الفصل الثاني والعشرون

السياسة الأوروبية في بلاد العرب

أثر من القرون الوسطى

كانت أحكام العصور المظلمة عادت إلى الحجاز بانتصاب الشريف س. بن ل. حاكمًا على الحجاز، عاد البَطْح على البطن والجَلْد على القفا بسيور الجلد المضفور وسياط الخيزران، ويوجد تحت القصر سرداب اسمه «القبو الدامس» لأن البشر يُدْمَسون فيه أحياء، وهذا القبو الدامس أو القبر الرهيب عبارة عن جحر مظلم تحت قصر أمير بالحجاز ليس فيه كوة للهواء أو منفذ للنور وأرضه ملآنة بالتراب الذي تتولد فيه الجرذان والعقارب، وهو سجن المتهمين من رعايا الأمير بغير تحديد لوقت أو لحكم كأنه جزء من حصن الباستيل. وليس هذا القبر معدًّا للُّصوص والجناة من قُطَّاع الطريق وقتلة الحجيج فإن هؤلاء خاصة المنفذ وحاشيته وأقرب الناس إليه، وإنما القبر أو الدامس جُعل لمن ينبس بكلمة أو تصعد من صدره زفرة حزن أو أسى على العرب والإسلام، وقد يضع فيه خصومه من الأعيان أو التجار الأغنياء الذين يحاول مصهم فيرفضون بعذر العدم أو الحاجة.

فإذا ألقى باثنين في الدامس فلا يستطيع أحدهما أن يرى وجه الآخر لشدة الظلام، ولا يستطيع من يدخل الدامس أن يبقى بثيابه، بل يضطر لخلع ما عليه ويتجرد من ثوبه لشدة الحر لأن الدامس لا يتخلله الهواء، وفي الدامس سلاسل وأغلال تصلح لتقييد السفن ويقيد بها الأشخاص! والحمد لله على أن هذا المكان قد بَطَل استعماله.

وكانت هناك فوق ذلك أداة للعذاب اسمها الخشبة، وهي عمود ممدود فوق الأرض من الجدار إلى الجدار به عدة ثقوب، وطريقة التعذيب بها أن توضع رجلا المعذَّب في ثقبين من تلك الثقوب على مسافة مترين أو مترين ونصف، ويبقى الرجل ملقى على هذه الحالة على أرض تمرح فيها الجِرذان والحشرات فتتمزق أعصابه ويوقع على نفسه ويتخبط في فضلاته.

وبعد مدة مقررة يخرج المعذَّب ويُضرب بالسياط وأعصاب البقر إلى أن يُشرف المتهم على عالم الموت والشهادة، وكثيرون يموتون وآخرون تتعطَّل أعضاؤهم.

وقد نشرت هذا الوصف جريدة «بورو بودور» التي تصدر في جاوه بقلم محمد الهاشمي التونسي، عدد ٤ سنة أولى الصادر في ١٠ ديسمبر سنة ١٩٠٠، وقال المحرر:

نحن نكتب هذا وننشره في عصر النبيل نفسه وأهل مكة منتشرون في كل مكان، فمن ارتاب فليتحقق منهم، وأهل مكة أدرى بشعابها.

وقيل إن بعض أولاد النبيل كانوا أجروا في دولة «ش» أحكام الجلد القاسي، وتُقُدِّمت بذلك شكاوى إلى وزارة الخارجية الفرنسوية ورياسة الوزراء، لأنهما تمثلان الحضارة الإنسانية.

انتقد الشاعر الأندلسي ضخامة الألقاب بقوله:

ألقاب سلطنة في غير موضعها

ومع هذا فقد كانت الأندلس من أغنى بلاد الأرض في المياه والزرع والمعادن والحيوان والمنتوج، وكانت ملآنة بالناس وعامرة بالمباني الفخمة وآهلة بالعلماء.

