ثائر مهنته العلم

وهوايته تقطيع رقاب الملوك

الشرق، الشرق خصصتُ جهازَ دماغي لتشخيص دائه، وتحرِّي دوائه، فوجدتُ أقتَلَ أدوائه، داء انقسام أهله وتشتُّت آرائهم واختلافهم على الاتحاد.

جمال الدين الأفغاني

هل نحن نعيش فوق الأرض، نمشي ونقف، نتحرك ونسكن؟! أو أننا مثل الأرض نلف وندور؟!

هل الزمن مسافات وأبعاد، أعوام وأيام، ماضٍ وحاضر ومستقبل؟! أو أنه حلقة ليس فيها بدء حتمي أو نهاية حتمية؟ فبدايتُها يمكن أن تكون نهايةً، ونهايتها يمكن أن تكون بدايةً!

هل يستطيع الإنسان في هذه الحلقة المفرغة — التي نسمِّيها زمنًا — أن يتمرغ ويتدحرج، فيرجع إلى الماضي ويقفز إلى المستقبل؟

لا أدري! كلُّ ما أدريه أني تدحرجت وتمرَّغتُ بخيالي ومعلوماتي خلال حلقة الزمن، وانتقلتُ من مكاني في عام ١٩٦١ إلى مجلس العالِم الثائر المفكِّر! جمال الدين الأفغاني في عام ١٨٧٩، ليلةَ نفيه من القاهرة، وقلتُ له وقال لي.

•••

استيقظت القاهرة صباح يوم ٢٢ أغسطس من عام ١٨٧٩، ولا حديث للناس إلا عن جمال الدين الأفغاني، الرجل الذي عاش في مصر ثمانية أعوام، ينشر أفكاره الثائرة الحادة في الدين والاجتماع والسياسة بأسلوبٍ جديد، تنطلق منه الكلمة كالقنبلة، تدوي وتنفجر!

وقد وقف إلى جانب الشعب يحضه على الثورة ضد الإقطاع والاستعمار، ووقف إلى جانب الدين يدرأ عنه الخرافات، ويحميه من جهل المنتسبين إليه، المتحدثين باسمه، الذين ظفروا بألقاب كبار العلماء، ومشايخ الإسلام، ومنعوا العلوم الحديثة من أن تدخل الأزهر الشريف؛ فالطبيعة والكيمياء كفر، والحساب والجبر زندقة، والفلسفة إفك و«سَفَه»! والاجتهاد في المسائل الدينية حرام، واشتغال رجال العِلْم بالأمور السياسية والاجتماعية بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار!

ولكنَّ تعاليمَ الأفغاني كانت تيارًا قويًّا، سارت الأمة كلها في اتجاهه، كانت الكهرباءَ التي مسَّتِ العقولَ والمشاعِرَ فأيقظتها وأثارتها. وشنَّتِ الدوائرُ الرسمية على الأفغاني حربًا شعواء، واستعانت عليه بعلماء الدين فاتَّهموه في عقيدته، وكانوا يسمونه «ضلال الدين الأفغاني»، ويحذِّرون الطَّلَبَة من الاتصال به أو الاستمتاع إلى آرائه.

وكان خطر الأفغاني أضخم من أن يقاومه جهل الخديو، وضعف الحكومة، وسذاجة أرباب العمائم واللحى في تلك الأيام!

وأدركَتْ تلك الدوائر أنه لا جدوى من التغلُّب على الأفغاني بالتشويش والمهاترة وإطلاق الألسنة في شرفه وعقيدته، الشيء الوحيد الذي يقهر الأفغانيَّ هو اختفاؤه حيًّا أو ميتًا!

وانطلقَتِ الإشاعات في هذا اليوم تؤكِّد أن الخديو توفيق سيقتل الأفغاني، أو يسجنه، أو ينفيه.

واتجه أبناء القاهرة إلى الحي الحسيني؛ حيث الأزهر الذي كان قلعةً تحصَّنَ فيها أعداءُ الشيخ المفكِّر الثائر، وحيث خان الخليلي الذي اتخذ الشيخُ من بيوته سكنًا يجتمع فيه بتلاميذه وأنصاره.

اتجهت جماهيرُ الشعب إلى هناك لتلقِّي آخِر نظرة على الرجل الذي علَّمهم كيف ينظرون، واقتحمَتْ على الشيخ مجلسه؛ كان حوله الوجيه سليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، والأديب عبد الله نديم، وشبانٌ كثيرون عرفت منهم الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وإبراهيم اللقاني، وعلي مظهر، وسليم نقاش، وأديب إسحاق، ويعقوب صنوع!

وكان الشيخ ينفث دخان سيجارته بحدةٍ وشغف، ولا تكاد السيجارة تنتهي حتى يكون تابِعُه «أبو تراب» قد لفَّ سيجارة أخرى وقدَّمها إليه، وعلى مائدة الشيخ عدد كبير من أباريق الشاي، وكان يصبُّ لضيوفه الشاي في الأقداح بنفسه، وهو يصغي لكلِّ كلمة، ويجيب عن كل سؤال، والضجيج يملأ المقهى؛ ضجيج الباعة الجائلين ونداء الصبيان بالطلبات: «قهوة»، «نارجيلة»، «جوزة»، «شاي أحمر»، «شاي أخضر»، «شاي كشري» … وقرقعة الطاولة، والمجاذيب الذين يصيحون: يا حي! ويهتفون بالصلاة على النبي! وزعيق الزبائن وهم خليط من المعمَّمين، والمُطَرْبَشين، ولابسي الجلابيب بلا جاكتات، وبينهم الشامي، والمغربي، والسوداني، والمصري، والحجازي، واليمني، والتركي، والعراقي، والإيراني، وفيهم أهل التقوى وأهل الفجور، والمسابح تتشابه في يد التقي ويد الفاجر! وبينهم شواذ يدخِّنون الحشيش في النارجيلة، ويجالسون الغلمان!

