الفصل العشرون

بعض أسباب انحلال الدولة العثمانية

بداية عهد عبد الحميد

وقد آن لنا أن نبحث في الأسباب التي أدت إلى انحلال الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الذي هو آخر الخلفاء العثمانيين. وإننا مع احترامنا للسلطان رشاد الذي حدثت الحرب العظمى في عهده أو السلطان وحيد الدين أو عبد المجيد أو غيرهما لا نعرف غير عبد الحميد خليفةً، لأنه كان الملك المطلق المستبد الذي حكم الدولة أكثر من خمسة وثلاثين عامًا بفكره وإرادته محكِّمًا عقله ومنفِّذًا سياسته في السلم والحرب. وفي عهده حدثت أعظم حوادث التاريخ العثماني في دوره الأخير، أما بعد عزله في سنة ١٩٠٩ فقد بدأ للأتراك عهد جديد هو عهد الدستور والبرلمان وسيادة الأحزاب، وقد دام هذا العهد إلى سنة ١٩١٤ عندما أُعلنت الحرب، وفي فترة الحرب تغير العالم ومنه تركيا.

فكان سلاطين آل عثمان الذين جاءوا بعد عبد الحميد أشباحًا وخيالات إلى أن محا مصطفى كمال آية الخلافة وأسس جمهورية أنقرة.

ولد عبد الحميد في سنة ١٨٤٢، وتولى عرش الخلافة في سنة ١٨٧٦ وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، وخلع في أبريل سنة ١٩٠٩، فكان حكمه ثلاثًا وثلاثين سنة. وقد حدثت في عهده حوادث ذات شأن عظيم في تاريخ الشرق والغرب، فقد شهد في شبابه وقبل تولي الملك ثورة الهند (١٨٥٧) والحرب الأهلية الأمريكية والحرب النمسوية الألمانية وحرب السبعين وفتح قنال السويس وحكم ديزرائيلي، وعندما تولى بدأت الحوادث بفتنة بلغاريا وحرب الصرب وعهد الدستور الأول، الذي دعا إليه مدحت باشا، وحروب روسيا وتسليم بلڤنا وموقعة شنوڤا التي أُسر فيها ستون ألف جندي ومعاهدة سان استفانو وضياع قبرص واستقلال بلغاريا والرومللي الشرقية وثورة عرابي وضياع تونس وضياع مصر وحروب السودان وظهور المهدي وحوادث كريت وأرمنيا وحروب اليونان ونهضة اليابان وهزيمة الترك في فتنة اليمن وحرب البوير ثم الثورة الاتحادية فالدستور فالثورة الرجعية فالعزل والنفي إلى سالونيك، حيث شهد ضياع طرابلس وحروب البلقان والحرب الكبرى وهو أسير.

وإنها في الحق لصحيفة ملآنة بالحوادث التي لا تزال آثارها في العالم إلى الآن وقد مضى على زوال ملكه أكثر من عشرين عامًا.

فلنبحثن إذن في الأسباب التي أدت إلى ضياع هذا الملك وانسلاخ أجزاء الدولة العثمانية الجزء بعد الجزء في مدى ثلاثين أو أربعين عامًا، مع أنها اقتضت لتأسيسها أربعمائة عام فكأنها هُدمت في عُشر الزمن الذي تأسست فيه.

فما هو هذا الداء الذي أَزْمَن وتأصَّل وفشا في عروق دولة الإسلام واستفحل؟ وما هي تلك العلة التي انبسطت في بدنها وسَرَت في دمها وامتدت في شرايينها وتشعَّبت في أعصابها وصارت لا يُرجى لها بُرْء ولا علاج حتى أخذوا يمثلون تركيا بالرجل المريض؟!