فماذا عساه يقول لو بُعث اليوم في بلاد العرب الصحراء الجرداء، وهي وادٍ غير ذي زرع وفيها النفود والرَّبْع الخالي والوديان السحيقة والجبال الشاهقة التي لا نبات فيها ولا نبع ماء، وسمع في مكة صاحب الجلالة اﻟ … (وقد صار بعضهم في سنة ١٩٢٤ خليفة المسلمين وأمير المؤمنين وحامي حمى الدين)، وفي حضرموت صاحب العظمة القصيطية وصاحب الشوكة الكثيرية، وفي الكويت صاحب المهابة الصباحية، وفي نجد صاحب الجلالة اﻟ … وفي سورية صاحب الراية اﻟ … (قبل زوالها وما يوم حليمة بسر)، وفي اليمن صاحب الإمامة اليمنية وحامي الشريعة الزيدية؟

الماضي والحاضر

كان أبو بكر وعمر وعثمان يدين لهم الشرق والغرب ولم يرد في التاريخ لأحد منهم مثل هذه الألقاب، ولم تكن لهم مواكب ولا جحافل ولا حاشية ولا خاصة ولا مَعِيَّة ولا فيالق من الجند تسير في ركابهم أمامهم ووراءهم، بل كان التراب فراشهم والسماء غطاءهم. ولم يكونوا أهل طمع ولا جشع في المال، ولم يكن لأحدهم جريدة تنشر له قرارًا مثل القرار الآتي:

أصدر معالي نائب رياسة النظار الجليلة قرارًا يقضي بأخذ خمسة قروش على كل حمار يسافر بين جدة ومكة، ثلاثة منها ترجع إلى البلدية واثنان إلى مرجع آخر.

كان الشريف ل. ن. يعلن أنه قام لتطهير بيت الله من طُغْمة الطورانيين المارقة في الوقت الذي كان يقبل فيه رسل الإنجليز في الحرم المكي متنكرين بلباس البدو، وشفيعهم ومطهِّرهم هو ما يحملونه له معهم من الأصفر الرنَّان، حسبما صرح به بنفسه في كتابه إلى نائب ملك إنجلترا بمصر. وقد لَقَّب الكولونيل «ر» بلقب أمير من أمراء الأشراف وسلمه الخنجر المرصَّع الذي لا يحمله إلا أهل البيت، وأصبح «ر» عربيًّا وشريفًا على مذهب ن. بن ج.

أما الجندي التركي الذي شهد له العالم كله بطهارة الذيل والنزاهة فيقول عنه ابن «ج» هذا إنه عدو للإنسانية وللأديان. ويقبض «ن» على عذارى الجنود وحليلات الضباط وعقائلهم الذين تسلسلوا ٦٠٠ سنة يحمون مكة وسكانها أسرى في أيدي العساكر الأجنبية تحملهم إلى مصر.

أليس أعمال النبيل ن داعية إلى أن يكفر الأتراك بمكة وساكنيها من وقت الخليقة إلى يومنا هذا؟! وقديمًا قال ابن الأثير ج٦ ص٢١١: «العربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة واضرب رأسه.» وقد بالغ في الإهانة بما لا نوافقه عليه.

وقال الله: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ، قال أحد الكتاب: «فكيف إذا لم نطرح كسرة بل طرحنا أكداسًا من الذهب الوهاج؟»

ورُوي عن الشيخ علي القانص الهندي أنه قال:

العربي في حضرموت لو أعطيته مجًّا وأمرته بقتل نفس مؤمنة ما تأخر.

وقال الشيخ سالم بن سعد بن نبهان: «نحن العرب لم تحكمنا دولة أجنبية، إذا صاحبنا إفرنجي تكبرنا على أصحابنا فإذا ملكتنا حكومة أجنبية يومًا ما فلا شك في أننا سنكفر.» وقال آخر خبير: «لو طلبت الحكومة الإنجليزية من بعض العرب أن يتنصروا للبرهان على صداقتهم لها ما تأخروا عن اعتناق الصليب.» وهذه مبالغة تدل على القسوة في الحكم.