وبرغم هذا الجو كان مجلس الشيخ مهيبًا يحترمه كلُّ مَن يراه، حتى الضجة كانت تحتشم إذا ما اقتربَتْ من مجلس الشيخ، فتسمع صوته عميقًا، صافيًا، هادرًا، وهو يتحدَّث عن مشكلات العلم والدين والاجتماع والسياسة، بصراحةٍ وتدفُّقٍ، كانت كلماته واضحة كلون الشاي، متدفِّقة كإبريق الشاي، وكانت إشارات يدَيْه معبِّرة، تكاد تسمع فيها رنين الكلمة! وهنا، أدركتُ لماذا وصفوا جمال الدين الأفغاني بأنه كان يصبُّ الشاي بيدٍ، وينثر الحكمةَ باليد الأخرى!

وكان علي مظهر شابًّا وديعًا، يبدو من قسمات وجهه أن في عروقه المصرية دمًا تركيًّا، عيناه زرقاوان، وبشرته بيضاء، وقد امتدَّ على فمه شارب جميل؛ حذاؤه اللامع، وطربوشه الملتوي المكتوي، المائل إلى اليمين فوق رأسه، وملابسه الأنيقة، تدل على أنه من أصحاب الثراء الذين لم يمارسوا العرق!

وكان يتابِع حديثَ الشيخ برهبةٍ وإرهاب، يصغي بأذنَيْه، يصغي بعينَيْه، يصغي بأطراف رأسه، لم يشترك في الأحاديث التي دارَتْ بكلمة أو إشارة أو همهمة.

وكان طيلة الجلسة يطوق صدره بكلتا يدَيْه، كأنما يخشى أن يسقط من صدره شيءٌ وعاه من الشيخ وهو يتحدَّث!

واستأذن الشيخ في الانصراف إلى مسجد الحسين، وقال إنه عائد بعد ساعة.

ومشى الشيخ ومن ورائه محمد عبده، وعبد الله النديم، وسليم الحجازي، وعبد السلام المويلحي، وإبراهيم المويلحي، وتابِعُه الخاص أبو تراب.

ووقف كلُّ مَن في المقهى إجلالًا للشيخ، بعضهم اتجه إليه وصافَحَه وقبَّلَ يدَه، أو حاوَلَ أن يقبِّلها، وبعضهم وقف مكانه وفي يده مسبحة أو فم نارجيلة، وكان أبو تراب خلال ذلك يبتسم للناس في نشوةٍ، مؤكِّدًا لهم بغمزاتِ عينَيْه وتحريك أصابعه أن الشيخ سيعود بعدما يؤدِّي الصلاةَ.

وانتهزتُ هذه الفرصة، وخلوتُ بعلي مظهر وسألتُه لماذا لم يفتح فمَه بكلمةٍ عندما كان جالسًا مع الشيخ؟! فقال: خشيتُ أن تفوتني منه فكرة أو تعبير أو تكشيرة أو ابتسامة؛ إن مولانا الأفغاني يعطينا الحكمةَ في كل حركاته وسكناته!

قلتُ له: ولماذا لم تصحبه إلى المسجد؟

فقال: اعتقدتُ أن عنده ما يريد أن يخصَّ به الذين دعاهم للذهاب معه.

– ومَن هؤلاء الذين معه؟

قال: عبد السلام المويلحي وجيه كبير، وإبراهيم المويلحي أعظم كتَّاب هذا العصر.

قلتُ: ومَن يكون عبد الله النديم؟

قال: هذا مفكِّرٌ عصاميٌّ علَّمَ نفسَه بنفسه، وتطوَّرَ من «أدباتي» إلى أديبٍ كبير ينظم الشعرَ والزجل، ويخطب وله تأثير شديد في تغيير أفكار الجماهير، ولا أحد يضارِعُه في الكتابة باللغة العامية، إلا يعقوب بن صنوع «أبو نضارة»، وهو يهودي.

قلتُ: النديم يهوديٌّ؟!

قال: النديم مسلم، اليهودي هو أبو نضارة يعقوب بن صنوع.

قلتُ: وما علاقة الأفغاني المسلم بهذا اليهودي؟

قال: إن مولانا يؤمن بتضافُر العقليات الشرقية، سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية، للتحرُّر من الاستعمار الأوروبي، وطغيان الملوك على اختلاف أسمائهم؛ سلطان أو خديو أو شاه!

ثم مدَّ يده مشيرًا إلى أحد الشبان، وقال: أتعرف مَن هذا؟

قلتُ: رأيتُه في مجلس الشيخ.

قال: هذا شاب لبناني مسيحي اسمه أديب إسحاق، عرف مولانا مواهبَه فأدناه منه، وعاوَنَه على إصدار جريدةٍ في القاهرة اسمها «مصر»، وكان السيد جمال الدين الأفغاني يُشرِف على سياستها، ويكتب فيها مقالات يوقِّعها باسمٍ مستعار، هو «مظهر بن وضاح»، ثم أرسَلَه إلى الإسكندرية حيث أنشأ جريدةً يوميةً هي «التجارة»، وأغلَقَهما رياض باشا ناظِرُ النظَّار!

