الفصل السادس والعشرون

الحلف العربي قديمًا وحديثًا

جراثيم الحلف العربي

إن إشاعة الحلف العربي جددت في الأذهان المسألة العربية بحذافيرها، فقد جاء إلى مصر نوري السعيد باشا رئيس وزراء العراق وأقام بها أيامًا، ثم سافر إلى الحجاز ولقي ابن سعود وتعاهدا على أمورٍ عامة لا علاقة لها بالحلف بعضها خاص بحسن الجوار وبعضها بتسليم المجرمين، حتى إن الجريدة العربية التي نشرت أول أخبار الحلف وحضَّت عليه قالت في أحد أعدادها: «لا حلف ولا بلوط!» وقد رأينا بشأن هذا الحلف في عام ١٩٣١ أمورًا تَلْفت النظر، أولها نشر مقالات بقلم أمير البيان و«كاتب الدهر» شكيب أرسلان تحبذ الحلف وتدعو إليه وقد حللناها في غير هذا المكان. وقد التقينا ببعض الثقات من رجال السياسة العربية الذين لهم اطِّلاع على خفايا الأمور في العالم الإسلامي وما تلعبه إنجلترا من أدوار السياسة الاستعمارية، فأنبئونا بأن هذا الحلف العربي أُحْبُولة إنجليزية ويرجع عهده إلى أربع أو خمس سنين، وأن الغاية منه وضع نطاق حول جزيرة العرب وحماية النفط وإخضاع العراق وتأمين طريق الهند وإعداد متاريس ضد سياسة إيطاليا في الجنوب وروسيا في الشرق.

وقد حدثت في تلك الفترة نفسها حركة قوية في المعارضة ببغداد، فاستقال بضعة نفر من النواب بقيادة ياسين باشا الهاشمي وانضم عددٌ كبير من المعارضين لحزب الإخاء، ولجأت حكومة العراق للعنف وتقييد حرية الصحف، وقد عمل نوري باشا بشدة وصرامة عمل الرجل الحكومي الذي يعضده جلالة الملك والانتداب.

ومن هذا تبين أن الإنجليز يقصدون إلى تنفيذ المعاهدة ونصرة سياستهم.

وقامت قيامة الصحافة العربية ضد مشروع الحلف العربي في أنحاء الشرق، وفي العراق نفسه كتب سياسي خبير ضد الحلف وانتقد الأمير شكيب، وعجب من تحوله عن خطته التي سلكها منذ بضع سنين ضد الاستعمار تحولًا لا مبرر له وليس ما يدعو إليه، واستشهد في تأييد رأيه ببعض أحوال السيد ساطع الحصري مدير المعارف العراقية سابقًا وأحد المقربين من جهة عليا وسياحته الأخيرة إلى القسطنطينية واتصاله اتصالًا مباشرًا ببعض المحبذين لفكرة الحلف. وقد دل ما كتبه المنتقد على شدة الحال في العراق، وتصميم إنجلترا على تنفيذ المعاهدة، وإنهاء مسألة النفط، والاتفاق عليها مع الفرنسويين، وأن الدعوة للحلف ليست إلا جزءًا من تنفيذ سياسة الزيت الموصلي.

وقد دلت حالة الاستعمار في العراق ومصر والهند وسوريا وفلسطين وشمال أفريقيا (طرابلس والبربر) على مرور موجة عنف في أذهان المستعمرين الأوروبيين، وثبت أن كل من يحبذ الحلف العربي إنما يعضد الاستعمار مباشرةً وإن كان يختفي وراء المصلحة العربية ويقول: «بكينا حتى عمينا في سبيل الحلف العربي.»

وقد بقيت مسألة الحلف وتاريخه في غموض إلى أن حاول بعضهم كشف القناع عن حقيقتها، فرُوي أنه في سنة ١٩٢٢ كان إحسان الجابري وموسى كاظم الحسيني وأمين التميمي وناجي الأصيل وجعفر العسكري، يمثلون فلسطين والملك حسين والعراق ونجد، اجتمعوا في لندن فقرروا فيما بينهم ومن تلقاء أنفسهم أن يسعوا في تقريب الأمم العربية وأقسموا يمينًا على توحيد العرب وإقناع الملوك. قال مراسل جريدة الفتح من باريس ص٤ عدد ٢٤٧ عمود ٢: «إن مراسل الديلي ميل سألهم عن سبب اجتماعهم، فأخبره جعفر العسكري بكل صراحة فنشر الخبر وتناقلته الصحف وكانت له ضجة.» ا.ھ. كلام المراسل. وفي سنة ١٩٢٣ وجه شكيب أرسلان وإحسان الجابري بيانًا بليغًا يدعو إلى الوحدة العربية إلى البلاد العربية وملوكها. ويقول إحسان الجابري: «إن الإنجليز لم يبدوا رأيًا بل اعتبروا المسألة كشيءٍ بسيط، ولا يبعد أن يكون سكوتهم رضا.» وقال أيضًا: «فرنسا لا شك لا تنظر إليه بعين الرضا وكذلك إيطاليا، بل هو سيقضي على مطامع هذه في اليمن. ولا يخفاكم أن سياسة الإنجليز في الشرق كثيرًا ما رمت إلى الغدر والخيانة، فحياد الإنجليز في هذه المسألة قد أقلق بعض الناس …»

وإذن يكون الجابري قد كشف القناع ورفع الستار عن ذلك المشروع الخفي، فإن اجتماع هؤلاء الأشخاص في لندن، وهي عاصمة الإمبراطورية، وفيهم أشخاص مشهورون بخدمة الإنجليز شهرة واسعة، واقتراحهم هذه الفكرة بغير داعٍ أو مناسبة، ومبادرتهم إلى إذاعتها على لسان الديلي ميل وهي جريدة استعمارية، مع أن المشروع نفسه لو كان منطويًا على الإخلاص كان أحرى بالكتمان لا سيما في عاصمة إنجلترا التي اشتُهرت سياستها في الشرق بالغدر، مع علم هؤلاء المجتمعين الفضوليين أن فرنسا وإيطاليا تنظران إلى الحلف بعين السخط وأنهما بالمرصاد لمن يحاوله أو يدعو إليه، أضف إلى ذلك سكوت إنجلترا عنه وتفسير سكوتها بالرضا تارة وطورًا بأنه شيء بسيط في نظرها، وتسليم الجابري بأن قلق الناس من خبر الحلف في محله، لأنهم يوجسون خيفةً من سياسة إنجلترا في الشرق؛ كل هذه الأسباب تدعو إلى الجزم بأن الحلف العربي دسيسة إنجليزية قد استخدم بعض رجال الشرق في الدعوة إليها وهم يعلمون ولعلهم مأجورون، وبعضهم بحسن نية وجهالة وهؤلاء معذورون ولكنهم ملومون لاشتغالهم بالسياسة وهم فيها أصغر من الأطفال والرُّضعان.

أما انفراد الجابري وشكيب بعد ذلك بالدعوة للحلف وافتخار الجابري بأنه كان أول من دعا إليه مع رفقائه فتفسيره ظاهر، وأقل ما يقال فيه إن الجابري قد يعتذر بأن الحلف يقلق فرنسا ويرضي الإنجليز، وأن شكيبًا يرى في ممالأة إنجلترا أو ألمانيا ما يعلله ﺑ «التوازن الدولي» بالنظر إلى معاداته لفرنسا.

