو ما يعنيه بوبر عندما يقول بأن هذه العبارات «محملة بالنظرية» Theory-Laden — فالإدراك نفسه عمليةٌ نَشِطة يتمثل فيها العقلُ المعطيات الحسية بالإحالة إلى خلفيةٍ نظريةٍ مفترضةٍ. ويؤكد بوبر بناءً على ذلك أن هذه العبارات الأساسية نفسَها هي فرضياتٌ غير محسومة: نعم هي مرتبطةٌ سببيًّا بالخبرة ولكنها غيرُ «محدَّدة» بالخبرة، ولا يمكن تأييدها أو تحقيقها بواسطة الخبرة.

ولكن هذا يضع صعوبة تتعلق باتساق نظرية بوبر مع نفسها: فإذا تعيَّنَ على النظرية س أن تكون قابلةً للاختبار حقًّا (وتكون بالتالي نظريةً علميةً) فلا بد أن يكون بالإمكان تحديدُ ما إذا كانت القضايا الأساسية (التي يُرجَى إذا صدقت، أن تُكذِّب النظرية) هي صادقة فعلًا أم كاذبة (أي تحديد ما إذا كانت مكذِّباتها بالقوة هي مكذِّبات حقيقية).

ولكن كيف لنا أن نعرفَ ذلك ما دامت هذه العبارات الأساسية لا يمكن تحقيقها بالخبرة؟ يجيب بوبر أن هذه العبارات الأساسية لا يمكن تبريرها بخبراتنا المباشرة، بل نحن نقبلها بإرادة … بقرارٍ حر. ولكن مهما أنكر بوبر، فإن هذا شيءٌ أقربُ إلى أن يكون صيغةً منقَّحة من «المذهب الاصطلاحي» Conventionalism. ومن الصعب التوفيق بينه وبين قول بوبر بأن العلم يمضي قُدُمًا ليقاربَ الحقيقة (الحقيقة التي يتصورها في ضوء نظرية التطابق)؛ إذ إن هذا النوع من الاصطلاحية مناقضٌ لهذا التصور عن الحقيقة.

(١-٣) كما بين إمري لاكاتوش I. Lakatos

ترتكز نظرية التمييز عند بوبر ارتكازًا أساسيًّا على وجود أشياء من قبيل «الاختبارات الحاسمة» Critical Tests التي إما أن تُكذِّب النظريةَ تكذيبًا حاسمًا أو تمنحها درجة عالية من التعزيز. وبوبر نفسه مُغرَم بذكر مثالٍ معين على هذه الاختبارات الحاسمة: وهو الحل الذي جاء به آدمز وليفرير Adams and Leverrier، للمشكلة التي فرضها المسارُ الفلكي الشاذ لكوكب أورانوس على فلكيي القرن التاسع عشر. فقد توصل هذان العالِمان، كلٌّ على حِدة، إلى تفسير هذا الانحراف الفلكي لمسار أورانوس بحتمية وجود كوكبٍ سابعٍ غير مكتشَف، وقد تمكنَّا من حساب الموقع الدقيق لهذا الكوكب الجديد. وهكذا عندما تمكَّن جول Galle في مرصد برلين من اكتشاف هذا الكوكب فيما بعد «كوكب نبتون» وتبين أنه موجودٌ في الموضع الذي حدَّده آدمز ولفرير بالضبط، استُقبِل هذا الكشفُ بالتهليل، واعتُبر نصرًا مؤزَّرًا للفيزياء النيوتونية. وبحسب مصطلح بوبر فإن نظرية نيوتن كانت قد تَعرَّضَت «لاختبارٍ فاصلٍ» Critical Test وخرجت منه بنصرٍ عظيم. وقد اعتَبَرَ بوبر نفسُه هذا التعزيز القوي للفيزياء النيوتونية «أروعَ نجاحٍ يمكن أن يظفر به أيُّ إنجازٍ فكري بشري.»
غير أن لاكاتوش ينكر بصريح العبارة وجود اختبارات فاصلة بالمعنى البوبري في العلم، ويثبت رأيه بشكل مُقنِع إذ يقلب المثالَ السابق (الذي يزعم بوبر أنه اختبار فاصل) رأسًا على عقب. يقول لاكاتوش:
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن جول لم يجد كوكب نبتون؟ أكنَّا سنهجر الفيزياء النيوتونية أو نَعُد نظريةَ نيوتن قد كُذِّبَت؟ الجواب هو: بالطبع لا. لأن فشل جول كان من الممكن عندئذٍ أن يُعزَى إلى أسباب كثيرة غير كذب نظرية نيوتن (مثل تدخل الغلاف الهوائي للأرض مع التلسكوب، وجود حزام شبه نجمي يحجب الكوكبَ عن الأرض … إلخ). المشكلة هنا هي أن الفصلَ الذي قدَّمه بوبر بين التكذيب والتعزيز دقيقٌ منطقيًّا بدرجة مفرطة: إن عدم التعزيز لا يعني التكذيبَ بالضرورة. وتكذيب النظريات العالية المستوى لا يمكن أن يتأتى بملاحظاتٍ معزولةٍ أو بمجموعةٍ من الملاحظات. ومن المتفق عليه الآن أن هذه النظريات عصيةٌ جِدًّا على التكذيب. إنها إن أمكن أن تُكذَّبَ على الإطلاق فإنما يتم ذلك لا باختباراتِ بوبر الفاصلة، بل داخلَ السياق المعقَّد ﻟ «برامج البحث» Research Programmes المرتبطة بها إذ يلاحظ أنها تتحرك بعُسرٍ حتى تتوقف، الأمر الذي يخلق فجوةً تتسع باستمرار بين الوقائع المطلوب تفسيرُها وبين برامج البحث نفسها.٧
إن تمييز بوبر بين منطق التكذيب ومنهجه لا يُقدم في نهاية المطاف تفسيرًا شافيًا لحقيقة أن جميع النظريات العالية المستوى تنمو وتعيش برغم وجود شذوذات Anomalies (أي وجود أحداث أو ظواهر غير متفقة مع النظريات). وإن وجود مثل هذه الشذوذات لا يؤخذ عادةً من جانب العلماء كدليل على كذب النظرية، بل على العكس، إنهم سيفترضون دائمًا وبالضرورة أن الفروض المساعدة Auxiliary Hypotheses المقترنة بالنظرية يمكن أن تُعدَّل بحيث تستوعب الشذوذات الموجودة وتُفسِّرها.

