الفصل الأول

الزعماء في الشرق

ربما كانت مسألة الزعامة والزعماء في الشرق من أعْضَل المُعْضِلات التي تعانيها تلك الشعوب من فجر التاريخ إلى يومنا هذا.

يكون الزعيم مصلحًا دينيًّا أو مصلحًا اجتماعيًّا أو زعيمًا سياسيًّا أو قائدًا حربيًّا، وقد يوصِّله الدين أو السياسة أو الحرب إلى المُلْك.

وربما يكون نصيب المصلح الاجتماعي أقل الأنصبة في المجد والمنفعة الذاتية.

على أن الزعيم الصادق يكون دائمًا ساميَ الغرض بعيد الغاية فلا يتطلب لنفسه شيئًا، كما قد يكون طموحًا ذا مطامع فيسخِّر لنفسه ولذويه كل شيء. وبقدر ما يكون الأول نافعًا يكون الثاني مضرًّا وذا خطر على الوسط الذي ينشأ فيه.

يجب علينا أولًا أن نفحص شعوب الشرق من حيث الزعامة والمقارنة بينها وبين شعوب الغرب.

في الغرب يظهر أعاظم الرجال بكثرة مَهُولة، ويَنْبُغُون بسهولة، ويتقدمون في طريق الحياة يقودهم النجاح ويكلِّلهم الظَّفَر بأكاليل الغار، لأسباب لا توجد في الشرق، فإن الغرب ميَّال بطبيعة شعوبه لتشجيع النابغين والإقبال عليهم وتعضيدهم والانتفاع بهم، وربما كان الرجل العظيم في الغرب غالبًا ذا ميل اجتماعي، أي إنه يفضل الصالح العام على الصالح الخاص، بل الأعجب من ذلك أن الطبقات الوسطى من الشعوب الغربية تفضل الصالح العالم على الصالح الخاص، وترى أفرادها على ما هم به من خَصَاصة يقدمون منفعة المجموع على منفعتهم الذاتية. وقد سمعت حديثًا بين شُرْطِيٍّ أجنبي وعامل مصري، قال الأجنبي: نحن في بلادنا ننظر أولًا إلى المصلحة العامة والمصلحة الخاصة تأتي عَرَضًا، أما في بلادكم فالمنفعة الشخصية عندكم مقدَّسة ولو أخذت في سبيلها المنفعة العامة وقضت عليها. لقد صدق هذا الشرطي وأصاب كبد الحقيقة، أصاب ليس لأنه عبقري أو قوي البصيرة أو عالم اجتماعي، بل لأن الأمر ظاهر كالشمس، الشرقي بصفة عامة والمصري بصفة خاصة يفضل نفسه وذويه ويقدمهم، وقد يقدم قريبه أو صديقه مع عجزه وضعف خلقه على الغريب عنه ولو كان من أهل الكفاية وذوي الخلق القويم.

وهذا الأمر ظاهر في مناصب الحكومة، وفي الأعمال الرسمية، حيث يمكن الحصول على المنافع المادية على حساب الغير، ولكن ربما يتردد الشرقي في مصلحته الخاصة في تفضيل قريبه أو صديقه المضر على الأجنبي النافع، وهذا أيضًا من الأنانية وحب النفس؛ لأنه هنا يدافع عن مصلحته الشخصية ولا يريد أن يعبث بها القريب الفاسد، إذا كان لديه أجنبي صالح يقوم بالعمل. إذن رابطة الدم أو رابطة المودة تنفع صاحبها ما دام الغُرم واقعًا على الغير، أي على المنفعة العامة، أما إذا كان الغُرم واقعًا على الشرقي صاحب العمل فهو يُقصي قريبه أو صديقه، وحينئذ يجد الحجة الدامغة يقابل بها من يعترض عليه، حينئذ يقول الحق ويراه واضحًا ويدافع به عن خطته. وهو نفسه يجد مثل هذه الحجة الدامغة إذا اعترضتَ عليه عند تفضيله القريب أو الصديق في العمل العام على الغريب ذي الكفاية، أقصد بالغريب عنه لحمًا ودمًا أو عصبية وصداقة، فهو يقول إن فلانًا ليس أقل كفاية من غيره، إنه على الأقل يطيعني، ولا يخونني، وهو صادق إذ يقول ذلك لأنه ما دام لا يحتك مع قريبه أو صديقه في منفعة خاصة فيَنْدر أن يحدث بينهما خلاف.

أرأيت كيف أن الشيء يمكن أن يكون حقًّا وباطلًا في وقت واحد، وكل ذلك لدى تضحية المنفعة العامة. إن هذا الأمر مع فظاعته وهوله صحيح ومشاهد وواقع في كل مكان تجده وتجد آثاره حيث تضع أصبعك.

إن مضارَّ هذه الحالة الخُلُقية عظيمة جدًّا، عظيمة لا تُحَدُّ، ونتائجها الفاجعة لا تُحْصى. ليس هذا فقط، بل إننا نحن الشرقيين وبصفة خاصة المسلمين قد لُدِغْنا منها مرات في التاريخ، وقد قال النبي: «لا يُلدغ المؤمن من جُحْر مرتين»، لأن الموعظة الأولى أو التجربة الأولى كافية لحمايته.

لقد حدث هذا في فجر تاريخ الإسلام، في حادثتين من أهم الحوادث: الأولى في خلافة عثمان، والثانية في خلافة علي.

أما في خلافة عثمان فإن الخلاف الذي نشب بين المسلمين أولًا كان لأنهم انتخبوا عثمان دون علي، وكان فريق من أقارب علي يفضلونه لا لأنه من أبطال الإسلام ولا لأنه بذل في سبيل الدعوة ما بذل ولا لفصاحته وشجاعته، بل لأنه ابن عم النبي وابنه بالتبني وصِهْرُه بزواج السيدة فاطمة. قالوا إنه من العِتْرة النبوية وإنه والد الحسن والحسين وكانا أحب الناس إلى جدهما الرسول، فلأجل هذا كان علي أحق بالخلافة من عثمان، وغضبت السيدة فاطمة وقالت ألفاظًا رواها المؤرخون، ويُفهم منها أنها دُهشت لأن زوجها لم يكن الخليفة والأمرُ أمرهم وشأنهم. على أنني أعذر السيدة فاطمة — عليها رضوان الله — لأنها سيدة. وقد كانت بداية الفتنة هذا الخلاف العائلي.