قلتُ: وأبو نضارة هذا، هل هو صحفي؟

قال: إن يعقوب بن صنوع شاعر، وكاتب، وزجَّال، وابن نكتة، ويتقن عدةَ لغات، ويعرف التشخيص، ويفكِّر أفكارًا هزلية، أما أبو نضارة فهو اسم المجلة التي عاوَنَه مولانا على إصدارها في عهد الخديو إسماعيل، وكان مولانا يرى وجوبَ إنشاء مجلةٍ تكتب للفلاحين بلغتهم، وقلنا له: وما الفائدة من ذلك ما دام الفلاح لا يعرف القراءةَ بلغته الفصحى؟

فقال: إن الفلاح يسمع ما في الجريدة، فإذا سمع لغة فصيحة لم يفهم بسهولة، وإذا سمع لغته الدارجة فهمها بسرعة، والأمة في حاجةٍ إلى أن تفهم بسرعة!

قلتُ: ومَن يكون سليم الحجازي؟

فقال: سليم باشا الحجازي رجلٌ معروف، عندما زارنا الأفغاني لأول مرة كان الخديو إسماعيل قد نكب البلادَ بالديون التي أخذها من الدول الأوروبية، وبلغ مجموعها ٩٥ مليون جنيه أنفَقَها على نزواته ومظاهِر أبهته، وتدخَّلَتِ الدول الدائنة في شئوننا عقب وصول بعثة «كيف» إلى مصر عام ١٨٧٥، وأنشئَتْ مصلحةً للرقابة على مالية مصر، وكانت هذه الرقابة تحكمنا وتتحكَّم فينا، وتستولي على أقواتنا، وتوجِّه سياستنا واقتصادياتنا.

وثار السيد جمال الدين الأفغاني على الحال التي آلَتْ إليها مصر، وكان يقول: إني لَأعجب منك أيها الفلاح، تشقُّ الأرضَ بفأسك باحثًا عن رزقك، لماذا لا تشق بهذه الفأس صدورَ ظالِمِيك؟!

وكان مولانا يحضُّ على الخلاص من إسماعيل، ويصف حُكْمَه بأنه هوانٌ للشعب، وقهر، وظلم، وسخرة، وجسر يَعْبُر فوقَه الغزاةُ من المستعمرين، ليلووا رقابَنا، ويحنوا ظهورَنا، ويستنزفوا منَّا الدمَ والعرقَ والكرامةَ.

وأخذ سليم الحجازي يستمع إلى السيد الأفغاني في تأثُّرٍ واستجابة، وبغتةً وقف منتفضًا وهو يقول: كفى يا مولانا، فإنكَ إذا لم تسكت فسوف أذهب الآن وأقتل الخديو إسماعيل.

قال الأفغاني: وما الذي يمنعك من قتله؟

قال سليم باشا: أخشى على ابني فؤاد، أخشى أن يثأروا منه.

فقال الأفغاني: إذا كان هذا هو المانع، فاقتلِ ابنَك فؤاد، ثم اقتلِ الخديو إسماعيل!

– وهل كان الأفغاني يكره إسماعيل إلى هذا الحد؟

قال علي مظهر: كان يكره الملوك إلى أقصى حدٍّ؛ لأنه يحب الشعب والحق والعدل.

وها هو ذا مولانا قد عاد ومعه تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، فاجتهِدْ أن تخلو بالشيخ عبده وتسأله: كيف ذهب ليقتل بنفسه الخديو إسماعيل؟

– الشيخ عبده يقتل؟!

قال: اسأله وسوف يُجِيبك!

وساد أرجاء المقهى جوٌّ من الاهتمام.

وقف الجالسون، وأُغلِقت علب النرد (الطاولة)، وارتفعَتْ أصواتُ الكراسي والجرائد وهي تبعد عن الزبائن لتتيح لهم فرصةَ استقبالِ جمال الدين وتحيته بلمسات الأيدي، أو بنظرات العيون.

وأقبَلَ الشيخ يحفُّ به محمد عبده، وأبو تراب، والعلم، والجلال، والمهابة، وهو يحاول أن يتوارى فلا يستطيع؛ وَقَارٌ يريد أن يخف! وتواضُعٌ أشدُّ سطوةً من الكبرياء!

كان الذكاء والسحر والتمرد تشع من عينَيْه الواسعتين، ويعلو العينين حاجبان أشبه بخنجرين من شعرٍ ناعم كثيف، يفصل بينهما أنف أشم، وعلى جانبَيِ الوجه خدَّان بارزان، وقد غطَّى الشعرُ أذنَيْه، ووقف شاربه مؤدبًا عند فمه، فبدَتْ شفتاه المليئتان واضحتين تنطلق منهما الكلمة، والضحكة، والآهة الساخرة، والآهة الثائرة، ولم أرَ ذقنَه، فقد اختبأ في لحيةٍ مستديرة جميلة!

الجبهة عريضة، والرأس كبير، ولون البشرة قمحي، أما قوامه فقد حار بين الطول والقِصَر، والنحول والبدانة، ليس طويلًا ولا قصيرًا، لس ناحلًا ولا بدينًا، ولكنه على الحياد!

واتجه الشيخ إلى بيته القريب من المقهى، وبقي تلاميذه في انتظار عودته.

واقتربتُ من الشيخ محمد عبده، وسألتُه عمَّا تردِّده القاهرة من إشاعات عن الإمام الأفغاني، فقال: كل شيء جائز!

– هل يعتقلونه؟ هل يقتلونه؟ هل ينفونه؟

فقال محمد عبده: ربما، فهذا كله يحتمل أن يكون، ولكن الذي يستحيل أن يكون هو أن يعتقلوا أفكارَ جمال الدين، أو يقتلوا مبادئه، أو ينفوا تعاليمه.

– وهل اقترَفَ الأفغاني جريمةً؟

وقال محمد عبده: المجرمون يريدون أن يعاقبوا الأفغاني على الجرائم التي اقترفوها هم.

