الفصل الثالث

بعض أسباب تأخر الإسلام وبعض شعوب الشرق

تأخر الإسلام

كانت أعظم ظواهر الانحطاط في الشرق انتشار الجهل وسيادة الاستبداد وموت الأخلاق الفاضلة من النفوس، وصارت الحكومات الإسلامية مطايا للفوضى والاستبداد والاستغلال، وحل محل الخلفاء والأمراء العلماء العادلين فلول الموغول وملوك الأتراك الظالمين. وحتى العقيدة الدينية تضعضعت في النفوس، فملأت الخرافات عقول الناس وقلوبهم، وأصبح الشرق في دينه أسيرًا لقشور الطرق الصوفية وفي أخلاقه أسيرًا للمخدِّرات كالخمر والأفيون والحشيش. ولا شك أن المصلحين ومحبي الخير للإسلام قد ظنوا في تلك الفترة أن الإسلام قد اعتراه خمود يشبه الموت لا سيما وأن كثيرين من النقاد الأجانب كانوا يقولون إن الإسلام بطبيعته غير قابل للإصلاح وغير مستعد للتمشي مع روح العصر، وهؤلاء ينقسمون بطبيعتهم إلى مبشرين مأجورين على محاربة الإسلام وإلى ملحدين أوروبيين يحاربون الإسلام كما يحاربون غيره من الأديان ضاربين صفحًا عن آثاره في المدنية، ومن رجال استعمار يحاولون إضعاف الأمم التي تدين بالإسلام ليتمكنوا منها ويحكموها، فكل من قال بأن الإسلام دين تأخُّر أو غير قابل للحضارة من الإفرنج هو مغرض بلا ريب ولا يمكن الأخذ برأيه ولا يجوز التعويل عليه.

غير أن الأجنبي عن الإسلام لو أخذ بظواهر الأمور لاضطُرَّ للاعتراف بأنه حدثت فعلًا فترة سكون وجمود تشبه الموت، فقد ساد النقل وضعف العقل وصار القول الذي عليه المعوَّل هو النصوص الجامدة، وفي الوقت نفسه انتشر العداء للحرية الفكرية والعلوم الطبيعية الصحيحة. ولكن هذه الحالات كلها قد ظهر ما يماثلها أو يفوقها في أمم أوروبا ولم يهدمها ولم يكن عائقًا لها عند النهوض، وكأن النقاد جميعًا سواء أكانوا مخلصين أو غير مخلصين قد فاتتهم تلك المسألة، فإنه إذا آن أوان النهضة الصحيحة في أمة لم يكن الدين حجر عَثْرة في طريقها ولم يكن علة فشلها، لأن الدين في الواقع كما أثبتنا مرات عدة لا يؤثر في نهضة الأمة، وقد قال إسماعيل حامد المصلح المغربي من الجزائر: «إن مدنية الأمم لا تقاس بما في كتبها الدينية، بل معيارها الصحيح هو ما تنهض به تلك الأمم من الأعمال.»

وعلى الرغم من ضيق الأحوال في الشرق واشتداد السواد والظلام في أيامه، فإنه لم يخلُ تاريخه من المصلحين الأحرار الذين انتشروا في أنحاء ممالكه. ويظهر أن مسلمي الهند هم أول من بدأوا بالنهضة، فبدأوا بحركة التعليم على يد سيد أحمد خان مولولي، وما زالت تلك الحركة نامية إلى عهد الشقيقين المعروفين المرحوم مولانا محمد علي وأخيه شوكت علي،١ وقد توفي محمد علي في لندن في سنة ١٩٣١ أثناء المؤتمر الهندي ودُفن بالمسجد الأقصى في رمضان سنة ١٣٤٩، وطاف أخوه بعده بعض الأقطار الإسلامية قبل عودته إلى الهند. أما السيد أحمد خان فقد أنشأ كلية عليكره الشهيرة، وكان المصريون يَكْتَتِبون لها في أوائل هذا القرن وتُنشر أسماء المُكْتَتِبين في جريدة المؤيد في عهد الشيخ علي يوسف، وقد روى عنه المرحوم بلنت في كتابه «الهند في عهد ريبون»، طبع لندن ١٩٠٩ ص١١٨ وما بعدها، أن سيد أحمد خان أراد أن يكون التعليم في مدرسته بالأوردي ثم عدل عن ذلك إلى الإنجليزية، وليس في المدرسة أو الكلية تعليم ديني، وقد بدأ أحمد خان حياته سنيًّا ثم صار وهَّابيًّا ثم عاد ربَّانيًّا. وقد زار بلنت كلية عليكره وأعجب بها كثيرًا، وكان السيد أحمد خان انتخب لها مديرًا إنجليزيًّا اسمه مستر بيك، ونجح بيك في أعماله نجاحًا عظيمًا، وتوفي في أوائل القرن العشرين بعد أن عمل نحو ربع قرن في خدمة الكلية. وكان أحمد خان في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر — حوالي ١٨٦٥ — أول من حثَّ المسلمين على قراءة كتب أوروبا والانتفاع بما فيها من العلوم الحديثة اقتداءً بالعرب في صدر الإسلام، فإنهم لم يأنفوا أن ينقلوا عن اليونان علومهم وهم وثنيون وتعاليمهم تخالف الكتب المنزلة. ولم يكن مسلمو الهند مقصِّرين في هذا السبيل، فقد ظهر منهم نوابغ أمثال السيد أمير علي مؤلف كتابَي «روح الإسلام» و«المرأة المسلمة» وهما من أنفع الكتب وأفضلها، وقد عُيِّن في آخر عمره عضوًا في مجلس الملك الخاص بلندن بعد أن تقلد القضاء الأعلى في بلاده أعوامًا، ومنهم شيراغ علي وكان كاتبًا قديرًا بالإنجليزية ويعد زعيم حزب المجدِّدين في الهند، وكان يرى أن روح الإسلام بعيد عن الجمود وتقييد العقل، وأن القرآن كتاب هداية للمسلمين وليس عثرة في تقدمهم.

