الفصل الخامس والعشرون

أفريقيا والإسلام والاستعمار

أفريقيا والعرب

لقد كان اتصال العرب بأفريقيا قديمًا جدًّا وربما يرجع إلى ألوف السنين، وما زال هذا الاتصال حتى ظهر الإسلام فهاجر بعض العرب المضطهدين من الحجاز إلى شواطئ أفريقيا الشرقية، وقيل إنهم بلغوا بلاد الحبشة واتصلوا بالنجاشي فأكرم وفادتهم.

وبعد قليل من ظهور الإسلام فتح العرب المسلمون أفريقيا فتحًا سريعًا، فاكتسحوا شمالها في فترة وجيزة وانحدروا على السواحل الغربية وأسسوا المدن، وزَكَت حضارتهم بين الزنوج.

ولما تأسست الخلافة العباسية واضطهدت الأمويين وطاردتهم هاجروا إلى السودان فلجئوا إلى سائر ناحياته ونشروا في ربوعه دين الإسلام واللغة العربية، وخرجت من السودان نفسه قبائل غزت شمال أفريقيا وغربها وصارت حلقة اتصال بين السودان وبين سائر أفريقيا.

واستفاد الزنوج من العرب أن دانوا بالإسلام واهتدوا بهديه.

وقد روى سير هنري جونستون — وهو من أكبر علماء الإنجليز — في كتيب ألفه على أفريقيا عن الرحَّالة ريد ما ملخصه:

قد تمر بالقرية الزنجية الوثنية في قلب أفريقيا فتجد أهلها في أحط درك البشرية من حيث النظافة والبر بذوي الأرحام، لا يتقذَّرون من فضلاتهم ولا يغتسلون من دنس، ويأكلون الميتة ويشربون الدماء، ويذبحون أجدادهم وآباءهم إذا شاخوا وعجزوا، ويُغِيرون على الجار ولا يرعوْن له حرمة ويغتصبون امرأته وبنته نهارًا لا يرون في ذلك عيبًا ولا نقيصة.

فإذا مررت بالقرية نفسها بعد عشر سنين وقد دخلها الإسلام، فتراهم يدركون معنى النظافة والطُّهر، يستعملون الماء للاغتسال والوضوء وتنظيف الأجسام والثياب، يَصلون أرحامهم ويحمون جارهم ويرعَوْن حقوق القريب والغريب … فلا تكاد تتعرفهم لشدة ما لحقهم من الفضائل ومكارم الأخلاق ومظاهر الرقي والحضارة.

فالإسلام وهو دين العرب يزرع الآن بذور المدنية في قلب أفريقيا المظلمة أو القارة السوداء ويبدد سواد ليلها، وفي وسط تومبكتو أو السنجال أو الداهومي تلقى أناسًا سود الوجوه يقرءون فلسفة ابن رشد ومؤلفات الغزالي ويتأدبون بأدبهما، وربما كان بين أسلافهم الأقربين من كان يأكل لحوم البشر. ولم يكونوا ليقرءوا تلك الكتب لولا دين الإسلام الذي تتبعه اللغة العربية أينما ذهب لاستحالة ترجمة القرآن وضرورة درسه كما أُنزل.

هذه شهادة إنجليزي منصف تدل على الخير الذي يصنعه الإسلام في أفريقيا التي كانت مهدًا لبضع أسر مالكة شرقية أو عربية أو إسلامية تأسست على شواطئها وفي سائر نواحيها، وكانت مهدًا للمدنية المصرية أم مدنيات العالم، ومعتركًا لأمم كثيرة، ولا يوجد بها للأسف سوى أمة مستقلة حرة واحدة هي الحبشة. وهذه القارة إذا تهذبت ونُظِّمت وحسُنت قيادتها لا نقول إنها تفتح العالم بل نقول إنها على الأقل تحمي ذِمَار شعوبها وتدفع عنها غائلة الأجانب وتنتفع بكنوز خيراتها الدفينة بين معادن نفيسة وأحجار كريمة ومواد كيميائية وأرض خصبة وأنهار غنية. ولا يمكن أن يقوم بهذه النهضة الأفريقية سوى أمة عربية مسلمة تنفع الملايين من الخلق وتحيي مَوَات الأرض.

طلب الدستور في تونس

لما أقيم الاستقبال الحافل في عيد الفطر في يوليو سنة ١٩٢٠ بتونس، زار وفد من الشبان التونسيين سمو الباي وقدموا إليه عريضة طلبوا فيها إنشاء دستور للإِيَالَة التونسية يكون مكتوبًا يعلن الحقوق ويضمن الحريات العامة ويفصل السلطات عن بعضها بعضًا ويشرك الأمة في حكم البلاد إشراكًا تامًّا من غير تمييز الأجناس والأديان، وتُراعى فيه الحقوق والواجبات الدولية.

فأجاب سمو الباي:

إننا ننتظر من رجال فرنسا الخير والسعادة مع العدل والإنصاف للإيالة وأهلها.

وقررت الحكومة الفرنسوية في تونس معاقبة الموظفين الذين اشتركوا في الوفد المذكور، وأن تحاكم أمام مجلس عسكري حسن كمال الصحفي المتهم بإثارة الفتن بين الجاليات الأجنبية والفلاحين من أهل تونس، وصادرت جريدته ومنعتها من الصدور.

وإليك الآن نص العريضة التي رُفعت إلى الباي:

هب نسيم الحرية في العالم كله فأخذت جميع الأمم تعلن ما لها من الحق والحرية بعد خروجها من المعترك العظيم، وإن الأمة التونسية لبَّت دعوة العالم المتمدن إلى الدفاع عن الحرية والحق والعدل، وأظهرت من الإقدام والبسالة ما يرفعها إلى مراتب الأمم العريقة في القدم، ولولا ما ترجوه من تأييد حقوقها وحريتها لما سارعت إلى تلبية تلك الدعوة. فهي إذن ترجو أن تنال دستورًا يضمن حريتها وحقوقها ويقضي باشتراكها في إدارة شئون بلادها من غير تمييز بين الأديان والأجناس.