بعد ذلك صار عثمان خليفة فوقع في عين الخطأ الذي قاومه أنصاره، لقد قرَّب أقاربه وأصهاره وأحبابه وعيَّنهم في المناصب واستعملهم وولَّاهم شئون المسلمين في أنحاء الدولة، واستعمل حقه في الخلافة استعمال مَلِك شبه مطلق. لاحظ أنني أحب عثمان وأُعجب به ولا أريد أن أَمَسَّ شخصه الكريم، لا لأنه ثالث الخلفاء الراشدين ولا لأنه صهر النبي، بل لأنه مات شهيدًا، وذاق أهوال الاضطهاد وهو في الثمانين من عمره، ورُشِق بالحجارة في شوارع مكة، ثم ذُبِح في بيته وهو يقرأ القرآن، ومَنْ ذبحه؟ أحق الناس بالدفاع عنه محمد بن أبي بكر الذي يُعَدُّ ولدًا لعثمان. فانظر إلى هذا المصاب العظيم يصيب المسلمين في فجر تاريخهم!

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، وليت هذه الجناية كانت الأولى والأخيرة من حوادث القتل السياسي!

إن عثمان مات فكان دمه سببًا في فتنة عظيمة هي الفتنة التي عانى الإسلام نتائجها أجيالًا، ولا تزال آثارها باقية حتى الآن في انقسام السُّنة والشيعة.

وفي هذه المرة كانت زعيمة الثورة والمعادية لعلي السيدة عائشة أم المؤمنين نفسها، التي كانت تحفظ نصف دين المسلمين وأُمر المسلمون أن يأخذوه عنها، لقد هاجت الرأي العام ضد علي، واتخذت المطالبة بدم عثمان سببًا لهذا الهِيَاج.

وحدثت حروب عظيمة ووقائع فظيعة قُتل فيها عدد كبير من المسلمين، ودبَّ الشقاق بينهم.

وفي هذه الأثناء قام رجال كمعاوية يناوئون عليًّا وانتهزوا فرصة انشغاله بفتنة السيدة عائشة والتمسوا سَمَّ الخِيَاط ليدخلوا منه، وكانت الحروب والتحكيم والحِيَل والمخادعة، ثم ظهر شبح القتل السياسي ثانيًا في صدر الإسلام فقُتل علي ونجا معاوية وعمرو، وبذهاب علي على هذه الصورة المحزنة قُضي على نظام الانتخاب الحر في تعيين الخليفة، لأن معاوية أخذ الخلافة بالقوة والحيلة كما لو كان أحد أمراء الشرق أو أمراء إيطاليا في القرون الوسطى.

لا أنكر أن الدولة الأموية كانت أعظم دولة في الإسلام وأن الفتوح التي تمت في عهدها كانت أعظم الفتوح وأجلُّها، ولكن ما قيمة الفتوح وأخذ الممالك وانتشار صَوْلة الدين في جانب ضياع المبدأ الذي كان يضمن سلامة الإسلام إلى الأبد، وهو مبدأ انتخاب الخليفة انتخابًا عامًّا حرًّا؟ لقد قضى معاوية بدهائه ومطامعه على هذا المبدأ، وأخذ يحصل من رعاياه على مبايعة ولده، وهكذا أخذ كل خليفة يُكْره الناس على مبايعة ولده، حتى إذا ظهر رجل قوي حيال ولي عهد ضعيف قضى عليه وأجبر الناس على نقض البيعة.

وعاد العباسيون إلى الخطة الأولى، فنادوْا بقرابتهم واستعملوا أبا مسلم الخراساني للدعوة لهم في العراق حتى نجحوا فتخلَّوْا عن السبب وأسسوا دولة على السيوف والرماح … وهكذا.

بيد أنك ترى الأمر في الغرب على خلاف ذلك، فأول ما يفكر فيه الشعب هو تأسيس نظام الدولة وضمان سياسة الأمور بالعدل، لأنه مهما كان الرجل الرشيد الذي نمجده اليوم عظيمًا وعادلًا ورحيمًا ومحبًّا للإنسانية ولوطنه، فنحن لا نضمن ابنه ولا حفيده.

ولا أنكر أن بعض المستبدين الأقوياء قاموا في أمم الغرب وأسسوا دولًا بالقوة والخداع، ولكنهم كانوا من الشواذ والاستثناء، والقاعدة العامة اختيار الأصلح، أما في الشرق فقد كانت القاعدة هي الاستبداد ومجيء الصالح وتوليته هي الشاذ، فقد جاء عمر بن عبد العزيز منفردًا في سلسلة من الخلفاء الضعفاء أو المتهاونين في شئون أمتهم، فكان الخليفة الفاضل يأتي مصادفةً لا قصدًا.

إذن كان يجب علينا أن نتعظ من الحوادث الأولى ولا نسمح لها بأن تتكرر، ولكننا لم نتعظ، حتى إن الدول التي وضعت أنظمة لولاية المُلْك باختيار الأرشد فالأرشد، مثل الدولة العثمانية، اختلَّ حبل النظام فيها، وأخذ القوي المبعَد يسعى بكل الوسائل للاستيلاء على الملك ولم يتردد في هذا السبيل.

ينتج عن هذا أن التساهل في مسألة واحدة، وهي تفضيل الأقارب والأصهار، جلب كل المصائب التي حلَّت بالإسلام، كانوا يقولون إن الخلفاء فسدوا أو ضَعُفُوا أو مكَّنوا الأجانب أو حاربوا العلماء أو اضطهدوا النابغين، وكل هذا صحيح لأن الرجل الذي كان على رأس الخلافة لم يكن الرجل الواجب الوجود، ولو أنه سلك في وجوده عين الخطة التي رسمها النبي ما وقع الإسلام فيما وقع فيه. إن النبي لم يضع نظامًا للملك ولم يضع للدولة دستورًا، هذا صحيح، ولكن لا ننسى أن النبي ترك أنظمة ودساتير لا تُعد، في القرآن والسنة، ولو أنه أراد أن يحْصُر الملك أو السلطة في شخص معين ما كان هذا لِيُعْجِزه، ولكن احترامًا للحرية ورغبةً منه في تربية الشعب تربية سياسية ترك لهم الخيار بعد أن أبان لهم الحق من الباطل في مئات الأحاديث بعد الآيات القرآنية وفي خطبة الوداع التي تُعد من أمهات الدساتير الإنسانية في الحكم والإدارة، فماذا يصنع النبي لشعب فاسد أو لأمة خالية من المبادئ أو لرجال يفضلون المصلحة الخاصة على المصلحة العامة؟ ليس على أعمال النبي غبار حتى في نظر ألدِّ خصومه، ولكن العيب كله راجع للذين جاءوا بعده وخَلَّطوا وأفسدوا.