نهضة المسلمين في الهند

وقام في شمال أفريقيا خير الدين باشا أكبر وزراء تونس، وألف كتابًا مهمًّا في مستقبل الإسلام. وقام في تركيا رشيد باشا ومدحت باشا. وظهر السيد جمال الدين الأفغاني وخدم الأفغان والفرس والهند ومصر وتركيا، ومن تلاميذه الشيخ محمد عبده.

وفي كل قطر من أقطار الإسلام ترى الأحرار والمصلحين يزدادون عددًا ويشتدون ساعدًا وعَضُدًا، ويضمون تحت رايتهم رجالًا من سائر الأحرار الخبراء الراسخين في علم نهضات الأمم الواقفين على أسرار تقدمها. وقد دبت روح الإصلاح في الإسلام وتغلغلت وأخذت تحرك جثمانه المهول فحرَّكته وصار ينفعل انفعالًا عظيمًا.

وقد يكون المصلح الإسلامي معتزلًا أو حر الفكر، ولكنه لا يزال يعمل على خدمة الإسلام وإنهاضه مُظهرًا لعامة الشعب إيمانه وصلاحه وتقواه، ومخفيًا أفكاره التي قاده إليها درسه أو إمعانه وهو لا يبطن للإسلام شرًّا.

والفرق بين المسلم المفكر والأوروبي المفكر أن الأوروبي إذا صار حر الفكر أو ملحدًا فهو يجاهر بذلك وينشره كما صنع برادلو ١٨٣٣–١٨٩٩، فإن هذا الرجل انتُخب للبرلمان ثلاث مرات متوالية، وأبى قسم اليمين لأن القسم يخالف مبادئه ولكنه أقسمه في النهاية سنة ١٨٨٦، وأسس فرقة لحرية الفكر، وأشهر تلاميذه المستر روبرتسون الذي ألف «تاريخ حرية الفكر في العالم» في مجلدين، وخدم المسألة المصرية في سنتي ١٩٠٦ و١٩٠٧ وكان صديقًا حميمًا لمصطفى كامل وزار وادي النيل في تلك السنة الأخيرة. أما بعض المسلمين أحرار الفكر فتراهم للأسف يُخْفون ذلك وقد يتخذون الدين سلاحًا لمنفعتهم، ووصف كاتب هندي أحدهم فقال: «إن هذا السيد المسلم يعرف من أين تؤكل الكتف، فهو يبالغ في الظهور أمام قومه بمظهر المسلم المتشدد بشعائر الإسلام غير أنه منطوٍ على آراء لم تخطر على قلب ڤولتر نفسه.»

وروى لنا السيد عبد العزيز الثعالبي عن المرحوم محمد علي الذي تلقى العلم في جامعة أكسفورد أنه عاد إلى وطنه متشبعًا بالروح الإنجليزي، ولا يعرف عن الإسلام إلا اسمه، فلما اعتُقل في الحرب العظمى وقضى في السجن خمس سنوات درس خلالها الدين وحفظ القرآن فخرج مسلمًا صحيحًا وخطيبًا بليغًا، وبدأ ظهوره بالدعوة من ذلك الحين ١٩٢٠. وروى أخوه شوكت علي في محاضرة ألقاها في القاهرة (رمضان ١٣٤٩) أنه عاد إلى وطنه مقلدًا للإنجليز يعيش عيشتهم ويأكل أكلهم ويلعب ألعابهم، ولما لمح احتقار الإنجليز للمسلمين والهندوك الذين يقلدونهم خلع ثيابهم وأرخى لحيته ووضع على رأسه عمامة وتقشف في حياته فصار مهيب الجانب وشعر الإنجليز بأنه ذو شخصية، وأن للإسلام رجاله الذين يذودون عن حياضه، وقد رأيناه يلبس الملابس الوطنية المنسوجة في بلاد الهند، ويضع على رأسه شعارًا معدنيًّا للخلافة وفي صدره وسام عليه رسم الكعبة المشرفة بنقوش بالمناتير.