– لماذا إذن يحاربه كبار العلماء؟

وهنا قفز شخصٌ لم أعرفه، وقال: لأنهم ليسوا كبارًا، وليسوا بعلماء!

وسألت الشيخ محمد عبده: هل أستطيع أن أظفر بتوجيهِ بضعةِ أسئلة إلى السيد جمال الدين الأفغاني في مكانٍ آخَر غير هذا المقهى؟

وقال الشيخ محمد عبده: إنه لم يتعوَّدِ الجلوسَ هنا إلا منذ أيام قليلة، فهو يعقد اجتماعاته في بيته، ومقهاه المختار هو قهوة البوستة بالعتبة الخضراء.

•••

وفي هذه اللحظة وصل السيد جمال الدين الأفغاني، وجلس بين تلاميذه وأصدقائه، ودنوت منه وسألته في غباءٍ: مَن أنت؟

فضحك وقال: أنا جمال الدين الحسني الأفغاني.

– ما هو تاريخ مولدك؟

قال: في عام ١٢٥٤ هجرية/١٨٣٨ بالتاريخ الميلادي.

– هل تنحدر من سلالة فارسية؟

قال: لقد تمَّتْ ولادتي في الأفغان، وأسرتي عربية مسلمة تنتمي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.

– وما هو سر اهتمامك ببلادٍ أخرى غير الأفغان؟

قال: لقد نظرت إلى الشرق وأهله، واستوقفتني الأفغان، وهي أول أرض مسَّ جسمي ترابها، ثم الهند وفيها تثقَّفَ عقلي، فإيران بحكم الجيران والروابط، فجزيرة العرب من حجازٍ ويمن ونجد، والعراق، والشام، والأندلس.

الشرق، الشرق، وقد خصَّصتُ جهاز دماغي لتشخيص دائه وتحرِّي دوائه، فوجدتُ أقتَلَ أدوائه داء انقسام أهله، وتشتُّت آرائهم واختلافهم على الاتحاد، واتحادهم على الاختلاف، فعملتُ على توحيد كلمتهم، وتنبيههم للخطر المحدق بهم.

– هل مارستَ السياسةَ في بلدٍ آخَر غير مصر؟

قال: مارستُها في بلدي، ووصلتُ فيها إلى مركز رسمي يماثل منصب الوزير، ولكن المناصب وسيلة وليست غاية، وقد حاولتُ أن أنقذ الأفغان من تدخل الدول الأجنبية، فلما لم أستطع توجَّهْتُ إلى فارس، وهناك اختلفتُ مع الشاه؛ لأنه يريد أن يقيم عرشه على جماجم الشعب، كما هو الحال هنا وفي كل بلدٍ يحكمه ملك.

– أَلَا يمكن أن يكون الملك عادلًا؟

قال: يمكن أن يكون عادلًا إذا أصبح تاجه بلا رأس، أو أصبح رأسه بلا تاج!

– كم سنة أقمتَ في مصر؟

قال: أكثر من ثماني سنوات، وكنت قد زرتُها قبل ذلك، وأقمتُ فيها شهرين، ثم عدتُ إليها في أول المحرم عام ١٢٨٨ (مارس ١٨٧١)، وظللتُ فيها إلى اليوم؛ يوم ٢٣ أغسطس من عام ١٨٧٩.

– وما الذي جذبك إلى مصر؟

قال: ما جذبني إلى غيرها من بلادٍ تعاني شعوبُها الظلمَ والعبودية، مثل: فارس، والهند، والحجاز، وتركيا … وقد حاولتُ في تلك البلاد أن أغرس شجرة الإصلاح الديني والتحرر الاجتماعي والسياسي، ولكني لم أجد التربة والجو لنمو هذه الشجرة إلا هنا، في مصر.

– وهل نمَتِ الشجرة؟

قال: ستنمو حتمًا.

– ما هو الإصلاح الديني الذي تنشده؟

قال: إعادة الصداقة بين العلم والدين، ولكي نُصلِح الدين يجب أن نعود إلى الأصل وهو القرآن والصحيح من الأحاديث، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجات الزمان وأحكامه، وأن نفتح باب الاجتهاد، وأن نقضي على التفرقة بين أهل السنة وأهل الشيعة؛ فهذه التفرقة أحدثَتْها مطامِعُ الملوك.

إنَّ الأديان الثلاثة أساسها واحد، وقد وسع شقةَ الخلاف بينها تجارة رؤساء الأديان بها.

– أظنُّ أن هؤلاء التجَّار هم الذين يرمونك بالإلحاد.

قال: والجهلاء والحكَّام طغاة، والدول الأوروبية الطامعة في غفلة الشرق، إنني شديد الإيمان بديني، أومن بعقلي، وليس للعقل نهاية، وأومن بمشاعري إيمانَ تصوُّف، ينتهي بي إلى وحدة الوجود.

– هل تنادي بحرية الرأي حتى «في المناقشات الدينية»؟

قال: هذا طبيعي، وفي بلادكم شبلي شميل يدعو إلى مذهب داروين، ويعبِّر عن آرائه الملحدة، وإني أحمل على هذه الآراء وأستهجنها، ولكني أقدِّر صبره على البحث وشجاعته في الجهر بما يعتقده، ولو كان فيه تحدٍ لعقائد الناس.

– هل يسمح الإسلام باعتناق المذاهب الاجتماعية المدنية، كالاشتراكية مثلًا؟

قال: الاشتراكية كانت في الإسلام ملتقية مع الدين ملتصقة به، وباعثها حب الخير، أما الاشتراكية في الغرب فقد بعث عليها جورُ الحكَّام.