(١-٤) تتم صياغة القوانين العلمية في عبارات كلية (أي أنها تأخذ الصورة المنطقية التالية أو مكافئًا لها)

كل أ هو ب.

وهي لذلك تُعَدُّ بمثابة عبارات شرطية متخفية، وينبغي أن نفهمها على أنها عبارات افتراضية تخبر عما يكون عليه الحال تحت ظروف مثالية معينة، وهي بحد ذاتها ليست عبارات «وجودية» الطابع. وعلى ذلك فإن:

كل أ هي ب تعني: إذا كان أي شيءٍ هو أ، إذن فهو ب.

وحيث إن القوانين العلمية هي قضايا غير وجودية، فهي لا يمكن من الوجهة المنطقية أن تتضمن أي عبارات أساسية، ما دامت العبارات الأساسية هي عبارات وجودية بشكل صريح. السؤال الذي يبرز إذن هو: كيف يتسنى لأيِّ عبارة أساسية أن تُكذِّب قانونًا علميًّا، ما دامت العبارات الأساسية غير مستنبطة بحد ذاتها من قوانين علمية؟

يُجيب بوبر بأن القوانين العلمية تؤخذ دائمًا مقترنةً مع عبارات تحدد «الشروط المبدئية» للنظام المشمول بالبحث، وهذه العبارات الأخيرة، والتي هي عبارات وجودية فردية، تُنتِج فعلًا حين تُضَم مع القانون العلمي متضمنات صلبةً وثابتةً. وهكذا فإن القانون «كل أ هو ب» مقترنًا بعبارة الحالة المبدئية «هناك واحدة من أ في ط» يُنتِج المتضمنة «أ التي في ط هي ب»، والتي إذا كانت كاذبة فهي تُكذِّب القانون الأصلي.

لا يكون هذا الرد وافيًا بالغرض إلا إذا صحَّ أن العبارات الوجودية الفردية ستقوم كما يزعم بوبر بمهمة سد الفجوة ما بين النظرية وبين التنبؤ. وقد اعترض هيلاري بتنام بوجهٍ خاصٍّ بأن هذا الافتراض غير صحيح، لأنه في بعض الأحيان على أقل تقدير تكون العبارات المطلوبة لسد الفجوة (والتي يُسمِّيها «الفرضيات المساعدة») عبارات كلية لا جزئية. ومِنْ ثَمَّ فإذا تكشَّفَ أن التنبؤ كاذبٌ فلا سبيل إلى أن نعرف إن كان هذا بسبب كذب القانون العلمي أم بسبب كذب الفرضيات المساعدة. ومن دأب العلماء دائمًا أن يفترضوا في البداية كذب الفرضيات المساعدة، الأمر الذي يُبَيِّن لنا ليس فقط أن القوانين العلمية عَصِية على التكذيب، بعكس ما يقوله بوبر، بل يُبين أيضًا لماذا هي عصية.

والموقف الأخير الذي يتذرَّع به بوبر هو أنه يعترف أن من غير الممكن أن نميز العلم من اللاعلم على أساس قابلية تكذيب العبارات العلمية وحدها، فقد أدرك أن النظريات العلمية لا تكون تنبؤية، وبالتالي حظرية (منعية)، إلا إذا أُخِذَت مقترنة مع فرضيات مساعدة، وقد أدرك أيضًا أن تعديل أو تحوير هذه الفرضيات المساعدة هو جزءٌ متمم للممارسة العلمية. وقد جعل هَمَّه النهائي بالتالي هو أن يحدد الشروط التي تبين متى تكون هذه التعديلاتُ علميةً أصيلةً ومتى تكون مجردَ تعديلاتٍ تحايلية (عينية) ad hoc. هذا بحد ذاته تغييرٌ كبيرٌ في موقف بوبر، ويمثل تراجعًا جوهريًّا من جانبه: لم يَعُد من الممكن أن نرمي الماركسية باللاعلمية لمجرد أن دعاتها حفظوا النظرية من التكذيب بتعديلها (لأن مثل هذا الإجراء الذي اتخذوه قد اتضح أنه مسلكٌ علميٌّ وجيهٌ تمامًا). إن بوبر يرمي ماركسيةَ اليوم باللاعلمية لأن الأساس المنطقي الوحيد للتعديلات التي أُدخِلَت على النظرية الأصلية هي أن تضمن لها التملص من التكذيب، وأن هذه التعديلات هي بالتالي تحايلية (عينية) ad hoc وليست علمية. هذه الدعوى من جانب بوبر، رغم أنها غيرُ ممتنعة على الإطلاق، لا تخلو من مسحةٍ تحايلية، ومن المُستبعَد أن تؤرِّق الماركسيَّ الصميم. وهذا التراجع الواضح لموقف بوبر يعتبره بعض النقاد دليلًا على أن «مذهب التكذيب» Falsificationism، رغم كل ما يتحلى به من مزايا واضحة، لم يحرز في نهاية التحليل نجاحًا أكثر مما أحرزه «مذهب التحقيق» Verificationism.

(٢) فلسفته السياسية والاجتماعية

لم تكن فلسفة بوبر السياسية أقل شأنًا وتأثيرًا في الأوساط الفلسفية وغير الفلسفية من فلسفته العلمية. ويذكر إدوارد بويل في مقاله المدرج بكتاب «فلسفة كارل بوبر» أن «المذهب الإيجابي في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» كان له أثر هائل في الأذكياء من جيل السياسيين الشبان من كلا الحزبين الرئيسيين في بريطانيا بعد الحرب الثانية.»