وكانت فرنسا قد تعهدت منذ ٣٠ سنة بتحرير تونس، وتونس قدمت ٦٥٠٠٠ مقاتل و٣٠٠٠٠ عامل وبلغت خسارتها ٤٥٠٠٠ بين قتيل وجريح، وأظهر جنودها ما أدهش العالم في أوروبا، وشهد لهم المارشال فوش بالتفوق والشجاعة.

أما الأحوال الاقتصادية في الساحل التونسي فإليك عنها بيانًا وجيزًا:

من أقدم العصور والساحل التونسي يعاني الآلام، ناهيك بأن الشيوخ الذين قضوْا به عمرًا طويلًا يشكون مر الشكوى من الأزمات التي تحل بهم. ورغمًا من تطاول الدهور واستفحال هذه الأزمات في بعض أزمنة التاريخ، فإن الحالة الراهنة لا نظير لها فيما علمنا، وإليك البيان: لا يخفى على أحد أن مصدر الثروة الساحلية بل حياة المقيمين بالساحل موطنان بما تنتجه الشجرة المباركة التي هي عمدة الفلاح وقوام حياته يسعد بنموها ويشقى بنقصها وكساد نتاجها ويشقى خلفه الألوف من المنتفعين بالعمل فيها، وقد مرت بضع سنوات عم الرخاء فيها سائر الطبقات حتى الرعاة وما تلفظه نواجع العربان من فقراء البدو، لكنها للأسف انقضت كأنها أحلام. وفي الأعوام الأخيرة أخذت الكآبة تبدو على الجميع والفقر يحل والبؤس ينشر ألويته على هذه الربوع من جراء التقهقر الاقتصادي الذي أثر تأثيرًا فاحشًا على سوق نتاج الزيتون، فالتجأ الناس إلى التداين والتعامل بالربا الفادح حتى شمل هذا المصاب سائر الملاك واستغرق ذممهم ولم ينج من مخالب المرابين إلا النزر القليل، بحيث أصبح الجمهور راسفًا في قيود لا سبيل لحلها ما دامت أسواق الزيوت في انحطاط. وقد استقبل أرباب الزياتين هذه السنة موسم الزيتون بتجهم وامتعاض ويأس، حيث إن الفلاح مثقل الكاهل بالديون مفكر في الحالة التي أصبح فيها، إذ ليس له من الدخل ما يفي بدفع الضرائب فضلًا عن إصلاح شئونه والقيام بما يتطلبه زيتونه من العمل ودفع ما عليه والذي يزداد حينًا فحينًا.

تلك هي الحالة بالساحل الذي يعد من الجهات المهمة بالقطر التونسي لأهمية ما به من شجر الزيتون الذي آل إلى ما آل، والظاهر أن الدواء الناجع لهذه الحال هو التسهيلات الكافية لوَسْق الزيوت إلى الخارج والتخفيف من الضرائب خشية ازدياد الألم الناشئ عن المطالب المتعددة. وغني عن البيان أن الشجرة الواحدة أصبحت في هذا اليوم لا تعطي الفلاح ما يكفيها من العمل في حد ذاتها من حرث وغيره، فكيف يُرجى منها إسعاد مالكها والتخفيف من ويلاته؟ وأي دليل نقيمه على ذلك والزيتونة التي كانت بالأمس تساوي ألف فرنك صارت الآن تساوي ثلاثمائة فرنك؟ وهذا النقص الفادح في الثمن من أقوى الأدلة على انحطاط نتاج ركن من أركان الثروة التونسية له أثره في الميزان التونسي الذي يهم الحكومة والرعايا، لذلك ليس من المتعذر اتخاذ الوسائل النافعة وسلوك طريقة التخفيف إبقاءً على البقية الباقية ووقاية للفلاح من المصائب الكثيرة التي كادت تحول بينه وبين مواصلة العمل بانتظام ونشاط، فإن من أيقن بسوء عاقبة عمله وخسرانه في الختام ذهبت آماله وانقبض عن السعي، ولا تزال الحالة تزداد شيئًا فشيئًا إلى أن تعم البطالة ويعظم الخلل ويسود الشقاء ويبدو الخراب في أبشع المناظر.

أصل الاحتلال في تونس

صادف عام ١٩٣١ الذي وضعنا فيه هذا الكتاب مرور خمسين عامًا على احتلال فرنسا بلاد تونس لا لخير أهلها ولا احتجاجًا على ضربة مروحة على وجه سفيرها (كما حدث في الجزائر) ولا لأنها على طريق الهند (كما هي عادة إنجلترا في تبرير احتلال مصر)، ولكن لأن تونس بلاد غنية في زراعتها ومشهورة بزيتها وزيتونها وتمرها وبلحها وحبوبها وبساتينها وفاكهتها وغنية بمناجمها وفوسفاتها، وقد صنع بعض الفرنسيين بتونس ما تصنع عصبة من الخطافين بضيعة خالية من المُلَّاك أو قرية ليس لها صاحب ولا سكان. وإليك ملخص وجيز لتاريخ الاحتلال الفرنسي بتونس:

ارتأى الوزير خير الدين لما تنكر له الباي وغضب عليه أن يبيع أطيانه الواسعة، التي تمتد من زغوان إلى بوفيشة والنفيضة التي كان وهبها إياه محمد الصادق باي، لشركة بنك مرسيليا. ولكن الشريعة الإسلامية تعطي حق الشفعة للجار، ولما كانت إنجلترا لا ترضى أن ترى شركة فرنسية تملك أرضًا بتونس أقامت أحد اليهود من حمايتها وهو يوسف ليفي يملك قطعة مجاورة لأرض خير الدين يطالب بحق الشفعة، وحيث كان الشرع غير قابل للتأويل فلم يبق لشركة بنك مرسيليا إلا أن تترك البقعة. ولكن براعة رجال المعاملات لا تقف عند هذا الحد، فقد استعملوا الحيل الشرعية التي تمنع الجار من حق الشفعة، أي ذكروا كَمْشَة مجهولة في عقد البيع واحتفظ الوزير خير الدين لنفسه بمتر واحد حول الأرض بحيث إن أرض الإسرائيلي المحتمي بإنجلترا لم تكن مماسة للأرض المبيعة، فأول ما ابتدأ الأمر برفع الدعوى أمام المحاكم الاعتيادية لمعرفة قيمة هذه الخزعبِلات، أرادت الشركة أن تضع يدها على الأرض لتحوزها بصفة الملكية فأرسلت البعض من أعوانها يستقرون بنفس الأرض، وفي الحين نفسه ترسل إنجلترا محميَّها ينصب خيمته أمام أعوان الشركة.

وقد صارت الحالة خطرة لأنه أخذ يظهر شيئًا فشيئًا أن المحاكم الإسلامية ستصدر حكمها لفائدة محميِّ إنجلترا، وكان من الممكن أن يحدث في كل وقت بين الفريقين المستقرين بالنفيضة خلاف خطير، فوجب حينئذ القيام بعمل حاسم.

وقد كان الوزراء في سنة ١٨٨١ كما هو اليوم، حسب عبارة الرئيس ميلران «أعوان المالية»، وكانت الجيوش الفرنسية والأسطول الفرنسي والميزان الفرنسي كما هي اليوم لا غاية لها إلا العمل لفائدة مصلحة الماليين الخاصة. وكما جعل بوانكاريه منذ سبع سنوات الجيش الفرنسي تحت تصرف «لجنة الحديد» لاحتلال الروهر وكما وضعت كتلة الشمال ذلك الجيش نفسه تحت تصرف «بنك باريس والبلاد المنخفضة» لكسر الأمة الريفية والاستحواذ على خيرات أرضها الكبيرة؛ كذلك وضع جول فيري في ذلك الزمن الجيش المذكور تحت تصرف الشركة المرسيلية.

فاكتشفوا فجأة أنه يوجد في جبال خمير بعض اللصوص وأنه يحدث أحيانًا منهم وهم غير محترِمين للاتفاقات الدبلوماسية أن يسرقوا خارج الحد التونسي الجزائري كما يسرقون من داخله وفي الأمر داعٍ كافٍ؛ فدخلت الجيوش الفرنسية من الحد الجزائري ومن بنزرت فلزم الباي الخضوع تحت تهديد السيف، واختلت البلاد بسرعة فائقة، واستمر سراق خمير على سرقتهم داخل الحدود وخارجها، ولكن استقر ملك المائة ألف هكتار وزيادة لشركة مرسيليا، ذلك هو الغرض وذلك هو أصل «الحقوق التي للجمهورية الفرنسية بتونس».

•••

وما كادت تدخل الجيوش الفرنسية بتونس ولمَّا يقع بعدُ إمضاء معاهدة باردو ١٨٨١ حتى استدعى جول فيري للمأدبة التي أَدَبَها أعضاء الصحافة الكبرى ورجال المال لتأييد عمل القوة الذي قام به فتكون بعنايته، جمع على رأسه أدريان هيبرار مدير جريدة الطان وبول بوليو مدير جريدة «ليكونوميست فرانسيه» للدعاية لمسألة تونس، وفي مقابل خدماته الجليلة طلب هيبرار الذي ألزم البلاد التونسية بقبول أحد معاونيه بول بورد بصفة مدير عام للزراعة، وبواسطة هذا المدير وشركته معه طلب مائة ألف هكتار في جهة السواسي وجلاص، ولكنه لم يحصل إلا على عشرة آلاف هكتار فقط!

أما بول لوروا بوليو فقد نشر في إحدى الجرائد الدعاية لمناجم الفوسفات بقفصة وحصل زيادةً على عدد ذي قيمة من السهام أرضًا من أحسن الأراضي في أخصب جهة من التل بالمملكة.

وبعد ذلك بقليل تحصلت جريدة «الدبيش تونزيان» في شخص مدير هام لوكور كارباني على بعض آلاف من الهكتارات، ثم أخذت تستحوذ شيئًا فشيئًا بمقدار ما يقوي من نفوذها على مناجم الفوسفات بقلعة جريدة أغنى مناجم الفوسفات بعد مناجم قفصة، وتخلق لنفسها إمارة حقيقية بالوطن القبلي وتمتد يدها العادِيَة إلى أحسن الأراضي المجاورة للمياه المعدنية بقربص وتضع يدها عليها لاستثمارها، وتضطر الدولة لبناء طريق لها بما بلغت مصاريفه ١٠٢٠٠٠٠٠ فرنك ذهبي، وتحقق لنفسها مع ذلك قسطًا عظيمًا من كازينو تونس، وتحتكر الإعلان التجاري من دون ذكر لكثير من الامتيازات ليست أقل فضيحة من السابقة بما جعل مديرها المستثمر العام للمملكة التونسية. أما م. بوشي العضو بمجلس السينات ووزير التجارة سابقًا ومقرر الميزانية التونسية، فقد استحوذ على ٣٠٠٠ هكتار في أحسن جهة من التل وأخصبها. وم. مورجو العضو أيضًا بمجلس السينات ووزير الفلاحة سابقًا ومقرر الميزانية التونسية، فقد استحوذ على ٦٠٠٠ هكتار من أراضي السيالين قرب صفاقس و٥٠٠٠ هكتار في جهة وادي اللبن و٣٠٠٠ هكتار من وقف سيدي مهذب، وهو يملك أيضًا مصيدة تن بصفاقس ومناجم للحديد وسهامًا وافرة من مناجم فوسفات قلعة جردة.