ولقد زعم البعض أن الدولة العثمانية قد هَرِمَت وشاخت وخارت قواها وانحلَّت عزائمها كالدولة الرومانية في أواخر أيامها، وترى أنصار هذا الرأي قد كانوا استسلموا للقنوط ويئسوا من رحمة الله وحياة دولتهم وأخذوا ينهبون الأموال ليدخروها وقايةً لهم وأهليهم من الفاقة بعد انحلال الدولة، ومن هؤلاء أحد الباشوات بلغ العزة كلها في عهد عبد الحميد ولكنه كان للدرهم والدينار عابدًا، فلما دقَّ ناقوس الدولة فرَّ على باخرة أجنبية إلى مصر ونقل معه أمواله أو أنها سبقته إلى ضفاف النيل، فاشترى القصور والضِّياع وعاش أمدًا ممتَّعًا ثم قضى كالكلب المدلَّل في فراش من حرير على سرير من ذهب وشيَّعته النفوس باللعنات! وغير هذا الوغد الذي كان يحمل على ظاهر يده من الوشم آثار تاريخ حياته الأولى في وديان سورية وبلدانها كثيرون من الباشوات والأمراء والشيوخ قد انتظروا النهاية ليفوزوا بالأسلاب، وقد نهبوا فعلًا أموال المسلمين فكانت الدولة العثمانية في نظرهم بمثابة بيت أصابه الحريق فانثال حوله الشُّطَّار من كل حدب لنهب ما احتواه من أثاث ومتاع والسعيد من اختطف شيئًا قبل أن تلتهمه النيران كأهل بومبي لدى خرابها، وقد فر هؤلاء بعد أن أفرغوا وُسْعهم في الاغتيال وساعدوا على تعجيل ساعة الاضمحلال.

تعليل سقوط الدولة العثمانية

ويرى فريق آخر أن السبب فيما وقع للدولة العثمانية هو تحزُّب أعدائها عليها وتمالؤهم على اضطهادها، ومع تكوينها من عناصر متباينة تفتأ تتنافر ميلًا إلى الانفكاك، وكلما شغبت تلك العناصر ساعدها الأعداء ومدوا لها أيدي المعونة والمناصرة، بحيث لو كانت تركيا في مكان بريطانيا العظمى ما جلدت على احتمال ما تحتمله ولا صبرت لمعاناة ما تعانيه.

وقال فريق ثالث إن سبب سقوط الدولة العثمانية هو سيادة الفرد الذي يكون بشخصه ضعيفًا لأنه فرد، ولكنه يتسلط على الملايين من النفوس فيجور ويظلم ويسلب ويهتك وهم ذاهلون لا يقدرون على الملايين، وإذا تكرر مثال هذا الحكم كان ذلك سببًا في امتصاص دماء الدولة فلا تقدر على اليقظة من رقدتها وهذا الذي حدث في تركيا، وعندما آن الأوان لإنهاضها كان معين قوتها قد نضب وجاءت الحرب العظمى على البقية الباقية.

وإن الناظر في تاريخ الدولة أثناء تلك الحقبة ليسألن نفسه «أين القادة الذين فتحوا الممالك بمفاتيح السيوف ووضعوا على أعدائهم أقفال الصَّغَار والهوان؟ وأين الساسة الذين ضبطوا تلك الممالك بحكمتهم ودهائهم؟»

كيف انفصلت رومانيا واستقل الصرب وزال الجبل الأسود وذهب الرومللي الشرقي وانفصمت بلغاريا وضاعت قبرص وبانت تونس وطرابلس وانسلخت بوسنة وهرسك وانقطعت باطوم وخرجت قارص وأردهان وانحلت تساليا وولَّت مصر وضاعت تركية أوروبا وجزائر البحر وخُطفت العراق والموصل وطارت بلاد العرب وانسلت سورية وفلسطين ووقعت زيلع وطاحت مُصَوَّع وهجر السودان؟ دع عنك مقدونيا وكريت وأرمنيا وساموس وعشرات أخرى من أجزاء الدولة التي تناثرت في مدى أربعين عامًا كما تتناثر أوراق الشجر لدى حلول فصل الخريف!

فأول ما نراه في حياة عبد الحميد انفراده بالملك واستبداده بالأمر وسجنه أخاه مراد ثلاثين عامًا في قصر أوسراي جراغان وانتشار الدعوى بأنه مجنون مع أن أمراض العقل لا تصل بأصحابها إلى سن الكهولة أو الشيخوخة وقد اعتقل مراد في سنة ١٨٧٦ وتوفي في سنة ١٩٠٤ إلى رحمة الله. وقد أحاط عبد الحميد نفسه بفريق من المُمْلِقين والجواسيس والخصيان ومشايخ الطرق، وجعل نفسه نهبًا لتزاحمهم على الحظوة لديه، بل جعل من قصره ميدانًا لحروبهم في سبيل الحصول على المال والنياشين والمناصب، فصارت هذه الطُّغْمة مصنعًا للتجسس والتضليل والاختلاق، فطاف حول عرش عبد الحميد زمرة مختلفة الأجناس والأنواع من نُزَّاع الآفاق، وقد تمكنوا بحيلتهم ودهائهم من كسب ثقة السلطان فصار يركن إليهم فشغلوه بالخوف على حياته، وأبعدوا عن عرشه كل مخلص أمين وكل شهم صادق، وصار كل واحد منهم يتجسس على غيره حتى تجسس الولد على أبيه والوالد على ابنه، وأخذوا يقلبون الحقائق للسلطان ويحسِّنون له القبيح ويقبِّحون له الحسن، وقد صاغوا له أكثر من عشرين لقبًا من ألقاب العظمة والأبهة والمجد حتى ما يكاد يُشعر بمشاركته للقدرة الربانية، أعظمها «ظل الله على الأرض» وأقلها «غِيَاث الأمم وغيوث الدِّيَم»!