ماذا نرى في الشرق؟ الزعيم الدين أولًا.

قام في الشرق عشرات من الزعماء الدينيين درسناهم بإيجاز في مكان آخر من هذا الكتاب، إنما الذى يهمنا الآن الزعيم أو البطل الديني الذي جاء بعقيدة منزَّلة، وهم في الشرق السامي ثلاثة موسى وعيسى ومحمد، ونترك غيرهم من الأنبياء المرسلين أمثال إبراهيم ونوح ويوسف، لأنهم لم يؤسسوا دولًا أو بعبارة أخرى لأن أديانهم لم تؤدِّ إلى إيجاد أنظمة سياسية أو اجتماعية، أما هؤلاء الثلاثة فقد أسسوا دولًا لا تزال باقية في الشرق حتى الساعة.

ماذا يهمنا من تاريخ موسى؟ شريعة عظيمة وعادلة وشديدة وهي أولى الشرائع المنزَّلة في الشرق. ولكن الذي يهمنا هو ما لقيه هذا الرجل من شعبه، فإن أحد أفراد هذا الشعب الذي كان يدافع عنه موسى وَشَى به وأوقعه في تهمة جناية القتل العمد. وعلى من اعتدى موسى؟ على رجل مصري كاد يفتك بالإسرائيلي، وشهد الإسرائيلي دفاع موسى عنه، فكان هو المبلِّغ ضده والمهدِّد له! أرأيت؟ هذه حادثة فردية ولكنها لها كل دلالتها، بل هي رمز للتاريخ الشرقي كله، أن الرجل الذي تدافع عنه وتحميه وتذود عنه وتريد له الحياة لأنه من الشعب ولأنه ضعيف، هو الذي يحفظ لك هذه الحادثة لينتفع بها ضدك ويؤذيك!

هل تجد في الغرب خيانة كهذه؟ ربما، ولكن نادرًا. هل تجد بين الوحوش وفي عالم الحيوان خيانة كهذه؟ ربما، ولكن من الذئب أو من الثعبان، ولكن كل مخلوق آخر مهما كان فظيعًا قاسي القلب لا يقع في هذه الجريمة، أي إنه لا يقابل الإحسان بالإساءة، ولا يقابل الجميل بالنكران. إن موسى لم يحسن لليهودي فقط بل إنه ضحَّى في سبيله، لقد استُهدف للخطر لأنه قتل مصريًّا، لقد بلغ حبه لشعبه ممثَّلًا في أحد أفراده درجة الجريمة، ثم ماذا لقي موسى من شعبه بعد أن لجأ إلى كل الحيل في إنقاذه وإخراجه من مصر وهي بالنسبة لليهود كانت دار عذاب وإساءة؟ لقد عذَّبوه في الصحراء، وأذاقوه مرارة الحياة ألوانًا.

فأخذوا يعصُونه وهو يأتي لهم بأوامر الله ونواهيه، وأخذوا يعبدون العجل ويضايقونه ويمتحنونه حتى كاد يُجَنُّ من فعلهم!

وإليك ما وقع للزعيم الديني الثاني وهو عيسى ابن مريم — عليه السلام:

لقد كان عيسى في نظر النصارى إلهًا متجسدًا، وفي نظر المسلمين نبيًّا مرسلًا، وفي نظر اليهود ثائرًا على قومه وعلى عقيدته. وعلى كل حال فهو في نظر التاريخ الاجتماعي مصلح قومي، أراد قبل كل شيء إصلاح حال اليهود وإخراجهم من مظالم الرومان، فأتى بمبادئ سامية في الحب والعدل والرحمة والتسامح والعفو والمغفرة، مبادئ هي من أجمل ما نطق به البشر ومن أفضل الأسس التي تُبْنى عليها مكارم الأخلاق. وقد تحاشى على قدر طاقته التدخل في شئون الدولة الحاكمة، لأنه كان يريد أن يهدِمها بالتدريج، ومن جهة أخرى بمعاول الإخاء والمساواة والمحبة.

ولا ريب في أن عيسى — عليه السلام — كان إسرائيليًّا عبقريًّا، وكان قائمًا ضد الأنظمة الفاسدة التي وصلت ببني إسرائيل إلى ما وصلت إليه في عهده. وكان هذا طبعًا بأمر من الله — سبحانه وتعالى — فماذا كانت النتيجة؟

إن اليهود قد أوقعوا به، بعد أن حاولوا مرات أن يفسدوا بينه وبين قيصر، وهو رمز السلطة الرومانية، وأَوْغَروا عليه صدر المندوب السامي الروماني «بيلاطوس»، وخلقوا له التهم ونسبوا إليه أنه يقول أنا ملك بني إسرائيل، ليكون من ذلك جريمة سياسية، ورغبةً في انتزاع الملك، ودعوة إلى الثورة ضد الرومان.

لقد حدث للمسيح ما هو معلوم في التاريخ من قبض واتهام وتعذيب.

وذهب في الرابعة والثلاثين ضحية الظلم ورُفِع إلى السماء، ليتم الوعد الرباني وهو تخليص شعبه.

ثم بعده بستة قرون ظهر النبي محمد في جزيرة العرب، وتاريخ ما لقيه من قومه معلوم معروف، فمن الاحتقار والسبِّ إلى الاضطهاد والإهانة حتى شرع أحدهم في خنقه وهو يصلي، وكانوا يلقون عليه الأحجار في الطريق، وحاولوا استغواءه بكل الوسائل بالمال والملك والسيادة المطلقة ثم تآمروا على قتله. ولما هاجر إلى المدينة في نفس اليوم الذي عيَّنُوه لاغتياله في فراشه، اقتفَوْا أثره في حملات منظمة كأنه مجرم فارٌّ من وجه العدل.

ولما بعد عنهم وصار في مأمن، شنُّوا عليه الغارات وحاربوه، وبلغ الجيش الذي حشدوه للقضاء عليه في موقعة الخندق الشهيرة عشرة آلاف جندي! تصور أن أهل مكة يستطيعون في القرن السابع للمسيح أن يجنِّدوا جيشًا قِوامه عشرة آلاف جندي بين راجِل وراكب وهجَّان، وقديمًا حشدوا له جيشًا فيه الفِيَلة العظام. ولو لم يكن سلمان الفارسي مشيرًا للجيش المحمدي، وهو الذي ابتكر فكرة حفر الخنادق حول المدينة، فلا يعلم النتيجة إلا الله، جيش من عشرة آلاف جندي على رأسه جميع عظماء مكة وأبطالها وفرسانها وساستها ودُهَاتها ضد النبي وعصبته القليلة العدد.

