شيخ الإسلام (ابن الباشا)

أستاذ فلسفة، وزير، فنان أحَبَّ المرأة، وعشق باريس!

احتدمت المناقشة بين أعضاء المؤتمر الوطني حول مساواة الرجل بالمرأة، وعندما تحتدم المناقشات، تتطاير الاتهامات من أفواه المتناقشين في حدة، كما تتطاير الكراسي في أثناء خناقة في حفلة زفاف شعبية أو في مقهًى بلدي!

وكان الشيخ الغزالي — أحد رجال الأزهر — طرفًا في المناقشة، يدرَأُ عنه اتهامات خصومه، وقال: إن الدين الإسلامي ردَّ للمرأة اعتبارها، والله سبحانه وتعالى قد اختار من بين أنبيائه سيدتين، ذكر إحداهما وهي مريم العذراء عليها السلام، ولم يذكر الأخرى، وثار الشيخ الغزالي في وجه معارضيه وصاح قائلًا: إننا نحن الأزهريين نمثِّل الشعبَ الكادحَ المظلوم، فالأزهريون جميعًا فقراء، ليس بينهم ابن باشا ولا ابن بك إلا واحدًا. ولم يذكر فضيلة الشيخ الغزالي اسم هذا الواحد! فمن هو؟

إن ابن الأزهر هذا كان وزيرًا قبل أن يكون شيخًا للإسلام، أسرته غنية، وأخوه باشا، وأبوه باشا، وقد نال هو رتبة الباشوية.

وكانت حياته ظاهرة اجتماعية فكرية أثارَتْ حوله غبارًا كثيرًا، ولكن هذا الغبار لم يعلق بثيابه الرشيقة النظيفة، ولقد كانت أفكاره ومشاعره وعقيدته وأخلاقه مثل ثيابه رشيقة نظيفة!

دفع به والده الثري الإقطاعي إلى الأزهر الشريف، ولم يكن يتردَّد على الأزهر إلا المساكين والفقراء والهاربون من السخرة التي يعانيها الفلاحون، وكانت للأزهر أوقاف ومخصصات لطلابه أو للمجاورين — كما كان الناس يسمونهم في تلك الأيام — وهذه الأوقاف والمخصصات تتحوَّل إلى «جراية»، وهي كمية كبيرة من الخبز يتسلَّمها المجاور، فيسدُّ رمقَه ببعضها ويبيع بعضها الآخَر بملاليم يسدُّ بها نصيبه من إيجار الغرفة التي يسكنها مع زملائه.

وما يتبقَّى من الملاليم ينفقه على الوجبة اليومية الرئيسية، وهي مؤلَّفة من الفول أو العدس أو الطعمية، وثمن الوجبة مليم واحد.

وكانت الغرفة الواحدة تتسع عادةً لخمسة أشخاص، ولم يكن إيجارها يزيد على ثلاثين قرشًا في الشهر، أي … أي إن ما يدفعه الفرد بدل إيجار في اليوم الواحد لا يتجاوز المليمين.

ومَن كان يستقل بغرفته يُعَدُّ مجاورًا غير عادي!

ولم يكن مصطفى عبد الرازق وأخوه علي عبد الرازق، من المجاورين العاديين، ولا من المجاورين غير العاديين، بل كانَا من السراة الأماثل؛ فقد كانَا يعيشان في قصر والدهما حسن عبد الرازق باشا في القاهرة، وكان الباشا عميدًا لأسرة عبد الرازق، وهي أسرة تملك آلاف الأفدنة في محافظة المنيا، وتربطها علاقات نسب وقرابة بأكثر العائلات الغنية المنتشرة في هذه المنطقة بالذات.

كان الطالبان الأزهريان في عزلةٍ عن زملائهما المجاوِرين، فهما يَسكنان قصرًا تتوافر فيه كل أسباب الرفاهية والراحة، ويأكلان أشهى وألذ أنواع الطعام، ويرفلان في أفخم الأثواب، وزملاؤهما يسكنون كل خمسة وأكثر، غرفةً في «ربع» ليس فيها ماء ولا طعام، غير الخبز الجاف والبصل والملح، أجسامهم عليلة، وملابسهم متسخة رثة!

