يا صديق العمر تمهَّلْ

إلى أين يا صديق عمري، قف «تمَهَّلْ»، لا تُسرِع بخطاك إلى العالم الآخر، فأنا ما زلت هنا، في الدنيا التي عشناها معًا طفلين صغيرين، نسكن في حارةٍ واحدة، ولا نكاد نفترق إلا لحظات النوم، وأوقات الدراسة.

ودارت بنا الأيام وافترقنا، سار في طريق، وسرت في طريق آخَر، وكنَّا دائمًا على اتصالٍ روحي وفكري، كانت أفكارنا تتعارض أحيانًا، ولكن مشاعرنا ظلَّتْ كما هي؛ بريئة كالطفولة التي جمعتنا، حكيمة كالكهولة التي خطفه منها الموتُ، وتركني وحدي أبكيه، دون جدوى!

فلن يعود يوسف حلمي إلى الحياة بعدما فارقها، ولو ذبحنا قلوبنا أسًى عليه.

ولكن كم من يومٍ طواه الزمن، وظلَّ عالقًا بأذهاننا، نابضًا في ذاكراتنا؛ لأن عظمته تتحدَّى الزمن والنسيان.

إن الأحياء كالأيام، إذا مضى يومٌ فلن يعود، وإذا مات إنسان فلن نجده إلا إذا وصلنا نحن إليه.

وكم من أصدقاءٍ فقدناهم، وما زلنا نعيش معهم بالذكرى والحسرة، ويوسف حلمي واحد من هؤلاء، لا بالنسبة لي كصديقٍ عرفته منذ سبعة وأربعين عامًا، ولكن بالنسبة إلى كثيرٍ ممَّن عرفوا يوسف صديقًا ومناضلًا وعبقريًّا.

فيوسف حلمي المحامي الذي نَعَتْه الصحف، كان كاتبًا يعالج الموضوعات السياسية والفنية، وكان قصاصًا أضاف إلى المكتبة العربية مجموعةً من القصص الصغيرة، أصدرها من نحو ثلاثين عامًا، وكان أول خريجي معهد التمثيل، وقد رأس جمعية أنصار السلام، وكان ينادي بالمبادئ الاشتراكية قبل قيام الثورة، ولم تشغله المهام السياسية والاجتماعية التي اضطلع بها، عن الاهتمام بفن الغناء، فعمل على إنشاء جمعية أصدقاء سيد درويش، فقد كان مؤمنًا بأن هذا الفنان هو أول مَن استمدَّ إلهامه من الشعب، من طبقاته الكادحة من فئاته المظلومة، من أحداثه الكبرى، من نيله وريفه، وتراثه الحضاري، وأنه الرجل الذي نقل الأغنية من التخت إلى المسرح، ولم يجعلها احتكارًا لحناجر المطربين، بل جعل الشعب كله يسمع ويغني، كانت الأغاني فردية فصارت جماعية.

وكان في جميع تصرفاته، يعمل بإيمان وقدرة، وكم اختلفتُ معه في رأيٍ أو فكرة، ولكن منطقه في تسويغ آرائه وأفكاره كان يقنعني دائمًا بأن يوسف حلمي يقول كلَّ ما يعتقده، ويعتقد كلَّ ما يقوله.

•••

وزاملت يوسف حلمي ونحن في مرحلة الانتقال إلى الصبا، في ممارسة هواياتنا الفنية، فألَّفْنا جمعيةً للأدب والتمثيل، وكان بين أعضاء هذه الجمعية أحمد حسين المحامي، ومحمود المليجي الممثِّل، ومحمد نزيه الصحفي، وكان للجمعية أصدقاء كثيرون ممَّن يُقِيمون خارج القاهرة، ومن بينهم الوزير السابق فتحي رضوان.

وكان يوسف يتميز بالجدية والصلابة والرقة أيضًا، لم يكن يتساهل فيما يؤمن بأنه حق، ويدافع عن إيمانه بالكلمة الصريحة والابتسامة الحلوة، ويستعمل عضلاته عند الاقتضاء، فقد كان قوي البنية، شجاعًا، يفيض صحةً وشبابًا وحيوية.

