الفصل الحادي عشر

الاستعمار في الشرق وخطة فرنسا في تونس

رومة وإنجلترا

يوجد شبه شديد بين الرومان والإنجليز في طريقة استيلائهم على ممالك الشرق، وذلك في عدم مقاومة الممالك التي استولى عليها الرومان في أوروبا وآسيا، فإن الشعوب التي هاجمتها رومة كانت بحال من الضعف والاستسلام لا تمكنها من المقاومة، لأنها قضت قرونًا عديدة في الجهاد في سبيل الاستقلال وقد فشلت، وما لقيت بعد الجهاد والعناد إلا الظلم والاستبداد والضيق، فجاءت رومة والبلاد المفتوحة منهوكة القوى فاستولت عليها بدون مقاومة. هل كان هذا من حسن حظ الرومان أو من بُعد نظرهم وترقبهم الفرص لانتهازها؟ ولم تكن رومة في حاجة إلى استخدام عدد كبير من جنود الاحتلال، بل كان عدد تلك الجنود بمثابة قطرة الماء في المحيط.

وما أشبه حظ الإنجليز في الهند بحظ رومة في فتوحها القديمة! فإن الإنجليز استولوا على الهند بسهولة تامة بعد الدولة الموغولية، ولم يستخدم الإنجليز في الهند إلا بضع عشرات الألوف في بلاد أهلها يعدون بمئات الملايين، في حين أن هؤلاء الإنجليز أنفسهم احتاجوا إلى ٤٥٠ ألف عسكري لتهدئة جمهورية البوير في أوائل هذا القرن في جنوب أفريقيا، وهم لم يجنِّدوا خمس هذا العدد في القضاء على ثورة الهند التي قامت في سنة ١٨٥٧.

وقد أسس الإنجليز شركة في ١٦٠٠ وطلبوا من دولة الموغول في ذل وخضوع أن تمنحهم بعض الامتيازات الأجنبية أسوة بالبرتغال والهولنديين الذين سبقوهم، فمُنحوا تلك الامتيازات في الربع الأول من القرن السابع عشر. وإلى أوائل القرن الثامن عشر لم يفكر الإنجليز في الفتوح لقوة دولة الموغول في نظرهم، ولكن موت الملك أوزنجرب أدى إلى انحلال الدولة وانقسام البلاد وظهور أمراء الطوائف والدويلات الصغيرة، فاستقل كل أمير وكل راجا وكل نواب بمملكته، فجاء دوبلكس الفرنسي إلى الهند واحتل بونديتشري وتلاه كليف ووارين هستنجز وكورنواليس وولزلي من قادة الإنجليز واختصموا مع الفرنسيين في الشرق كما اختصموا معهم في الغرب، وقد استولى الإنجليز على الهند بسكون وهدوء وبغير مقاومة، وكان ذلك مقدمة لتأسيس إمبراطوريتهم العظيمة التي تمتد على جميع بلاد الهند والسند والبنغال وبرمانيا وسيلان وتبلغ مياه المحيط الهندي جنوبًا وجبال هيمالايا ونهر الأندوس شمالًا.

فتوح الشرق والموغول

لقد قامت في الشرق فتوح متعاقبة من الشرقيين أنفسهم وأشهرها في التاريخ فتوح العرب ثم فتوح الموغول ثم فتوح الترك، وفي العهد الأخير بعض فتوح الجنس الأصفر (اليابان والصين). أما فتوح العرب فليس هذا مجالها لأنها مقترنة بفتوح الإسلام ولا يتسع المجال لبيان ملخصها وهي معروفة للجميع، وقد تخللت هذا الكتاب نبذ عنها. واشتُهرت تلك الفتوح سواء أكانت في الشرق الأدنى أو الأوسط أو الأقصى بالرحمة والعدل ونشر العلوم والمعارف والتعاون مع الشعوب المغلوبة في سبيل الحياة والمدنية، وحيثما حل الإسلام كان قوة ممدَّنة مهذبة معينة.