وهذا لون من المعقولية التركية التي كانت تسود السياسة الشرقية العربية في القرن التاسع عشر، ولكن هذا التوازن الدولي سوف ينتهي بضياع جزيرة العرب وإخضاع العراق والقضاء على الإمام يحيى، وهو الملك المستقل الوحيد في جزيرة العرب. وإذا كان شكيب أو غير شكيب بكى حتى عمي على الحلف العربي قبل الحرب والدول العربية قوية وشعوبها مستقلة وآمنة وقادرة على العمل السياسي المطمئن ومع هذا كله فلم يتم الحلف، فكيف يؤمل له تمامًا الآن وكل بلاد العرب واقعة تحت السيطرة الأجنبية سواءً بالانتداب أو الاستعمار أو الحكم المباشر؟ وهل الإنجليز غفلوا وعموا وجهلوا حتى يتركوا العرب يتحالفون فيما بينهم إن لم يكن هذا الحلف ثمرة تفكيرهم وأداة يعدونها لمصلحتهم ومحاربة خصومهم ولهم فيه مآرب أخرى؟

يجب أن نكون حمقى أو سكارى أو دائخين أو مخدَّرين حتى نصدق هذه الأسطورة أو نتسامح في ذكرها دون تفنيدها. ولا يدهشنا إلا ذكر ملوك العرب وحثهم على العمل للحلف، فمن هم هؤلاء الملوك؟ يقولون إنهم ثلاثة يحيى وفيصل وابن سعود، ونحن نعلم مكانة كل منهم في بلاده وأحواله الخاصة والعامة فلا نقابل دعوة الداعي إلا بالدهشة والتعجب.

الحلف العربي فكرة استعمارية

الحلف العربي إذن حيلة سياسية استعمارية، لا يرجع عهدها إلى ١٩٢٣ كما يدَّعي الجابري أو إلى عمق تفكيره هو وصحبه ولكنها ترجع إلى أعمال الإنجليز في عهد عبد الحميد، فقد أرشدهم إليها بعض خصومه من علماء المسلمين الذين عرفوا حديث الخلافة والإمامة وعرفوا خوف عبد الحميد من مناهضة خصومه باسم الخلافة العربية، ففكروا فيها كإحدى الوسائل لهدم الدولة العثمانية، ونشروا الصحف في إنجلترا لتعضيدها مثل جريدة النحلة التي نُشرت في لندن ونُسبت إلى سلطان زنجبار وجريدة البشير وشفق، وألف بعض الإنجليز فيها بحسن نية مثل كتاب «مستقبل الإسلام» لبلنت. وما زالت تلك الفكرة تدور بين زعماء العرب وساسة الإنجليز حتى الحرب العظمى فاستهوَوْا بها الملوك وخدروهم حتى استنصروهم على الأتراك ثم أخذوا بلادهم وأعطوْا بعضهم وظائف ملوك وأمراء ووزراء، وهم اليوم يتناولونها من جديد ويُلبسونها ثوب النهضة للدفاع عن بَيْضَة الإسلام وحَوْزَة العرب وما هي لعمرك إلا عدو قديم بوجهٍ جديد! ويكفي النظر في سياسة إنجلترا في الشرق العربي لنرى أنها ليست بغافلة وليست بجاهلة ولا متساهلة في شعوبه.

فماذا هي فاعلة في العراق؟

إنها تجدد المعاهدات وتَكِيل الوعود كيلًا وذلك منذ سنة ١٩٢٢ إلى يومنا هذا، أي حوالي عشر سنوات وإنجلترا تعلم أن في العراق ماءً كثيرًا وأرضًا خصيبة وأن به زيتًا ونفطًا ومعادن كثيرة.

ولكنها تشل العمل بمسلكها السياسي وتترك تلك البلاد الغنية في قلقٍ دائم وهي تنظر مطمئنة إلى النزاع الدائم بين خصومها وأصدقائها وقد تمكنت العداوة من قلوبهم، وقد تحيا القوة المستعمرة بين الفريقين آمنة مطمئنة إلى حين ولكن هذا لا يكون إلى الأبد، فإن للسيادة بالتفريق أجلًا ولكل أجلٍ كتاب.

والإنجليز في العراق العربي يضنون بالتعليم الحر ويأبون أن يبيحوا منهاجًا للتعليم يشبه مناهجهم في مدارسهم، لأنهم يخشون ظهور الروح الوطني الذي يتغلب على التعصب الديني والنزاع الحزبي فيتحد ضدهم الشيعي والسني وتكون العراق كتلة واحدة لمحاربة الاستعمار، ولكن هذا الخوف لا يمنع علمهم بأن في شمال العراق وشرقه مقاطعات عظيمة تزداد قوتها يومًا بعد يوم، لأن مئات من شباب هذه البلاد يَرِدُون مناهل العلم في جامعات أوروبا وأمريكا ومصر وقد عرفنا منهم لفيفًا من أرقى الشباب.

الاستعمار اليوم لا يخدم سياسة الدول الأوروبية فقط، بل يخدم مصالح أرباب رءوس الأموال في لندن وباريس. وهؤلاء «الأقوياء بالمال» وسدنة «مولوخ» أو «بعل» يفضلون مصلحتهم المادية على حياة الشعوب نفسها، وتراهم ينكرون المصلحة العامة ويحاربونها ليملئوا خزائنهم بالذهب. وحيثما يوجد نزاع بين المال والوطن ترى سياسة المال هي الفائزة، بل رأينا الحرب العظمى نفسها تشتعل تحقيقًا لرغبة «الأقوياء بالمال»، وكل الذين ذهبوا ضحيتها بالقتل أو الجرح أو الاختناق أو الجنون لم يذهبوا ضحية الوطن والدفاع عن الشرف، إنما ذهبوا ضحية الأقوياء بالمال وسدنة «مولوخ» أو «بعل»، فالآلة الحكومية في العالمين القديم والجديد تدار الآن بقوة المال وذويه، وكل نظام الحياة الاجتماعية والحياة السياسية الحديثتين يدور على محور من ذهب.

فإذا كان الأقوياء بالمال وسدنة «مولوخ» و«بعل» سواء أكانوا من اليهود أو النصارى أو المسلمين أو غيرهم يضحون بأوطانهم وبأبناء أوطانهم وبإخوانهم في الإنسانية، ويرمون بالجميع في حَوْمَة الوغى وهي نوافذ من جهنم، ويُيَتِّمون الأطفال ويرمِّلون النساء ويخرِّبون الديار؛ كل ذلك في سبيل الحصول على المال والثروة، فهل يظن العرب أو غير العرب من الشرقيين من أي دينٍ كانوا ولأية ملة انتسبوا أن هؤلاء الطغاة يرعون في حقهم إلًّا أو ذمة؟ بل الأمر بالعكس، لأن هؤلاء الأوروبيين يعتقدون الشرقيين من طينة أحط من طينتهم، ولعلهم يعتبرونهم مخلوقين بغير نفوسٍ ناطقة أو أرواحٍ حساسة، وهذا الأمر مشاهد في يومنا هذا في سائر أنحاء الشرق العربي.

وقد لجأ شباب تلك الأوطان إلى التعليم لأنه المنفذ الوحيد والمنقذ الوحيد من هذا البلاء، وسواد هؤلاء الطلاب الذي يقصدون إلى العلم في أوروبا وأمريكا مسلمون والمسلمون هم في كل قطر عربي حَمَلة لواء النهضة وركنها الركين؛ لأن في العالم الإسلامي اليوم ميلًا عظيمًا للعلم خصوصًا العلم الفني، وهم يَعْشَمون أن يكون هذا العلم أمضى سلاح يُشهر في وجه السيطرة الأجنبية (من خطبة أمين الريحاني في المعهد الملكي للشئون الدولية في لندن، ١٢ تشرين الثاني سنة ١٩٢٨).

فالعراق محتاجة للتعليم والري، ولكنها محتاجة للاستقلال قبل كل شيء.

وسوريا تاريخها منذ ثورتها العظمى كتاريخ العراق بعد ثورته وكتاريخ مصر بعد ثورتها، تلك الأمم ثارت وحاربت جهد طاقتها والدول المستعمِرة استعملت معها خطة واحدة فهي أبدًا تتردد بين اللين والشدة، وتعطي الوعود ثم تخلفها، وتعرض المعاهدات ثم تسحبها، وتارة تبيح الحياة البرلمانية وطورًا تحرمها، فالبلاد في قلقٍ دائم. وما حدث في تلك البلاد بصفة مكبَّرة تراه يحدث في فلسطين على صورة مصغرة، وترى العارفين يخشون فيها الثورة لأن اليهود يأكلون اللباب ويتركون القشور للعربي.