إن حلقة الدرس تجمع بينهم وبين الطالبَيْن الثريَّيْن، فإذا انتهى الدرس انتهَتْ علاقةُ الطالبَيْن بزملائهما جميعًا.

إن أحد الطالبين، هو علي عبد الرازق، ظهرَتْ له بعدما نال شهادة العالمية، اتجاهاتٌ فكرية متحرِّرة ضد الخلافة، وقد أخرجَتْه اتجاهاتُه من زمرة العلم، وصدر قرار بفصله من منصب القاضي الشرعي، ودارَتِ الأيامُ فرَدَّ إليه الأزهرُ شهادةَ العالمية، وصار هو الآخَر وزيرًا وباشا!

ولكن لندع علي عبد الرازق جانبًا؛ فقد كان أصغر من مصطفى، وكانَا يطلبان العلم في الأزهر، كان علي في أولى الدرجات، وكان مصطفى قد اجتاز بضع درجات في طلب العلم.

ولقد عاش مصطفى عبد الرازق في الأزهر فترةً عصيبةً، هي الفترة التي عاد فيها الإمام محمد عبده من منفاه وتولَّى منصبَ الإفتاء، وقاد حركة الإصلاح في الأزهر، وقد قامت بينه وبين الخديو حربٌ طاحنة، وهَبَّ كبار علماء الأزهر يدرءون خطرَ محمد عبده؛ فقد كان امتدادًا لجمال الدين الأفغاني، كان يدعو إلى صداقة العلم والدين، ويطالب بفتح باب الاجتهاد، وينادي بأعلى صوته: «إن الشريعة الإسلامية — بما تقرَّرَ فيها من قاعدتَيِ الاجتهاد ورعاية الأصلح — من الشرائع التي توافق كل زمان ومكان، وتُجِيز لكل ضرورة حكمًا يوافق مقتضى المصلحة والحال، مع اعتبار هذه القاعدة شرعًا أيضًا.» وقد دعا بإلحاحٍ إلى دراسة أصل الشريعة؛ حتى تضع أحكامًا توافق بين جوهر الدين وأحوال الزمان.

وثارت العواصف على الإمام محمد عبده، تتهمه بالإلحاد والكفر، وكادت تقتلعه من منصبه، بل كادت تقتلع مهابته عند عامة الناس، وكان طلاب الأزهر إذا رأوه هربوا منه لينجوا بدينهم؛ فقد سمَّمَ كبارُ العلماء أفكارَ الطَّلَبَة، وكانوا يخلعون عليه صفات الزندقة والمروق، ويتهمونه في شرفه ووطنيته، واستطاع الإنجليز أن يستغلوا الموقف، فساندوا الشيخ محمد عبده، ورأى هو أن هذه المساندة ستعينه على أن يهزم خصومه، وينفذ برنامج الإصلاح الديني والاجتماعي والعلمي، وكان قد اقتنع بأنه لا خلاص للأمة إلا عن طريق رفع مستواها دينيًّا واجتماعيًّا وعلميًّا، ولكن المساندة الإنجليزية للإمام ألَقَتْ على تصرُّفاته ظلالًا كثيرة من الشبهات، وكان الذين يؤمنون بفكرته قلة، والذين يقفون في وجهه كثرة، وأين الطلبة من القلة والكثرة؟

إنهم يسمعون بالشيخ فيلعنونه، ويستمعون إليه فيرون ما يبهرهم، وبدأ الشيخ يغزو الأزهرَ بتلاميذه، الذين كانوا يتزايدون يومًا بعد يوم، وكان مصطفى عبد الرازق يخاف على عقيدته من أن يرى الشيخ فضلًا عن أن يتصل به أو يتلقَّى عنه درسًا.

وفي ذلك يقول: كنتُ طالبًا من صغار الطلاب، جاء الشيخ محمد عبده إلى الأزهر، وكان أساتذتنا — عفا الله عنهم — لا يفتئون يقدِّمون لنا الشيخ ويمثِّلونه خطرًا داهمًا على الدين وأهله، فتتأثَّر بذلك عقولُنا الطفلة، وكنتُ أفِرُّ بديني من أن ألقى الأستاذ أو أستمع لدروسه، مع أنه صديق لوالدي!