سفير يوناني يمثل تركيا

كانت الدولة العثمانية في سنة ١٨٧٦ من أجلِّ الدول قدرًا وأعزها شأنًا وأبعدها صِيتًا وأرفعها صوتًا، وكانت أساطيلها في الدرجة التالية للدولة الفرنسوية في ترتيب قوى الدول البحرية، وكان سكان الدولة يزيدون على سكان بريطانيا العظمى في وقتنا الحاضر (٤٢ مليونًا)، فكان من رعاياها في أوروبا ١٠ ملايين وفي آسيا ١٤٫٥ مليونًا وفي أفريقيا ١١٫٥ مليونًا، وكانت لها رومانيا والصرب، وعدد سكانهما ٦ ملايين. وقد ضاع من سكان الدولة العثمانية أكثر من اثنين وثلاثين مليونًا، ولا يتجاوز عدد الأتراك الآن أكثر من تسعة أو عشرة ملايين.

كانت فتنة البلغار فقامت دول أوروبا تطلب الإصلاح فوعدت الدولة بتعميم الإصلاح في أنحاء البلاد، وصدر فرمان السلطان بتشكيل البرلمان العثماني الأول، وأراد مدحت باشا تنفيذ هذا الوعد فعمل لذلك بكل قوته. وقد اجتمع مجلس المبعوثان العثماني الأول في ١٩ مارس سنة ١٨٧٧، وعُيِّن أحمد رفيق باشا رئيسًا له وكان سفيرًا بفرنسا في بلاط نابوليون الثالث، وكان متعلمًا ولكنه كان متغطرسًا مستبدًّا، وقد شهد دكتور واشبورن مدير كلية روبرت الأمريكية أنه حضر إحدى الجلسات حيث نهض أحد الأعضاء وكان مُعَمَّمًا وأخذ يتكلم في موضوع يهمه فقاطعه الرئيس أحمد وفيق قائلًا: «سوس أشيك» أي «اخرس يا حمار!» فسقط الرجل على مقعده كأنه مصعوق (ص٥١ «تاريخ عبد الحميد» تأليف سير إدوين بيرس، طبع لندن سنة ١٩١٧). ونُفِي مدحت باشا لأنه صاحب فكرة الدستور، وخسرت الدولة حرب روسيا لأن السلطان كان يدبرها من السراي، وقد فعل ذلك أيضًا في حرب تركيا واليونان ١٨٩٧، ولكن اليونان لا تعدل روسيا في القوة والسلاح والشجاعة. ويقال إن كثيرًا من الحركات العسكرية التي كانت تصدر الأوامر بها من يلديز إلى ساحة القتال في حرب الروس كان مبنيًّا على التنجيم وضرب الرمل والأحلام، وقد قاست الجنود العثمانية ما يفتت الأكباد ويذيب القلوب لعدم الاستعداد في مأكلها وملبسها وعلاج جرحاها ودفن قتلاها. وفي هذا الوقت والعساكر الذين يدافعون عن الإسلام والدولة على ما وصفنا من الشقاء والجوع والضنك كان السلطان يأكل في آنية من الذهب ويغسل يديه في طست من الذهب الأبريز. ولما عُقد مؤتمر الصلح أرسلت الدولة العثمانية لتمثيلها في المؤتمر رجلًا يونانيًّا مثَّل صاحب السعادة فينزيلوس ومن وطنه اسمه إسكندر باشا قره تيودوري، وقد كان نصيب اليونان من أسلاب الدولة تساليا وأيبير مع أنه لم يكن لها عضو في المؤتمر ولم تكن لها يد في الحرب، ولكن الدول كافأت وطن إسكندر تيودوري على تساهله في حقوق تركيا. وقد عقد هذا المؤتمر في باريس، واشترطت فرنسا للاشتراك فيه أن لا يُبحث فيه مصير مصر وسوريا وبيت المقدس (مما دل الإنجليز أن الفرنسويين كانوا يبيتون لتلك الجهات، كما أن إيطاليا كانت تضمر السوء لطرابلس)، فبادرت إنجلترا بوضع يدها على مصر كما هو معلوم، وانتهى المؤتمر على استقلال الممالك التي كانت تحت الدولة وانفصال بلادها عنها، وعاد نائب السلطنة الرومي بنصفها وترك النصف الآخر على المائدة الخضراء … يا خسارة!