ولماذا هذا العداء كله؟

لأن النبي كان يحب الخير لقومه وللإنسانية، فأخرجهم من دَيَاجير الهمجية والجاهلية والوثنية، وجعل شعبهم أعظم شعب في العالم، وجلب لهم الغنى والمال والجاه والعزة. والأعجب من هذا أن معظم الزعماء الذين كانوا في هذا الجيش قد استفادوا من الإسلام بعد أن دخلوا فيه مُرْغَمين أو راغبين، وصاروا خلفاء وأئمة وأمراء وقوادًا وزعماء وولاة وقضاة في جميع أنحاء العالم، وكانوا حَمَلة المدنية العربية التي أضاءت سواد الدنيا القديمة.

لقد قَصَرْت بحثي في الزعامة الدينية على الزعماء الذين لا يوجد شك في زعامتهم، لأنهم جاءوا برسالة ربانية، أي إنهم مؤيَّدون من الله بأمور فوق الطبيعة، فما بالك بالزعماء الدينيين الذين انتدبوا أنفسهم للإصلاح الديني بغير رسالة منزَّلة؟ هؤلاء يدخلون في حظيرة التاريخ، ويرد ذكرهم في كتابنا عَرَضًا ونكتفي بمن ذكرنا.

انظر إلى الزعيم الاجتماعي وهو رجل الإصلاح:

إن عمله في الدرجة الثانية بالنسبة لأعمال النبوة.

وعمله يتناول حياة الأمة بحذافيرها.

ليس في الشرق الإسلامي مصلحون اجتماعيون كثيرون، بل لعلهم يُعَدُّون على الأصابع، لأن الاجتماع في الشرق يدخل عادةً في الدين.

وربما يكون الإصلاح الاجتماعي جزءًا من عمل الزعيم السياسي، فيندمج فيه.

ولا يوجد مصلح اجتماعي محض فيمن نذكر في الأزمنة الحديثة سوى قاسم أمين، فهو مثال للمصلح الاجتماعي الصافي، الخالص من كل الصفات الأخرى، فقد كان هذا الرجل قاضيًا، وكان تعليمه وحياته العملية يدفعانه نحو الإصلاح الاجتماعي المحض.

وقد عاش في زمن كانت مصر فيه أحوج ما تكون إلى مثله. لقد قالوا إنه كردي الأصل، وهذا لا يهمني فإنه ليس من الممكن في مصر أن تستخلص رجلًا منحدرًا من أصل مصري مؤكد إلا في أقاصي الصعيد، وهو يكون في الغالب أشبه الناس بالمصريين القدماء ويعمل غالبًا في خدمة الأرض والزراعة. ولكن الطبقة المتعلمة والمنوَّرة والتي تُخرج بعض الرجال النافعين هي خلاصة شعوب مختلفة، ولذا فأنا لا أكترث لكردية المرحوم قاسم أمين، وأعتبره مصريًّا بكل معاني الكلمة، لأنه وُلد هو وأبوه وأمه في مصر وعاش وتربَّى وتغذَّى بلِبان مصر، وتعلَّم لأجل مصر، وخدم مصر في حياته الخاصة والعامة، وأسس أسرة مصرية وهذا يكفي. رأى هذا المصلح المصري قُبَيْل وفاته بعشر سنين ما وصلنا إليه من التدهور والانحطاط بسبب تفكك الروابط العائلية، وقد رد هذا الانحطاط إلى جهل المرأة وتقييدها فاستجمع شجاعته ووضع كتاب «تحرير المرأة»، الذي يُعد بالنسبة لمصر من أعظم الكتب في التاريخ الحديث. فماذا كانت عاقبته؟

لقد قامت عليه القيامة من كل ناحية، واضطُهد وأُهين وصوِّبت نحوه سهام النقد الشديد حتى من رجل يَعُدُّونه في مقدمة أهل مصر ذكاءً وحرية تفكير وتعليمًا، وصار اسمه مضغة في الأفواه، ونسب إليه الأشرار ما نسبوا، وانطلقت ألسنة السوء تعيبه وتفنِّد رأيه، وألَّفوا أكثر من مائة كتاب وسوَّدوا ألوف المقالات في الرد عليه وتخطئته.

لا أدري إن كان قاسم قد اغْتَبَط بهذه الحركة التي قامت ضده وقد رأى بنظره الثاقب أن هذه الضجة دليل الحياة، وأنها رد فعل يدل على وجود المصريين وشعورهم، وأن الذي يناقش اليوم رأيًا ليخطِّئه قد يقتنع غدًا بصحته. وقد تشجع قاسم وكتب كتاب «المرأة الجديدة»، فاستقبل وابلًا من القذف والسب والقدح في هذه المرة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، وانبرى للرد عليه كُتَّاب من شمال أفريقيا والشام والعراق والحجاز والهند وإندونيسيا، وكان في مقدمة هؤلاء كلهم علماء الرسوم الذين أَغْرَوْا به العامة، وهؤلاء العلماء الجهلاء (إن صح الجمع بين الصفتين) كانوا يعلمون ما وراء حركة قاسم من الإصلاح، ويعلمون أنه لم يخرج في اقتراحه عن حدود الشرع الشريف، وأنه استشهد في كتابيه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأخبار السلف الصالح.

بل إن هؤلاء العلماء اتخذوا كتابَي قاسم وسيلة للنيل من صديقه ورفيقه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده، وهو مصلح ديني ممن لقوا أشد صنوف التنكيل في سبيل مبادئهم، وادعَوْا أن قاسمًا لم يكن وحده في اقتراف هذه الجريمة، بل إن الذي ساعده وعضَّده وأخذ بيده هو الشيخ محمد عبده فرمَوْا طائرين بحجر: رمَوْا قاسمًا بالضعف إلى درجة الاستعانة في آرائه بالمفتي، ورمَوْا المفتي بالنفاق والجبن إلى درجة أنه لم يستطع الظهور بشخصه في الدفاع عن آرائه. وكانت جريدة المؤيد في مقدمة الصحف التي أشعلت نار تلك الفتنة، مع أن صاحبها المرحوم كان على وشك إحداث أعظم فضيحة زوجية في تاريخ مصر الحديث.