وم. كوتنري النائب بمجلس الأمة ووزير المالية سابقًا ومقرر الميزانية التونسية حصل على بعض آلاف من الهكتارات في أحسن جهات المملكة.

وم. هانوتو وزير الأمور الخارجية سابقًا صار بعد إشهار مدلَّس أوجب احتجاج الغرفة الزراعية بتونس مالكًا لأرض كريمة متسعة قامت بإحيائها الدولة على نفقتها وتحصل لفائدة «المعامل الكبرى الصفاقسية» التي هو جاعل لها أراضي بناء ببيكر فيل ناحية صفاقس بثمن قدره خمسة صانتيمات للمتر الواحد، بينما كان سعره الحقيقي في سنة ١٩١١م ١٥ فرنكًا.

وم. بيدي بيدو عضو السينات ومقرر الميزانية التونسية أيضًا تحصَّل للمحافظة على السر اللازم في تقاريره بصفة خاصة على هِنشيرين من أجمل الهناشير، وهو مع ذلك رئيس مجلس إدارة «شركة الصلح» بسليمان.

وم. شاللي بيرت نائب من مجلس الأمة ومقرر الميزانية التونسية يستيقظ صباحًا بعد ما سلَّم تقريره فإذا هو مالك بشركة «الوسيط» فانسان لمناجم حديد الدوارية، فيكون لها شركة استثمار ويقبض مبلغًا طفيفًا في مقابل تقريره هو أربعة ملايين فرنك ذهبًا … إلخ إلخ.

وهكذا كان من نتيجة معاهدة باردو منذ خمسين سنة المساعدة على امتلاك الطمع الفرنسي لأكثر ما يمكن من الأرض والمناجم المخزونة في أحشاء البلاد. وتاريخ البلاد منذ ١٨٨١ ليس إلا امتلاك الأرض لفائدة رأس المال الفرنسي بواسطة قوة الدولة: امتلاك بنك ميرابو لمناجم الفوسفات بقفصة وشركة مقطع الحديد للثروة المكنوزة من الحديد في جبال جريسة، وامتلاك نواب البرلمان الفرنسي لأحسن الأراضي وامتلاك المستعمرين للأراضي المشتراة من الميزان الذي جُل إيراده من الأهالي.

فالاحتفال الخمسيني الاستعماري قد أتى في وقته لتذكير الجماهير العاملة التونسية أن أصل الاحتلال لبلادهم هو القوة، وأنهم يعاملونه بالقوة الغاشمة وأن ليس إلا تلك القوة التي يجب أن تنظَّم وأن تعم ليخلصوا من نِير الاستعباد.

الظهير البربري

لا يزال صدى الظهير البربري يرن في آذاننا، فقد ضجت منه الشعوب العربية بعد أن ضجت شعوب شمال أفريقيا. فقد استصدرت فرنسا من الشاب محمد سلطان مراكش بالاسم ظهيرًا أو مرسومًا يقضي بتنصير أمة البربر ومضى عليه الآن أكثر من عام ونصف، وأسست بين القبائل الإسلامية كنائس كاثوليكية وحشدت لها القساوسة، وكانت أخرجت القضاء الشرعي من ميزانية الدولة وأخضعته للسلطتين العسكرية والمدنية. وبينما كانت فرنسا تعمل عملها في مراكش على هذه الصفة المخالفة للحضارة، شعر المشير الفرنسي ليوتي بحرج موقف بلاده ولا سيما في بلاد حديثة العهد بالعبودية.

وقد قام فيها رجل كالأمير المجاهد عبد الكريم الذي أحيا ذكرى الأمير عبد القادر الجزائري، ولا يخفى أن ليوتي رجل حرب وضرب وحامل سيف ورمح ونذير قتل وجرح، ولكنه مذ طالت إقامته بين أهل المغرب لانت عريكته وتشذَّبت شوكته، وقد مال إلى صناعة القلم فأخذ يحتذي مثال كبار الساسة ليبدي رأيه في حكم البلاد التي اغتصبتها فرنسا فنشر في مجلة «مسير فرنسا» مقالًا جاء فيه:

من شروط استمرارنا على الإقامة في المغرب الأقصى وحصولنا على نتيجة من وراء ذلك تعزيزُ صلاتنا بالوطنيين، بمشاطرتنا إياهم مزاولة الزراعة والصناعة والشئون التجارية، ولا سيما مشاطرتنا إياهم الشئون العقلية ومبادلتنا إياهم العواطف الودية. وعندي أن هذا أفضل وسيلة لضمان التعاون بين فرنسا والمسلمين في المغرب الأقصى، وهذا أشد تأثيرًا من حراب جنودنا ومواقعنا العسكرية. أجل، إن لتلك الحراب والمواقع تأثيرًا لا ينكر وأنا خبير به، ولولا الجهود التي بذلتها جنودنا ولا تزال تبذلها لما كنا باقين في تلك الديار، فالفضل للجنود الفرنسويين في إيجاد النظام والأمن في هاتيك الربوع ولم يكونا فيها، وفي إقامة سور حولها يجعل السلام مرفوع اللواء في جميع أنحائها. وحينما تتم مهمة جنودنا لوقاية البلاد من غوائل المعتدين الذين يعيثون فيها فسادًا، وحينما تستتب فيها السكينة استتبابًا تامًّا عامًّا فلا يبقى علينا إلا مشاطرة سكان ذلك القطر ضروب الثقافة ومشاركتنا لهم في العواطف الولائية.