وقد تنبه عبد الحميد بعد هذه الصدمة التي أصابته في بداية ملكه فاختار أن ينتخب للدولة وزيرًا من الخارج، فوقع اختياره على خير الدين باشا التونسي وأصله شركسي. وُلد في أوائل القرن التاسع عشر وجاء تونس صغيرًا وتقرب من الباي أحمد فعلمه وتقلب في مناصب عدة وسافر لفرنسا، وتقلد وزارة البحرية في ١٨٥٥ وتقلد الوزارة الكبرى بعد أن ألَّف كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك». فلما استقدمه السلطان عبد الحميد في سنة ١٨٧٨ بعد حرب الروس أقبل على الأستانة، وكان الباي قد عزله وغضب عليه ومنعه الاختلاط بالناس، فلما قابله السلطان عبد الحميد استحلفه على القرآن والحديث أن لا يدخل في مؤامرة على ذات السلطان، وحلف له جلالته أنه لا يعزله. وتولى الصدارة العظمى والدولة في غاية الاضطراب فوضع التقارير للإصلاح فلم يتفق عمله مع رجال «المابين» وهم رجال البلاط الملكي العثماني، وهم من وصفناهم من الجواسيس والدسَّاسين والمنافقين ومشايخ الطرق والخصيان والمخنَّثين والقواد الذين يكونون أسودًا في الحرب ونعامًا في السراي. لم يتفق طبعًا خير الدين مع هؤلاء الخطافين ولم يطل عهده أكثر من عام فاستقال في سنة ١٨٧٩، ولكنه أقام في الأستانة ولم يبارحها وعيَّنه السلطان في مجلس الأعيان وأكرمه إلى أن مات في سنة ١٨٩٠ وهو في الثمانين من عمره. وهنا يروي المرحوم إبراهيم بك المويلحي قصة لا أعلم مكانها من الحقيقة ولكن أذكرها، قال في ص١١٣ من كتاب «ما هنالك»: «كان أول آمال خير الدين باشا الانتقام من الصادق باي والي تونس، فساعد (خير الدين) على عزل إسماعيل باشا خديو مصر، وبعد إلى سيده الباي يهدده بأن ستكون له تلك العاقبة قريبًا، فأسرع الصادق باي بالالتجاء إلى الحكومة الفرنسوية ليأمن على نفسه شر مملوكه الذي صار مالكًا، ووجدت فرنسا فرصة لإسكات الدولة عن تونس بتسليم مدحت باشا لها حين التجأ إلى قنصلها في أزمير، واشتغلت الدولة بمحاكمة مدحت وأصحابه واشتغلت فرنسا بإدخال تونس تحت حمايتها فنجح الفريقان.» وقد كرر المويلحي هذه الرواية في ص٥١ حيث قال:

أرادت الدولة أن تقبض على مدحت باشا وهو والٍ على أزمير، فهرب إلى قنصل فرنسا فطلبته الدولة فتوقفت فرنسا في تسليمه، وانتهت المسألة بين الدولتين بعد المخابرات على أن فرنسا تسلمه بالشمال وتستلم تونس باليمين وتم الأمر واشترت الدولة رجلًا بمملكة، ولما قرب الفرنسويون من تونس صاح الباي وبعث بالرسائل والرسل يستنجد الدولة، فما أصغى إليه مصغٍ. ا.ﻫ. كلام المرحوم إبراهيم المويلحي.

وقد كان هذا الفساد كله نتيجة حكم الفرد واستبداده بالأمر، فكان تعظيم شخصه وخوفه على ذاته ومحافظته على كرامته من الأوهام واستسلامه للجواسيس واعتماده على الخصيان والمشايخ، لأنه نشأ بين الأولين وكان يستعين بما للآخرين من مسابح وأحجبة وتمائم وأوراد لحفظ شخصه من كل مكروه وللوقوف على أمور الغيب وحوادث المستقبل. وهكذا ضاع ملك عظيم ضحية الرَّقَاعة والتخريف والبَلَه وعدم الإيمان بالله الذي يجعل الإنسان متَّكِلًا عليه.

أين هذا من عدل أمراء الإسلام العادلين، الذين كانوا يعملون على سعادة أممهم وطاعة الله وإعلاء كلمة الإيمان والتوحيد ونشر لواء الحضارة الإسلامية؟!