كانت السمة المميزة لدفاع بوبر عن الديمقراطية هي أنه جمع في معالجتها لموضوعه بين مجالات متباعدة تَباعُدَ فلسفةِ العلم والفلسفة السياسية. وكان العنصر الموحد بين هذه المجالات هو تطبيقه لمنهجه النقدي على المسائل الاجتماعية والسياسية. وعلى النقيض من الاعتقاد الشائع بأن الديكتاتورية أو «الاستبداد العادل» هو شكل من الحكومة أكثر كفاءة من الشكل الديمقراطي، أثبت بوبر بالحجة الدامغة أن المجتمع المفتوح بمؤسساته الحرة وانفتاحه على النقد هو أقدر على أن يجد سُبُلًا أفضل لحل مشكلاته على المدى البعيد. فالمؤسسات الحرة تتيح لنا أن نُغير رأينا فيما ينبغي أن يكون عليه الحُكم وأن نضع هذا التغيير موضع التنفيذ دون إراقة دماء.

وعلى أسس شبيهة بهذه يدعو بوبر إلى ما اسماه «الهندسة الاجتماعية الجزئية» Piecemeal Social Engineering كمقابل للتخطيط الكلي اليوتوبي. فمن شأن التحسينات الجزئية أن تقبل التصويب إذا تبين أنها على خطأ، بينما التخطيط الكلي اليوتوبي جديرٌ بأن يُولِّدَ اضطراباتٍ كبيرةً قد تؤدي إلى وضع أسوأ بكثيرٍ من الوضع الذي بدأ منه. وفي هذا المجال السياسي، كما في مجال المنهج العلمي، يفضل بوبر طريقة المحاولة ونبذ الخطأ على أحلام الكمال اليوتوبي التي لا تتحقق.
ووراء كل ذلك يقع مذهب بوبر عن «النفعية السلبية» Negative Utilitarianism (الذي يجاوب المذهبَ الإسلامي القائل بأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة). وهو متبوع ومقترن بالضرورة بالمبدأ الثاني القائل ﺑ «أكبر قدر من الحرية للأفراد بأن يعيشوا وفق ما يرغبون.»
كَرَّسَ بوبر في كتابيه «عقم النزعة التاريخية» و«المجتمع المفتوح وأعداؤه» جهدًا كبيرًا ومنظَّمًا لتقويض ما أسماه «المذهب التاريخي» أو «النزعة التاريخية» Historicism الذي يهدف إلى التنبؤ بمسار التاريخ، ويظن أن هذا غايةُ تُدرَك بمجرد أن نكشف عن القوانين العامة والأنماط التي يُفترض أن التاريخ يسير وفقًا لها. وكانت الحجة المحورية لبوبر هي أن التنبؤ التاريخي مستحيل لأن مسار التاريخ يتأثر حتمًا بتقدم المعرفة البشرية، وهو أمر غير قابل للتنبؤ من حيث المبدأ، ومن شأنه أن يُغير «الشروط المبدئية» Initial Conditions التي تقوم عليها التنبؤات.
ويذكرنا الآن دوناجان Alan Donagan في مقاله عن «المذهب التاريخي» المدرَج في كتاب «فلسفة كارل بوبر» أن بوبر كتبَ كتابَه «عقم المذهب التاريخي» في وقت كان فيه الاعتقاد بوجود قوانين صارمة تحدد مسار المستقبل اعتقادًا واسع الانتشار في العالم؛ وأن الفضل يعود إلى بوبر في تقلص شعبية هذه الفكرة في الدوائر الفكرية الغربية. وقد صرَّح البعض بأن فشل تنبؤات ماركس وتأبِّي الأحداث على أن تجيء مصداقًا لها كان أقوى تأثيرًا في تقويض الماركسية من نقد بوبر. غير أن هذا القول على صِدقه لا يعدو أن يكون تمجيدًا آخر لفكر بوبر، وشهادة بأن النقد العقلاني هو أكثر خصبًا من الأيديولوجيات وأكثر اقترابًا من الحقيقة.
ورغم مضي قرابة ثلثي قرن على كتابة الخطوط الأولى من «عقم المذهب التاريخي» (١٩٣٥) فإن استبصاراته الثاقبة لا تزال على بريقها الأول، وما نحسب أنها سوف تفقده في أي زمن يأتي. وتلك هي صفة الفكر الفلسفي الأصيل الذي يضفر الدليل المنطقي القبلي a Priori بالشواهد الإمبيريقية البعدية a Posteriori.

في هذا الكتاب الذي يشبه البيان المحكم الجامع، يطبق بوبر منهجه النقدي في المجال الاجتماعي والسياسي. يقول بوبر إن أولئك الذين يظنون أن تأويل التاريخ كصراع للطبقات (أو كصراع بين الجنس الآري وغير الآري) هو نظرية علمية يرتكبون خطأً أساسيًّا. فالتأويل التاريخي مهم وملهم، ولكنه ليس نظرية. إنه مصدر خصب لاستخلاص فروض وصياغتها بحيث تكون قابلة للاختبار، وبدون هذه المهمة المنطقية يبقى التأويل تأويلًا مهما حَشَدَ له التاريخاني من شواهد واستنفرَ من أدلة. إن عليه أن يقول لنا أي التطورات المستقبلية أو الاكتشافات الجدية عن الماضي من شأنها أن تدحض النظرية. فإن لم يفعل، أو لم يقدر، فإن ادعاءه الوضع العلمي لتنبؤاته يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد، فهي تلحق بتأويلات المنجم الذي يَدَّعي وجود قوانين تربط بين موقع النجوم وأحداث الأرض، ويأتي بشواهد لا تُحصى دون أن يحدد لنا بشكل مسبق أي حال معين يمكن إن صدق أن يكون مكذِّبًا لأقواله.