أما فتوح الموغول فكانت بلاءً على الأمم التي غلبتها، فإن هذه القبائل المتوحشة أو تلك الجماعات من الشياطين في شكل البشر لم يعرفوا الإنسانية حتى يرْعَوْها ولم يفهموا العدل أو العلم حتى يعدلوا ويعلموا، ولا تزال أسماء جنكيز خان وتيمور لنك الأعرج وهولاكو تحمل الرعب في ثنايا أحرفها حتى لدى كتابتها أو قراءتها. فإن هؤلاء الأشرار الذين ذكرنا بعض أخبارهم قد كرهوا العلم واحتقروه إلى درجة أنهم في تركستان قصدوا إلى مدينة بخارى التي كانت مشتهرة بمكاتبها وثقافتها العلمية والدينية ومنها البخاريُّ صاحب الحديث المشهور، فقد نزل الموغول بالبلد فذبحوا رجالها وأسروا نساءها وأطفالها (قتلوا الرجال واستبقوا النساء لمآربهم) وأحرقوا المدينة بكل ما فيها من ثروة وعلم وجعلوا الكتب القيمة وكلها مخطوطة طعامًا للنار.

أما فتوح الترك فلم تكن من قبيل هذا الفتح، وكان للترك كرامة ودين وعقل وإن لم تكن لديهم مدنية عريقة، فهم إن فتحوا لا يحرقون المدن ولا يُبيدون الشعوب ولا يُسلمون الكتب طعامًا للنار.

ولكن أهل الجنس الأصفر لا يقلون في القسوة عن الموغول وإن كانوا متمدِّنين، فهذه اليابان تذيق شعب كوريا منذ أوائل هذا القرن إلى الآن صنوف العذاب وتسقيهم ألوانًا من الظلم مع أنهم جيران وأبناء عمومة وبينهم خليج ضيق من الماء. ولكن أحد الكاتبين في الاستعمار الياباني شبَّه كوريا بأيرلندا بالنسبة لليابان التي هي شبيهة بالدولة البريطانية، وكما أن إنجلترا ظلمت أيرلندا سبعمائة سنة وهي أوروبية مسيحية وجارة مستأمنة كذلك لا يُستغرب سلوك اليابان في كوريا.

أما الصين التي صارت جمهورية والتي أذلتها اليابان في ١٨٩٥ وحاربتها أوروبا وقهرتها مرات عدة، فقد استولت على تركستان الشرقية وهي بلاد إسلامية واستعمرتها وعدد سكانها لا يقل عن عشرة ملايين، وهي تحكمها الآن بحاكم مستبد مطلق وصفه السيد منصور خان، أحد أبناء تلك البلاد وقد جاء مصر أخيرًا لنشر الدعوة لوطنه، بأنه أشبه الحكام بالبروقنصل الروماني الذي كان حاكمًا بأمره مفوضًا له كل شيء في البلاد المحكومة.

الإسلام والاستعمار

لقد كان للاستعمار الأوروبي تأثير شديد في تطور الشعوب الشرقية عامةً وفي العالم الإسلامي خاصةً، ولكن هذا الاستعمار الأوروبي وحده لم يكن العامل الحقيقي في ذلك التطور، بل إن الشعوب الإسلامية بدأت تنفعل وتتأثر منذ خمسين عامًا بحكم مؤثرات ذاتية قائمة بأمزجتها وتكوينها ومعتقداتها، كأن الإسلام يحمل في ثناياه نظام الاندثار والتجدد الذي يجعله قريب الشبه من الكائنات الحية، فخلايا الجسد البشري تحيا وتموت في كل لحظة والكائن مع ذلك يتجدد ويتقوى وينمو ولولا تلك العملية الفيزيولوجية لوقفت حركة الحياة. وكذلك في الإسلام قد تندثر بعض الدول أو بعض الأنظمة ويموت بعض الزعماء وتنطوي صحف نهضة من النهضات، ولكن الحياة لا تنقطع والجسم لا يموت.

وقد كانت صدمة الاستعمار الذي بدأ بشدة متناهية منذ خمسين عامًا حتى أيقظت تلك الأمم التي مضت عليها أجيال طويلة في سبات عميق، فلما نهض الإسلام والشرق كجبار عظيم أصابته لطمة قوية أخذ يزحف على يديه وقدميه ويرفع رأسه رويدًا وينحني ليقف ويتحفز ليهجم، وهو في نفس الوقت مأخوذ بشدة الضربة؛ في رأسه دُوَار وفي جسمه ألم وفي ذهنه خَبَال ودهشة ولكنه ناهض لا محالة، وقد أحسن سير فالنتين تشيرول وصف هذه الحالة حيث يقول:

أمواج وغمار تتلاطم وتتكسر بعضها على بعض ومتناقضات تتناحر، وآراء وأفكار غريبة تتدفق من الغرب الحديث على حضارة قديمة بِنت أجيال طوال؛ فبعض يأخذ ولا يحسن الأخذ وبعض يُعرض ويلعن، وعقائد تتبدد ثم تعود فتحيا، ونظم صناعية مضطربة، ومناهج تعليم وتهذيب غير مستمسكة، ومبادئ غربية في أفق الإدارة والتدبير والفضاء تنتشر في مجتمع متنافر الوحدات، وسنن الاقتصاد الحديث تندفع بتيارها الهائل على بلاد ما برحت صناعتها وتجارتها على الحالة الأولى من السذاجة، وتصادم عنيف مستمر لا بد منه بين أقوام السكان والحكام الغرباء وحروب مستديمة الاتقاد. وبعد جميع هذا يتلو نهوض شعب شرقي جبار في الشرق الأقصى.

وقال كاتب فرنسوي: الحق أن الشرق على العموم والعالم الإسلامي على الخصوص لَفي دور من الانتقال عظيم، يجوز الشرق اليوم برزخًا فيه يُعَارك الماضي الحاضر وتتنازع العادات القديمة والجديدة الدخيلة، فبدت صور غريبة ومشاهد عجيبة.

وعندما خطب شوكت علي في جمعية الشبان المسلمين ووصف حالته هو وأخيه لدى عودتهما من جامعة أكسفورد، أشار إلى هذا التناقض في الحياة الشرقية التي غمرها الاستعمار الغربي فكنت ترى بعين الخيال قصورًا هندية تشبه في طرازها تلك الهياكل البديعة التي وصل في إتقانها الفن الموغولي والفن الإسلامي إلى أعلى درجات الكمال.

وقد زيَّنتها الأمتعة المجلوبة من محل مابل وشركاه ببلاد الإنجليز، فنبذ الشرقي مدنيته وأخذ بأحقر ما لدى أوروبا من مظاهر حضارتها، وأصبح في عقله خليط من عناصر فتَّاكة بعضها موروث وبعضها مجلوب فأورثه ذلك التناقض اضطرابًا وخللًا.

فرنسا في أفريقيا

وكأن هؤلاء المستعمرين الأوروبيين قد درسوا سياسة ماكياڤيلي ومبادئه التي دوَّنها في كتاب «الأمير»، فقد أخضعوا بعض بلادنا الشرقية بالقوة العسكرية كما صنعت فرنسا في الجزائر ومراكش باتحادها مع إسبانيا بعد الحرب العظمى، وكما صنعت إيطاليا في طرابلس وروسيا في أواسط آسيا وإنجلترا في مصر وفرنسا في سورية وبريطانيا في العراق. وكذلك تم بعض الفتح بواسطة الطرائق الاقتصادية وهو ما يطلقون عليه وصف الفتح السلمي بأن تقبض بعض دول أوروبا على خناق بلاد شرقية مستقلة برءوس الأموال الأجنبية، ومتى تمت عملية الخنق أخذت السيطرة السياسية تبدو شيئًا فشيئًا، وقد حدث هذا في بلاد العجم وفي مصر لعهد إسماعيل، واستمر بعد الفتح الغربي في سنة ١٨٨٢، وكانت أوروبا في كلتا الحالتين تقضي على الحكومة الأهلية المستبدة القليلة الحَوْل والطَّوْل وتقيم مقامها حكومة استعمارية منيعة الجانب شاكية السلاح شديدة الشكيمة فتثبت النظام الظاهر وتبدأ الدولة الفاتحة تستدرُّ الخيرات وتبتزها.