ولأجل هذا أعطى أحد أمراء مكة للكولونيل «ز» مأذونية واسعة وتوكيلًا مفوضًا، بحيث يُمضي بالنيابة عنه كل ما شاء من العهود والاتفاقات حتى كأنه الأمير بنفسه، في الوقت الذي يُخفي فيه الحاكم كل شيء حتى على أولاده.

بعد أن حدث النفور بين المرحوم جلالة الملك حسين بن علي والإنجليز، كتب كاتب في التيمس في مايو سنة ١٩٢١ يقول ما تعريبه:

إن القيام الذي حصل ضد الأتراك لم يكن وقوعه بصورة عامة من جميع العرب، بل وقع من جانب الشريف حسين، وبالرغم من كون الأمة العربية تتألف من خمس حكومات فإنه ليس فيها أضعف ولا أصغر من حكومة الحجاز، التي تحولت إلى حكمدارية. ومع أن أمير نجد ساعد الحلفاء في الحرب العامة، فإننا لا ننكر أن الحركة بدأت من الحجاز. وكما أن شريف مكة حسين باشا صار حكمدارًا على الحجاز، فقد رشح أولاده لإمارات عربية متعددة. ولو رجعنا إلى مطالب عائلة الشريف حسين لوجدنا أن هنالك أشرافًا أسمى منهم حسبًا ونسبًا وأعرق منهم مجدًا وفخارًا، وأنهم أليق وأحق بإمارة مكة من حسين وأولاده، وإنما أولاد الشريف حسين يرتكنون في مطالبهم على المساعدات التي قاموا بها للحلفاء في أثناء الحرب.

إن العراق لا تستطيع أن تسمع باسم شريف مكة وأولاده وليس لأحدهم قبول حسن هناك، ويجب موافقة الأمم قبل ترشيح الأمراء لها. وكذلك سورية فإنها لا تنقاد ولا تذعن لأوامر مكة. أما نجد فإن ساحة شاسعة مترامية الأطراف تلتف حول أميرها.

إن أمير نجد من أشد الناس بغضًا لشريف مكة أو حكمدار الحجاز، وذلك لمطامع الحسين وحرصه وتفانيه في تضحية كل شيء لمنافعه الذاتية، ولأنه أصبح في منتهى الانتقاد في نظر العرب بل في نظر العالم الإسلامي كله.

وفضلًا عن ذلك فإن الإمام يحيى منقطعة بينهما العلائق للسبب الذي يبغضه لأجله العالم الإسلامي كله.

وكذلك الإدريسي لم يقبل أن يتفق معه بوجه من الوجوه. والسنوسي يرى أن الخلافة لا يمكن حصرها في أشراف مكة، وقل مثل ذلك عن عبد الله أمير حائل.

وعلى ذلك فتأسيس الوحدة العربية لا يتأتَّى تحقيقه الآن، ولذلك فأنسب أن تبقى الأمة العربية على حالها لنوفر على أنفسنا مبالغ طائلة يقتضيها خيال أرباب الأحلام، ونحن في حاجة إلى تلك النفقات التي لا طائل تحتها.

ا.ﻫ. كلام التيمس. وهذه عادة الإنجليز إذا فرغوا من الانتفاع من حاكم أو أمير شرقي قلبوا له ظهر المِجَنِّ.

بعض مقالات جريدة القبلة

نشر شريف مكة في عدد ٤٤٧ من جريدة القبلة استغاثة بالمسلمين من الحلفاء، جاء فيها:

يا بني الأمة الخالدة!

أما وقد أخلف الحلفاء وعودهم لكم وداسوا عهودكم ومزقوا مواثيقهم التي عقدوها مع أبيكم ومُنْهضكم الأكبر فلم يبق لكم سبيل غير المفاداة والاستماتة في رد عاديات الظلم والشر عنكم وعن بقاعكم المقدسة.