– هل ترى المساواة بين الرجل والمرأة؟

قال: المرأة في تكوينها العقلي تساوي الرجل، والتفاوت بينهما إنما جاء من إطلاق سراح الرجل وتقييد المرأة بالبيت، ولكلٍّ وظيفته، وليس ثمة ما يمنع من أن تعمل المرأة خارج البيت، إذا اضطرتها الظروف إلى ذلك، ولا مانع من السفور، إذا لم يُتَّخَذ مطيةً للفجور.

– لماذا لم تتزوَّج؟

قال: إن الزواج يتم به بقاء النوع واستكمال حكمة العمران، ويخطئ مَن يظن مع أبي العلاء المعري أنه جناية، أما أنا فإن معرفتي بما تتطلَّبه الحكمة الزوجية من معاني العدل، وعجزي عن القيام به؛ دفعاني إلى أنْ أتَّقِي عدمَ العدل ببقائي عزبًا.

– ما هو الحكم المثالي للشعب؟

قال: أن يحكم نفسه بنفسه، ولن يأتي ذلك إلا إذا تعلَّمَ وعرف حقوقه وواجباته وحرياته، ومارسها وحرص عليها، وهذا هو سر الصراع القائم بيني وبين الحكَّام.

– أليس الخديو توفيق صديقك؟

قال: كان كذلك قبل أن يتولَّى منصب الخديو؛ كان وليًّا للعهد، وكنتُ ألتقي به في المحفل الماسوني، ووجدت من تعلُّقه بي ما دفعني إلى أن أشرح له المبادئ السليمة، وقد اقتنع بها وأبدى حرصه عليها، ولكنه لم يكد يتولى منصب الخديو حتى أخذ يتنكر لهذه المبادئ، واستدعاني إليه وقال لي: إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح لأن يُلقَى عليه ما تقوله من الدروس والأقوال المهيجة.

وقد نصحتُه بالاعتماد على الشعب إذا أراد تثبيتَ حكمه، وخرجتُ من عنده لأستأنف الدعوةَ للمبادئ الإصلاحية بين الناس.

– هل خدَعَك رياض باشا؟

فضحك في سخرية!

– هل خدعك محمود سامي البارودي؟

فأطرق برأسه في حزنٍ وقال: لقد هالني موقفه؛ فقد كان أشرفَ مَن عرفتُ من المسلمين.

– ولماذا اختلفتَ مع المحفل الماسوني؟

قال: لقد رأيتُ أن أنضمَّ إلى المحفل الماسوني الاسكوتلاندي؛ لأنه يضم طائفة من المصريين والأجانب، وظننتُ أني أستطيع أن أنقل أفكاري إليهم، ولكنَّ ظني خاب.

ثم قال: أول ما شاقني في «بناية الأحرار» عنوانٌ كبيرٌ خطيرٌ، هو: «حرية، مساواة، إخاء»، وأنَّ غرضها منفعة الإنسان، والسعي وراء دكِّ صروح الظلم، وتشييد معالم العدل المطلق. وقد كنتُ أنتظر أن أسمع وأرى في مصر كل غريبة عجيبة، ولكن ما كنتُ لأتخيل أن الجبن يمكن أن يدخل بين أعمدة المحافل الماسونية.

واستطرد يقول: إذا لم تتدخل الماسونية في سياسة الكون وفيها كل بانٍ حرٍّ، وإذا كانت آلات البناء التي في يدها لا تُستعمَل لهدم القديم وتشييد معالم حرية صحيحة، وإخاء، ومساواة؛ فلا حملت أيدي الأحرار مطرقة، ولا قامت لبنايتهم قائمة!

•••

وكانت الساعة قد أشرفت على الثانية صباحًا، ورأيت أن أريح الشيخ مني، على أن يسمح لي بأن أُتعِبه مرةً أخرى، فدعاني إلى مقابلته في داره غدًا.

ولم أكد أخرج من المقهى حتى وجدتُ حي الحسين كله ساهرًا بمقاهيه ودكاكينه، بالعربات المضاءة بالفوانيس تحمل الفاكهة والحلوى وشراب العرقسوس والخروب والتمر هندي، والليمون والشاي والقهوة … بالدراويش يروحون ويجيئون، وفي أيديهم مجامر البخور، بصفوفٍ كبيرة من الحمير والعربات الكارو، فهذه هي الوسائل الوحيدة لنقل الناس من مكانٍ إلى مكان.

وضاع من رأسي كلُّ أثرٍ للإشعاعات، التي ملأت الأسماعَ عن التنكيل بجمال الدين.

وذهبتُ إلى بيتي وحاولتُ أن أنام، ولكنَّ صوت الشيخ وصورته وأفكاره كانت تغريني بالسهر، كنتُ أحسُّ أنَّ سهري عليها أحلى من النوم!

•••

وفي الصباح استيقظتُ مذعورًا على أصواتٍ غريبة تنطلق في الشارع، من الناس الذين يهرولون في غير قصدٍ ولا هدًى من الأبواب والنوافذ، من البيوت والدكاكين والمقاهي، كل الأصوات تصيح: أين جمال الدين الأفغاني؟ اعتقلوه؟ نفَوْه؟ قتلوه؟

واتجهتُ إلى الحي الحسيني، وكان الطريق المؤدِّي إلى الحي، والناس الذين امتلأ بهم الحي؛ أشبه بخلية نحل تطنُّ بأسئلةٍ ليس لها جواب!