وإن ما حدث في فلسطين لَيُعدُّ من أغرب حوادث التاريخ حقًّا، فإن العلاقة بين اليهود والمسلمين عامة والعرب خاصة كانت دائمة حسنة، ولا ينكر اليهود أن المسلمين وحدهم هم الذين أنقذوهم من تعصب النصارى سواء أكان في العصور القديمة أم الحديثة وسواء أكان في بغداد والأندلس لعهد الخلفاء أم في تركيا والشرق في العهد الحديث. ولم يكن أحد يظن أن اليهود يفقدون رشدهم ويفقدون ذاكرتهم وينسون قرابة الدم وأواصر النسب السامي في سبيل نهب أرض فلسطين وإحياء فكرة عقيمة وهي فكرة الوطن القومي التي سوَّدت صحيفة أرثور بلفور الذي قضى حياته وهو يدَّعي أنه فيلسوف وأنه حر الفكر. وهكذا حيث كان يصح أن يوجد الإخاء والتسامح وحسن الضيافة والإكرام وُجِدت البغضاء والأحقاد والعداوة التي لا تزول إلا إذا حُققت أماني أهل فلسطين العرب وقُضي على وعد بلفور التعس وأُعيدت إلى العرب من مسلمين ومسيحيين حقوقهم الوطنية.

أما شرق الأردن فقد وصف الحياة فيها وصفًا دقيقًا مؤلف «عامان في عَمَّان»، وقال سياسي آخر: «إن القيود الثقيلة التي ينوء بأثقالها الأمير عبد الله لا تشرِّف الإنجليز كثيرًا ولا قليلًا، فإن المجرمين في سجون إنجلترا ينالون من العطف والرحمة والعدل أكثر مما يناله أهل شرق الأردن في وطنهم.»

وإن الإمام يحيى وإن كان مستقلًّا إلا أنهم قد سلبوا منه العسير أخيرًا، وهاجموه بطياراتهم الحربية منذ سنتين في حملة جوية تأديبية (؟!) وملئوا المنطقة المحيطة بعدن وبحدود اليمن الجنوبية بإمارات وسلطنات عجيبة، فكل شيخ قبيلة في تلك الجهات مهما قل عدد رجاله يتعاهد مع الإنجليز ويُربط له مرتب شهري من أربعين روبية فما فوق، وتُعقد بينه وبين حكومة إنجلترا معاهدة سلم ودفاع وهجوم، ويُطلق عليه اسم السلطان فلان. وكل هذا المجهود الشاذ جُعل لخلق مقاطعات وهمية بين عدن واليمن ظاهره تأديب القبائل وباطنه الإضعاف من شأن الإمام يحيى المستقل. وكل هؤلاء السلاطين أشخاص ضعفاء لا تزيد مكانتهم عن مشيخة القبائل يتلقون الأوامر من حاكم عدن ويقبضون المرتب من خزينته ولا يستطيعون أن يمدوا الإنجليز بالقوة عندما يحتاجونها، أما الملوك الأقوياء الثلاثة يحيى وابن سعود وفيصل فقد فكر الإنجليز في ربطهم بالحلف العربي.

الوفد العراقي في اليمن

ولم نر دولة مهتمة للحلف العربي إلا العراق، ولم نجد كاتبًا مشتغلًا بالحلف العربي إلا الأمير شكيب أرسلان. وطبيعي أن الحلف معناه ائتلاف جملة ممالك وقد ذكرت على سبيل التعيين، وهي العراق والحجاز واليمن، وقالوا إنها نواة للعمل في المستقبل وإنها خميرة الحلف … إلى آخر ما قالوا.

وقد رأينا فعلًا وفدًا عراقيًّا مكونًا من نوري السعيد باشا وطه الهاشمي يسرع إلى مصر والحجاز واليمن، وقد قصد النوري باشا بلاد الحجاز وأوفد طه إلى اليمن، وقالوا إن طه محبوب في تلك البلاد ومعروف للإمام يحيى، وقد جاءت الأخبار من اليمن بأن الإمام لم يستقبل الوفد استقبالًا رسميًّا ولم يشعر أحد من أهل اليمن بمجيئهم إلا بعد أن رأوهم في الطرق يلبسون السدارة العراقية التي هي أشبه بقبعات البلغار والبشنق ولا تقي الرأس شمسًا ولا مطرًا، بل تمتص الحرارة فيحمى وطيسها على الرأس وهي أسرع إلى التلف من غيرها من أغطية الرأس، ولا تفضُل الطربوش ولا العمامة في شيء وتكسب وجه لابسها شكلًا منفرًا وتلقي عليه ظلًّا من سواد وكأنها في مجموعها غراب أسحم جاثم على جبين لابسها. أقول رأى أهل صنعاء هذا الوفد فتساءلوا عنهم وعرفوا غايتهم. ولكن الإمام الذي لا يقابل أحدًا في العيد إلا بعد عشرة أيام لم يلقهم أو أنه لقيهم ولم يدرك غايتهم من الحلف، ولم يقطع معهم قولًا لأنه حريص، طويل الأناة، يفضل الصبر والتأمل الطويل على التسرع والعجلة، ولا يبِتُّ في أمرٍ حتى يدرسه ويفحصه من جميع ناحياته. وهو مثلنا لا يفهم ما هو الحلف العربي، ولا ما هو المقصود به، وبعبارةٍ أخرى لعل الإمام جعل أذنًا من طين وأخرى من عجين، ولا توجد أذن أشد صَمَمًا من تلك التي لا تريد أن تسمع. فاليمن إذن بعيدة عن فكرة الحلف، ولا بأس من احترام فكرته وتحبيذها والترحيب به إن وجد، ولكن الحلف لم يوجد ولا يُعرف كنهه ولا ماهيته ولا الغاية المقصودة منه. فجواب الإمام على الدعوة إليه كجواب أسلوب الحكيم، لا سيما وأنه علم أن حكومة العراق تعاقدت مع الحكومة المصرية على تسليم المجرمين وحسن التفاهم وتبادل المودة الدولية ولم تزيدا، فلا بأس إن اتفق على ذلك هو أيضًا.

بقي ملك الحجاز ابن سعود، فإنه إلى ٢٦ مايو سنة ١٩٣١ أي بعد حضور نوري السعيد باشا إلى مصر والحجاز وعودته من الحجاز إلى العراق بأسابيع وهي تلك العودة التي ختم بها رحلة الحلف العربي؛ صرح في حديث لمحمد شفيق مصطفى قائلًا: «إنني أحب من صميم قلبي أن يكون المسلمون عامةً والعرب خاصةً متفقين متحدين، على شريطة أن يكون رائدهم في العمل للمصلحة العامة الصدق والإخلاص. أما مشروع الحلف العربي فلم يحادثني فيه أحد للآن، ولم أعرف عنه سوى ما أطلع عليه مسطرًا في بعض الصحف. ا.ھ. كلام ملك الحجاز.

على أنه لم يكد ينتشر نبأ ذلك الحلف في الصحف الشرقية حتى انبرت اللادي دراموند هاي، وهي كاتبة إنجليزية القلم سورية الأصل والنشأة، لها علاقات واسعة برجال الاستعمار وصدور رجال الصحافة السكسونية مفتوحة لها؛ فنشرت في مجلة سفير الإنجليزية مقالًا عن الحلف العربي قالت فيه: «إن الفكرة التي أخذت تختمر في أدمغة العرب هي إنشاء حلف عربي للتعاون (؟) وستكون العراق وشرق الأردن وبلاد العرب نواة لحلفٍ عربي أكبر تتبعه دعاية في بلدان شمالي أفريقيا ترمي إلى اتحاد الأجناس العربية هناك، وآخر ما ينتظر أن تنضم مصر إلى هذا الحلف وعند ذلك يمتد من الخليج الفارسي إلى طنجة.»

«وتعد مدينة القاهرة في نظر المسلمين المحور الفكري للعالم الإسلامي، ولما كانت تقع في مركز وسط فإنهم يتطلعون إليها كعاصمة لدول الحلف العربي، ومصر آخر من ينضم إلى مثل هذا الاتحاد، ولكن هل يتحقق هذا الحلم اللذيذ في أدمغة العرب؟»

طبعًا إن هذا ملخص وجيز جدًّا لمقال اللادي دراموند، ولكنه مشتمل على لب الموضوع. والغاية المقصودة منه في الوقت الذي تنشر فيه الدعوة في الشرق، يراد الإيهام في الشرق نفسه عن طريق مجلة إنجليزية بأن الفكرة تختمر في أدمغة العرب، أي إنها ليست آتية من الخارج، وبطبيعة الحال ترى القارئ الإنجليزي المطَّلِع يعلم خفايا الأمر، كما أن القارئ العامي الإنجليزي لا يهم أمره.