حضرتُ درسه مرةً لأشهد كيف تشبه وجوه الملحدين، وتشبه معها عقولهم وقلوبهم، فلما رأيت الرجل بالرواق العباسي وسمعتُه يفسِّر كتابَ الله، قلتُ في ذلك اليوم: اللهم إنْ كان هذا إلحادًا فأنا أول الملحدين!

منذ ذلك الحين بدأ الطالب الأزهري مصطفى عبد الرازق يفتح نوافذ عقله، ويتطلَّع إلى آفاقٍ لم يتعوَّد أمثالُه من الطلبة الأزهريين أن يتطلَّعوا إليها؛ فقد أفاد اتصاله بمحمد عبده، فأدرك أفكارًا ثائرة، وعرف أن هذه الأفكار عاشها المفكِّر الثائر جمال الدين الأفغاني الذي زلزَلَ قواعِدَ الاستعمار، ودحرج التيجان وهزَّ العروش.

ومضى يبحث وينقب عن الشرارة التي ألهبت ذهن الأفغاني، فوجدها في مبادئ الثورة الفرنسية، ثورة ١٧٨٩، ثورة الإنسان لحقوقه، وقد اندلعَتْ شرارتُها في العالم، وكان الأفغاني أول زعيم في الشرق أضرمت المبادئ الإنسانية النار في دمه وعروقه، وقد انتقلت منه النار إلى تلامذته ومريديه في مخلتف البلاد الإسلامية.

وتطلَّع مصطفى عبد الرازق إلى فرنسا؛ البلد الذي شبَّ منه هذا الحريق الفكري، إنه يريد بعدما نال شهادة العالمية من الأزهر، أن يتم تعليمه في فرنسا، ولكن كيف ذلك؟ وهل أعَدَّه أبوه للأزهر لكي يتحوَّل من رجل دين إلى رجل دنيا كشقيقه الأكبر حسن؟

وأقنَعَ أسرته بأن يتعلَّمَ في فرنسا، فالتحق بجامعة ليون عام ١٩١٣، وقامت الحرب العالمية الأولى عام ١٩١٤ وهو في فرنسا، وظلَّ هناك إلى عام ١٩١٦ ثم عاد إلى مصر، وعندما اقترَبَ الموكب من ميناء الإسكندرية خلع اللباس الإفرنجي، وارتدى الجبة والقفطان والعمة، وكان عندما استقَلَّ المركب إلى أوروبا يرتدي زيَّه الشرقي، وخلعه وهو في المركب!

وعقب عودته إلى مصر تقرر تعيينه سكرتيرًا عامًّا لمجلس الأزهر، ثم مفتشًا للمحاكم الشرعية، فأستاذًا مساعدًا للفلسفة الإسلامية بالجامعة المصرية، وكان يرغب في أن يكون أستاذًا للأدب، فهو تخصَّصَ في الأدب، وله منهاج خاص في أسلوبه في الكتابة يمتاز برشاقةٍ فنية وجاذبية، وصحيح أنَّ له ولعًا شديدًا بالفلسفة عامةً، ودراسات عميقة في الفلسفة الإسلامية؛ المسلمين والفلاسفة خاصة، ولكن ولعه بالأدب كان أشد!

وكان مصطفى عبد الرازق رفيقًا، أنيقًا، متلائمًا في سلوكه مع نفسه وسلوكه مع الناس، كان يحب الحياة، وما الحياة؟ إنها عملٌ صالح وحق وخير وجمال.

وقد عمل صالحًا فأصدَرَ عدةَ كتب قيِّمة أهمها: «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»، و«فيلسوف العرب والمعلم الثاني»، و«سيرة الكندي والفارابي»، و«الدين والوحي والإسلام» و«البهاء زهير»، و«محمد عبده»، و«مذكرات مسافر»، و«مذكرات مقيم»، وله دراسات أدبية كثيرة لم تصدر في كتبٍ بعدُ، وكان ينشر مذكراته في جريدة السياسة بتوقيع «الشيخ الفزاري».