ثم أخذ يصف الحلفاء بأنهم «الفرنجة الغدارين».

ثم قال: فإما ميتة تغسل العار وتمحو الذل وإما فوز يؤيد الحق.

اقتحموا نيران الغاصبين أطفالًا ونساءً وشيوخًا وشبانًا وعجائز.

أظننتم أن الإفرنج يصدقون في وعودهم لكم؟ لا والله، فلا تخدعوا أنفسكم.

خافوا نهب منازلكم وتدنيس معابدكم وانتهاك أعراضكم، اقضوا ما بقي من هذه الحياة في الثأر. ا.ﻫ. ما جاء في الاستغاثة.

وقد رد عليها مؤرخ شرقي بقوله:

ولنا الحق في أن نضحك من هذه الدعوة إلى الجهاد بعد فوات الوقت، وبعد أن بلع الحجاز ما بلع من الذهب حتى تَخِم وسُدَّت لَهَاتُه سدًّا بالأصفر الرنَّان. فلما جفت يد الحلفاء أخذ بعضهم يستنفر العرب ويقدمهم ضحية رجالًا ونساءً وأطفالًا تحقيقًا لمطامع الوادي، ويحتفظ بنفسه ويدَّعي أن الإفرنج الغدارين نقضوا عهود العرب، مع أن العرب لم يتعاهدوا معهم على شيء! وهكذا يكون خبث السياسة المتلوية كالأفاعي.

ترجع مطامع الإنجليز في بلاد العرب إلى عهد غارة نابوليون على مصر وسوريا، ولكنها لم تدخل في طور العمل إلا بعد ظهور نفوذ الخلافة العظمى بين مسلمي الهند إبان ثورة ١٨٥٧. والإنجليز الذين اتخذوا مسقط وبوشير مركزًا لحركات توسعهم في شرق الجزيرة وثغر عدن للتوسع في جنوبها، اتخذوا احتلالهم لمصر قاعدة لحركاتهم ودسائسهم في سورية والحجاز.

وقد وفِّقوا في الزمن الأخير لإيجاد زمرة من الخونة بمصر من أهل سورية ولبنان وفريق من المصريين رغمًا عن رفعة مراكزهم في الهيئة الاجتماعية ورغم ما يتظاهرون به من العلم والفضل والغيرة على الإسلام وأهله، وقد باعوا ذممهم للإنجليز واشتروا الدنيا بالآخرة وانقطعوا لكيد الدولة العثمانية خصوصًا وللإسلام عمومًا، بتوهين آخر حصونه.

وقد حاول أولئك الأوغاد تأسيس روابطهم مع الأمير عون الرفيق فعاجلته المنية فالتفتوا نحو حسين بن علي وابن سعود. إن الاحتفالات التي كانت تقام في مصر لعبد الله بك عند مروره المتوالي بمصر أظهرت خطتهم وكرروا المساعي مع الأمير علي باشا فانتهرهم، وحاولوا التودد إلى الإمام يحيى فلم تخفِ عليه حقيقتهم، ثم اتصلوا بالإدريسي وأسرة النقيب في بغداد وخزعل الذي كان يقابل غورست كلما جاء مصر، وكذلك أسفار إسماعيل حسن وعزت الجندي وحسن صبري وحسن حمادة وأتباع الشيخ علي يوسف ورجل آخر صحفي سوري مسلم من رجال الدين؛ كل ذلك صار سرًّا مذاعًا، وخطب محيي الدين بك متصرف عسير، ومسألة الشيخ أحمد الهزازي وكذلك المخابرات بواسطة عارف القوم بمصر وعبد الرحمن قنصل الإنجليز بجدة.