وقد كانت فكرة الدعاية هنا أوضح وأكثر دهاءً، لأن الكاتبة لم تقصر الحلف على ابن سعود وفيصل بل قالت إنه سيكون نواة يضم الأجناس العربية من طنجة إلى فارس، وإن مصر ستكون تاجًا لهذا الحلف في النهاية.

ووصفت اللادي هذا المشروع بأنه حلمٌ لذيذ، وجعلت الغاية البعيدة فدًى للغاية القريبة، حتى لا يعترض أحد على حلف العراق والحجاز الذي له غاية مباشرة.

ولم تتردد جريدة عربية بعد ذلك ببضعة أيام في نشر النبذة الآتية:

ألم نقل لكم إن المسألة ما كانت جدية قط، وإن نوري باشا السعيد يريد المتاجرة لوزارته بهذه الضجة، وإن الإنجليز يريدون تسخير ملوك العرب لصيانة الخط الحديدي الاستعماري المهول الذي سيمتد من حيفا إلى خليج فارس.

على أن هذا الحلف العربي الذي قامت حوله الضجة في هذه الأيام (فبراير ومارس سنة ١٩٣١) ليس وليد اليوم، بل إن صحف فارس تقول إنه يذاع خبره وينشر له من سنة ١٩٢٦، وروى لنا أحد الثقات في أمور الشرقين الأدنى والوسط أنه يعلم خبره من ست سنين، وأنه فكرة إنجليزية محضة، غايتها الاستيلاء التام على جزيرة العرب، لأنها مركز المواصلات بين العراق والهند ومصر وفلسطين. وبالجملة يعد الاستيلاء عليها بمثابة القضاء الأخير على قوة الإسلام في العالم. وقد رأينا الحلفاء بعد الحرب يهاجمون تركيا في الأناضول، فلما فشلوا انقلبوا يهاجمون القوة الباقية للعرب في الجزيرة.

والحلف العربي الصحيح لا يكون إلا بجلاء الإنجليز عن تلك البلاد وترك شئونها لأهلها يتحالفون أو يتخاصمون، أما عقد حلف في حضورهم وتحت سمعهم وبصرهم فهذه خرافة لم تأتِ بمثلها مجاميع المتيولوجيا في العالمين القديم والحديث.

حقيقة رأينا في الأمير شكيب أرسلان

إن عطوفة الأمير شكيب أرسلان كاتب الشرق الأكبر وعالم العربية الأوحد من أعظم خدام المسألة الشرقية، وهو منذ أربعين عامًا يعمل دائبًا في خدمة الإسلام والعرب والشرق لا يني ولا يرقد، وله في كل وادٍ أثر، وفي كل دولةٍ خبر، وقد طاف أنحاء العالم ينشر الدعوة الصالحة ويدعو قومه إلى النهوض والكفاح، وكأنه لشدة غيرته وكثرة ما يَنشر ويؤلف ويدوِّن عصبة مباركة، فبينا هو في أمريكا يدافع عن مسألة سوريا تراه في الحجاز يؤدي الفريضة المقدسة، ولا تلبث أن نقرأ خبر رحلته في الحجاز، فإذا هو يطوف أنحاء الأندلس باحثًا منقبًا في آثار الجدود، ليعلي شأن العرب وليخلد بقلمه الرائع صحائف مجدهم، وقد كانت له وقفات نذكرها في كل نهضة وفي كل عملٍ جليل. ولم يتهجم على الشرق والإسلام والعربية متهجم إلا وكان له الأمير بالمرصاد يرد كيده في نحره ويقفه عند حده ويدفع حجته بحجة ناصعة هي الحق المبين والصدق الذي لا يأتيه الباطل من شمالٍ أو يمين. وهو الآن راضٍ بالنفي في أقطار أوروبا بعيدًا عن وطنه العزيز حيث ينشر المجلات باللغة الفرنسية لينفي عن الإسلام بعض تلك التهم التي يوجهها إليه خصومه الأغيار وأعداؤه الألداء.

هذا رأينا في الأمير وفي جهاده، ونحن مهما أوتينا من قوةٍ في البيان وبلاغةٍ في الوصف وانطباع على عرفان الجميل وغريزة لإذاعة فضل الفضلاء لا نملك أن نفي هذا الرجل العظيم حقه من الثناء، فإنه أكبر أركان النهضة الشرقية ومن أعظم أبطال الحياة القومية في الشرق والإسلام والعرب، وليس هو وحده المهاجر المضحي بل مثله شقيقه الأمير عادل.

وهذا هو الذي دعانا إلى تقدير رأيه والنظر في كل ما يقع لنا من كتبه ومباحثه.

وها هو اليوم ينادي بالحلف العربي، وقد نشر فكرته هذه في صدر جريدة الشورى التي صدرت في القاهرة في العدد المؤرخ في ١١ مارس سنة ١٩٣١، والمقال غريب في بابه ونادرة من نوادر القلم، فإن الأمير يستهله بقوله: «بكينا حتى عمينا على أن نرى تحقيق مشروع الحلف العربي! وأجمعنا كلنا على أنه لا حياة للعرب في هذا العصر وما يليه إلا به، لأنه الوسيلة الوحيدة لصد الاستعمار الذي أنشب براثنه بقسمٍ من بلداننا وهو يتهدد القسم الباقي منها، فإذا أنشب براثنه بجزيرة العرب كما أنشبها بسورية والعراق وفلسطين والكويت والبحرين وعمان وحضرموت وعدن لم يبق عربي على وجه البسيطة حرًّا.»

يظهر من هذه المقدمة أن الأمير كان يتحرق هو وإخوانه على تحقيق الحلف العربي بين أمراء الجزيرة وملوكها، وقد أشرنا إلى فشل المساعي التي بذلها أصدقاء ابن سعود والإمام يحيى لإيجاد هذا الحلف في الجزيرة نفسها.

ولكن الحلف الذي يشير إليه الأمير في مقاله والذي يشغل الأفكار الآن ١٩٣١ إنما هو بين الملك فيصل وبين ابن سعود، لأن إنجلترا تقصد مد سكة حديدية من العراق إلى فلسطين، وأنه لا بد لها حتى يكون الخط مستقيمًا ولا يدور دورة طويلة من المرور بأرض الجوف ووادي السرحان التابعة لابن سعود.

وكان الأمير شكيب نفسه قد كتب في سنة ١٩١٧ مقالات عندما كان في برلين وكانت الحرب دائرة رحاها مشتطة لظاها، وحذر المسلمين والعرب من خنق الإنجليز لجزيرة العرب عندما كان الكثيرون يرون أن كل من ناصب إنجلترا العداء فهو خائن للعرب وأن انتصار إنجلترا هو نجاح لقضية العرب (والأمير يشير بذلك إلى الفترة التي كان فيها العرب مستغرقين في محبة الإنجليز وتصديق وعودهم، والإنجليز من ورائهم يعقدون المعاهدات السرية لتقسيم أوطانهم وأوطان سواهم).

وكتب الأمير في سنة ١٩٢٦ عندما طرد الإنجليز مجاهدي سورية من الأزرق فلجئوا إلى أرض ابن سعود فقال تلك الجملة التي كادت تسير مثلًا: «العرب أصبحوا غرباء حتى في بواديهم.»

وقال الأمير نفسه عن هذا الخط الحديدي إنه مهما يكن من منافعه المادية فالقيد إذا كان من ذهب لا يخرج عن كونه قيدًا، وحبل المشنقة إذا كان من حرير لا يخفف منه شنقًا. وقال: إن خطًّا كهذا إذا امتد فلا بد من أن يكون عربيًّا بحتًا لا إنجليزيًّا. وقد حذر من الرضا بهذا الخط الإنجليزي في الكتابات الخاصة والعامة.