وظلَّ كذلك إلى بضع سنوات مضت، ثم داهمه المرض الخطير الذي عجز العلم عن أن يجد له دواء إلا الموت، فحوَّله إلى شبحٍ، ناحل، أصفر، وظلَّ يقاوم المرض بإرادته وتشبُّثه بالحياة، إلى أن مات بلا رئتين، فقد أكلهما السرطان.

•••

وكنت أعمل مع يوسف حلمي في جريدة روز اليوسف اليومية، وفي هذه الجريدة تجَلَّتْ موهبة يوسف الصحفية؛ فكان القراء يُقبِلون على قراءة تعليقاته القصيرة تحت عنوان «همسة» بشغفٍ شديد، وقد شارك في تبويب الجريدة وإخراجها، وأعطاها كل طاقته ومواهبه، وتُعَدُّ هذه الجريدة إحدى الدعامات الكبرى في تفوُّق صحافتنا مادةً وأسلوبًا وإخراجًا.

•••

وكان يوسف حلمي المحامي نموذجًا للمثالية في المحاماة، فهو لا يقبل الترافع في قضيةٍ إلا إذا اقتنع بها، وكم رفض قضايا عرض عليه أصحابها أتعابًا مغرية؛ لأنه بعدما درسها تبيَّنَ له أنه وهو يترافع عنها، لا يدافع عن حقٍّ ولكنه يدافع عن ظلم.

زرته في مكتبه ومعي صديق عرض عليه قضية ليترافع فيها، وأخذ القضية وأراد الصديق أن يجرحه ويدفع له مقدم الأتعاب، فرفض وقال: سنتفق على الأتعاب إذا اقتنعت بالمرافعة في القضية.

وبعد يومين قال لي صديقي إن يوسف حلمي رفض الترافُع في القضية، كان يوسف في تلك الأيام يعاني أزمة مالية، ولكن أزمته لم تستطع أن تهزم ما قيَّدَ به نفسه من مبادئ.

•••

وقد تزوَّجَ يوسف، ولكنه لم يُنجِب أولادًا، وكان يقدِّس حياته الزوجية، وكانت زوجته ترى فيه فتى أحلامها، وحبها، وأملها، وقد شاركته في جميع أزماته، وما أكثرها!

وذات يوم كان يوسف يزور بعض أصدقائه في الريف، وأُصِيب بنوبةٍ قلبية، وأتى به أصدقاؤه إلى بيته في القاهرة محمولًا على أيديهم، ولم تكد زوجته تراه على هذه الصورة، حتى أصابها إغماء لم تُفِق منه؛ فقد ماتت!

وتحمَّلَ يوسف الصدمةَ بلَوعةٍ، ولم يتزعزع إيمانه بالله، وظلَّ إلى آخِر لحظةٍ من حياته يبكي شريكة الحياة التي ماتت هلعًا عليه.

•••

ومنذ سنتين تحوَّلَ الشاب القوي إلى حطام، فقد عانى من مرض السرطان وهو لا يدري، وكان أطباؤه يشفقون من مصارحته بمرضه القاتل، ولكنه عرف الحقيقة، وحاول أن يهزم المرض، واستفحل الداء وانتقل من رئةٍ إلى رئة، ورغب في السفر إلى الخارج، لعله يجد هناك علاجًا ينقذ به حياته التي وقفها لخدمة وطنه وإنسانيته.

ووفرت له الدولة وسائل السفر والعلاج، وقال لأطبائه: هل هناك أمل في شفائي؟ وهزوا رءوسهم، فأصرَّ على أن يعود إلى بلاده التي استمدَّ منها الأمل؛ ليدفن فيها أمله!

وعاد إلى مصر جثة يهمدها المرض وتحركها الكبرياء، وعندما قرأت نبأ نعيه في الصحف، لم أستطع أن أذهب لأشيع جنازته، فقد كنتُ مشغولًا بتشييع جنازة أخرى هي جنازتي!

يا صديق عمري إلى أين؟ تمهَّلْ، فما زال في أفكارك ومشاعرك ما تحتاج إليه الحياة.

ولكنها حكمة الله، إذا لم تستطع رءوسنا أن تفهمها، فإن رءوسنا لا تعجز عن الانحناء خشوعًا لها، فَلْنحنِ جميعًا رءوسنا ونخشع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