(٢-١) نقده لهيجل

في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، يفرد بوبر فصلًا طويلًا عن هيجل، لعله أقذعُ الفصول جميعًا في تاريخ التراث الجدلي، ويقف هذا الفصل، فيما نرى، نشازًا بين فصول المكتبة البوبرية، لست ترى فيه غير سبابٍ وقدحٍ لم نعتد رؤيتَه في الجدال الفلسفي، وليس يحوي غير تعريض شخصي يلحق بما يُسَمَّى «الحجة الشخصية» Argumentum ad Hominem وهي المغالطة المنطقية (غير الصورية) التي يقع فيها مَن يهاجم شخصَ الخصم (قدراته، دوافعه، أخلاقه … إلخ) بدلًا من حجته، فيبدو كأن حجته قد دُمِغَت! فالحق أنك قد تهاجم شخص الخصم، بحق أو بباطل، فتُدميه وتُصميه وحجته بعدُ حيةٌ تُرزَق! إنك إذن تفند شخصه لا حجته، وإن تفنيد شخصه هو أمر «خارج عن الموضوع» Irrelevant إذا كان المقام تفنيد حجة.٨

الحق أنَّ المرء لا يجد في هذا الفصل أيَّ دليلٍ يعالجه، ولا حجة يتناولها، ولا حصن يغريه بالهجوم، وإن المرء ليسأل نفسه بعد قراءة هذا الفصل: «حسنًا، ولكن أين هيجل؟» أين ذلك الصرح العقلي الشامخ الذي لا يعرف الخصم من أين يناله ولا من أين يأتيه؟ ربما لذلك اتجه بوبر إلى شخص الخصم بعد أن أعيَته الحيلةُ في النيل من فكره.

إنَّه يصف هيجل بأنه أفَّاقٌ يعمد إلى استخدام طنين لفظي يغشِّي به على فراغ فكره، وأنه متملق ذليل يهدف من مذهبه إلى تمكين عرش سيده وولي نعمته الملك البروسي الرجعي، وأنَّ نفوذه الفكري المطبق هو مما أفاضه عليه سيده ثمنًا لبضاعته الدعاوية الخبيثة، ومما أفاضه عليه عامةُ النَّاس الذين وجدوا فيه ما صورته لهم أفكارهم المغلوطة عن الفلسفة وطبيعتها، وبوبر في كل هذا يؤيد دعواه بشواهد مطوَّلة من نصوص هيجل اقتلعها من سياقاتها ولفَّقها تلفيقًا، وهي طريقة لو طبقتها على أعمق كتاب لبدا أحمق مأفونًا، وإن هيجل لأيسرُ ضحيةٍ لمثل هذه الطريقة من العرض، ذلك أنَّه دأب على شرح كل جانب من جوانب موضوعه على حدة، فإذا تحدث مثلًا عن «الدولة» فإنَّه يُركز على الوجه الجمعي من السياسة، وإذا تحدث عن المجتمع المدني، فهو أكثر تركيزًا على النزعة الفردية، ولا تكتمل الصورة الحقيقية التي يريد أن يرسمها إلا باجتماع الوجهين وضمهما سويًّا، غير أنَّ بوبر لم يكن مقصده في هذا الفصل أن يفهمَ هيجل بل أن يدمره.

إنَّ نظرة هيجل إلى المواطن بوصفه فردًا هو حجر الزاوية في بناء الدولة عنده، والدستور الذي ينبع من إرادة الشعب هو المبدأ النهائي الذي ينظم شئون الدولة ومؤسساتها، والمواطن في دولة هيجل يُشارك في العملية السياسية، أي في صياغة القانون وتنفيذه، بطريقتين:
  • (١)

    فهو يشارك بطريقة غير مباشرة بواسطة السلطة التشريعية التي هي مجلس للمقاطعات أو للطبقات أو للفئات ينتخب الشعب أعضاءه، وتقوم هذه المؤسسة بصياغة قوانين الدولة ووضع البرامج التي تكفل الرخاء للمجتمع ككل.

  • (٢)

    ويُشارك المواطن على نحو مباشر في العملية السياسية عن طريق التصويت العلني بإبداء رأيه الشخصي الخاص في المسائل المتعلقة بشئون الدولة، يقول هيجل في «فلسفة الحق»: «تعتمد حرية الأفراد الذاتية على أنَّهم يُكوِّنون آراءهم الخاصة وأحكامهم الشخصية ويعبرون عنها فضلًا عن توصياتهم في شئون الدولة، وتتجلى هذه الحرية على نحوٍ جمعيٍّ فيما نطلق عليها اسم «الرأي العام» الذي يرتبط فيه ما هو كلي وجوهري وحق بضده؛ أعني بما هو جزئي وبآراء شخصية للكثرة أو المجموع» (الفقرة ٣١٦). وهكذا نجد أنَّ «الرأي العام» هو خليط من الكلي والجزئي، من العقل واللاعقل، من الجاد والتافه، إذ يعبر عنه الأفراد المختلفون في درجة ذكائهم ومزاجهم واهتماماتهم وبواعثهم، وهذا يظهر لنا على أنَّ الرَّأي العام يبدو أمام الحكومة بطريقة غير منظمة، لكن الدولة ينبغي أن تؤدي عملها في جوٍّ من النظام والتخطيط الفكري، وبالتالي ينبغي انتقاء تلك الأفكار أو الآراء التي تعبر أعظم تعبير عن المصلحة العقلية للمجتمع ككل، وما هو هام في ذلك الانتقاء أو الاختيار ليس من يُعبر عن هذه الفكرة أو ذلك الرأي أو عددهم، بل ما هي الفكرة الخيرة أو العظيمة؟ عظيم مَن يستطيع أن ينظم الحاجة الكلية للشعب! «فالرجل العظيم في عصر ما هو الرجل الذي يستطيع أن يضع إرادة عصره في كلمات، إن الرجل الذي يتنبأ لعصره بما يريد ثُمَّ يقوم بإنجازه، وما يفعله هو قلبُ عصره وماهيته، إنه يحقق عصره بالفعل.