هذه هي خطة الأمير شكيب — حفظه الله للإسلام ذخرًا — منذ سنة ١٩١٧ إلى سنة ١٩٢٦، فما الذي استجد؟

إنه عندما ذاع خبر الحلف العربي، صاح الكثيرون من المشتغلين بشئون العرب وممن لا علاقة لهم بالمراجع الرسمية:

لا، لا، إياكم وهذا الأمر فإنه دسيسة إنجليزية.

والآن يدافع الأمير شكيب عن الحلف وينفي كونه دسيسة إنجليزية، قال:

قالوا إن الحلف دسيسة إنجليزية؛ لأن المقترح له هو الملك فيصل بن الحسين ووزيره نوري السعيد، وكل منهما لا يقول إلا ما تقوله له إنجلترا كما تقول اﻟﺒﺒ … (السطر ١٩، العمود الأول من جريدة الشورى، العدد ٣١٥)، وإنجلترا إذا اقترحت حلفًا بين ملوك العرب فلا بد من أن يكون دسيسة، فاقتراح ملك العراق ووزير العراق هو بلا مراء دسيسة إنجليزية

وهل من المعقول أن إنجلترا تعمل لتقوية العرب؟ فلا جَرَمَ أنه لو لم يكن شَرَكًا للعرب لم ترضَ به إنجلترا. ويقولون: نعم هذا الحلف العربي لم يكن اقتراح الملك فيصل إياه إلا بناءً على إشارة إنجلترا التي تريد به تأمين المواصلات البريطانية. كما أنه سيلقى عند الملك ابن سعود قبولًا بواسطة أن فيلبي هو في جدة — والآن صار في مكة — سيحمل الملك على قبوله! أفليس فيلبي هو الذي يدير اليوم دفة الحجاز ونجد؟

لقد كنا نسمع أن فيلبي يفعل ما يشاء في الحجاز ولا نصدق، فالآن قد أثبت العيان ما طيره السماع.

هذه حجج خصوم الحلف قد لخصها الأمير في مقاله، ثم أخذ يرد عليها تارةً بلطف وطورًا بعنف يدل على شدة إخلاصه وسلامة قلبه، قال وقد اختط خطة جديدة وهي الظن بأن سياسة إنجلترا قد تكون هذه المرة في مصلحة العرب، وسلم جدلًا بأن الحلف العربي هو تنفيذ لرغبة إنجلترا ولا نريد أن نقول دسيسة إنجليزية. قال الأمير:

من أنبأكم بأن سياسة إنجلترا مبنية من أولها إلى آخرها على تفريق العرب شَذَرَ مَذَرَ؟ فالسياسة بحر لا يُدرك قعره، والسياسة كل يومٍ في شأن، والسياسة تتلون بحسب الزمان والمكان والطوارئ والعوارض، فكما أن زيادة قوة العرب خطر على إنجلترا فكذلك زيادة ضعف العرب في الجزيرة خطر على إنجلترا، فإنجلترا ليست في البحر الأحمر وحدها، وهناك دول عظيمة متحفزة للوثوب فاغرةً فاها للابتلاع تعد الطيارات بالألوف وتهيئ الجيوش والزحوف، وما تهيئ كل ذلك لمجرد الزينة بل لأجل العمل. فإن بقي العرب فيما هم عليه من تخاذل وتواكل وتفرق وشحناء فقد تقتحم هذه القوة الأجنبية عورتهم وتتولج ثغرتهم وتنزل في الجزيرة ويصعب بعد ذلك قلعها.

وحينئذٍ يرى الأمير شكيب أنه ربما كانت سياسة إنجلترا تغيرت هذه المرة، وأن الإنجليز يوعزون بالحلف لاتقاء هذا الخطر الداهم، وهذا الخطر معلوم أنه آتٍ من جهة إيطاليا كما هو معلوم ومشهور، فالإنجليز الذين لن يستطيعوا محاربة إيطاليا لأسباب دولية وسياسية واقتصادية، قد فكروا في تقوية عرب الجزيرة أنفسهم، ليكون هؤلاء العرب صدًّا للفتح الإيطالي أو غيره. وعلى ذلك يقول الأمير:

فأما إذا كان ملوك الجزيرة متحالفين فقد يجوز أن يحسب المتحفز للوثوب حسابًا، لأن الثلاثة أقوى من الواحد، ولأن الأمة العربية يومئذ تقوم كتلة واحدة في وجه المعتدي الأجنبي.

ثم أخذ الأمير يصرف العرب عن عداوة الإنجليز بلطفٍ زائد أو يهوِّن معاداتهم في الظروف الحاضرة، فقال:

لا تنظروا العدو من جهةٍ واحدة وتقولوا هو من هنا، وجف القلم، فقد يكون العدو من جهتين، وقد يكون أحدهما وهو الجوعان (أي إيطاليا) أشد خطرًا من الآخر وهو الشبعان (يعني إنجلترا)!

فالإنجليز لا يريدون قوة العرب واستفحال دولتهم حتى يصير زمام طريق الهند في أيدي العرب، ولكن الإنجليز لا يريدون أن تكون جزيرة العرب لقمة سائغة يتهافت عليها الآكل الجشع، فالموازنة بين القوى هي عماد سياسة الإنجليز.

ثم يعود الأمير فيذكِّر العرب بأخطائهم في السياسة وقِصَر نظرهم في عواقب الأمور، فقال مخاطبًا المقاومين للحلف العربي:

كذلك كنتم قبل الحرب العامة وأثناء الحرب العامة لا تنظرون العداء إلا من جهةٍ واحدة هي جهة الترك وصَمَمْتم عن كل عَذَل من جهة الإنجليز، وكان كل من حذَّركم من دسائس الإنجليز وسوء المنقلب معهم نبزْتموه بخيانة العرب وحرقتم عليه الأَرَّمَ.

وكان إذا نشر الروس البلاشفة معاهدات تقسيم البلاد العثمانية ومنها بلاد العرب بين إنجلترا وفرنسا وروسيا، قلتم هذه دسائس أتراك وألمان وهذه الأخبار لا صحة لها، أليس كذلك؟ فلما ظهر لكم غدر الإنجليز ونكثهم لما عاهدوكم عليه، ندمتم وعضضتم أناملكم وصرتم لا ترون غير الإنجليز عدوًّا وأصبحتم لا ترون الخطر إلا من جهةٍ واحدة …

ثم بدأ الأمير ينفي عن ابن سعود تهمة انصياعه لفيلبي الذي أسلم حديثًا ودخل مكة وصار ملازمًا لجلالته ولا يفارقه ليل نهار ويؤاكله ويصلي معه:

وإن تجرأ فيلبي أو غير فيلبي أن يزين له قضية تأمين المواصلات البريطانية على ظهر بلاده، فإنه يُقصيه من أرضه بحيث لا يعود إليها. ثم إنه يكذب ويفْجُر من يزعم أن فيلبي يدير دفة الحجاز ونجد، فمن زعم ذلك فهو إما جاهل يتسقَّط الأخبار من أفواه العوام أو متجاهل يحسد فيلبي على حظوته لدى الملك ويقصد السوء ببطانته لهياج الرأي العام عليهم.

وكذلك أخذ يدافع عن الملك فيصل الذي هو الطرف الثاني في الحلف المزمع، فقال:

إن لم يكن فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي القرشي المضري عربيًّا فمن العربي يا تُرى؟ أَوَليس هو الذي قال لرجال الدول في مؤتمر الصلح في باريز: يوم كنا ملوكًا لم تكن دولة من هذه الدول العظام موجودة.

وملك العراق يمد يده لمعاهدة ملك الحجاز ونجد ليؤسس وإياه الوحدة العربية التي يجب تأسيسها منذ الآن وإلا ندم جميع العرب ولَاتَ ساعةَ مَنْدَمِ!

ثم عطف الأمير على خصوم الحلف فقال:

فالذين من جهة ابن سعود قالوا إنها دسيسة إنجليزية، والذين من جهة أولاد الحسين قاموا يذكرون الثارات والأحقاد، وهناك أناس عند الإمام يحيى غرامهم في التخريب والتهريب ومنع كل وئام، والجميع ينسون ما يحدق بجزيرة العرب من خطر الاستعمار.