كان قاسم أمين في هذا الوقت قد فرغ من الدفاع عن الأمة المصرية بل عن الشرق كله ضد النقاد الأجانب، فإن الكونت دارنبورغ الفرنسي المستشرق كتب رسالة في الطعن على المصريين وعدم صلاحيتهم للعلم والسياسة ونشرها في بلاده، فانبرى له قاسم ووضع باللغة الفرنسوية كتابًا اسمه «المصري»، دافع فيه أعظم دفاع وأمجده عن الأمة المصرية بأسرها في تاريخها وفي أخلاقها وفي ذكائها وفي آدابها واستعدادها القومي للتمتع بالحقوق العامة (والكتاب مطبوع، ولم يُعْنَ أحد بترجمته إلى العربية)، تلك الأمة التي كان كُتَّابها ينهشون في لحمه بسبب رغبته في الإصلاح. في سنة ١٩٠٣ ظهرت قضية الزوجية بين المرحومَين السيد عبد الخالق السادات والسيد الحسيب النسيب الشيخ علي يوسف شيخ السجادة الوفائية، ولعب فيها لفيف من كبراء رجال الدين والأدب والقضاء أدوارًا مهمة، والعجيب أن هذه الفضيحة كان سببها جهل المرأة وفساد العادات القديمة في الحياة والزواج، فلو أن المرأة المصرية كانت متعلمة ولو أن الآباء كانوا يحترمون بناتهم ويحترمون حريتهن، أي لو أنهم تبعوا خطة قاسم في التعليم والتربية الأنثوية ما وقعت تلك الفضيحة التي كانت بمثابة قضية مدام كايو في فرنسا شهرةً.

بعد ذلك بعام توفي الشيخ محمد عبده. وفي سنة ١٩٠٨، أي قبل أن تمضي عشر سنوات على ظهور كتاب «تحرير المرأة» توفِّي قاسم أمين في ظروف محزنة.

فإنه في أواخر شهر أبريل سنة ١٩٠٨، وبعد شهرين من تاريخ وفاة المرحوم مصطفى كامل زارت مصر طائفة من الطلاب والطالبات الرومانية وزاروا نادي المدارس العليا، وألقى المرحوم قاسم أمين محاضرة باللغة الفرنسوية، قال فيها إنه يتمنى أن يعيش ليرى بعينه الفتى المصري والفتاة المصرية جنبًا إلى جنب في طلب العلم والسياحة وفي معاهد التربية والتهذيب، وذهب إلى داره حيث جلس على مقعد وثير في غرفة الجلوس وشرب قدحًا من الماء ولفافة من الطباق، ثم تأَوَّه وسقط ميتًا.

ربما كان البحث في الزعامة السياسية أصعب مبحث في هذا المجال.

لقد ظهر في الشرق زعماء سياسيون كثيرون، بل في كل ناحية من ناحيات الشرق العربي وفي مصر خاصةً، ونحن نذكر منهم على سبيل المثال جمال الدين الأفغاني وأحمد عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول، وبعض الزعماء في بلاد فارس وسوريا وتركيا وشمال أفريقيا.

أما جمال الدين الأفغاني فكان في الحقيقة مصلحًا عامًّا للدين والسياسة والاجتماع، ولكن السياسة كانت الصبغة الغالبة على مبادئه، ولعله اتخذ الإصلاح الديني والإصلاح الاجتماعي ونشر الفلسفة وسيلة للإصلاح السياسي، لأنه كان يرى أن إصلاح السياسة يُصلح كل شيء، وكان الإصلاح السياسي في نظره ينحصر في نقطتين: الأولى تحرير الشعوب من الحكم الاستبدادي، أي من ظلم الحكام الشرقيين المُطْلَقين الذين كانوا لعهده في فارس والأفغان وتركيا ومصر، وعندما ظهر لأول عهده لم تكن أوروبا قد هجمت على الشرق هذا الهجوم الفظيع، بل كان الإنجليز في الهند وحدها والفرنسيون في الجزائر وحدها. ونظر بعد ذلك في تخليص أمم الشرق الواقعة تحت الحكم الأجنبي وارتأى لخلاص الشعوب الإسلامية مما كانت واقعة فيه لعهده تأليفَ الجامعة الإسلامية تحت رياسة الخليفة، ولم يكن لعهده رجل يصلح لتولي هذا المنصب سوى السلطان عبد الحميد.

لقد لجأ الأفغاني أولًا إلى الملوك أنفسهم وحاول هدايتهم بالعلاقة الشخصية، وقد نجح فعلًا في إقناع شاه الفرس بضرورة إعطاء الدستور إلى شعبه، وتمكَّن من قلب الشاه وبذل له الإخلاص كله، وامتزج بالمصلحين من الشعب الفارسي بعد أن استمالهم إليه بعقله وعلمه وفصاحته وشخصيته الجذابة، ولما اضطُهد وتآمروا ضده سافر إلى بلاد الهند، وشعر الإنجليز بقوته ونفوذه فنفَوْه فذهب إلى الأفغان، وكانت مملكته تتناهبها المظالم، وهي واقعة تحت السلطة الإنجليزية لأنها خطر على أبواب الهند، فلم يكن الدور الذي لعبه فيها عظيمًا ولكنه لَقَّحها، وترك فيها خميرة صالحة كما ترك خميرته في فارس وكما ترك آثاره في الهند. وإني أفسر كل ما حدث في تلك البلاد من الثورات والنهضات القومية والنزعات الدستورية بفعل جمال الدين دون سواه، الذي كان نبي القومية الشرقية وأستاذ الحرية في تلك البلاد. ثم جاء إلى مصر وعلَّم فيها ونشر مبادئه، وكانت أسرع الأمم للاستفادة بمبادئه، فحصلت الثورة العرابية بعد خروجه من مصر بقليل. وفي مصر لقي الأفغاني اضطهادًا من العلماء ثم من الحكومة ثم من الشعب، ولم يَلُذْ به ولم يلتفَّ حوله إلا بضعة نفر من العظماء يكادون يُعَدُّون على الأصابع، وأعظمهم بلا ريب المرحوم محمد عبده الذي نفذ خطته بعد موته، وكان وارثه الوحيد وحامل الشعلة التي تلقَّاها عنه في الإصلاح الديني والقومي.

وقصد جمال الدين إلى تركيا حيث لقيه السلطان عبد الحميد بالحفاوة والترحيب والكرامة، ولم يكن ذلك لدَعَجِ عينيه ولكنه لأنه رأى فيه عضدًا في فكرة الجامعة الإسلامية، أو على الأصح لأن فكرة الجامعة الإسلامية التي بَسَطَها له جمال الدين قد رَاقَتْه وأراد الانتفاع بها لتوطيد ملكه. وكل رجال الإصلاح الذين قاموا في تركيا تلقَّوْا عن جمال الدين مبادئهم.