وسهرت مع الناس في المقهى إلى اليوم التالي، وإلى اليوم الثالث؛ وفي هذا اليوم، بدأ بعض أصدقاء جمال الدين الأفغاني يظهرون في المقهى، ويتحدثون عن قرار الحكومة بطرد جمال الدين الأفغاني من مصر، لقد طردوا جسده ولم يطردوا أفكاره؛ لقد طردوا شخصه ولم يطردوا شخصيته؛ فما زال الشيخ جالسًا، لا في مكانه من المقهى أو البيت، ولكن في كل مكان، وما زال اسمه يدوي اليوم وغدًا، وسيظل كذلك أبدًا.

وأقبَلَ الشيخ محمد عبده وحاصَرَه الناس يسألونه: ماذا جرى؟

وأخذ محمد عبده يروي ما كان من طرد أستاذه، وذكر أن الحكومة قبضت على السيد جمال الدين الأفغاني صباح ذلك اليوم المشئوم؛ يوم ٥ أغسطس، وقاده جنودها بالقوة إلى محطة سكة الحديد، وأركبوه بالعنف القطارَ الذاهب إلى السويس، ولقيه قنصل إيران وبعض المصريين الأحرار، فعرضوا عليه مائة دينار ولكنه لم يقبلها.

قال لهم: أنتم أحوج إلى هذا المال.

وقال له أحدهم: أنت في حاجةٍ إلى المال أكثر منَّا.

فقال: الليث لا يعدم فريسته أينما ذهب!

ومضى محمد عبده فقال: إن الانزعاج بنفي جمال الدين الأفغاني كان عامًّا، ولكن الخديو أبدى سروره بما فعل، وتحدَّثَ في محضر جماعته من المشايخ على مائدة الإفطار في رمضان، فأظهَرَ الطرب للخديو مَن كان لا يعرف لنفسه قيمةً في العلم والفضل في مجلس جمال الدين الأفغاني.

وقد حتَّمَتِ الحكومةُ على الصحف نشْرَ الأمر الصادر بنفي جمال الدين، بما في هذا البيان من تقريعٍ شديد وتجريح جارح للرجل، فنشره البعض ورفضَتْ إحدى الجرائد نشره؛ فصدرَتِ التعليمات بتعطيلها!

واستطرد محمد عبده يقول: إن هذه الشدة لم تزد الأفكار إلا حدةً، ولا الألسن إلا جرأةً، ولا الإحساس بضرورة الإصلاح إلا نموًّا وظهورًا، ولم تكن الحكومة كريمةً في معاملة الأفغاني؛ فرمَتْه بالزندقة، وسمَّتْه «ضلالَ الدين» الأفغاني الأفَّاق! وقالت في البيان الذي أصدرَتْه إنها: أبعدَتْ ذلك الشخصَ المُفسِد من الديار المصرية، بأمر ديوان الداخلية، لإزالة هذا الفساد من البلاد؛ عبرةً للمعتبرين، ولمَن يتجاسر على مثل هذا من المفسدين البادي من أفعالهم الظاهرة أنهم لا خلاقَ لهم في الدنيا والآخرة!

هكذا كانت عقلية الحكَّام، وهكذا كان أسلوبهم؛ كلمات تافهة مسجعة.

وكان من أثر الهزَّة التي أحدثها جمال الدين الأفغاني في مصر، أنه حرَّرَ العقولَ من الجهل والأوهام، ووجَّهها إلى التفكير والتأمُّل، وفتح فيها نوافِذَ تطلُّ على الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وأقنعها بضرورة التعرُّف على مصدر قوة أوروبا الطامعة في الشرق، والعمل على أن نكون أقوياء لنواجِه القوةَ بالقوة، ولم يقف عند هذا، بل أثَّرَ في أسلوب الكتابة، فكان ينادي بأننا لسنا في حاجةٍ إلى الكلمات اللغوية، ولكننا في حاجةٍ إلى الكلمة التي «تنقر حبة القلب».

وقبل إقامة الأفغاني في مصر كان الأدباء يحصرون مواهبهم في مدح الكبير، والتغنِّي بمآثر الوزير، فإذا خرجوا من هذا النطاق نظموا الشعرَ الماجن، وتباروا في تبادُل الهجاء بقصائد أو مقطوعات نثرية، تعتمد على التلاعُب باللفظ والإغراق في المجون؛ ليُضحِكوا أربابَ الجاه ويتلقَّوا منهم الهدايا!

وجاء الأفغاني فجعل للأدب هدفًا، وحوَّله من تسليةٍ وترفٍ إلى تعبيرٍ عن آمال الشعب وانفعالٍ بمآسيه، وجعل من الكلمة سلاحًا ونشيدًا وأغنية.

وكان الأديب المؤرخ اللبناني سليم العنجوري يقيم في مصر، وكان من أصدقاء الشيخ، وقد وصفه فقال: «كان جمال الدين الأفغاني يقطع بياض نهاره في داره، حتى إذا جنَّ الظلامُ خرج متوكئًا على عصاه إلى مقهًى قربَ الأزبكية، وجلس في صدر جماعة تلتفُّ حوله على هيئة نصف دائرة، ينتظم فيها اللغوي، والشاعر، والمنطقي، والطبيب، والكيماوي، والتاريخي، والجغرافي، والمهندس، والطبيعي، فيتسابقون إلى إلقاء أدق المسائل عليه، فيحلُّ عقد أشكالها بلسانٍ عربيٍّ مُبِين، لا يتلعثم ولا يتردَّد، بل يتدفَّق كالسيل من قريحةٍ لا تعرف الكلال، حتى إذا اشتعَلَ رأسُ الليل شيبًا قفل إلى داره، بعد أن ينقد صاحبُ المقهى كلَّ ماله في ذمة ذلك الجَمْع الأنيق.»