ويختم الأمير مقاله برأيه الصريح:

كل حلف عربي لا تكون قاعدته الاستقلال التام بكل معانيه الذي لا تشوبه أدنى شائبة للحجاز ونجد واليمن، لا يجوز أن يرضى به ابن سعود ولا الإمام يحيى.

كل حلف عربي يجب أن يسبقه الاستقلال

فأنت ترى القارئ لهذا المقال يخرج منه حائرًا، لأن رأي الأمير صريح في وجوب الاستقلال قبل الحلف، وهذا الاستقلال معدوم الآن في العراق وفي الجزيرة ما عدا اليمن، والإمام يحيى لا يدخل في الحلف ولا شأن له به، ولم يطلبه أحد منه، لأن السكة الحديدية المزمعة لا تمر ببلاده. فما هو وجه التطمين من ناحية الإنجليز بعد أن ظهرت أعمالهم في أثناء الحرب وبعدها؟ وما فائدة هذا الحلف الذي يُعقد بين أمراء واقعين تحت أَنْيَار الإنجليز واستعمارهم؟

وليس الرأي العام العربي وحده ضد هذا الحلف إنما الرأي العام الشرقي كله، فقد جاء في جريدة شفق سرخ الفارسية التي تظهر في طهران في العدد ١٧١٧ ما نصه:

لقد وُجدت فكرة مشروع الحلف العربي في جزيرة العرب منذ أربع سنين، وهذه الفكرة يقوم الإنجليز بالقسط الأوفر من تشجعيها وإخراجها إلى حيز الوجود، وقد انتهت مشكلة مد خط حديد حيفا – بغداد. ولما كان القسم الأعظم من هذا الخط وخط أنابيب بترول الموصل يمر من الأراضي الحجازية والمنطقة التي لم تهدأ يومًا من الأيام من غارات العرب البدو الوهابيين؛ اضطر الإنجليز إلى إيجاد فكرة الحلف العربي للمحافظة على هذين الخطين: خط سكة حديد بغداد – حيفا وخط أنابيب البترول من الموصل إلى حيفا، ذلك الحلف المختص بالعراق وسورية ونجد والحجاز فقط بدون أن يشمل اليمن وغيرها من بلدان الجزيرة. ولم يقصد الإنجليز من هذا الحلف الثلاثي سوى إدخال جلالة الملك ابن سعود فيه وتقييده بقيود تضطره للمحافظة على حصته من الأراضي التي يمر فيها الخطان المذكوران، وبهذه الوسيلة يتمكن الإنجليز من تأمين الطريق من تعديات الوهابيين وغارات البدو الرحَّالة.

ويظهر من سير القضية وأدوارها في الأيام الأخيرة أن الإنجليز لا يريدون أن يتظاهروا بالقضية، وإنما ألقوا التَّبِعة فيها على عاتق نوري السعيد باشا رئيس وزراء العراق، فأوعزوا إليه بتنفيذ هذه الفكرة ممهِّدين له السبل في الخفاء مع جلالة ابن سعود.

وهذا البيان صادر من إيران وليس من رجال ابن سعود ولا من رجال الإمام يحيى ولا من حاشية الملك فيصل، فما قول الأمير شكيب في ذلك؟ وهل يُعقل أن مشروعًا خطيرًا كهذا يقوم به أمراء العرب بدون رغبة الإنجليز فضلًا عن أمرهم الصريح؟ وإذا كان الغرض من الحلف ظاهرًا وهو تأمين طريق حيفا – بغداد وأنابيب زيت الموصل، فلماذا نذهب إلى الجنوب ونفترض أو نتخيل أن إنجلترا تريده في مصلحة العرب ضد استعمارٍ جديد يأتي من دولة عظمى أخرى تعد الجيوش والطيارات؟

وإذا كان المقصود إنشاء حلف عربي تام بمعنى الكلمة، فلماذا يكون بين العراق (وهي ليست من الجزيرة) وملك نجد والحجاز دون أن يكون بين جميع الأمم العربية ومنها سورية وفلسطين ومصر وشمال أفريقيا؟

هذه وجهة نظرنا، نبينها ونحن نحترم عطوفة الأمير شكيب ونجلِّه ونحبه ونثق به كل الثقة ونعتقد ونصرح أنه لم يحرك يومًا قلمه أو لسانه إلا بالصدق وفي خدمة الحق والإسلام والشرق.

ولكن حبنا للأمير وثقتنا به لا يمنعنا من مناقشة آرائه في مثل هذه المسألة الجليلة بعد أن كُشف عنها الحجاب واستبانت حقيقتها … ومتى كان الإنجليز يَصدقون في سياستهم مع الشرق الضعيف؟ وهل يصدقون مع العراق وقد وصفه الأمير بأنه:

أشبه برجلٍ ضعيف يحمل كنوزًا لا يعلم إلا الله قيمتها فهو محاط بلصوص يريدون اغتياله لا بغضًا بشخصه بل حبًّا بسلب الكنوز التي يحملها، وهذا الرجل الضعيف المنفرد إن نجا من لصٍّ وقع مع لصٍّ آخر.

ولو افترضنا صحة نظرية الأمير من أن الإنجليز يريدون تقوية العرب لصد هجمات دولة عظمى أخرى، أفلا يكون هذا إعادة لمأساة الحرب العظمى؟ فقد تقوى العرب وتعاهدوا مع إنجلترا على خراب تركيا بأمل أنهم يفوزون باستقلالهم، فكانت النتيجة أنهم خسروا وخرَّبوا تركيا وصاروا مضغةً في الأفواه، حتى الأمير نفسه يعيب عليهم هذا ويذكِّرهم به.

ألا فليعلم كل عربي وكل شرقي وكل مسلم في أنحاء البسيطة أن كل فكرة تصدر عن أوروبا في السياسة لا يُقْصَد منها خير للشرق ولا للعرب ولا الإسلام، إنما هي حُبَالة يُقْصد بها جر المغانم وسَلْب الكنوز والقضاء على الأمم الضعيفة.

إن كل فكرة تدبرها أوروبا السياسية لا بد أن تعود بالخراب على الشرق، ونحن لا نزال نذكر تلك النهضة التي سموها نهضة العرب وألف بسببها المرحوم نجيب عازوري كتابه الشهير «نهضة الأمة العربية» باللغة الفرنسية، فإن عرب سورية وتركيا عقدوا في تلك الآونة مؤتمرًا في باريس شقوا به عصا الطاعة على الدولة العثمانية، وكانت الجزيرة بركانًا مشتعلًا تقوم فيه الفتن ولم يكن المحرك لها سوى الإنجليز. وقد شُنق معظم المساكين الذين أطاعوا فرنسا وإنجلترا، شنق بعضهم في دمشق وبعضهم في بيروت، ولا نزال نذكر منهم المرحوم السيد عبد الحميد الزهراوي الذي جعلوه رئيس المؤتمر وهو لا يدري من السياسة شيئًا وذهب ضحية الغواية والأوهام.