ومات جمال الدين في القسطنطينية في أواخر القرن التاسع عشر مصابًا بالسرطان في لسانه، ولَهِجَتِ الألسن بعد ذلك أنه ذهب ضحية خصومه كما هي العادة في الشرق، وهذه شائعة لا أثبتها ولا أنفيها.

ولكن ماذا كانت حياة جمال الدين الذي كان من عظماء العالم؟

إنه كان كسقراط في حكمته وقدرته على تكوين الرجال.

وكان كابن خلدون في علمه واتساع دائرة معارفه.

وكان كديموستين في فصاحته وخطبه، وكجان جاك روسو في حريته وصراحته.

لقد عاش مضطهدًا مطاردًا، ولم يتمكن في واحدة من الممالك الإسلامية الشرقية التي عاش فيها وأحب خيرها وخدم شعبها؛ من أن يعيش عيشة راضية أو يتمتع بحياة هادئة، ولم يؤسس أسرة، ولم يَبْنِ بيتًا ولم يدَّخر مالًا، ولم يتولَّ منصبًا، بل عاش عيشة المفاليك المشرَّدين، يبيت ليلته ولا يدري أين يكون صباحه. ومع ذلك فهو الرجل الوحيد الذي أيقظ المشرق من رَقْدته التي نامها سبعة قرون منذ اجتاحه الموغول من الشرق والأوروبيون من الغرب، هو الرجل الذي أنهض الشرق بعد أن يئس كلُّ من عداه من إيقاظه.

إن الزعماء السياسيين في الشرق العربي الذين عرفناهم ورأينا أعمالهم يعدون على الأصابع، وقد يرد ذكر بعضهم عرضًا في غير هذا المكان من الكتاب، وفي مقدمتهم بالنسبة لمصر المرحومون محمود سامي البارودي ومصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول، وبالنسبة لسوريا المرحومان السيدان عبد الرحمن الكواكبي وفوزي الغزي، وبالنسبة لشمال أفريقيا خير الدين باشا التونسي المتوفى سنة ١٨٩٠ والسيد عبد العزيز الثعالبي. وقد ظهر في تركيا عشرات من الزعماء، أولهم المرحوم مدحت باشا ومحمد طلعت، ولم يكونا من الزعماء الذين جمعوا بين صفتي المحاربة والسياسة أمثال أنور ونيازي وجمال ومصطفى كمال والمرحوم أحمد عرابي المصري. ولا نريد الإفاضة في ذكر الأسماء إنما ذكرنا هؤلاء من قبيل التمثيل والاستشهاد. ولو أننا أخذنا أحدهم نموذجًا لبقيتهم كان في سرد حوادث حياته ما يدل على حالة الزعيم السياسي في الشرق العربي الإسلامي بصفة عامة، فقد نشأ مصطفى كامل في مصر من والدَيْن مصريَّيْن، وتربى في المدارس الحكومية إلى أن دخل مدرسة الحقوق وظهر نبوغه وميله إلى الاشتغال بالسياسة، وكان الاحتلال الإنجليزي حديث العهد، وكان ناظر المدرسة فرنسيًّا اسمه مسيو تستو وكان عالمًا ومحبًّا للمصريين، ولكن كان يريد الظهور بالإخلاص للإنجليز فتسبب في طرده من المدرسة، وألصق تهمة طرده بالمرحوم عمر لطفي بك الذي كان وكيل المدرسة ليخلص من عار اضطهاد طالب يحب الحرية كما هي عادة الفرنسويين، وقصد المرحوم مصطفى كامل إلى فرنسا فدخل كلية الحقوق بتولوز واستعان ببعض رجال السياسة والأدب في إسماع صوته باللغة الفرنسوية، ثم عاد إلى وطنه وخطب وكتب وأسس مدرسة وصحفًا، وقد لقي من الاضطهاد والعداوة في أول أمره من رجال مصريين كان ينتظر أن يكونوا له عونًا فكانوا عليه حربًا، كالمرحوم الشيخ علي يوسف الذي كان يريد أن يكون زعيمًا سياسيًّا فضلًا عن اشتغاله بالصحافة، وغير السيد علي كثيرون من نوع آخر كانوا دسَّاسين ومتجسسين وحاسدين، غايتهم إلحاق الأذى بكل من يقوم بعمل نافع لمصر والمصريين.

وكان بخلاف هؤلاء جيش من الشرقيين من أجناس مختلفة ومعتقدات شتى قد حلُّوا أرض مصر ونزلوا بها ضيوفًا فأكرمت مثواهم وفتحت لهم صدرها وأغْنتهم بالمال والنَّوَال واعتبرتهم أساتذة ومرشدين، وكانوا هم أيضًا حربًا عليها، وقد انتفعوا بشرقيتهم وتمكُّنهم من اللغة العربية فأسسوا بعض الجرائد والمجلات ووقفوها على محاربة مصر وأذاها في شخص مصطفى كامل وكل من يسلك خطته من المصريين، وكان هؤلاء الشرقيون متصلين برجال الحكم من الإنجليز ويتناولون المرتبات ويقبضون النقود ثمنًا لإضرارهم بمصر التي آوتهم ويدَّعُون أن مصر هذه غنيمة لهم ولغيرهم وليس لأهلها حق عليها، وكانت الوكالة البريطانية في عهد كرومر أُمَّهم الحنون وكعبتهم التي إليها يقصدون ويُوَلُّون وجوههم شطرها صباح مساء، لِيَشُوا بمصر والمصريين كأن بينهم وبيننا ثأر قديم أو دم مهدور من سنة «ستين»، فكان هؤلاء في مقدمة أعداء مصطفى كامل وأنصاره. ولكن على الرغم من هؤلاء وأولئك نجح ذلك الشاب في نهضته وبلغت دعوته أركان الشرق العربي وغير العربي، وكانت جرائده ومجلاته مقروءة في الصين والهند وإندونيسيا وتركستان وإيران والأفغان وتركيا وسوريا وبلاد العرب والعراق.