    أمَّا مَن ينقصه الحس الكافي لاحتقار الرأي العام الذي يتجسد في الإشاعات، فإنه لن ينتج أبدًا شيئًا عظيمًا» (الفقرة ٣١٨). وبالتالي فإننا نستطيع أن نحترم الرأي العام أو نحتقره، إننا نحتقره بمقدار ما يتضمن من أكاذيب ومصالح ذاتية، لكننا يمكن أن نحترمه بمقدار ما يتضمن من مصالح حقيقية للأمة، «ومِنْ ثَمَّ فإن الرأي العام هو مستودع، ليس فقط للحاجات الأصلية والميول الصحيحة في الحياة العامة، بل هو أيضًا مستودع لمبادئ العدل الجوهرية الأزلية أعني المضمون الحقيقي للدستور كله وللتشريع والحياة الاجتماعية والوضع العام للدولة» (الفقرة ٣١٧).

يتبين من ذلك أنَّ الدولة عند هيجل ليست سلطة لا تناقش، وإنما هي على العكس تستمد سلطتها من إرادة الشعب: ليس فقط مما يقوله الناس على نحو مباشر بالتصويت على آرائهم كتابة أو مشافهة، بل أيضًا ما يقولونه بطريق غير مباشر عن طريق السلطة التشريعية، وأيضًا عن طريق حكمة أولئك المواطنين الذين لديهم استبصارات غنية لما هو أفضل للدولة ككل.٩
لست ترى في ذلك أثرًا لأيِّ سلطةٍ مطلقة أو دولة تعرف كل شيء وتمارس سلطة عليا في المعرفة والقوة على مواطنيها، إنَّ أساس الدولة عند هيجل هو سلطة العقل، ويكون الدستور عقليًّا إذا ما عبر عن غاية الإنسان القصوى ألا وهي الحرية: «إنَّ غاية «العقل المطلق» أن تتحقق الحرية بالفعل» (هيجل، فلسفة الحق، ملحق للفقرة ٢٥٨). وعلى ذلك فإنَّنا لا نستطيع أن نقبل أن يوصف الدستور بالعقلانية؛ وبالتالي أن نقول: إنَّه مشروع، ما لم يوفر شرطًا كافيًا لبلوغ الحرية، غير أنَّ السؤال الذي نبحث له عن إجابة مُلِحَّة هو: كيف تكون الحرية العينية ممكنة في دولة ذات دستور عقلي؟ ولقد كان هيجل على وعي بأهمية هذا السؤال؛ لأنَّه في بداية تحليله للفكرة الشاملة عن الدولة كتب يقول: «إن العقلانية، إذا ما أُخِذَت، بصفة عامة، على نحو مجرد، فإنها تقوم على الوحدة التامة والكاملة بين «الكلي» و«الفردي»، وتعتمد العقلانية عندما تصبح عينية في الدولة على التالي:
  • من حيث مضمونها تعتمد على وحدة الحرية الموضوعية (أي حرية الإرادة الكلية أو الجوهرية) والحرية الذاتية (أي حرية كل فرد في أن يعرف وأن يريد غايات جزئية).

  • من حيث صورتها فهي تحدد ذاتها عن طريق القوانين والمبادئ التي هي أفكار ومِنْ ثَمَّ كلية» (فلسفة الحق، فقرة ٢٥٨).

المواطن في الدولة إذن هو فرد هو عالَم من الفكر والشعور والفعل، وهو قادر على السعي نحو تحقيق غايات تنتمي إلى شخصيته، وهو يميز نفسه على نحوٍ فريد بالاهتمامات الشخصية والأفكار والقيم وسمات الشخصية، لكنه كذلك عضو في دولة، وهو بما هو كذلك يسعى إلى تحقيق الكلي؛ أعني الحكومة والقانون والعادات في حياته، وهذا الكلي الذي هو الدستور يكمن تحت إرادة الشعب ككل ويجسد القيمَ الأساسية، بمقدار ما يتلقى تصديق العقل، ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن الذي هو على وعي بعضويته في الدولة يعي كذلك أن حريته الحقيقية تتجسد من خلال الكلي أو الدستور؛ لأنَّه تعبير عن إرادته الكلية، والقوانين التي يقضي بها الدستور لم تَعُد بعدُ أوامرَ خارجية محايدة عليه أن يطيعها لو أراد أن ينجز غايات معينة وإنَّما هي قوانينه الخاصة، القوانين التي تعبر هي إرادته بوصفه عُضوًا في الدولة: «غير أنَّ هذه القوانين، وهذه المؤسسات من ناحية أخرى ليست شيئًا غريبًا عن الذات، بل على العكس فإنَّ روح الذات تشهد عليها بوصفها ماهيتها، أعني الماهية التي تشعر فيها الذات بذاتيتها، والتي تعيش فيها كما تعيش في عنصرها الخاص الذي لا تنفصل عنه» (فقرة ١٤٧). وهذا هو السبب في أن حريته يمكن إنجازها فقط عندما يريد في أفعاله أن يحقق نُسُق القوانين التي تنبع من الدستور، وإذا عبرنا عن ذلك بطريقة أخرى، قلنا: إنَّ المواطن يحدد نفسه ويتنسم نسيم الحرية عندما يعمل طبقًا للقوانين التي يضعها الدستور، وبالتالي فإن المواطن الذي يفشل في توحيد إرادته الشخصية الذاتية مع الإرادة الموضوعية التي تجسد الدرجة القصوى من العقلانية، لن يحقق في فعله حريته الكاملة.