وهذه هي الخطة التي سلكتها فرنسا في الجزائر ثم رأت فشلها، فنشأت العداوات في قلوب أهل الجزائر بعد أن تشتت شمل أسرة الداي وهاجر هو وأهله إلى مصر حيث مات ودُفن في الإسكندرية وعاشت بناته من بعده عيشة اليُتْم والمذلة، وقد عرفنا أحد أحفاده الذي روى لنا تفصيل هجرة الأسرة وما صادفته من صنوف الهوان بعد فقد ملكها وثروتها، وبعد أن انتهت مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري الذي كتب بسيفه صحيفة من أنصع صحف الجهاد الوطني؛ فلم يبق في الجزائر قلب واحد يحب فرنسا أو يحترمها أو يصدقها. وهي من جانبها لم تعمل على ترقية الشعب أو تمدينه، فلم يَنْبُغْ منهم حتى الساعة عالم ولا طبيب ولا رياضي ولا فلكي مع أنهم شعب يزيدون عن عدد سكان هولندا وبلادهم من أغنى وأجمل بلاد أفريقيا. فنهض علماء السياسة الاستعمارية في فرنسا وأعادوا النظر في كتاب ماكياڤيلي وأشاروا على حكومتهم بتغيير خطتها، ولم يكن ذلك ممكنًا في بلاد الجزائر التي كان قد مضى على فتحها خمسون عامًا فرأوْا أن يأخذوا بلادًا أخرى لينفذوا فيها تجربتهم الجديدة، وكان القطر التونسي أمامهم لا يزال مستقلًّا تحت حكم الباي، وكان الوزير خير الدين باشا عائدًا من أوروبا بأفكار الإصلاح ومشروعات الحياة النيابية التي بدأ في تنفيذها.

فأدركت فرنسا أن انتقال تونس من القديم إلى الجديد على يد حكومتها الوطنية قد يجعل الاحتلال صعبًا في المستقبل إن لم يكن مستحيلًا، فدهمتها قبل احتلال إنجلترا لمصر بسنة أو سنتين وطبقت فيها خطة سياستها الجديدة. وإليك ما كتبه هانوتو الذي كان وزير الخارجية في ذلك الحين عن تونس:

قد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد بدون جلبة ولا ضوضاء، نريد به القطر التونسي الذي وُضعت عليه الحماية التي مؤداها احترام النظام السابق على الفتح بصيانة القوانين والعادات من المساس والمحافظة على مركز الباي، وقد بالغنا في ذلك بحيث تمكنا بواسطة ما أدخلناه من التعديلات الطفيفة شيئًا فشيئًا وأجريناه من المراقبة على الأمور الإدارية والسياسية من التدخل في شئون البلاد والقبض على أَزِمَّتها بدون شعور من أهلها (كذا).

تم هذا الانقلاب بسرعة ولين فلم يتألم منه الأهلون ولم ينخدش له إحساساتهم، إذ لبثت المساجد مغلقة في أوجه المسيحيين والأملاك الموقوفة محبوسة على السبل التي خصصت لها وتُركت أزِمَّة الأحكام بأيدي القواد والقضاة، ولم يُغَيَّر شيءٌ من القوانين الأهلية إلا برضا وتصديق من الأهالي وربما كان يطلب منهم، وقام بأعمال هذا التغيير والتبديل وهذا المسخ والتحويل عدد قليل من الموظفين أكثرهم من التونسيين، وجملة القول أن انقلابًا عظيمًا حصل بدون أن يجر وراءه ألمًا أو توجعًا أو شكوى بحيث وُطِّدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق بالدين مساس، وتسربت الأفكار الأوروبية بين السكان بدون أن يتألم منها الإيمان المحمدي، واقترنت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية اقترانًا لم تغْشَه سحابة كدر.

إذن يوجد الآن بلد من بلاد الإسلام قد ارتخى بل انفصم الحبل بينه وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها ببعض، إذن توجد أرض تنفلت شيئًا فشيئًا من مكة ومن الماضي الآسيوي (يقصد الإسلام)، أرض نشأت فيها نشأة جديدة نبتت في قضائها وإدارتها وعاداتها وأخلاقها، أرض يصح أن تتخذ مثالًا يقاس عليه ونموذجًا يُنسج على منواله، أَلَا وهي البلاد التونسية. ا.ھ. كلام هانوتو.