وصارت مصر في حياته القصيرة موردًا عذبًا لرجال السياسة والأدب والصحافة من إنجلترا وفرنسا وألمانيا، بفضل مساعيه التي كان يبذلها في كل عام ودعوته الواسعة الانتشار التي تمكَّن بها من جذب قلوب فئة كبيرة من المنوِّرين ومحبي الإصلاح في أوروبا. ولكن أهل وطنه الذين كانوا ملتفِّين حوله كانوا أقلية لا تُذكر بالنظر إلى عظم شأن الدعوة، وقد تمكن خصومه في سنة ١٩٠٤ من التفريق بينه وبين الخديو السابق عباس حلمي الثاني بسبب قضية الزوجية الشهيرة، وظن الإنجليز أن ذلك سيكون سببًا في سقوط الزعيم الشاب فلم تحقق الأيام ظنهم ونجا من كيدهم بفضل ثباته وبُعد نظره. وفي سنة ١٩٠٦ تمكَّن من إنقاذ فلاحي دنشواي الذين حُكم عليهم بأحكام قاسية وهم أبرياء، ولكنه لم يستطع إحياء الموتى الذين أُعدموا على المشانق. وفي سنة ١٩٠٧ أنشأ جريدتين يوميتين باللغتين الفرنسوية والإنجليزية، وكانت صحته قد أنهكها الانهماك في العمل العصيب المضني، وقد صادفته عقبات كثيرة تمكَّن بعلوِّ همته من تذليلها. وفي أوائل فبراير سنة ١٩٠٨ قضى نحبَه بعد صراع شديد بين الحياة والموت وبعد مرض طويل استنفد البقية الباقية من قواه، وكان لدى وفاته في العام الرابع والثلاثين من عمره.

ولم يتذوق هذا الشاب شيئًا من ملذات الحياة، بل عاش ومات وهو لا يعرف لنفسه لذة إلا خدمة وطنه والعمل على خلاصه من براثن أعدائه، ولم يتزوج ولم يؤسس أسرة ولم يُرزق ولدًا، ولم يتمتع بشيء مما تمتع به أعداء مصر الذين خانوها وعاشوا على ضفاف نيلها عشرات السنين ولا يزال بعضهم على قيد الحياة كالأخطبوط يمتص الدماء ولا يشبع، مات مصطفى كامل فقيرًا، يكاد يكون معدِمًا، ولم يوجد بخزانته مال يكفي لنفقات دفنه، وهذا أسطع برهان على نزاهته وشرفه وإخلاصه.

فهذا شاب أعطى حياته لمصر ولم يطلب منها شيئًا، ولم يعرف المصريون قدره حق المعرفة إلا بعد وفاته، فقد كان يوم موته أعظم أيام مصر حزنًا، وهو اليوم الذي وصفه قاسم أمين بأنه يوم خفوق قلب مصر للمرة الثانية بعد حادث دنشواي.

وقد قال المرحوم مصطفى كامل في صيف سنة ١٩٠٥ في حفل من الباشوات والأعيان لرجل قدم إليه نسخة من كتاب «تحرير مصر»:

سأقرأ كتابك بعناية تامة، وإني أشجعك على خدمة وطنك وإن كانت خدمة الوطن في مصر تنقلب وبالًا على صاحبها، فها أنا أضحي بصحتي ووقتي، وكان الأنفع لي ولأسرتي أن أشتغل بالمحاماة فأقتني ثروة وأحتفظ بصحتي ولكنني ضحيت بهذا كله، ومع هذا فإنني لا أنجو من مخالب الشَّتَّامين والسَّبَّابين الذين يقابلون عملي بالذم والقدح في كل يوم، مثل فلان الذي يصفني بأنني هلفوت وجماعة كذا الذين يضربون الأمثال بأن الوطنية آخر ملجأ للهجَّاص!

هذا كان كلام المرحوم مصطفى كامل بنصه، ولعل الأحياء من أصدقائه الذين حضروا هذا المجلس وغيره يعلمون مقدار تألمه من حملة صحف خصومه من المصريين وغيرهم ضده، وبعد أن مضى أكثر من عشرين عامًا على وفاة المرحوم مصطفى كامل يزداد فضله ظهورًا وجلاءً في كل يوم ويَبِين فضله على غيره، ولا يمكن وصف أعمال خصومه ضده من أي جنس كانوا بغير الخيانة، وعندما ألقى خطبته الكبرى في شتاء سنة ١٩٠٨ في تياترو زيزينيا بالإسكندرية، وكانت كلمته الأخيرة لوطنه، وهي التي قال فيها:

بلادي لك قلبي وفؤادي، أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر!

نقلتها «الجريدة» لسان حال حزب الأمة، الذي أُلِّف ليُنَاوِئ الحزب الوطني، وجعلت عنوانها «ناقل الكفر ليس بكافر». ومن الواضح أن تلك الخطبة التي كانت تدعو إلى تحرير البلاد واستقلالها والاعتراف بحقوقها المقدسة والعمل على إسعاد الشعب المصري؛ كانت تعد في نظر الجريدة والقائمين بها في ذلك الحين ١٩٠٨ كفرًا، أما الصبر على الاحتلال والخضوع للحكم الأجنبي ومساعدة الغاصب على اغتيال حقوق البلاد واستثمارها؛ فكان في نظرهم هو الإيمان بعينه، لأنه كان هو منهاج حزبهم كما كان منهاج حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية الذي كان يرمي إلى خدمة الأريكة الخديوية.

هذه صفحة من تاريخ الزعامة السياسية بمصر، قد أتينا بها لتكون مثالًا لما سبقها ولحقها في الشرق العربي الإسلامي عامةً ومصر خاصةً.

زعيم السياسة والحرب

لقد تطورت الزعامة السياسية في الشرق تطورًا عميقًا.

فقد كان الزعيم السياسي في أول الأمر يجمع بين السياسة والحرب، وقد يسعى بالحرب إلى الوصول إلى السلطة العليا ثم يستعين بالسياسة في توطيد مركزه، وكان من هذا القبيل المرحوم أحمد عرابي الذي كان زعيمًا سياسيًّا، وكانت صفته الحربية ملحقة بزعامته السياسية، لأنه لم يكن جنديًّا عظيمًا ولا قائدًا موفَّقًا، وسمح لخصومه أن يهزموه وأخطأ في أمور حربية كثيرة، ولم يعمل بنصيحة كثيرين من المخلصين له الذين كانوا أدرى منه بمواطن النصر والهزيمة. قال لي «بلنت» في منزله سنة ١٩٠٩ بحضور صديق مصري: «لم يكن عرابي جنديًّا ذا قيمة حربية، فلا تحتقروه ولا تنْصِبوا له تمثالًا.» ولكن الثورة العرابية ضمت زعماء آخرين يجمعون بين السياسة والحرب والأدب، ومنهم المرحوم محمود سامي البارودي الذي قيل عنه إنه كان روح الثورة، وقد حارب خارج مصر في حروب الدولة العثمانية ضد روسيا. أما الزعماء الحربيون الحقيقيون فلم يكن لمصر نصيب فيهم، بل ظهر معظمهم في تركيا، ومنهم من قَوَّضَ تركيا القديمة في سبيل الحرية والاستقلال، ومنهم من شَادَ بناءها الجديد، أما الزعماء الحربيون الذين ظهروا في تركيا — أمثال أنور ونيازي وجمال وشوكت — فقد ماتوا جميعًا شهداء بأيدٍ أجنبية مأجورة وذهبت دماؤهم هدرًا، ما عدا أنور الذي مات شهيدًا وهو يحارب ضد البولشفيك في بخارى، ولكن الآخرين قد ذهبوا كلهم غِيلة بأيدي الفوضيين، ولعل الفوضيين كانوا مدفوعين أو مأجورين بدول أوربية كبرى للخلاص من هؤلاء الرجال الذين قاموا بنهضة تركيا الحديثة وأقلقوا بال المستعمرين.