وكلما عاشرت الوطنيين وأطلت مُقامي بين أظهرهم زاد اعتقادي بعظمة تلك الأمة وعلو همتها. على أننا لم نجد في غير المغرب الأقصى من أقاليم شمالي أفريقيا إلا نتائج الفوضى التي كانت ضاربة أطنابها في جميع جهاتها، ووهن عزائم الحكومات. أما في المغرب الأقصى فقد وجدنا سلطنة منظمة عزَّزَتها الأسرة المالكة ولم تؤثر فيها الثورات المتوالية، ووجدنا إلى جانب تلك الهيئة الحاكمة مدنية عريقة سامية.

ولما خيم ظلنا في المغرب الأقصى قيل لنا إن هنالك آثارًا تاريخية نفيسة تدل على ماضٍ مجيد انطوت صفحته، ولم نكن نظن أن تلك الآثار باقية على روعتها ولكن وقعت أنظارنا على تحف فنية قيمة كادت يد الفناء تَخْنَى عليها إلا أن عودة الأمن والنظام إلى البلاد أحيت موات الفن المغربي، فنهض الفنانون من كل جهة ونَمُّوا بأسرار فيهم فكان لهم من وراء ذلك ما أقصى الدمار عن الفن في تلك الديار، وأسعدنا الحظ بأن نجد هناك طائفة كبيرة من العلماء الأعلام والكتَّاب البلغاء وكانوا قبلًا يقيمون معتزلين عن غيرهم.

أما السواد الأكبر من العاملين في معهد العلوم العالية المغربية فهم من أنصار اللغة العربية، وقد أقبل وجهاء الأمة وأعيانها على تعلم اللغة الفرنسوية وأصبح جمهور كبير منهم يحسنها.

وللنشء الجديد عناية خاصة بالتعلم وإقدام على إحراز المعارف، وهو يسير معنا جنبًا إلى جنب ليكون صلة بيننا وبين مواطنيه. ومع ما له من الميل إلى التعمق في البحث ومعالجة المسائل الحديثة، فلا يذهل عن المحافظة على تقاليد بلاده واستقراء تاريخها والمباهاة بعظمتها وسؤددها، وهذا يدل على أن المراكشي يستطيع أن يجعل بلاده جميلة متوافرة فيها جميع أسباب الرقي والعمران مع بقائه مراكشيًّا ومسلمًا، وعلى هذا الجيل أعوِّل في تعاوننا وفي حسن مصير البلاد.

ا.ﻫ كلام القائد الفرنسي ليوتي.

ولم يكتف الماريشال ليوتي بهذا، بل كتب في المجلة نفسها يقول عن مراكش والإسلام في يناير سنة ١٩٣٢:

إن الذين يتهمون الإسلام بأنه دين تأخر وتقهقر وجمود واستبداد مخطئون الخطأ كله، فإن اختباري الشخصي عشرات السنين قد دلني على أن الإسلام دين تقدم وحضارة وعدل وليس معارضًا بنظمه وروحه للعلوم والفنون، بل هو على العكس يحث عليها ويشجع الذين يدينون به على الحياة الراقية، والآثار التي وجدناها في شمال أفريقيا تؤيد ذلك وتثبته. ا.ﻫ. كلام ليوتي. عن مجلة «لامارش دي فرانس».

وما ألطف المقارنة بين هذه الأقوال التي كتبها مشير فرنسي مقامه أرقى من مقام وزير، وبين ما كتبه هانوتو عن الإسلام منذ ثلاثين عامًا، وقد أوردناه في هذا الكتاب نفسه! هل هو تطور الأفكار بمضي الزمن، أم اختلاف الرجلين عقلًا وإدراكًا، أم إخلاص من ليوتي ونفاق من غيره؟

استشهاد عمر المختار في طرابلس الغرب

من حوادث المؤتمر الإسلامي احتجاج إيطاليا على حكومة فلسطين لخطبة ألقاها الأستاذ عبد الرحمن عزام بشأن أسر عمر المختار وإعدامه في ١٦ سبتمبر سنة ١٩٣١.

وحقيقة الخبر أنه جاء في ذلك التاريخ نبأ تلغرافي من رومة بأن الكتيبة السابعة من الجيش الإيطالي أسرت عمر المختار وفي اليوم التالي أُعدم رميًا بالرصاص باعتباره ثائرًا بالسلاح في وجه حكم إيطاليا. والرجل كان حين أُسر وأُعدم في الثمانين من عمره، وهو زعيم المجاهدين في الجبل الأخضر ولم ينزل عن سَرْج جواده منذ سبع سنين. وكان الرجل قد لجأ إلى مصر في سنة ١٩٢٣ فوصلت إليه أخبار القسوة والوقائع الدموية التي تحدث في غيبته في طرابلس فتحركت همته فخرج طالبًا الموت في سبيل وطنه، وألف فرقة صغيرة من العرب ألحقت خسائر كبيرة بجنود الأعداء.

ومنذ سنة ١٩٢٥ عاش عمر المختار ورجاله تحت الحصار وكان عددهم ثلاثة آلاف وعدد أعدائهم عشرة أضعاف من البيض والحمر والسود، وقد بلغ الجيش المقاتل للمختار في بعض الأحيان ستين ألفًا فتغلب عليهم. وكان أشجع الرجال وأخلصهم بشهادة خصومه في صحفهم وتقريراتهم الحربية.

وقد حارب المختار عشرين عامًا من سنة ١٩١١ إلى سنة ١٩٣١، فهو أشبه الناس بالأمير عبد القادر ينقصه العَدد والعُدد، وهناك الفرق بين الدولتين الأوروبيتين المحاربتين، فإن إيطاليا لم تجد ما يكفي من المراعاة في معاملة الأسير بالإحسان والمجاملة وهو شيخ في الثمانين لم يعمل أكثر من الدفاع عن حرية بلاده، ولو كان إيطاليًّا لشادوا بذكره ورفعوه إلى مصافِّ الأرباب كعادتهم في عبادة البشر من قديم الزمان، فقد ألَّهوا بعض القواد والإمبراطرة. وإن مأساة طرابلس تذكرنا بحروب قرطاجنة، فإن الطليان قضوْا عشرين عامًا في محاربة هذه البلاد وعدد أهلها أربعون مليونًا وأهل طرابلس لم يزيدوا على مليون ونصف مليون، وقد أفنت الحرب ثلثيهم ولم يبقَ إلا الثلث الأخير.