هل قضى الاستعمار الأوروبي على روح الشرق؟

كُتب هذا المقال في مايو سنة ١٩٠٠ ولم يمضِ على دخول فرنسا في تونس عشر سنوات، وعلى دخول إنجلترا مصر ثماني سنوات، وكان كرومر قد سبق الفرنسويين إلى تطبيق هذه السياسة، ويكفي أنهم دخلوا مصر وضربوها بالمدافع وخرَّبوا حصونها وقتلوا جيشها بدعوى أنهم يدافعون عن عرش الخديو، فمن المعقول والمنتظر أنهم سيحافظون عليه لدى الدخول أشد المحافظة. وما زالت هذه محبتهم للتفريق بين الشعب والحاكم من جهة ولتبرير مركزهم أمام الدول، وإن لم يكونوا في حاجة لذلك لأنهم في الاغتصاب سواء، إلى أن خلعوا ذلك الخديو نفسه في سنة ١٩١٤، وحينئذ ابتدعوا حجة المواصلات الإمبراطورية، وما زالوا يترقون بها إلى أن أعلن شمبرلين زواج مصر ببريطانيا في خطبة برلمانية رنَّانة فقال: «لقد أراد الله أن يتزوج هذان القطران، ولا يفرق البشر بين من جمعهم الله!»

ولكن ماذا كانت نتيجة حكم فرنسا في تونس وإنجلترا في مصر؟ هل فُصِم الحبل حقًّا الذي يربطنا بالأمم الإسلامية؟ وهل مُحِي من ذهننا ذلك الماضي الإسلامي الذي يمقتون؟ وهل انْطَلت حيلة المستعمرين علينا فانخدعنا لهم؟ إن جهاد تونس في سبيل استقلالها معلوم، والحركة الوطنية قد قامت في سنة ١٩٢٠، وهي الآن على أشدها يقودها رئيس الحزب الوطني التونسي السيد محمد محيي الدين القليبي، وليس في تونس رجل واحد يخلص للحكم الأجنبي إلا إذا كان يهوديًّا أو خائنًا لوطنه. أما نتيجة الحكم البريطاني في مصر فقد ظهرت في حادثتين: الأولى حادثة دنشواي التي انتهت بخروج كرومر من مصر في مايو سنة ١٩٠٧ ملومًا محسورًا، والثانية حادثة الثورة الكبرى التي شبَّت نارها في ١٩١٩.

وسواء أكان في فرنسا أم في إنجلترا فقد أجمع ساسة القرن العشرين من المستعمرين على ما دوَّنه كرومر في كتابه عن حكم إنجلترا في مصر من ١٨٨٢–١٩٠٧ (مجلدان ظهرا في سنة ١٩٠٨)، فقد وصف خطط الاستعمار الحديث بقوله:

يجب أن تكون السياسة الاستعمارية قائمة على قواعد التبصر والحكمة، ويجب أن تكون أصول أحكامنا التي هي الصلة بيننا وبين جميع الشعوب الداخلة في حكمنا من حيث الاعتبار السياسي والاقتصادي والأدبي؛ قواعد صحيحة سليمة منزَّهة عن الشائبة والنقص، هذا هو حجر الزاوية في بناء الإمبراطورية. إن المبرر الأكبر للاستعمار يجب أن يظهر جليًّا في حسن التصرف بما في أيدي هذه الإمبراطورية من القوى. فإن استطعنا ذلك فكنا فيه من الحكماء وَلَّيْنا وجوهنا شطر المستقبل رفيعي الجباه لا نخشى أن يعرونا ما عرا الإمبراطورية الرومانية من قبل من الفساد والدَّخَل، وإن لم نستطع فكنا فيه من الجهلاء الأغبياء فقد استحقت الإمبراطورية البريطانية الانهيار من علٍ ولَسرعان ما تتناثر حلقاتها وتتبدد بعد الاجتماع.

وظاهر من كلام هذا الرجل المسمى باللورد كرومر أنه يَنْسج على منوال هانوتو الذي سبقه إلى ذلك بسبع سنين، ويتميز عليه بأن هانوتو كان وزير الخارجية ولم ينفذ سياسته بشخصه في تونس، ولكن كرومر نفذها بنفسه ورأى ثمارها في مصر، ومن الجلي أنه لم ينصح بالرفق والحكمة والألفة لخدمة الشعوب المحكومة ولا لاستدرار خيراتها، وهو شيء مضمون، ولكن خوفًا على كيان الإمبراطورية من التزعزع فقد أخذ الناس يلهجون في بداية القرن العشرين بقرب زوال الإمبراطورية بعد حرب الترنسفال، وأخذوا يقارنون بينها وبين إمبراطورية الرومان. ولما كان كرومر أحصف وأقدر حكامهم، وكانت عقليته تشبه عقلية بروقنصل روماني، لا ينقصه إلا الخوذة والبلطة والطيلسان والفولاذ وما إليها من مظاهر الأبهة والسلطة؛ فقد رأى أن يتفضل على العالم بنصائحه، ليقال إنه أول بانٍ في أركان تلك الإمبراطورية البريطانية، ومنقذها العظيم الذي رسم لها خطة النجاة من الوقوع في الخطر الذي وقع فيه أسلافها العظماء الذين نشئوا على ضفاف نهر طيبر.