هذه الحياة العريضة المليئة بالعلم والمعرفة كانت مليئة أيضًا بالعواطف الجبارة، وكان وضعه الديني شكلًا وموضوعًا يقيِّد انفعالاته المتفجرة؛ فهو إذا ذهب إلى أوروبا يواجه الفتنة ويقاومها، يشاهِد الرقص ويُولَع به، ويصفه بريشة رسام فنان.

وهو لا يقاوِم فتنتَه بالنساء، ولكن يقاوِم أيضًا فتنةَ النساء به، قالت لي حرم أستاذي الدكتور محمود عزمي، وهي سيدة روسية مثقفة: إن الشيخ مصطفى كان يفتن عذارى باريس ويهرب بلباقة؛ ذكرَتْ أن إحدى الفتيات ذهبَتْ تبحث عنه في الفندق، فوجدَتْ حرمَ الدكتور عزمي، فقالت لها وهي تبكي: ما كنتُ أظن أن هذا الإنسان المهذَّب، يحتلُّ قلبي هكذا بوقاحة! وكان للشيخ مصطفى عبد الرازق علاقةٌ عاطفيةٌ ناعمة بالكاتبة «مي»، ولعله العالم الأزهري الوحيد الذي نادى بحرية المرأة، ودعا إلى رفع الحجاب عن وجهها وعقلها، وكانت دعوته هذه في جريدة «السفور»، وقد فتنته باريس وكتب عنها يقول:

باريس موجود حي تنبعث الحياة من أرضه وسمائه ورجاله ونسائه، باريس عظيمة بكل ما تحمل هذه العبارة من معاني الحياة، والجلال، والجمال، والذوق، والفكر، والانسجام والخلود.

ليسَتْ باريس صنع شعب من الشعوب، ولا عمل عصر من العصور، ولكنها جماع ما استصفاه الدهر من نفائس المدنيات. باريس عاصمة الدنيا، ولو أنَّ للآخِرة عاصمةً لَكانَتْ باريس، وهل غير باريس للحور والولدان، والجنات والنيران، والصراط والميزان، والفجار والصالحين، والملائكة والشياطين؟!

وينتقل إلى وصف المعالم التي زارها هناك، ومن بينها حديقة لكسمبرج التي تتوسطها بركة ماء يجلس حولها العشاق فيقول:

لمحتُ فتاةً بيدها خطاب تقرؤه فيشرق وجهها بالسرور وتبتسم، وتلقاءها فتاة تكتب في صحيفةٍ، وتتلو ما تكتبه فتنحدر عبراتها، وكم يأوي إلى تلك البركة من باكٍ ومبتسم.

ليس ماء ذلك الذي يجري في بركة لكسمبورج، ولكنه ذوب ابتسامات ودموع.

رويدكم أيها الأطفال العابثون بذلك الماء!

ولم يكن الشيخ مصطفى بتكوينه الفكري والنفسي رجل سياسة، ولكن الظروف حتمت أن ينتمي إلى الحزب الذي كان أعضاؤه زملاء والده، ولقي فيه شقيقه الأكبر حسن باشا مصرعه؛ فقد اغتاله خصوم حزب الأحرار الدستوريين وهو يغادر جريدة «السياسة»، وأصبح مصطفى عبد الرازق حزبيًّا وسياسيًّا، ولكنه لم يمارس الحزبية ولا السياسة.

وفي عام ١٩٣٨ تقلَّدَ منصبَ وزير الأوقاف، فكان أول وزير يرتدي العمامة.

وفي عام ١٩٤٥ أصبح شيخًا للإسلام وقد فاجأه النبأ، وأحسَّ أن العبء أضخم من أن يتحمله اتجاهه الفكري وسلوكه الذهني.

وحاوَلَ عبثًا أن يرفض المنصب، وقد بقي عامًا واحدًا. في عام ١٩٤٦ قامت في الأزهر ثورة جامحة، بسبب تخطِّي الحكومة لخريجي الأزهر في بعض المناصب التي كانت تخصِّصها لهم، فأصبح ينازعهم فيها خريجو كلية الآداب وكلية دار العلوم.