والتقارير المرفوعة بواسطة الباشا الذي كان بالمعية الخديوية وقيلت في حقه قصيدة «البال»، وسياحات المحامي الشرعي الذي توفي، وإرسال بعض سكان قرية اليوسفية بقنا شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؛ فمصدرها معروف. كما أن خطبة عبد الله وطعنه في الدولة أمام ضباط «أمدين» لمحالفتها ألمانيا دون إنجلترا فقد خرقت الستار الرقيق. وجاء طلب الأمير من وهيب باشا قبيل سفره أن تعلن الدولة .انفصال الحجاز عنها تمامًا إلا في العلاقة الدينية فأفصح عن الغرض المنشود. ا.ﻫ. كلام المؤرخ الشرقي.

خطاب إلى بوانكاريه

نشرت جريدة المستقبل الباريزية في عدد ١١٦ الصادر في ١٠ أكتوبر سنة ١٩١٨ برقية أرسلها المرحوم جلالة الملك حسين بن علي إلى بوانكاريه رئيس الجمهورية، هذا نصها:

إلى فخامة المسيو ريمون بوانكاريه رئيس الجمهورية بالإليزه

انتهينا في هذا اليوم السعيد، الذي تعده الأمة من أيامها التاريخية، بإرسال تهنئتنا إليكم بمناسبة استيلاء جيشكم على دمشق. وإنه لظفر كلل مساعي فخامتكم ومساعي شعبكم النبيل بالنجاح، وهو من ثَمَّ بشارة لاقتراب النصر النهائي أي انتصار العدل وحقوق الأمم وضمانها من خرق حرمتها ومن كل اعتداء عليها في المستقبل.

الحسين الأول

وفي نوفمبر سنة ١٩٢٠ أي بعد إرسال هذه البرقية بسنتين وبضعة أيام، أرسل المرحوم الحسين بن علي ملك الحجاز نفسه كتابين إلى خديو مصر السابق عباس حلمي الثاني وإلى سلطان تركيا يحتج فيهما على أعمال فرنسا في سورية وينسب إليها أنها تعمل في سورية عملًا عدائيًّا لدين المسلمين ويطالب بجلاء جنودها عن عاصمة الأمويين.

ولم ننسَ من الذي قدم سورية هدية لفرنسا، وفلسطين والعراق هدية لإنجلترا، والفضل للجنيهات الإنجليزية التي كان ينفقها بعضهم بمكة بنفسه وبواسطة صنائعه لتمزيق أجزاء الإسلام والدولة العثمانية. فكيف يعترف الحسين أمس بأن فرنسا فتحت سورية واليوم يطلب الجلاء عنها؟! فأين ثمرة الفتح وأين ثمن الدماء الأوروبية التي أُريقت في سبيله؟ هل كان يظن الشريف أن دماء الحلفاء رخيصة مثل دماء العرب والشرقيين؟

أليس الإنجليز والفرنسويون هم الذين كان المرحوم الحسين يصفهم بأنهم «حلفاؤنا الكرام المحاربون لنصرة الحق والإنسانية.» ثم يصفهم بأنهم أعداء يستأجرون الناس لمصالحهم؟ أفلم يستأجروا جيوشًا وقوادًا من العرب من قبل؟

هل كان يظن أن فرنسا تتخلص من الترك لتشترك مع البدو الحفاة، أم أنها تفتح بلاد الشرق لتسلمها لقمة سائغة للحسين بن علي وأقاربه وأعوانه؟

كان الحسين ينتقد سياسة الأتراك الذين عاشوا في أوروبا ٧٠٠ سنة وهم في درس مستمر لأَعْوص مشاكلها السياسية ويبدو للعيان في جريدة القبلة التي كان يحررها أنه سياسي محنك؛ فكيف خُدع لوعود إنجلترا؟ وكيف لعبوا به بأسهل الطرق وأهونها فسارع إلى الخلاص من الترك الذين تربى في حجورهم سابحًا في بحر من نعمة الله عشرات السنين هو وأولاده وأحفاده وكل أهل بيته؟