«الدولة في ذاتها ولذاتها هي كلٌّ أخلاقي، إنها التحقق الفعلي للحرية، وتلك هي الغاية المطلقة للعقل أن تتحقق الحرية تحقُّقًا فعليًّا» (ملحق للفقرة ٢٥٨). وبالتالي فما دامت الدولة هي الروح على الأرض — وهي تتحقق هناك بوعي — وما دامت هي التحقق الأعلى للفكرة الأخلاقية على الأرض، فإنه ينتج من ذلك أن المواطن — شاء أم أبى — لن يستطيع أن يُحقق حريتَه إلا كعضوٍ في الدولة، كعضو يتطلع لتحقيق الغاية التي تعبر عن الإرادة الكلية، «إن ماهية الدولة الحديثة هي أنَّها اتحاد الكلي بالحرية الكاملة لأعضائها الجزئيين وبمصلحة الأفراد، حتى إن مصلحة الأسرة والمجتمع المدني لا بد أن تتمركز في الدولة، رغم أن الغاية الكلية لا يمكن أن تتقدم بغير معرفة شخصية، وإرادة أعضائها الذين لا بد أن تتأكد حقوقهم الخاصة. وهكذا نجد أنَّه لا بد من تعزيز الكلي من ناحية، ولا بد للذاتية من ناحية أخرى أن تبلغ تطورها الحي الكامل، وعندما توجد هاتان اللحظتان معًا وفي قوتهما، عندئذٍ فقط يمكن أن يُنظَر إلى الدولة على أنها تنظيم عضوي أصيل منسق» (ملحق للفقرة ٢٦٠). وعلى ذلك نجد أن الدولة بخلاف الحكومة في المجتمع المدني لا تقف أمام أعضائها على أنها «آخر»، أو على أنها شيء خارجي عنهم، وإنما هي الآن وحدة تجسد حقوقهم ومصالحهم، فإذا لم تنسجم غاية الفرد مع غاية الدولة بشكل أو بآخر، فإن الدولة تصبح «معلقة في الهواء» وتأخذ مكان المجتمع المدني. ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن حين يُطيع القوانين التي سنَّتها الدولة فإنه يحقق حريته؛ لأن القانون الذي يطيعه إنما هو تعبير عن إرادته وغايته الحقيقية-إنه قانونُه هو، وهذا هو أساس الدعوة بأن «على الأفراد واجبات تجاه الدولة بمقدار ما لهم عليها من حقوق» (فقرة ٢٦١).

هكذا يتبيَّن أن نقاد هيجل قد جانبوا الصواب حين نَعَتوا فكرته عن الدولة بأنها فكرة شمولية، وحين اتهموه بتجاهل الفردية الإنسانية Individualism وإقصائها من تخطيطه السياسي والاجتماعي، ويتبيَّن أنَّ أغلب الاعتراضات التي قدمت ضد تصور هيجل للدولة هي اعتراضات أحادية الجانب تقوم على قراءة شذرات مبتورة من «فلسفة الحق»، وتغفل تلك الوحدة العضوية العميقة لنظرة هيجل إلى الواقع السياسي. إن بنية الدليل الفلسفي الذي ساقه هيجل في «فلسفة الحق» لا تسمح، حتى من حيث المبدأ بالمجتمع الشمولي أو السلطوي، فنقاد هيجل لا يتبيَّنون بوضوح كافٍ الأساس الذي أقام عليه الدولة من ناحية وغاية الدولة من ناحية أخرى.
  • أساس الدولة عند هيجل هو القانون، فما يحكم ويحدد حياة الفرد في الدولة ليس عاملًا خارجيًّا، ولا قوة خارجة عن الفرد، وإنما هو القانون، القانون الذي يدركه المواطن عن وعي بوصفه موجودًا عاقلًا حُرًّا، ومِنْ ثَمَّ فإن المواطن الذي هو عضو في الدولة إنَّما يوجد في ظروف فردية وبوصفه مصدر السلطة؛ أعني الدولة التي تحدد حياته وحياة المجتمع بصفة عامة.

  • وغاية الدولة عند هيجل هي الحرية لأعضائها، وبالتالي فإن الدولة هي الوسط الذي يُحِّقق فيه المواطن حريته بوصفه فردًا بشريًّا، ولا يمكن للدولة أن تستخدم المواطن كوسيلة لغاية جزئية أنانية، بل على العكس إنها تبلُغ خاصيتَها كدولة فقط عندما تعامل كل مواطن على أنه شخص، أعني على أنه غاية في ذاته.١٠

أليس من العبث والمغالطة أن نصرف أنظارنا عن عمق التحليل الهيجلي للدولة، ثُمَّ نطبق عليه ببساطة أسماء وعناوين مثل: شمولي، غير ديمقراطي، غير ليبرالي؟ ذلك أن من المحال لأي لقب من هذه الألقاب أن يصف موقف هيجل وصفًا كافيًا. والحق أن هيجل نفسه يَنفُر من هذه الألقاب، واهتمامُه الأساسي هو ببساطة أن يحلل الطبيعة الجوهرية أو المبدأ الأساسي للدولة … ما يجعل من المجتمع المنظم دولة … الشروط التي يستطيع فيها أي عضو في هذا المجتمع أن يحقق فرديته الإنسانية أو حريته. إن الشكل الذي يتخذه الدستور عند هيجل (الشكل الديمقراطي، الكلي، … إلخ) ليس هو الأمر الحاسم وإنما السؤال الحقيقي هو: بأية طريقة يستطيع الدستور — عندما يصبح عاملًا في تشكيل سلوك المواطنين — أن يساعد في نمو النوع الأعلى من الشخصية البشرية، الشخصية التي تستطيع تحديد مصيرها، أو باختصار الشخصية الفاضلة؟

«عندما سأل أحد الآباء فيلسوفًا فيثاغوريًّا عن أفضل طريقة لتربية ابنه تربيةً أخلاقية، أجاب الفيلسوف الفيثاغوري بقوله: اجعل منه مواطنًا في دولة ذات قوانين صالحة» (فلسفة الحق فقرة ١٥٣، إضافة). هكذا يُلح هيجل على أن تطور القيم لا يتم في فراغ، وإنما يتم في وسطٍ عيني من القوانين والعرف والمؤسسات بصفة عامة، وليس في استطاعتنا، شئنا أم لم نشأ، أن نتجاهل دور هذه العوامل في ازدهار الشخصية البشرية.

