شعراء الوطنية

قرأت اليوم آخِر كتاب للأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي، وهو كتاب شعراء الوطنية، وقد استرعى انتباهي أن يخلو الكتاب من اسم شاعر حر، هو ولي الدين يكن الذي قضى حياته منفيًّا مُشرَّدًا، مكافحًا ضد طغيان السلطان عبد الحميد، ولما استقر به المقام في مصر، أمضى البقية الباقية من حياته مريضًا، ثم مات ضحية الأمراض التي عاناها في النفي والسجن.

وكان ولي الدين يكن إلى جانب دفاعه عن حريته السياسية، مناضلًا في رفع راية الحرية الفكرية، وقد كان نزَّاعًا إلى التجديد في الشعر، وكان أسلوبه في الكتابة أسلوبًا قويًّا، يمتاز بالنبض والحرارة والقوة والسهولة، وهو بلا شك يُعَدُّ في طليعة المجدِّدين في الأدب العربي، وقد نشبت بينه وبين المرحوم الشيخ رشيد رضا معركة قلمية عنيفة، ومن عباراته الساخرة التي سارت مجرى الأمثال هذه الكلمة: إني أكره شيئين في اللغة العربية: «أيضًا، والشيخ رشيد رضا»! وكان ذلك منذ أربعين عامًا!

ولما سقط السلطان عبد الحميد بأيدي الثوار في تركيا، نظم شوقي قصيدته الشهيرة:

سل يلدزا ذات القصور
هل جاءها نبأ البدور

وردَّ عليه ولي الدين بقصيدةٍ من نفس الوزن والقافية، قال في مطلعها:

هاجتك خالية القصور
فبكيت بالدمع الغزير
وذكرت سكان الحمى
ونسيت سكان القبور

واسترعى انتباهي أيضًا أن يخلو الكتاب من اسم المرحوم مصطفى صادق الرافعي صاحب نشيد «اسلمي يا مصر إنني الفدى»، واسم الشاعر الكبير عباس العقاد صاحب النشيد القومي وفيه يقول: «إن رفعنا الرءوس، فَلْيكن ما يكون، وَلْتعِشْ يا وطن.»

واسترعى انتباهي كذلك ألا تجيء إشارة إلى الشاعر مصطفى لطفي المنفلوطي، الذي خاطَبَ الخديو عباس عقب عودته من الحج فقال:

قدومٌ ولكن لا أقول: سعيد
وملك وإنْ طالَ المدى سيبيد

وقد حُكِم على مصطفى لطفي المنفلوطي بالسجن ستة أشهر، وصحَّتْ نبوءة المنفلوطي فباد مُلْك عباس، وبادت أسرة محمد علي برمتها!

ولم أجد في الديوان بيتًا واحدًا من الشعر الوطني الحديث، ولست أدري كيف نذكر الشعر الوطني دون أن نذكر مثل هذه الأبيات التي قِيلت في معركة القتال:

أنا إن سقطت فخذ مكا
ني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يرعـ
ـكَ دمي يَسيل من السلاح
وانظر إلى شفتيَّ أطـ
ـبقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عينيَّ أطبـ
ـقتا على نور الصباح
أنا لم أَمُتْ أنا لم أزل
أدعوك من خلف الجراح!

وكيف نذكر الشعر الوطني دون أن نذكر هذه الأبيات في ثورة ٢٣ يوليو:

بلدي لا عشتُ إنْ لم أفتدي
يومك الحر بيومي وغَدِي
نازفًا من دم أعدائك ما
نزَفُوه من أبي أو ولدي
آخذ حريتي من غاصبيها
سالِبيها وبروحي أفتديها

يحضرني الآن عشرات الأمثلة من الشعر الوطني الحديث، وهو شعر يُعَدُّ من الناحية الفنية أقوى من شعر كثيرين، عني الأستاذ الرافعي بسرد أشعارهم وتاريخ حياتهم.

إن هذه الملاحظات السريعة لا تغض من قيمة الجهد الذي بذله أستاذنا الرافعي في كتابه شعراء الوطنية، ولا أريد بما أبديته من ملاحظاتٍ أكثر من أن أحقِّق رغبته، التي عبَّرَ عنها في مقدمة كتابه بهذه الكلمات:

إذا نبَّهني القارئ إلى شاعرٍ فاتني الحديث عنه، ضمن شعراء الوطنية، فإني على أتم الاستعداد لتدارك هذا النقص في الطبعة التالية من الكتاب.

وهذه العبارة القصيرة، تنمُّ على خُلُق عبد الرحمن الرافعي، خُلُق العالِم الذي يبحث عن الحق والحقيقة، وقد تجلَّى هذا الخُلُق في جميع المؤلَّفات التي أصدرها الرافعي، وفي مقدمتها «حقوق الشعب» و«الجمعيات الوطنية»، وتاريخ الحركة القومية، وعصر محمد علي، وعصر إسماعيل، والثورة العرابية، ومصر والسودان، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وثورة ١٩١٩، وفي أعقاب الثورة المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