قال مؤرخ شرقي: نحن الشرقيين يصح في حق بعضنا قول الشاعر:

غُذِيتَ بدرِّها ونشأت معها
فمن أنباك أن أباك ذيب؟

وما أشبه بعض العرب في ثورتهم على آل عثمان بالزبير بن العوام في ثورته على عبد الملك بن مروان فعطَّل الفتح الإسلامي وأورث الدولة جراحًا وقروحًا؛ فباء بسخط من الناس وغضب من الله، وكان جزاؤه أن سجل التاريخ اسمه بأحرف من عار وفضيحة.

كان زعيم عربي يقول في منشوراته: «لا نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة في أيدي الاتحاديين وقد يسَّر الله للبلاد نهضتها وأخذت استقلالها واستقلت فعلًا وانفصلت عن البلاد التي لم تزل تئن تحت سلطة المتغلبين من الاتحاديين انفصالًا تامًّا بكل معاني الاستقلال لا تشوبه شائبة مداخلة أجنبية ولا تحكُّم خارجي، جاعلة غايتها ومبادئها نصرة دين الإسلام والسعي لإعلاء شأن المسلمين.»

ولكن نتيجة هذا المنشور وقوع بلاد الإسلام في أيدي الاستعمار الأجنبي فتربع جورو في دمشق وهربرت صموئيل في أورشليم، وغيرهما في العراق وشرقي الأردن، في حين استقلت أرمنيا وعشرات الأمم الأوروبية. كان بعض الناس مخدوعًا في النبيل «ش» وأعماله ويظن أنه مخلص في ثورته وأنه حقيقة يغار على الإسلام والمسلمين، وكان بعضهم يظن أنه ضعيف العقل والتدبير وأن من حوله يطيعونه خوفًا واحترامًا، ولكن كان رأي الكثيرين أنه لم «يَثُر» ولم «يَنْهَض» ولم «ينقذ» إلا حبًّا بالمال ولأمور أخرى لا علاقة لها بالدين والوطن، فقد جاء في عدد ٣٩١ من جريدة «ط» التي يكتبها بنفسه نص خطاب وجهه «ش» إلى نائب حكومة «ك» بمصر، صرح فيه بأنه لم يقم بالفتنة إلا إرضاءً لحكومة «ك» وتنفيذًا لخطتها الحربية، «فإن كان ولا بد من التعديل، فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب، ولا أشتبه في مجد دولتكم، وأنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء، ثم تبينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول فرصة، وإن رأت ذلك ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقضي بتأجيله إلى ختامها فحقوق الوفاء والجميل تفرض علينا الثبات.»

فقيام النبيل «ش» وإقامته في مكة لم يكونا حرصًا على حمى الدين كما زعم في منشوراته للمسلمين، بل كان مقابلةً لجميل الجنيهات التي قُدِّمت إليه كما قال هو نفسه في فقرة أخرى من كتابه السابق:

وإلا باقي المواد فإنا نعجز عن أداء شكر الوفاء بها شكرًا يملأ الخافقين خصوصًا أمر الإعانات.

وليس للحرمين أو غير الحرمين حرمة في نظر بعض حكام مكة من العرب، فقد سمعنا وقرأنا ألوف المرات ما ارتكبه هؤلاء في الحرمين وما سفكوه من دماء واقترفوه من آثام. راجع ابن خلدون ج٤ ص١٨، وراجع كل صفحة تقريبًا من تاريخ الجبرتي.

فالقول بأن أي رجل منهم كان مخدوعًا أو أنه كان في نوبة عصبية أو أنه كان نائمًا يحلم ثم أفاق؛ كل هذه أعذار باطلة لا يبديها إلا جاهل بالحقائق لا يحق له أن يتكلم أو شريك في الجريمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