ولكن كرومر لم يحسب حساب دنشواي التي أَهْرق فيها دماء الفلاحين، ولم يحسب حساب الحرب العظمى، ولم يحسب حساب نهضة الشرق والإسلام التي نرى مظاهرها في كل قطر وأمة؛ فمضى بحسرة سقطته عن عرشه الوهمي، وعاش بعد خروجه من مصر عشر سنوات تجرَّع في أثنائها كئوس الندم على ما جَنَت يداه في تلك القرية الصغيرة، ورأى بعينه بداية الانحلال الذي أخذ يدب في عناصر الدولة البريطانية، وها هم رجال كان يحسبهم لعهده صعاليك أو مفاليك من شعراء السياسة وأرباب الأحلام يتولون السلطة العليا في جميع أقطار أوروبا، فلشدَّ ما كانت رجعية كرومر عندما ظن أن عهد رومة سوف يعود وأن إنجلترا المسيحية المتحضرة ستكون وارثة ذلك الصولجان الوثني الغشوم!

جبل أُولِمب الحديث

ولو أننا تمشينا مع كرومر، الذي أراد لورد لويد أن ينسج على منواله في مصر وأخذ يتمشدق بذكره وانتحل سياسته «فاصوخة» وتميمة وحجابًا، فكانت عاقبته السقوط والفشل من جراء سياسته نفسها؛ لو أننا تمشينا مع فلسفته الاستعمارية وصدقناه طرفة عين وقسنا علمه بعمله ونظرياته بتنفيذه، لكانت النتيجة بالمثل السائر «اقرأ تفرح، جرِّب تحزن!» فإن عهد كرومر كان عهد استئثار واستبداد وقسوة واندثار للشخصية المصرية، وفي أثنائه ورد تلغراف جرانڤيل الذي يؤذن بخضوع الرئيس المصري للمرءوس الإنجليزي. وكان الجفاء على أشده بين الحاكم والمحكوم، فكان نادي تيرف كلوب أشبه الأشياء في القاهرة الحديثة بجبل أولمب عند اليونان القدماء مهبط الآلهة ومسرحهم، وكان الإنجليز يعيشون في مصر عيشة الأرباب في البلاد القديمة، وكانت علاقة الأساتذة الإنجليز الذين كان يحشدهم دنلوب من شوارع لندن وأبردين بتلاميذهم المصريين علاقة السيد الآمر المطاع المتعجرف بالعبد الخاضع الذليل. وقد ذقنا نحن وعشرات ألوف التلاميذ مرارة هذه المعاملة في المدارس الثانوية والعالية، ولم نرَ قط اجتماعًا يلم شمل المصريين والإنجليز، ولم يتبادلوا قط كلمة مودة أو إخاء، بل كانوا يعيشون في السماء الثالثة، وإن خاطبتهم في ذلك قالوا: «إننا لا نريد أن نختلط خوفًا من سقوط الهيبة.» أما في الهند فالحال على أبشع ما يكون، فإن الوطنيين لا يركبون إلا في الدرجة الثالثة، وإذا ركب أحدهم في الدرجة الأولى يُوقف القطار ويُرمى به وبمتاعه في أقرب محطة. وروى لنا الأستاذ الثعالبي عن هولندا أن الحاكم الوطني إذا دنا من الهولندي يركع ويجلس القرفصاء ولا يرفع عينيه في وجه محدثه.