وكانت الحكومة قد خصَّصَتْ للأفغاني عشرةَ جنيهات شهرية، ثم قطعَتْها عنه، فكان بعض الأعيان يمدُّونه بالمال، وهم يتوسَّلون إليه أن يقبله منهم، فكان يأخذ فقط القليلَ الذي يكفيه.

ويقول العنجوري: إن جمال الدين الأفغاني أخذ يقرِّب إليه العوَّامَ ويقول لهم: إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وتوالَتْ عليكم قرونٌ منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون نير الفاتحين، وتسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتستنزف عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم صامتون.

انظروا أهرام مصر، وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بعظمة آبائكم وعزة أجدادكم، هبُّوا من غفلتكم، اصحوا من سكراتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارًا.

ويرى العنجوري أنه منذ ذلك الحين طارَتْ شرارةُ الثورة العرابية.

وقد سجَّلَ جمال الدين الأفغاني في خاطراته التي جمعها المخزومي باشا، أنه ترك الحفل الماسوني الاسكوتلاندي وألَّفَ محفلًا آخَر تابعًا للشرق، وسرعان ما بلغ أعضاؤه أكثر من ثلاثمائة عضو من نخبة المفكرين والناهضين المصريين، وكان جمال الدين في هذا المحفل مطلق الحرية، نظم فيه لجانًا للأعمال المختلفة؛ بعضها للحقانية، وأخرى للمالية، وثالثة للأشغال، ورابعة للجهادية … إلخ، وكل لجنة أو كل شعبة — كما كان يسميها — تدرس الشئون المختصة بها وتعرف وجوهَ إصلاحها، وما يقع من الظلم فيها، ثم تتصل بالوزير المسئول وتبلغه رغباتها.

بهذا التفكير المنتظم، وهذه العقلية النيرة، والروح الثائرة، استطاع جمال الدين الأفغاني أن يُدخِل الكهرباء في عقول الشعب ومشاعره، وكانت هذه المشاعر قبل ذلك ظلمات جامدة، تتعرض بين حينٍ وآخَر لشمعة أو ذُبالة مصباح، فأشاع فيها الهزة، والحرارة، والضوء!

•••

ونتابع جمال الدين الأفغاني بعدما رحل من مصر، فنراه في الهند يقيم في «حيدر أباد»، وكان قد أحدث فيها هزة فكرية دينية كبيرة، فلما قامت الثورة العرابية نقلته السلطات البريطانية في الهند إلى «كلكتا»، ووضعته تحت الحراسة، وعندما انتهت ثورة عرابي ودخل الإنجليز مصر، سمحَتْ له السلطاتُ البريطانية بمغادرة الهند إلى أي بلدٍ غير شرقي!

وقد ذكر مستر بلنت في مذكراته أن جمال الدين غادر الهند إلى أمريكا، ولكن العالِم المحقِّق الأستاذ أحمد أمين استبعَدَ صحةَ هذه الواقعة.

ولقد أقام جمال الدين في لندن عام ١٨٨٣، وأرادت السلطات البريطانية أن تكسب صداقته، فعرضت عليه عرش السودان، فسخر من هذا العرض وقال: إن عرش السودان للسودان، فليس لكم أن تعطوه أحدًا!

ثم ذهب إلى فرنسا، ومن هناك اتصل في مصر بتلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده، واتفقا على إصدار جريدة «العروة الوثقى» من باريس، وتُعَدُّ مجموعة هذه الجريدة سجلًّا حافلًا بآراء جمال الدين الأفغاني السياسية والدينية والاجتماعية، وكانت سوطَ عذاب يُلهِب ظهورَ الدول الاستعمارية، ورعشة تمشَّتْ في أذهان الشعوب الشرقية، فهبت لتدافع عن كرامتها وحريتها ودينها، وكانت مقالاتها تحمل أفكار الأفغاني، وأسلوب محمد عبده.

وفي باريس اشتبك الأفغاني في جدلٍ علمي ديني مع الفيلسوف «رينان»، وقد لفت إليه أنظار المفكِّرين الإنجليز والأمريكان والمستشرقين، فكتبوا عنه وألقوا محاضرات عن آرائه وتعاليمه وشخصيته، ولم تستطع جريدة العروة الوثقى أن تستمر في الصدور.

•••

وذهب محمد عبده إلى بيروت، وكان شاه إيران قد اتصل بالأفغاني، وأقنعه بالعودة إلى إيران فعاد إليها، ثم ما لبث أن تركها وسافَرَ إلى روسيا، وأقام بها ثلاث سنوات، وقد سأله القيصر عن سر خلافه مع الشاه فقال: لأني أرى أن يكون الحكم شورى، أما هو فيرى غير ذلك!

قال القيصر: الحق مع الشاه؛ إذ كيف يرضى ملك أن يتحكَّمَ فيه فلَّاحو مملكته؟

قال جمال الدين: أعتقد يا جلالة القيصر أنه خير للملك، أن تكون ملايين رعيته أصدقاءه، من أن يكونوا أعداء يترقَّبون له الفرص.

وغضب القيصر ونهض واقفًا إيذانًا بانتهاء المقابلة!

•••

وكان قد سافر إلى ألمانيا في طريقه إلى باريس، وتقابل مع ناصر الدين شاه إيران، واعتذر له الشاه، ووعده بتنفيذ تعاليمه الإصلاحية، وعرض عليه العودة إلى طهران.

ولما وصل إلى طهران، لقي حفاوة كبيرة من الشعب ورعاية من الشاه، ولكن الصدر الأعظم نبَّهَ الشاه إلى خطورة ما يدعو إليه جمال الدين، وبغتةً أمَرَ الشاه بالقبض على الأفغاني، فأسرَعَ الأفغاني واحتمى في مقام سيدنا «عبد العظيم»، وهو مقام يقدِّسه أهل فارس، ولكن الشاه أرسل إليه خمسمائة جندي مسلحين، وانتزعوه من المقام المقدس.