وتهيج الطَّلَبَة على شيخ الأزهر والفنان الرقيق الخجول، وسمع بأذنَيْه أصواتًا تهتف بسقوطه.

واتجه إلى بيته، وبعد الظهر ارتدى ملابسه، واستعدَّ للذهاب إلى مكتبه في الأزهر، وقبل أن تجيئه السيارة ليستقلها كان الموت قد وصل إليه، فمات بالسكتة القلبية.

وذهب من الشيخ مصطفى عبد الرازق كلُّ شيء، رجل الدين، وأستاذ الفلسفة، وبقيَ منه إلى اليوم وإلى الغد الفنان الذي منح اللغة العربية جديدًا في التفكير الحر والأسلوب الساحر الأخَّاذ.

•••

كنتُ أقلِّب في أوراقي الخاصة، فوجدتُ بينها ورقةً تحوي هذه الكلمات: «قابلت اليوم مصطفى عبد الرازق باشا بنادي محمد علي، وأمضيتُ معه ساعة تحدَّثنا فيها عن وزارة الأوقاف والشاعر البهاء زهير.» والورقة لا تحمل تاريخًا، وأرجح الظن أن تاريخها يرجع إلى عام ١٩٤١، حيث كان مصطفى عبد الرازق وزيرًا للأوقاف.

وكان قبل أن يتقلَّد منصب الوزارة أستاذًا في الجامعة، وقد ألَّفَ رسالة عن الشاعر العربي المصري الرقيق بهاء الدين زهير، وما أكثر وجوه الشبه بين مصطفى عبد الرازق والبهاء زهير، كلاهما كان يعيش دنياه، وكلاهما كان رجل دين ورجل سياسة.

أثارَتْ هذه الورقة في ذهني ذكريات حية عن الأديب الفقيه الفنان مصطفى عبد الرازق؛ فقد عرفته من خلال ما نشرَتْه له الصحف باسمه الصريح، أو باسمه المستعار، وكان لأسلوبه الجميل سحر وفتنة، وكانت آراؤه تسبق زمانه وتتحدَّى بيئته الدينية. كان يظاهِر قاسم أمين في دعوته إلى سفور المرأة، وكان يدعو إلى تحرير رءوسنا من الأوهام؛ لكي تستطيع أن تفكِّر في حرية، وتتأمل في انطلاق.

كان يؤمن بالله ويؤمن بالإنسان، وكان من علماء الدين وكان من علماء الدنيا. كان مفتوح العينَيْن والأذنين والقلب والدماغ فرأى الجمال، وسمع الموسيقى، ووعى الحكمة، وفكَّرَ في العلم والفلسفة والفن.

كان قصير القامة، مهيب الطلعة، أنيقًا في حركته وسكونه ووقفته وجلسته، أنيقًا في اختيار كلمته وابتسامته وملابسه.

صوتٌ رقيق خاشع، وجه فيه طمأنينة وسماحة، عينان تشعان ذكاءً وحياءً، القسمات حلوة، والشمائل أحلى!

الرأس تحتشد فيه الأفكار، والتأملات، والعلوم.

هذا الرأس ارتدى من الخارج العمامة، والقبعة، والطربوش، وارتدى من الداخل عمامة الثقافة الدينية، وقبعة الثقافة الغربية، وطربوش المجتمع المصري القديم!

فقد كان مصطفى عبد الرازق عالمًا أزهريًّا، وأصبح شيخًا للأزهر، كان خريج السوربون وأصبح أستاذًا في الجامعة، كان أحد أقطاب المجتمع السياسي وأصبح وزيرًا، عاش في مصر، وفي أوروبا، وارتدى البذلة الإفرنجية، والجبة، والقفطان، ولكنه في جميع أطواره لم يتنكَّر لتقاليد أسرته العريقة في المنيا، ولم يتخلَّ عن لهجته الصعيدية في أحاديثه العادية، فكان ينطق العربية بأفصح لسان، ويتكلم الفرنسية برقةٍ وطلاقة، ويستخدم «الجيم» مكان القاف، بوصفه واحدًا من أبناء «أبو جرج»!