لقد قيل في تلك الفترة إن العرب قد تيقظوا وإن هذه اليقظة كانت انتقاضًا على الترك وقيامًا في وجههم، وكانت سائر الأقطار العربية من سورية والعراق والحجاز كانت على خضوعها للحكم التركي متجهِّمة في وجه الترك موغَرة الصدر عليهم، وذلك بفعل وسطاء إنجلترا وفرنسا الذين كانوا لاجئين إلى مصر وأغلبهم من السوريين والفلسطينيين الذين يعقدون اجتماعاتهم في قهوة اسبلنديدبار، ويتناولون مرتبات من الأموال السرية الفرنسية والإنجليزية. وقد أدخلوا في رُوع العرب أنهم أمة الرسالة المحمدية، وليس من النَّصَفَة في شيء أن يظلوا خاضعين لنِير التركي الغريب الطوراني الوثني الذي يعبد الدب الأبيض … إلى آخر ما اخترعوا وكذبوا. وقد استعمل الفرنسيون بعض السوريين مثل نجيب عازوري الذي ألف كتاب «نهضة الشعب العربي»، ومثل دكتور سمنة الذي لا يزال في باريس وكان ينشئ مجلة فرنسية ضد الأتراك وهو وسيط فرنسا وخادمها الحميم، ثم استكتبوا ڤيكتور بيرار فألف كتابه عن السلطان عبد الحميد والإسلام والدول ١٩٠٧، وأخذ الدكتور شبلي شميل يكتب المقالات البليغة في الطعن على الترك وتسفيههم ويرى في التركي مخلوقًا جلفًا منغمسًا في الرخاء المادي ذا فجورٍ ووحشية، ولم يستطع في بحر ألف عام أن يخلق لنفسه شبح مدنية يفتخر بها بين الأمم سوى إهراق الدماء وإهلاك الجيوش واحتلال ممالك الشرق. وكانت من وراء هؤلاء صحف يومية تحقد على الأتراك، وتطعن المصريين في مطالبهم الوطنية وتشعل نيران الفتنة بين الترك والعرب، وبعض أصحابها يدَّعون أن رءوس آبائهم وقعت في ثورة ١٨٦٠ فهم لا يغفرون للترك ذلك ولا ينسون ثارات آبائهم بعد أن أثروْا في مصر بخيانة مصر وصارت لهم القناطير المقنطرة من الذهب والضِّياع الواسعة من الأراضي الخصبة التي أقطعهم إياها إقطاعًا الرجل المسمى كرومر، لأنهم كانوا سدنة هيكله (قصر الدوبارة) وعبَّاده الذين لا يَنُون في خدمته … وكأن بينهم وبين الشرق والإسلام ثأرًا فهم أعداء لكل خير يأتي إليهما.

وقد نسب إلى شريف مكة على لسان ڤيكتور بيرار أنه قال: «نُكْره إكراهًا ونحن فروع الشجرة النبوية المباركة (هذا أمر ليس مشكوكًا فيه!) على حناية رءوسنا لهؤلاء الباشوات الأدنياء (عظماء الأتراك) الذين كان غالبهم من قبل عبدانًا نصارى، فما استطاعوا بلوغ كراسيِّ الحكم وتقلُّد أزِمَّة الأعمال إلا بأحط الذرائع وأَشْيَن الوسائل.»

وقد أرادت الطبيعة، وسير الأمور، أن بعض الشرفاء من العرب صاروا يطأطئون رءوسهم لا للأتراك الذين دخلوا في الإسلام من ألف سنة، وأَعْلَوْا شأنه بفتوحهم، بل لأحطِّ موظف أجنبي من باريس أو لندن، يتحكم فيهم ويبيعهم ويشتريهم بأبخس الأثمان.

وكانت تركيا أثناء القرن التاسع عشر كلما خاضت حربًا في أوروبا وخرجت منها مقهورة عقَّب ذلك ثورة ينفجر بركانها أو انتقاض تشب ناره في قُطْر من الأقطار العربية.

سورية منشأ روح العصيان

قلت آنفًا إن سورية كانت منشأ روح العصيان على الترك لأنها كانت أكثر الأقطار العربية تعرضًا لتلقي الروح الغربية والمؤثرات الأوروبية، ولأن لفرنسا فيها أخلافًا وأحفادًا يدَّعون أنهم بقايا الصليبيين، وينادون بفرنسا، ويستغيثون بها ويسمونها «الأم الحنون»! وترجع دسائس أوروبا في سورية إلى سنة ١٨٩٥ عند تأسيس الجمعية الوطنية العربية، وقد قضوْا عشر سنين في نشر دعوتهم انتشارًا غامضًا ملتبسًا إلى أن شبَّت نار الفتنة المسلحة في الحجاز واليمن ١٩٠٥، وما زالت تلك الفتنة مشتعلة حتى تكبَّدت تركيا خسارة فادحة في المال والرجال، وأنتجت تلك الخسارة ضعفها المالي والحربي إلى أن كانت كارثة الحرب البلقانية وحرب طرابلس. فخراب تركيا وضياع قُطر من أهم أقطار شمال أفريقيا كانا النتيجة المباشرة للدعاية السورية الفرنسوية التي استهوت أهل الجزيرة البسطاء الذين قاموا في وجه تركيا دولة الإسلام الوحيدة، فكان خرابها وخراب أنفسهم على أيديهم.

وكان السراب الذي رسمه الساسة الأوروبيون للعرب في تلك الفترة هو عين الحلف العربي الذي ينادون به اليوم، فقد نشرت الجمعية الوطنية في باريس (اقرأ وزارة خارجية فرنسا) منشورًا موجهًا إلى الدول العظمى، جاء فيه:

إن انقلابًا سلميًّا هائلًا حادث عما قريب في تركيا (سلميًّا؟! … وما قولكم في فتنة الحجاز واليمن المشتعلة من ١٩٠٥ والتي دامت إلى سنة ١٩١١؟) والعرب الذين لم ينفك الترك آخذين في إرهاقهم وتفريق حُزمتهم تفريقًا دينيًّا ليتسنى لهؤلاء حكمهم؛ قد استيقظوا وجعلوا يشعرون بائتلاف بعض عناصرهم مع بعض ائتلافًا وطنيًّا وقوميًّا وتاريخيًّا، وهم يرغبون الآن في الانسلاخ عن الأَرُومَة العثمانية النَّخِرة لينشئوا لهم دولة مستقلة، وهذه هي الإمبراطورية العربية التي تكون تامة بحدودها الطبيعية من وادي دجلة والفرات إلى قناة السويس (لم يجرءوا على ذكر مصر خوفًا من الإنجليز) ومن بحر الروم حتى بحر عمان، ويرأسها سلطان عربي ذو حكومة دستورية حرة (!) وأما ولاية الحجاز الحالية وفيها المدينة المنورة (وقد أرادوا إيهام المسلمين بالمحافظة على الأماكن المقدسة، وحفظوا نصيب شريف مكة الذي لم يكن يطمع في أكثر من ذلك) فيتألف منها مملكة مستقلة يحكمها ملكٌ جامعٌ بين كونه ملكًا وخليفة جميع المسلمين (؟!) وبهذا تحل العقدة الكبرى في الإسلام وهي التفريق بين السلطتين المدنية والدينية. ا.ھ. المنشور الذي كُتب بإيعاز فرنسا.

وقد جاء الدستور العثماني في ١٩٠٨ محبطًا لآمال أوروبا، لأن جميع العناصر العثمانية وفي مقدمتهم العرب نالوا قسطهم الأوفى من الحقوق الدستورية، ولكنهم لم يلبثوا طويلًا حتى أيقظوا الفتنة النائمة حينًا وأوعزوا إلى العرب أن يطالبوا باللامركزية، فرفض رجال «تركيا الفتاة» مطالبهم لأن اللامركزية معناها الاستقلال الداخلي فالانشقاق الذي كان يرمي إليه ساسة الاستعمار. وبعد الدستور العثماني عُقد مؤتمر عربي (اقرأ فرنسي سوري) في باريس وهو الذي كانت رياسته معقودة للمسكين الزهراوي الذي دفع حياته ثمنًا لكرسيِّ الرياسة على يد جمال باشا، وكنا قد قابلناه في سنة ١٩١٠ بالأستانة وهو إذ ذاك عضو مجلس الأعيان ومتمتِّع هو ورفاقه العرب النواب في المجلسين بالكرامة والاحترام، وينشر جريدة أسبوعية للدفاع عن حقوق العرب في شارع نوري عثمانية. وقد نجا من الشنق بعض الرجال الأذكياء الذين لم يكن لهم ضلع مع الفرنسويين، أمثال صديقنا الكريم الأستاذ صاحب السعادة د. ل. رئيس ع. م. بدمشق، فإن هؤلاء كانوا يميلون إلى نصرة العرب في حدود الوطنية العثمانية ولم ينضموا يومًا إلى أعداء الدولة الذين خانوها وهم يعلمون أو لا يعلمون.