أما الزعيم التركي المحارب الذي نظَّم دولته تنظيمًا جديدًا في السياسة والاجتماع وهو الغازي مصطفى كمال رئيس جمهورية أنقرة، فلم يسلم من عداء الأتراك والمسلمين في أنحاء العالم، ولم يَنْجُ من دسائس أوروبا ضده، ولم يهدأ بال مَنْ حوله من المؤامرات التي تدبَّر في كل حين لاغتياله.

زعيم الأفغان

وقد يكون الزعيم ملكًا يجمع بين صفات السياسي والقائد الحربي والمصلح الاجتماعي، وقد اجتمعت هذه الصفات أخيرًا للملك أمان الله خان الأفغاني الذي زار مصر منذ ثلاث سنين؛ فإن هذا الملك الشجاع المصلح تمكَّن من استرداد استقلال بلاده بالحرب ثم جلس على أريكة المُلك، وأخذ يصلح المملكة بنشر التعليم وتقوية الجيش، فلما رأى جيرانه الأقوياء أنه ربما يصبح قوة ذات خطورة انتهزوا فرصة غيبته في سياحة عالمية وحرَّضوا القبائل على شقِّ عصا الطاعة وأَوْهموا تلك القبائل أن الملك كفر وخرج على الدين وأباح السفور، واستعملوا سفَّاكًا للدماء من قُطَّاع الطرق اسمه باجي سقاء أو ابن السقاء، فلما عاد الملك أمان الله إلى وطنه حارب وانهزم وانسحب من عاصمة ملكه ثم هاجر إلى أوروبا هو وأسرته. وظهر في ميدان السياسة القائد نادر خان، وكان من رجال أمان الله، وحارب باجي سقا وفي طرفة عين هُزم باجي سقا وحُوكِم وأُعدم، واستتب الأمر لنادر خان ونُودِي به ملكًا على الأفغان، وكان كثيرون يظنون أنه يطفئ نار الفتنة ليمهد السبيل لأمان الله، ولكن خابت ظنون هؤلاء وثبت لهم أن نادر خان لم يكن ليخوض غمار هذه الحرب وينتصر فيها ثم يُسلِّم المُلك سالمًا لصاحب العرش الأصلي ولا سيما ونحن في الشرق.

وإن في ثورة الأفغان على أمان الله أسرارًا كشفت الأيام عن بعضها ولا يزال البعض في فؤاد الدهر كامنًا.

فقد ذاع خبر الفتنة إذ كان أمان الله في إنجلترا، ثم كذَّبوه، وكان أمان الله صريحًا في جهات كثيرة من التي زارها، وظهر بمظهر الآمن المطمئن على ملكه وعلى قوته، وهو لا يحسب حساب القبائل نصف المتحضرة التي يحكمها، ولا يحسب حساب اليد الأجنبية الخفية، فقد ذاع أن الكولونيل لورنس الشهير كان في الأفغان ينثر الذهب الإنجليزي، ويظهر أن نادر خان — ويطلقون عليه لقب شاه — يؤيد السياسة البريطانية، وقد روى الميرزا يعقوب خان خيلا، في مارس سنة ١٩٣١، أن الشاه نادر يؤيد سياسة الاستقلال والسير بالبلاد تدريجيًّا إلى أرفع مستوى، وقد بعث بالميرزا محمد عمر خان إلى لندن لدرس القوانين التجارية، وقد تألفت في كابول شركة مساهمة هندية أفغانية للقيام ببعض المشروعات الاقتصادية العمرانية وعرضت على الحكومة قرضًا بمبلغ مليونَي روبية.

ويُستخلص من الحوادث أن إنجلترا لا تزال تحسب للأفغان حسابًا بسبب قربها من الهند واتصالها بإيران المستقلة الناهضة وتركيا، وقد أزعج الإنجليز ظهور أمان الله بمظهره المعلوم فكان جزاؤه الحرب فالطرد، لتعود الأفغان إلى أيد تُؤْمَن على السير بالبلاد في سبيل الرُّقِي بالتدريج.

ومن العجيب أن المصريين الذين رأوا أمان الله أثناء زيارته مصر وفرحوا به وأُعْجِبوا بشجاعته ووطنيته وسَعَة إدراكه، عادوا فانقلبوا عليه لما عاكسه الدهر، وأَنْحَوْا عليه باللائمة وكرهوه وحقدوا عليه ظنًّا منهم أنه حقيقةً خرج على الدين أو كَفَر أو فَسَق، ولم ينظروا إلى جانب الإصلاح العظيم الذي قام به الرجل، ولم يمجِّدوا عاطفة حب الوطن والعمل لرفعة الشرق والإسلام التي كانت تملأ قلبه، بل جعلوا تقديرهم له رهن عاطفة دينية لم يثبت لهم أن الملك السابق قد جرحها أو خدشها، ولم يسألوا أنفسهم كيف يفعل الرجل كل ما فعل إن لم يكن وطنيًّا مسلمًا ومخلصًا لوطنه ودينه؟ كأن هؤلاء القوم لا يرضيهم إلا النفاق والمُدَاجاة والظهور بغير الحقيقة، فلا حول ولا قوة إلا بالله! غير أننا لا ننسى أن أمان الله يمثل الزعيم ملكًا يريد الإصلاح بالسياسة وبالحرب والاجتماع، ولكنه قبل كل شيء شرقيٌّ يعمل في وسط شرقي، وكل وسط شرقي لا يزال موبوءًا ويمكن إهاجته في أقرب فرصة للانقلاب على المصلح أو الزعيم سواءً أكان من الرعية أو من صف الملوك والأمراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