حمل لقبَ الباشوية، ولما صار شيخًا للأزهر، نزل عن الباشوية واحتفظ بلقب الأستاذ الأكبر، ودخل التاريخ وهو الأستاذ الأكبر.

ولكن مصطفى عبد الرازق لم يكن أستاذًا أكبر في العلوم الأزهرية وحدها، ولا في الثقافة الغربية وحدها.

لم يكن أستاذًا أكبر في الفلسفة الإسلامية والفقه والتصوف فحسب، وإنما هو أيضًا أستاذ أكبر في الأسلوب وطريقة الأداء؛ فقد كان في كتابته ينسج مشاعره وأفكاره برشاقةٍ تثير النشوة وتخلب الألباب!

باريس

قال يصف بعض أيامه في باريس:

زرت الحي اللاتيني، مجمع الكوليج دي فرانس والسوربون والبانتيون، حي العلماء والطلاب، وحي الشباب، رعى الله الشباب!

طوفت حول الجامعة، فإذا طلاب وطالبات، برغم العطلة يغدون ويروحون، تفيض محافظهم بالكتب والأوراق، كما تفيض وجوههم الفتية بالنشاط والبشر، وإنْ عَلَتْها ملامح الجهد والتفكير هم من ألوانٍ مختلفة وبلدان شتَّى، وأكثر الطلاب الأجانب جدًّا وعملًا وانتفاعًا بالمقام في أوروبا هم اليابانيون، فيما سمعتُ، وأكثرهم ترفًا وانصرافًا إلى اللعب وتضييعًا للدرس هم الرومانيون.

أما المصريون فليسوا من خير الطلاب ولا من شرهم، لكنهم ممتازون بالتأنُّق والرشاقة وحسن البزة.

ولا يبدو على مُحَيَّاهم أثرٌ للشحوب؛ فيقول قائلون: إنهم يرفقون بأنفسهم في الدرس رفقًا يحفظ عليهم بهجة الراحة. ويقول قائلون: إن سمرة أديمهم تخدع الناظرَ عن سمات الجد والنصب، وآثار السهر الطويل في المذاكرة والتحصيل.

وكذلك الشأن في طلابنا في مصر نفسها، وكلا التأويلين محتمل في الجميع.

ختمت زيارة الحي اللاتيني بحديقة لكسمبورج، وهي روضة ذلك الحي، فيها جلاله وعليها طابعه؛ الأشجار العتيقة باسقة، فقد اسودت جذوعها، واخضرت أعاليها خضرة مشوبة باصفرار، وانشقَّتْ بين صفوفها مسالك تظللها الأغصان المتشابكة، كأنك بينها في سحرٍ يتنفس صاحبه في أعقاب ليل، وكأنك في تجلِّي الأسحار وفي هدأتها.

وترى التماثيل البديعة في شعرها الصامت، منسجمة في ذلك الإطار البديع، وبين حنايا هذه الظلال تجد فنانًا عاكفًا على تصويره، ومفكِّرًا مستغرقًا في تفكيره، وشاعرًا يستنزل الوحي من سماء الشعر، وعاشقًا يبثُّ غرامه، ثم تخرج إلى ساحة تبتسم الأنوار فيها والزهر، وتنحدر على درج إلى البركة ذات النافورة، مرتع الأطفال اللاعبين بمراكبهم الصغيرة في أمواجها، ومن حولها دكك متفرقة لمَن ليسوا أطفالًا.

إنَّ عشرات من الخواطر، والمشاهدات، والمحاضرات العلمية والأدبية والفلسفية نشرتها الصحف والمجلات للأستاذ مصطفى عبد الرازق، وهي لا تزال حتى هذه اللحظة متفرقة مبعثرة، أَلَا يوجد بين تلامذة مصطفى عبد الرازق وزملائه، مَن يستطيع جمع هذه الآثار في كتاب؟

إن مثل هذا الكتاب سيضيف إلى مكتبتنا العربية ثروةً ثقافيةً طائلة، ورصيدًا كبيرًا من الفن والجمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