وبعد أن أُعلنت الحرب العظمى وانضمت تركيا للألمان عاد المستعمرون وكلهم من الحلفاء إلى الخطة الأولى، فأوعزوا إلى شريف مكة بإشعال نار الفتنة فقدح الشريف حسين زنادها. وكانت بريطانيا ظهيرة تلك الثورة تمدها إمدادًا كبيرًا عن سَعَة وسخاء بالمال والرجال، ومن هؤلاء كولونيل لورنس الشهير الذي أطلق عليه لويد جورج لقب «ملك العرب غير المتوج». وقد نسبوا إلى هذا الرجل العجائب في الذكاء والشجاعة والفطنة وإتقان اللغة العربية بجميع لهجاتها، والقدرة على التخفي والزَّوَغان، ومهارة الهرب، حتى يخيل للسامع أنه أحد أبطال القصص القديمة! والحقيقة أنه لم يكن على شيءٍ من ذلك، وكل أمره أنه كان محملًا بقناطير الذهب يوزعها ذات اليمين وذات الشمال، ويملك زمام زعماء العرب بالأصفر الرنان، وكل ما ينسب إليه من حِذْق ودهاء وسرعة خاطر وعلمٍ واسع باللغات إنما هو من صفات الجنيه الإنجليزي جلت قدرته! وقد رأينا في قسمٍ آخر من هذا الكتاب كيف كان أثر هذا الجنيه في فتح مصر وفي شراء ذمم العرب لعهد بالمر المستشرق الشهير.

نعم لم يكن الفعل كله لليرة والدينار، ولم تكن خيالة القديس جورج المرسوم على أحد وجهي الجنيه الإنجليزي (لأن العرب كانوا يرفضون تسلم أي نقدٍ سواه) هي وحدها التي كسبت القضية لجانب الحلفاء، فإننا لو قلنا بذلك نكون قد هضمنا كل حقوق العرب وأنزلناهم منزلة اللصوص والخونة وقطاع الطريق الذين لا يرعون إلًّا ولا ذمة، بل إنه كان في هذا الهياج الجنوني ضد الترك نصيب للوعود الخلَّابة التي أدلى بها الحلفاء وهي وعود استقلال العرب وتقرير المصير. ويظهر أن العرب لم يطلبوا المساعدة المادية التي كانت تنهال عليهم انهيال المطر (حتى إن الوسطاء بينهم وبين الحلفاء قبل الاتصال المباشر أَثْرَوْا واستغنوا، ومنهم قوم في مصر لا يزالون يمرحون في ثمار خيانتهم للشرق والإسلام والعرب)، بل طلبوا قطع العهود والوعود الباتَّة التي لا ريب فيها بأن ثورتهم هذه التي يَشُبُّون نارها سيكافَئون عليها بإنشاء دولة عربية. ففي ٢٥ أكتوبر سنة ١٩١٥ (وهذا تاريخ مهم يجب أن يحفظ) سلم مندوب إنجلترا بمصر المدعو هنري مكماهون، أو «مهما يكون»، إلى ممثل شريف مكة في القاهرة صكَّ عهد تعهدت بموجبه بريطانيا العظمى — على شريطة قيام العرب بالثورة — بالاعتراف باستقلال العرب في الإمبراطورية العثمانية، فيما عدا جنوب العراق حيث المصالح البريطانية تقتضي اتخاذ تدابير مخصوصة في شأن السلطة الإدارية (وقد قيل في ذلك الحين إن ذلك كان ينصب على ميناء البصرة ليس غير) «وأيضًا فيما عدا المناطق التي ليست بريطانيا العظمى حرة في التصرف بشئونها تصرفًا منافيًا لمصالح فرنسا.»

ولم يطلب ممثل شريف مكة تفسيرًا لهذه الفقرة الأخيرة، لأنه لا ريب كان داخلًا في المؤامرة ضد الشرق وكان يتقاضى مرتبًا من الوكالة الإنجليزية إن لم يكن من الغباء والغفلة بأعظم مكان، ولكن الحقيقة أنه كان مأجورًا على الصمت والقبول ولعله فسر نص هذه الفقرة لمولاه بأن هذه العبارة الشاذة في صك مكماهون تنصب على منطقة لبنان الضيقة فتهللوا فرحًا وسرورًا.

قال الأمير شكيب أرسلان في أحد تعاليقه القيمة على كتاب «حاضر الإسلام»: «هؤلاء الذين آمنوا وصدقوا وفرحوا ليسوا كل العرب، بل إن قسمًا من العرب كانوا يعرفون ما وراء الأَكَمَة وطالما نبهوا وحذروا قومهم من الوقوع في الشَّرَك فلم يجد تحذيرهم فتيلًا، وما لنا وما للتذكير بما كل أحد يعرفه فما يوم حليمة بسر؟!»

والحقيقة التي يشير إليها الأمير شكيب أرسلان هي أن الحكومتين الفرنسوية والإنجليزية قد اتفقتا على تقسيم بلاد العرب والعراق أي على تقسيم تركة الدولة العثمانية إلى مناطق نفوذ، فكانت المنطقة البريطانية مشتملة على جنوب العراق عند رأس خليج العجم وكانت المنطقة الفرنسوية مشتملة على لبنان، فبادرت وزارتا الخارجية البريطانية والفرنسوية في عقد الوثائق والمساومات على السلع فوقعت الحكومتان في ٥ مارس سنة ١٩١٥ — أي قبل صك مكماهون بسبعة أشهر — معاهدة سرية خوَّلت فرنسا بمقتضاها حق التمتع بالتقدم على سواها في سورية وخوَّلت بريطانيا مثل ذلك الحق في العراق.

فلما ألح العرب في طلب العهود والوعود وهم لا يعلمون بالمعاهدة السرية وإن كان الأمير شكيب يقول إنه نبههم وحذرهم، فطبخوا لهم صك مكماهون السالف الذكر.

وبعد صك مكماهون بسبعة أشهر أخرى عقدت فرنسا وإنجلترا معاهدة سايكس بيكو، اتفقتا بمقتضاها اتفاقًا نهائيًّا على تقسيم الأقطار العربية في الدولة العثمانية تقسيمًا قائمًا على أساس المعاهدة السرية التمهيدية التي أمست تشبه العقد الابتدائي في بيع العقار، فباتت العراق عراقًا بريطانيًّا وسورية مستعمرة فرنسية لا شك فيها وكذلك اعترفوا بسلطة إنجلترا في فلسطين ونفوذ فرنسا في سائر سورية من حلب إلى دمشق.

وبذلك أصبح صك مكماهون واستقلال العرب سرابًا وحلمًا مضحكًا، وكأنه شيك على بنك لا يوجد به نقود باسم كاتبه un cheque sans provision.

وكان قواد الإنجليز لا ينفكون عن إعطاء الوعود للعرب وهي مودعة في المنشورات والتصريحات التي كانوا يذيعونها، مثل منشورات الجنرال مود في العراق (مارس سنة ١٩١٧). ويروى أن هذا الجنرال مات لأنه شرب قهوة في خيمة موبوءة بالطاعون، وقد حذروه فأبى أن يرفض كرامة العربي ولو كان في قبول الضيافة حتفه، فلا ندري إن كان رجلًا كريمًا كهذا كان يعلم بالمعاهدات السرية أو لا يعلم، ولكن بين مكارم الأخلاق وتنفيذ الخطط السياسية بونًا شاسعًا جدًّا.

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ظهرت أوزار السياسة، وعلم العرب (الذين لم يصلهم تحذير الأمير شكيب أو وصلهم ولم يؤمنوا به حيال إيمانهم بالدينار) بأنهم كانوا ضحية خدعة كبرى وأنهم أضاعوا أنفسهم وأوطانهم، وضربوا بمعاول مطامعهم وجهلهم وقِصَر نظرهم وغرورهم الدولة الإسلامية الكبرى. والعجيب أن العرب لم ينهضوا في هذه المرة بفتنة عظمى ضد الحلفاء، ولم يغضبوا لهذا الغدر الفاجع، وسمعوا نصيحة الأمير فيصل فسكتوا طول سنة ١٩١٩ حتى دب الخَوَر إلى العزائم وسرى الضعف إلى القلوب، وأقنعهم الأمير بضرورة الذهاب إلى مؤتمر الصلح (!) فأوفدوه ليبسط لدى مؤتمر السلم قضيته ببلاغة معنى وفصيح منطق يحف بموقفه الوقار (وهو الموقف الذي وصفه الأمير شكيب في مقالة الشورى) ولكنه للأسف لقي خيبة المسعى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