يقول هيجل بوضوح: إنَّه لم يهتم في تحليله لفكرة الدولة بأن يفحص دولًا تاريخيةً معينة، ولا الشروط التي توجد فيها دول معينة وتمارس نشاطها، وإنما هو يهتم بتحليل فكرة الدولة أو بعينية أكثر كيف نفهم الدولة كشيء عقلي؟ وهو لا يفعل ذلك على نحو مجرد أو على نحو يوتوبي خيالي، وإنَّما بنظرة نقدية إلى الطبيعة البشرية من ناحية والتاريخ الفعلي للدول في العالم من ناحية أخرى، في تصديره لكتاب «فلسفة الحق» يقول هيجل: «هذا الكتاب إذن وهو يحتوي على علم الدولة لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورةً لها بوصفها شيئًا عقليًّا في ذاتها، ولا بد له بوصفه عملًا فلسفيًّا أن يكون بعيدًا عن محاولة بناء دولة ما على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. والدرس الذي يتضمنه لا يمكن أن يعتمد على تعليم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة، إنه لا يُبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالمًا أخلاقيًّا.»١١

(٢-٢) أوجه الشبه بين هيجل وبوبر

على الرغم من ذلك اللدد والعداء الشديد، فإن بوبر يعود في كتابه الأحدث «المعرفة الموضوعية»، فيعترف أن هيجل قد سبقه في كلٍّ من نظرية المعرفة الموضوعية نفسها، والمخطط التطوري لنمو المعرفة (بدءًا من مشكلة ما، ومرورًا بحل اختباري للمشكلة، ثُمَّ نقد لهذا الحل، وانتهاء بمشكلة جديدة). ومهما حاول بوبر إبراز الفروق فإن تلامذة هيجل لن يجدوا صعوبة في تَبيُّن التصور البوبري للمعرفة في هيجل، والديالكتيك الهيجلي في بوبر، يدَّعي بوبر أنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين الديالكتيك الهيجلي وبين مخططه لتقدم المعرفة، غير أن هذا الفارق قائم على فكرة خاطئة تقول بأن النظام الهيجلي يحتمل التناقضات، بينما لا يحتملها مخطط بوبر، فالحق أن هيجل لا يقبل التناقض أكثر مما يقبله بوبر، ووفقًا لهيجل فإنَّ استحالة احتمال التناقض في أيِّ مرحلة من المراحل يدفعنا إلى التقدم إلى وضع آخر يمكن أن يوفق بين وجهتي النظر المتناقضتين سابقًا، عندئذٍ تبرز تناقضاتٌ جديدةٌ وتتكرر نفس العملية، ومجمل القول: إنَّ التوازي بين فكرتي هيجل وبوبر شديد الوضوح، وأنَّ سلطان هيجل العقلي قد شمل بوبر نفسه من حيث لا يدري، وأن حال بوبر في ذلك يُذكِّر بقول النابغة للنعمان:

وإنكَ كالليل الذي هو مُدرِكي
وإن خِلْتُ أن المُنتَأَى عنه واسعُ

(٢-٣) نقده لماركس

من المتفق عليه أنَّ بُوبر قدَّم أعنف نقد وُجِّهَ إلى الماركسية منذ نشأتها، وأنَّه كان مُوفَّقًا فيه إلى أبعد حدٍّ. ويتميز نقد بوبر لماركس بأنه موضوعي يخلو من القدح والسباب ولا يتناول شخصَ الخصم دون حجته، بل هو نقدٌ مُنصِفٌ في مجمله يعرف لماركس قيمتَه الفلسفية ويُقدِّر نبلَ نواياه وسلامةَ مَقاصدِه.

غير أنَّ ماركس شخصية تميزت بتعدد الجوانب ومَرَّت بتطوراتٍ فكريةٍ جارفة، فاختلف فهمُ الناس لها في حياتها، ثُمَّ تَعرَّض مذهبه لتحولاتٍ أعنف بعد وفاته فاختلفت تصوراتُ الناس لهذه الشخصية اختلافًا خلق فجوةً هائلةً بين الحقيقة والأسطورة، ثمة إذن أكثر من ماركس في أذهان الناس، سواء كانوا من أتباعه أو من خصومه، تُرى أي «ماركس» ذاك الذي تناوله بوبر بالنقد في «المجتمع المفتوح»؟

يبدو لنا ماركس في «المجتمع المفتوح» مُفكِّرًا «حتميًّا» Determinist متصلبًا يعتقد أنه اكتشف القوانين الصارمة للأقدار البشرية، تلك القوانين التي لا نملك حيلةً إزاءها، فالنسق الاجتماعي هو الكل في الكل، ونحن فيه مجرد دُمَى تحركها خيوطٌ اقتصادية، ولا تملك من أمرها شيئًا، وماركس شأنه شأن كل تاريخاني مخلص، يُفترَض أنه اعتبَرَ نفسه في وضع نبيٍّ يتنبأ بالمصير المحتوم للتاريخ البشري.
لم يكن بوبر هو أول من أساء فهم ماركس بهذه الطريقة. فالحق أن ماركس لم يعدم في حياته من أساء فهمه، ولعل حالة ماركس هي من الأمثلة النادرة لمؤلفٍ يُمَد له في الأجلُ حتى يُبطِل بنفسه سوء الفهم! فمن بين رسائل ماركس هناك رسالة كتبها ردًّا على ناقد معاصر له، هو ميخائيلوفسكي، في هذه الرسالة ينكر ماركس أنه قدم «نظرية تاريخية-فلسفية عن الطريق العام الذي قُدِّرَ للناس أن تطأه»، ويكتب ماركس محتجًّا: «إن ميخائيلوفسكي يبالغ في تمجيدي وتسفيهي في الوقت نفسه».١٢

إنما لهذا الصنف من التفسير الحتمي المتصلب الدوجماوي لأفكاره دأب ماركس في أواخر أيامه أن يقول بأنه: «ليس ماركسيًّا!»

ومن الحق أنَّ ماركس كان ماكرًا بعض الشيء، وكما كتب إنجلز في رسالة إلى بلوك، فإن إنجلز وماركس مسئولان عن سوء الفهم بعد أن ألحَّت عليهما الحاجةُ إلى إبراز الجانب الاقتصادي لمعارضة أولئك الذين أنكروا أيَّ دور له على الإطلاق في التاريخ، ويمضي إنجلز قائلًا: [بِحَسْبِ المرء أن ينظر في كتابات ماركس التاريخية نفسها (وبخاصةً The Eighteenth Brumair of Louis Napoleon) لكي يجد ماركس على وعي تام (كما تقول الصفحة الأولى من هذا العمل) «بأن البشر يصنعون تاريخهم الخاص»، وإن يكن ذلك وفقًا للإرث الذي انحدر إليهم من الماضي، ونفس الشيء نجده في نصوصٍ نظريةٍ تمامًا وغير تاريخية، وأفضل مثال عليها نجده في «أطروحات في فيورباخ»].