ولم يكتفِ الطليان بذلك بل اجتاحوا واحات السنوسية وزواياها وصادروا أموالها وشتَّتوا شمل الأطفال والنساء والشيوخ وألْقوا بالأسرى من أعلى الجو من الطيارات ورموا بعشرات منهم مقيدين بسلاسل الحديد إلى قاع البحر، وعصبة الأمم صامتة كأنها عجوز صماء بكماء، ودول أوروبا المتمدنة محافظة على الحياد وحكومات الشرق أضعف من أن تحرك ساكنًا ولو بالاحتجاج المجرد. والأعجب من ذلك أن من يحتج على هذه المظالم ولو في بلاد الشرق يُطرد ويُنفى ويُعامل معاملة المتشردين والأشرار!

ونستون تشرشل يطعن نائبًا

ألف أحد كتاب الألمان كتابًا اسمه «مهدي الله» في تاريخ أحمد محمد الدنجلاوي الذي ادَّعى المهدية في السودان وقهر الحكومتين الإنجليزية والمصرية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وطرد الجنود الأجنبية من وطنه، ومهَّد الطريق بقتل غوردون لفتح السودان على يد الإنجليز عقيب دسائس وفتن دامت ربع قرن تقريبًا ولا نزال نقاسي نتائجها المريرة.

وقد لجأ المؤلف الألماني إلى ونستون تشرشل الوزير الإنجليزي السابق فكتب لكتابه مقدمة؛ لأن تشرشل كان في حرب السودان التي انتهت بفتحه في ١٨٩٩ مكاتبًا لإحدى الجرائد الإنجليزية، وشهد عن كثب بعض حوادث السودان وطالع شئونه في نهاية عهد التعايشي خليفة المهدي، وقد ساح في أفريقيا بعد ذلك وزار السودان مرات، وكان وزيرًا للمستعمرات، وكل هذا جعل المؤرخ الألماني يظن تشرشل خبيرًا بأمور السودان واختصاصيًّا في تاريخ الفترة المهدية.

فانتهز تشرشل هذه الفرصة وطعن في محمد بن عبد الله طعنًا بذيئًا وتهجَّم على الدين الإسلامي دين السعادة والهدى، قال وناقل الكفر ليس بكافر وإنما نقلنا قوله لنفحمه بالرد عليه:

إن حياة المهدي محمد أحمد السوداني هي على العموم صورة مصغرة لحياة النبي المملوءة بغرائب الحوادث من مواقع دموية وانتصار بالسيف.

ثم أشار إلى المهدي السوداني فقال:

إنه كان في الإمكان أن ينقلب نبيًّا آخر لو لم يعتمد في حكمه على السيف ومدافع مكسيم والمذابح الدموية، مهملًا أنواع الخداع الذي امتاز به محمد.

ونحن نقول لونستون تشرشل الذي نعرفه ونعرف تاريخه هو وأباه من قبل: هل يستبيح أي رجل من وزراء الشرق أو زعمائه أو علمائه أو رجال الدين فيه لنفسه مهما كانت أخلاقه أن يتعرض لسيرة السيد المسيح عليه السلام أو سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بعبارة قارصة أو جارحة؟ وهل يعجز أي إنسان عن الطعن في هذين الرسولين والإساءة إلى سمعتيهما وتشويه حقائق تاريخهما، ولو على سبيل الانتقام للنبي محمد؟ كلا! إن هذا في مقدور كل كاتب عربي وكل مؤرخ مسلم، لا سيما بعد ما ألفه رجال الدين المسيحي ورجال الدين الإسرائيلي من كتب «النقد العالي» في الديانتين وأشرنا إليه في مكان آخر من هذا الكتاب.

ولكن كتاب المسلمين ومفكريهم أمثال شكيب أرسلان ورشيد رضا والمراغي وكرد علي والدجوي وعبد الرازق ومحمد علي والثعالبي ومحمد إقبال وسير شافعي والنشاشيبي وأحمد زكي وغيرهم عشرات من المنوَّرين والكتاب الأمجاد؛ يربئون بأدبهم ودينهم وكرامتهم وتسامحهم أن يدنسوها بالطعن في مقام عيسى ابن مريم أو موسى بن عمران أو حتى أحد القديسين أو الحاخامية، ويكفي فضلًا أن مصطفى منير أدهم المؤرخ المسلم المصري هو الذي أحيا منذ بضع سنين ذكرى موسى الميموني الذي يسميه اليهود موسى الثاني وهو طبيب وفيلسوف إسرائيلي، وكان قبل إحياء ذكره على يد المؤرخ المسلم كمية مهملة في قبو من أقبية حارة اليهود بمدينة القاهرة.

فكتابة تشرشل ضد النبي محمد في الوقت الذي يقر أساتذة تشرشل وسادته من الإنجليز خاصة والأوربيين عامة بعظمة محمد وصدقه وإخلاصه وجلال رسالته (راجع صفحات ٣٢٥ إلى ٣٣٩) من «تاريخ العالم» تأليف ج. ﻫ. ولز ولفيف من العلماء.

ليس تشرشل صادقًا في قوله ولا مخلصًا في نقده. إن من يسب محمدًا مهرج ومهوش ومأفون، وإنها لقُرحة تَنِزُّ في صدره ضد الإسلام والمسلمين، لأنه هو وأمثاله مَغِيظُون من بقاء الإسلام ثابت الأركان إلى الآن ودخول الناس في دائرته بدون دعاة ولا مرشدين ولا مبشرين كغيره من الأديان مع تكاثر المعاول المتجهة نحو هدمه ومع انشغال أهله ببعضهم بعضًا وممالأة زعانفهم لمناوئيه، وفي هذا وحده برهان على أنه دين تكفله قوة خارقة وتحوطه وقاية غير طبيعية وغير مألوفة.