ويصف جمال الدين ذلك فيقول: «سحبوني على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة، ثم حملني زبانية الشاه — وأنا مريض — على دابة مسلسَلًا بين الثلوج والرياح.»

وبعد ذلك سافر إلى لندن، واشترك في إصدار مجلة شهرية اسمها «ضياء الخافقين»، وكانت تصدر باللغتين الإنجليزية والعربية، وقد صبَّ فيها جام غضبه على الشاه.

وطلب منه سفير فارس أن يكفَّ عن الطعن في الشاه، وعرض عليه أموالًا طائلة، وقد احتقر جمال الدين الأفغاني الطلب والعرض، وقال للسفير: لن أسكت عن الشاه حتى يلقى ربه!

وتوسَّل الشاه إلى السلطان عبد الحميد أن يتوسَّط لدى جمال الدين الأفغاني ليصلح بينهما، فدعاه عبد الحميد إلى زيارة الآستانة، ولما استقبله مندوبو السلطان في الميناء، سألوه عن حقائب ملابسه وصناديق كتبه، فقال: ملابسي على بدني وكتبي في صدري! ولم يكن معه حقيبة أو صندوق!

واستقبَلَه عبد الحميد أحسن استقبال، وأمر بصرف مكافأة شهرية له قدرها ٧٥ ليرة، وأنزله بيتًا أنيقًا يقع قرب قصر يلدز، وخصَّص له عربةً وخَدَمًا وجواسيس! وعرض عليه السلطان عبد الحميد منصب مشيخة الإسلام، ولكنه رفض المنصب إلا إذا قبل السلطان تنفيذ آرائه الإصلاحية.

واشتبك في معاركٍ مع رجال الدين الجامدين في تركيا، ومع «أبو الهدى» الصياد جلاد الفكر، وجاسوس السلطان المعروف.

وساءت العلاقة بينه وبين السلطان، أخذوا عليه أن السلطان عندما طلب منه أن يترك مهاجمة الشاه، أجابه قائلًا: من أجلك قد عفوتُ عن الشاه.

وقالوا: كيف يعفو أحدُ الرعية عن ملك!

وأخذوا عليه أنه كان في حضرة السلطان، وظلَّ يلعب بحبات مسبحته، وبعدما خرج نبَّهه رئيس الديوان إلى أن اللعب بحبات المسبحة لا يجوز في حضرة السلطان، فقال جمال الدين: إن السلطان يلعب بمستقبل الملايين من الأمة، أَفَلَا يحقُّ لجمال الدين أن يلعب بمسبحته كما يشاء؟!

وظل جمال الدين الأفغاني يعاني الضيق والكبت والعزلة عن الناس طيلة إقامته في الآستانة، فقد تحوَّلَ بيته إلى معتقل، وأصبح روَّاد مجلسه جواسيس. وفي هذه الفترة كان ناصر الدين يزور أوروبا، وقابله أحد تلامذة جمال الدين، وطعنه بخنجرٍ في صدره فأرداه قتيلًا، وقال وهو يطعنه: «خذها من يد جمال الدين.»

وبلغ الخبر السلطان عبد الحميد، فضيَّقَ الخناق على تحركات جمال الدين الأفغاني، ومنعه من مغادرة تركيا، وقد وصف جمال الدين الأفغاني إقامته في الآستانة، فقال: إن البيئة هناك أثرت في عقله وفكره وقلبه، وإن ذهنه كان ممسوحًا كأنْ لم يكن فيه شيء من العلوم والآراء!

وبقي جمال الدين الأفغاني في تركيا حبيسًا — كما قيل — في قفصٍ من ذهب، كان يتردد عليه بعض زائري الآستانة من أحرار المسلمين مثل الأمير شكيب أرسلان وعبد الله النديم، وكان النديم يغار من حب جمال الدين الأفغاني لمحمد عبده، ولما غضب جمال الدين الأفغاني على الشيخ محمد عبده؛ لأنه ينشر مقالاته بدون توقيع، أرسَلَ إليه يلومه على ذلك ويقول: «لماذا تكتب ولا تمضي؟ ولماذا تعقد الألغاز؟ أمامك الموت ولا ينجيك الخوف، فكن فيلسوفًا يرى العالَمَ ألعوبةً، ولا تكن صبيًّا هلوعًا.»

وانتهز عبد الله النديم هذه الفرصة، وقال لجمال الدين الأفغاني إنك لا تزال تصف الشيخ عبده بأنه صديقك، وما زلت تسرف في الثناء عليه كأنه لم يكن لك صديق غيره! فضحك الأفغاني وقال له: وأنت يا عبد الله صديقي، ولكن الفرق بينكما أنه كان صديقي في الضراء، وأنت صديقي في السراء!

وعندما تلقى الشيخ عبده رسالةَ جمال الدين، تملكه الحزن وكرَّرَ حكمته المأثورة: هذا رجل يهدم بالحدة ما يبنيه بالفطنة.

•••

ومرض الأفغاني في الآستانة، وأرسَلَ إليه عبد الحميد طبيبه الخاص، فغمس لسانه في ميكروب فأُصِيب بمرضٍ عضال، ومات في عام ١٨٩٧، وأمر السلطان بدفنه على عجل.

مات الأفغاني شخصًا؛ ليحيا أفكارًا، ومشاعر، وثورات، ويعيش في كل عقلٍ وكل قلبٍ وكل زمن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