لقد كان ماركس وإنجلز مسئولين عن كل ذلك، فقد كان ماركس في بعض الأحيان (وإنجلز في كثير من الأحيان) يكتب كما لو كانت الماركسية صَرحًا من المعرفة العلمية تحتوي على قوانين عامة تحكم تطورَ التاريخ كله، ولما كان هذا التصور للماركسية سهلَ الفهم وجذَّابًا بالنسبة لحقبةٍ انبهرَ الناسُ فيها بإنجازات العلم في مجالات أخرى، فقد تبيَّن أنَّه كان تصوُّرًا رائجًا بين الماركسيين المتأخرين. وحيث إن معظم التنبؤات عن القوانين العامة الأصلية قد تَبيَّنَ كذبُها، فإن المرء حقيقٌ ألا يملك نفسه عن الميل المُفرِط للتمسك بهذه النظرة اليوم، هذا هو التأويل الوحيد الممكن للماركسية الذي يستطيع بوبر أن يقول إنه دَحَضَه، وهو تأويلٌ غير مقبول في يومنا هذا، ولقد رأينا أن ماركس وإنجلز قد رفضا في أواخر أيامهما فكرةَ القوانين الكلية المتحكمة في مسار التاريخ كله.

ما يبقى من ماركس

ولكن هل هذا هو ماركس كلُّه؟ بالطبع لا، فهناك نصوصٌ هيجلية الطابع كتبها ماركس ولم يطَّلع عليها بوبر يوم كتب «المجتمع المفتوح»، لم يكن ماركس في هذه النصوص «نيوتن العلوم الاجتماعية»، بل كان فيلسوفًا حصيفًا يستخدم المقولات والمصطلحات الهيجلية، ولا يَدَّعي يقينًا علميًّا، بل يحاول أن يطبق على العالم الواقعي تلك الاستبصارات التي استمدَّها من هيجل.

والواقع الحق أنَّ هذه الاستبصارات تبقَى مشرقةً ومضيئةً، والفهم الحقيقي للماركسية الحقيقية يحملنا على أن نُقدِّر هذا التوجه الفلسفي، ونرى فيه إلهامًا بطرائق في النظر إلى الإنسان والمجتمع مثمرة علميًّا وإن لم تكن علمًا بالمعنى الكامل، بوسعنا أن نضرب صفحًا عن إسراف ماركس في ادِّعاء اليقين في بعض الأحيان، وعن نبوءاته الخاطئة، وأن نوافق رغم ذلك على أنه أشار إلى طريقٍ يمكن أن تتقدم فيه العلوم الاجتماعية، لقد كان السائد قبل ماركس أن يُدرَس الإنسان وأفكاره كما لو كان تاريخهما وتطورهما لا علاقة له البتة بمتطلبات العيش اليومية وحاجات الحياة الأرضية الملحة، ومنذ ماركس انعقد الإجماع على أن أنشطة الإنسان الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مشتبكةٌ معًا، ولا يمكن فهمها بمعزلٍ عن بعضها البعض، لهذا السبب يمكننا أن نقول بحق: إنَّ استبصاراته قد جعلت نشوءَ علمٍ للمجتمع أمرًا ممكنًا.

ولسنا نرى داعيًا لأن يُنكر بوبر أي شيء من ذلك، فكله يتفق تمام الاتفاق مع نظرته عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الميتافيزيقا في العلم، كمصدر للفرضيات التي تُقدَّم إلى العلم لكي يختبرها، ويجتبي الصامد منها.

لقد كَفَّ ماركس الحقيقي عن ادِّعاء العلم وأصبح «تأويلًا»، فما اهتزت مكانتُه ولا هَوَى ركنُه، ولعله يُفرِغ اليوم له مكانًا فلسفيًّا بين عظام «التأويل النقدي» Critical Hermeneutics و«التأويل المُحَرِّر» Emancipating Hermeneutics بين قومٍ يفهمونه، مكانًا لا يقل عن مكانه شبه الديني الذي فَرَضَه عليه السوقة، وحددوا فيه إقامته زمنًا طال حتى حَجَبَ عَنَّا كاتبًا من أعمق الكتاب فكرًا وأكثرهم نبلًا وأروعهم أسلوبًا.
١  Schilpp, P. A. (ed) The Philosophy of Karl Popper. (2 Vols). Open Court Press, La Salle, 1982.
٢  Peter Singer, Discovering Karl Popper, In The New York Review Books, May 2, 1974.
٣  Stanford Encyclopedia of Philosophy, entry: Karl Popper, by Stephen Thornton, 1997.
٤  أي نيوتن.
٥  Peter Singer, Discovering Karl Popper, In The New York Review of Books, May 2, 1974.
٦  يترجمها الدكتور فؤاد زكريا «التطابق»، ويترجمها المعجم الفلسفي للمجمع اللغوي «التناظر».
٧  Lakatos, I. The Methodology of Scientific Research Programmes, (ed. J. Worrall & G. Currie). Cambridge University press, 1978.
٨  للمزيد عن هذه المغالطة، انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٧، ص٦٨–٨٤.
٩  ميشيل متياس، هيجل والديمقراطية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار الحداثة، بيروت، ١٩٩٠، ص٦٠-٦١.
١٠  هيجل والديمقراطية، ص١٩-٢٠.
١١  هيجل، أصول فلسفة الحق، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٣م، العدد ٥ من المكتبة الهيجلية، ص٨٧-٨٨.
١٢  Marks and Engels: Basic Writings on Politics and Philosophy, edited by L. Fruer (Doubleday Anchor, 1959).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