إن كان تشرشل يجهل العربية فهو لا يجهل لغته ولا اللغتين الفرنسية والألمانية، وقد ألف المؤرخون في هاتيك اللغات تراجم لمحمد ثبت فيها أن أخلاقه كانت طاهرة شريفة وشهد أعداؤه الذين قاتلوه وأخرجوه من وطنه بمكارم أخلاقه. قال منني المستشرق في مقدمته لترجمة القرآن:

كان محمد أمينًا، وكان أعدل أهل وطنه، وقام بمهمة شديدة الخطورة بين قوم من المشركين يعبدون الأوثان، يدعوهم إلى التوحيد ويغرس في نفوسهم عقيدة خلود الروح. وإن رجلًا قام بهذه الأعمال لا يعد من العظماء فقط بل يستحق أن يكون نبيًّا مرسلًا. ا.ﻫ.

وقال عشرات غيره مثل هذا القول وأكثر، لا سيما نولدكه وويلهاوزن ونيكلسون وجولد زيهر وليون كايتاني وسنوك هيرجرونجه وجريمه مؤرخ النبي في كتاب «الأمة العربية». فمن يكون ونستون تشرشل ذلك المغامر المطواح الذي لا فضل له إلا في أنه ينتسب إلى أبيه راندولف تشرشل؟!

هل محمد يوصف بالخداع أيها الشخص وكل الناس تعلم أن الرجل المخادع ليس في قدرته مهما كان دهاؤه أن يؤسس دينًا يدخل الناس فيه أفواجًا بالملايين طائعين مختارين؟

ولو كان محمد مخادعًا في قليل أو كثير لَفقد ثقة أتباعه وصحابته وأنصاره، فضلًا عن أن خصومه ما كانوا ليسكتوا عن مساوئه، فما بالك إذا كان هؤلاء الخصوم أنفسهم قد شهدوا بأمانته وعفته وصدقه ومكارم أخلاقه؟

إن التاريخ لا يعرف زعيمًا دينيًّا نجح في دعوته وهو متصف بالرذائل كالخداع وغيره، وقد نجح محمد أعظم نجاح وكان أكبر الأنبياء توفيقًا، وقالت دائرة المعارف البريطانية في مطبوعاتها الأخيرة Mohamed, The most successful of prophets.

كما أنها بلا ريب إذا تنزلت وذكرت بعضهم لوصفته بأنه أخيب رجال السياسة وأشدهم سخافةً.

بقي علينا أن ندل القارئ على قصة قديمة يعرفها تشرشل معرفة جيدة، وهي أن تشرشل شهد بعض معارك السودان وشهد مع بنيت الفظائع التي اقترفها كور (راجع عدد يناير ١٨٩٨ من مجلة كونتمبوراري رڤيو بعنوان «بعد أم درمان»)، فإن الفظائع التي حرَّمتها جميع قوانين الحرب قد اقترفها (جرائد إنجلترا وفرنسا يناير وفبراير سنة ١٨٩٩، وكتاب «المركز الدولي لمصر والسودان» تأليف جول كوشري.)

وفي نهاية الأمر وبعد أن هدمت قبة ضريح المهدي ونُبش قبره ووُزِّعت أظافره على السيدات واستُعملت جمجمته محبرة للمداد في وزارة «ح» بالقاهرة لثلاثة أشهر، ثم نقلها بعد ذلك «ر» إلى لندن وأهداها إلى ابن أخت غوردون؛ قرر البرلمان الإنجليزي لأحد القواد مكافأة قدرها خمسون ألف جنيه ٧٥٠٠٠٠ فرنك بأغلبية ٣٩٣ صوتًا على ٥١. وفي تلك الجلسة احتج جون مورلي وونستون تشرشل، وقال هذا الأخير: «لقد كان المهدي نبيًّا وملكًا وقائدًا فلا تجوز إهانته ولا نبش قبره، ويعد هذا العمل وحشيًّا ومخالفًا للشرف الوطني ولأبسط قواعد الإنسانية.»

وهذه النادرة في حياة تشرشل هي التي أوحت إلى المؤلف الألماني أن يستعمله في كتابة المقدمة لتاريخ المهدي. ولو استحق المهدي دفاع تشرشل وتحمسه والذود عن حرمة قبره، فيجدر بتشرشل أن لا يتهجم على مقام النبي محمد الذي كان المهدي من أصغر أتباعه. لو أن المهدي استحق لقب الملك والقيادة والنبوة وهو لم يعمل إلا في حدود طاعة محمد والسير على قدمه، فماذا تكون مكانة محمد نفسه في نظر ذلك الذي كان يفتخر بالدفاع عن محمد أحمد السوداني الذي وصمه كثيرون من كتاب الإنجليز بالخداع والدجل والادعاء؟

الحبشة بين الماضي والحاضر

زار مصر أخيرًا سمو الأمير اصفاوصن ولي عهد الحبشة، فلقي من الإكرام والإجلال ما يستحقه ولي عهد مملكة أفريقية شقيقة لها فضل الاستقلال والتنعم بالحرية. وأذكر أن كاتب هذه الأسطر تكلم في حفلة تكريم للشيخ عبد العزيز الثعالبي في يناير سنة ١٩٣٠ في حديقة ليمونيا دعا إليها صاحب جريدة الشورى محمد علي الطاهر أفندي، فامتدح الحرية وامتدح الشعب الحبشي الذي يتمتع بالحرية مع بُعده عن قشور المدنية، وأثنى على الفقير العاري الحافي الذي ينعم بالحرية والاستقلال وفضَّله على الغني المتنعم إذا كان في وطنه أسيرًا أو تابعًا لسيد أجنبي.