ومع هذا فإن الكاتب الفاضل والعالم المدقق لوثروب ستودارد مؤلف «حاضر العالم الإسلامي» الذي نقله إلى العربية الأستاذ النابه النابغ عجَّاح نويهض بك (مصر سنة ١٩٢٦)؛ يقول في ص١٠ من الجزء الثاني:

ففي القرن التاسع عشر كانت جميع الدول المستعمِرة أخذت تشعر شعورًا حقيقيًّا عميقًا بالغاية الفضلى المثلى وهي واجب الإنسان الأبيض … معتقدين الاعتقاد الراسخ كله أن امتداد السيطرة السياسية الغربية إنما هو الذريعة الفضلى وربما الوحيدة لإنهاض الجانب المنحط المتدلي من العالم وللأخذ بنصرته في سبيل التجدد والارتقاء. والحقيقة التي لا مراء فيها أن المستعمرين لم يغيروا من خطة الاغتيال والاستثمار والاستعباد، ولكنهم عدَّلوا طريقة الاستعمار بما يعود عليهم من الفوائد، ويديم سلطتهم ويحفظ كيان إمبراطوريتهم من الزوال. والحقيقة التي لا مراء فيها أيضًا أنه ما كادت تطلع سنة ١٩٠٠ حتى كانت الشعوب الشرقية كافةً قد نفضت عنها خُلْقَانها وبدَّدت غياهب جهلها وحطَّمت عقال خمولها وخرجت عن تلك الدائرة المغلقة وأنشأت تمهد لنفسها مَهْيَعًا مفْضِيًا إلى التجدد الصحيح والارتقاء.

وإن كان الشرق قد تبدلت شئونه غير أن سياسة أوروبا الجائرة لم تتبدل.

يكاد الباحثون لا يدركون تعليل هجوم أوروبا في هذه الآونة الأخيرة على الشرق ذلك الهجوم الفظيع. والحق أن أوروبا كانت صابرة ومتمهلة في افتراض سكون الشرق ونومه واستسلامه، فلما رأت بوادر نهوضه في أواخر القرن التاسع عشر وفجر العشرين طَفِقَت أوروبا تتجهَّم في وجه الشرق المستيقظ الناهض وتستبيح لنفسها مناهضته وتسميم عواطفه الثائرة وروحه الهائج، فأساءت إليه بذلك في بضع سنين معدودة إساءة تفوق جميع ما ناله منها من الشر والهوان طيلة مائتي سنة خلت.

وما أصدق ما كتبه سيدني لو الإنجليزي في سنة ١٩١٢ وتمثل به ستودارد:

ما شَبَه غالب الدول النصرانية في سلوكها هذا الذي ما برحت تسلكه منذ عدة سنوات إزاء الأمم الشرقية بعصابة من اللصوص يهبطون على الحال الآمنة أهلها ضعفاء عزل فيثخنون فيهم ثم ينقلبون بالغنائم والأسلاب؟ ما بال هذه الدول لا تنفك تدوس حقوق الأمم المجاهدة في سبيل النهضة؟ وعلامَ هذا العسف الذي تضرب به الشعوب المستضعفة، وهذا الجشع الكلبي لانْتِياش ما بين أيديها وما خلفها؟! إن هذه الدول الغربية النصرانية هي بعملها هذا مؤيدة للدعوى الباطلة أن القويَّ الشاكي السلاح يحق له الانقضاض على الضعيف الأعزل، وآتية بالبرهان القاطع على أن مكارم الأخلاق والآداب الاجتماعية لا شأن لها البتة حيال القوة المسلحة. لقد تجردت تلك الدول عن كل حسنة في معاملة الشعوب الشرقية تجردًا لم يسبق له مثيل حتى بين أشد الجيوش همجية في الزمن القديم.

هل يوجد وصف أصدق من هذا لحالة الدول الأوروبية «المتمدنة»؟ لقد كانت هذه الخواطر تجول في نفسنا ونعجز عن تصويرها وإن كنا تصورناها، ولَعَمْري إن التاريخ الوسط والحديث كليهما يؤيدان صدق هذا العالم الفاضل، فإن قبائل النورسمان التي انحطت من الشمال على بلاد الإنجليز واستعمرتها لم تكن إلا قبائل رحَّالة، هجَّامة، سارقة متلصصة، فلما عاشت وتحضرت وتدربت استمرت خُلَّتها النفسية، وإن كانت تخفيها الثياب الرسمية والقبعات العالية، ولكن روح النورسمان الخطَّاف القاتل الفاتك لا تزال تَخْفِق بين جنوبهم، وهي التي أوحت إليهم تلك الأعمال في الشرق والتي يَضِجُّ منها كتَّاب من بني جِلْدتهم ويشهد بها شاهد من أهلهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