لقد سرى الجبن والخوف إلى النفوس وصار النطق بالألفاظ جريمة يعاقب عليها بالإعدام والنفي، فمثلًا أحرقوا كتاب «الطريقة المحمدية» للنابلسي لأن فيه حديث «الأئمة من قريش»، وصادروا كل كتاب فيه آية الجهاد أو آية الَّذِينَ كَفَرُوا خوف أن تحاربهم أوروبا على هذا، ونُفِيت كلمة «الملة» والدولة ولم تبقَ إلا الذات الشاهانية، ونُفِيت من أحد القواميس كلمة «سيف» لأنها قد تنبه الأرمن للحرب، ولا يقولون جمهورية أمريكا بل مجتمعة أمريكا، ولا ولي عهد روسيا، واسْتُنطق أحد المنشدين المصريين لأنه تغنى بقصيدة منها «أنت المراد»، خوفًا من الإشارة إلى الأمير مراد المسجون! دع عنك ألفاظ العدل والظلم والإنصاف فإنها من المحرمات. وعند صلاة الجمعة أو حفلة السلاملك أُمر الخطيب أن يتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل أو تنفير من الظلم أو إيماء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف، ولا يدور في الخطبة إلا حديث واحد اختاروه لبُعده عن كل تأويل وهو «إن الله جميل يحب الجمال»، فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بقوله: «سمنوا ضحاياكم.» وهكذا صار القصد الحقيقي من السلطنة والدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون والرتب والنياشين هو حفظ ذات السلطان!

ومن نوادر خير الدين باشا بل من الحوادث التي أدت إلى استقالته أنه استؤذن عليه يومًا لبهرام أغا أقوى خصي في عهد عبد الحميد وكان في ذلك الوقت باشمصاحب، ولما دخل عليه قدَّم إليه قائمة بأسماء أشخاص يوظفهم وآخرين يزيد في مرتباتهم، فقال له الصدر الأعظم خير الدين باشا: ما لك وهذا يا وصيف؟! قف حيث وقفتك وظيفتك بباب الحرم ولا تدخل في شغل غيرك!

ولما خرج بهرام أغا سأل عن معنى «وصيف» فقيل له معناه في تونس الخويدم، فامتلأ إهاب الأغا الخصي على الصدر الأعظم حقدًا.

ودخل عليه عقب هذا السيد أحمد أسعد ومعه قائمة كالأولى، فسأله عن وظيفته فقال: «وكيل الفراشة الشريفة» فقال له: أيها الشيخ، وظيفتك هي أن تدعو لجلالة السلطان. فخرج من عنده يعض على ناجذيه لطلب الانتقام منه.

ولما رأى خير الدين باشا أن لا قدرة له على مقاومة أهل «المابين» استعفى من الصدارة كما تقدم، وثبت له كما ثبت لكل محب لخير الدولة العثمانية أنها شاخت ودب الفساد إليها من رأسها كما هي العادة في الممالك والدول، وعند الترك مثل شهير قديم وهو قولهم السائر: «الشجرة تفسد من رأسها ويَعْتَوِرُها الفناء من قمتها» وقد صح هذا المثل وصدق في تطبيقه على دولتهم.

فإذا كان القصد الحقيقي في السلطنة العثمانية قد انقلب إلى أن الغاية من الدولة والخلافة والإمامة والجيوش والمعاقل والحصون هو حفظ ذات السلطان؛ فكيف تُرجى حياة لهم بل أين هذا من عمر بن الخطاب الذي أنزل رضي الله عنه نفسه في كثير من الأحوال منزلة واحد من أفراد الأمة ليبني صرح المجد للإسلام وليقنع الأجنبي بعظمته؟ فقد كان يخرج بنفسه لما جاءه الخبر بنزول رستم إلى القادسية فيستخبر الركبان كل يوم عن أهل القادسية منذ حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله، وكأنه قد تسلم أخبار البريد أو قرأ التلغرافات لو كان من أهل هذا الزمان.

فلما جاء البشير بالفتح لقيه عمر كما يلقى الركبان من قبل فسأله فأخبره فجعل يقول: يا عبد الله، حدثني. فيقول: هزم الله العدو! وعمر يحث معه ويسأله وهو راجل والبشير يسير على ناقته! فلما دخل المدينة إذا الناس يسلمون عليه باسمه بإمرة المؤمنين ويهنئونه، فنزل الرجل وقال: هلا أخبرتني يا أمير المؤمنين، رحمك الله! وجعل عمر يعتذر له قائلًا: «لا عليك يا بن أخي، لا عليك يا بن أخي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