وضرب مثلًا بالحبشة فاعترضه أحد الحاضرين وقال: «أنا مش وياك يا فلان … فإن الحرية ليست كل شيء دائمًا ولا تقوم مقام الثروة …» وكان المتكلم يريد أن يرد على المعترض بما يقنعه لولا أنه رأى وسمع أن جمهور الحاضرين معه فكفاه ذلك ترضية واغتباطًا، لأن غايته إقناع السامعين برأيه ولا شأن لمعترض أو اثنين أو عشرة ما دامت الفكرة مقبولة لدى الكثرة الغالبة. وفي الحق أن المعترض كان يتكلم ضد ضميره.

وأول ما سمعت عن الحبشة، عدا عما قرأته في كتاب الجغرافيا، كان في سنة ١٨٩٦ عندما تعدَّت عليها إيطاليا في وطنها، فردتها جيوش الأسد الراحل منليك النجاشي وهزمتها شر هزيمة في موقعة عدوة الشهيرة، وكانت جيوش الحبشة هزمت جيوش مصر مرات قبل ذلك ومثلت ببعض جنودنا في عهد الخديو إسماعيل. وللحبشة يد على الإسلام لا تنسى، فإن أميرها المعاصر للبعث المحمدي استقبل المهاجرين من المسلمين وأكرم وِفادتهم وأحسن معاشرتهم ولم يقبل فيهم دسائس وفد قريش الوثني وكان على رأسه عمرو بن العاص قبل إسلامه.

والأحباش شعب نبيل متدين قانع بأرضه من عهد سليمان وبلقيس ملكة سبأ إلى يومنا هذا، فإن نسب النجاشي الجديد هيلا سلاسي يمتد إلى تلك الملكة المجيدة، واللغة الحبشية من اللغات السامية المهمة وفيها مؤلفات جليلة مخطوطة، وكان ملوكها الأقدمون يحكمونها حكمًا مطلقًا، ولكن هيلا سلاسي بعد تتويجه وبعد وفاة المرحومة زوديتو (جوديت أو يهوديت) تخلى عن شطر من سلطته الواسعة وأنشأ برلمانًا على الطريقة الأوروبية وأخذ يعمل على إلغاء الرق في وطنه.

والعجيب أن الحبشة تتبع كنيستنا المرقصية، ولكننا لم نستطع الانتفاع بتلك العلاقة الروحية العظيمة لا في التجارة ولا في العلم ولا في السياسة، ويغلب على ظني أن اللوم في ذلك على السياسة الاستعمارية التي تحوط الحبشة بسياج من حديد، فهناك فرنسا في جيبوتي وإيطاليا في الصومال وإنجلترا في السودان.

ولا يزال نظام الأمومة (تقديس الأم والمرأة) سائدًا في بعض القبائل (الأماراسي) فيقسمون بفراش الزوجة وسرير الأم، ويعدونه رمز القداسة والشرف. وهذا دليل على بقائهم في أحد أطوار الفطرة الأولى.

ومهما تكن حالة الحبشة من التقهقر أو الفقر أو الجهل فإنها في نظرنا في مصافِّ دول الدرجة الأولى، لأنها تمكنت من درء الاستعمار وصده وقد كاد يلتهمها، وهو يحيط بها إحاطة السوار بالمعصم، لو لم تشتر استقلالها بالحديد والنار والدم. وكادت الحبشة تقع فريسة للاستعمار البرتغالي لولا مسيحيتها، فإن البرتغاليين احترموا نصرانية الحبشة وساعدوها في حروبها ضد بعض المسلمين الذين ما كان لهم أن يُشهروا في وجه الأحباش سيفًا إن صحت قضية التجاء المهاجرين إليهم في صحبة عبد الرحمن بن عوف والزبير وعثمان وجعفر.

وقد ألف كاتب فرنسي كتابًا مهمًّا عن الحبشة في أثناء الحرب العظمى كشف به القناع عن مسألة تاريخية عويصة تتلخص في أن الرأس ميخائيل المتوفى، الذي كان مسلمًا وتنصر وصاهر النجاشي منليك فرُزق من ابنته بالرأس ياسو، كان يُخفي ويُضمر إسلامه ويُظهر مسيحيته، وقد أقنع النجاشي المتوفى بولاية عهد ياسو فانقاد له وأمر مطران الحبشة السابق بأخذ العهد على الأمراء والرءوس بذلك وأقسم رجال الكنيسة والبلاط بالوفاء لياسو، ومات منليك وهو يعتقد أن حفيده سيخلفه وقد خلفه فعلًا لبضعة أشهر، ولكن دسائس أوروبا عملت عملها في الحبشة وانقسمت الحبشة فريقين: فريقًا مع الحلفاء ومنهم الرأس ماكونين والد الرأس تفري (هيلا سلاسي)، وفريقًا مع الألمان ومنهم ياسو. فأذاع خصوم ياسو أنه كان يلبس عمامة كُتب على لفائفها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنه صلى صلاة العيد مع الأتراك على حدود الحبشة، وأنه كان ينوي قلب نظام المملكة وتغيير دينها.

ثم حدثت حروب دامية ومواقع، وحارب الرأس ميخائيل لنصرة ولده ياسو ثم مات ووقع ياسو أسيرًا وقيل إنه في أحد السجون أو القلاع، ولم يُعلم من أمره شيء بعد وفاة زوديتو وتتويج الإمبراطور.

ونحن نحبذ تقوية الصلات بين مصر وبين الحبشة، وندعو إلى السياحة في تلك البلاد والتطوع لتعليم شبانها والتأليف بين قلوب أهليها وأهل مصر، لأن الحبشة قوة أفريقية لا يُستهان بها وسوف يكون لها بعد البرلمان وعتق الرقيق شأن آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