كان أول من فطن إلى أهمية الحج في الإسلام في العهد الحديث المرحوم عبد الرحمن الكواكبي (والمسلمون الآن يبحثون عن قبره في القاهرة ليقيموا عليه أثرًا وهم لا يهتدون إليه، وكان هذا دأبهم مع جميع عظمائهم المؤمنين)، فقد ألف كتاب «أم القرى» وتخيل فيه اجتماع مؤتمر إسلامي لإصلاح الإسلام وإنهاضه، وجاء بعده بفكرة المؤتمر المرحوم إسماعيل عضبرنسكي من بغجه سراي بالفريم وأقام في القاهرة حينًا ولم يفلح. ويعد الحج في الحقيقة مؤتمرًا إسلاميًّا سنويًّا، ولكن المسلمين لم يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، لأن عظماء الإسلام في الغالب لا يحُجُّون ولا يحشد بمكة إلا العوام من سائر الأقطار بدافع ديني محض.

وقد مرت بالخلافة أدوار وأطوار وتولاها العربي الصميم فالدخيل فالأجنبي، حتى إن السلطان سليم اشترى المبايعة من آخر بني العباس في القاهرة وكان رجلًا خاملًا، وانتهى الأمر بضياع الخلافة بتاتًا وعزل آخر سلاطين آل عثمان، وكان عبد الحميد الثاني آخر الخلفاء ولا عبرة بالخليفة الصوري الذي يعيش الآن في إحدى مدن أوروبا. وعُقد بالقاهرة مؤتمر لانتخاب خليفة في ١٩٢٦ ففشل، وعقدت مؤتمرات في جزيرة العرب نفسها ولم تفلح، لأن عرب الجزيرة يتنازعون بين الإمام يحيى وابن السعود، وكانت محاولة الملك حسين أن يكون خليفة مما يستدعي الابتسام، فزمن الخلافة ولَّى وفكرتها اندثرت، ويجب على المسلمين أن يُعْرِضوا عنها، لأنها لا تصلح لهذا الزمان، ولأن الخليفة بمعناه الأصلي الصحيح يجب أن يُنْتخب انتخابًا حرًّا مباشرًا، وهذا غير ميسور، وهو بمثابة رئيس جمهورية إسلامية. فإن صار أحد الملوك خليفة فهو يكون حاكمًا مستبدًّا، وهذا غير مرغوب فيه لأن العالم يسير نحو الديمقراطية والحرية، ولم يبحث المسلمون حتى الآن في كيانهم القومي حتى يتخطوه إلى البحث فيمن يتولى الحكم، وهذا آخر ما يجب التفكير فيه فوجب على المسلمين أن يتجهوا إلى روح الإسلام ويستمدوا منها قوتهم.

عدم صلاحية الخلافة الآن

إن هجوم أوروبا الفظيع على الشرق يرجع إلى القرن التاسع عشر، حيث بدأ الفرنسيون بالاستيلاء على الجزائر واستولت روسيا على القوقاز وبسطت إنجلترا نفوذها على الهند ومصر.

فتنبه المسلمون لحالتهم، وقام في كل قطر من أقطارهم رجال يدافعون عن أوطانهم بالسيف أو بالقلم كعبد القادر في الجزائر، وشامل في القوقاس، وعرابي في مصر، والمهدي في السودان، ويعقوب بك في تركستان الشرقية.

غير أن هذه الجهود كانت مبعثرة وغير موحدة، في حين أن أوروبا كانت كلها يدًا واحدة وذات قوة منظمة، وحتى إمبراطور ألمانيا الذي كان حليف تركيا كان يجبرها على طاعة أوروبا والتسليم لها إذا حدث بين أوروبا وتركيا خلاف جِدِّي، ولم يكن يبقي عليها إلا لتسخير جيشها لحروبه التي انتهت بدمارها وأتت على البقية الباقية من أملاكها، فلم يتدخل ذلك الإمبراطور في أية حرب نشبت بين تركيا وأوروبا، حتى حروب سنة ١٩١٢ التي فقدت فيها كل أملاكها الأوروبية بقيت ألمانيا مع الدول الأخرى تشهد مصرعها ودول البلقان الحقيرة المتوحشة تنهشها وتقترف فظائع القتل والإجهاز على الجرحى وهتك الأعراض وذبح الأسرى حتى ضجَّ ضجيج فريق من كتاب أوروبا أمثال بيرلوتي وكلود فارير، ولم يحرك كاتب إنجليزي ساكنًا.

ولما رأى المسلمون في أنحاء العالم أن أوروبا أصبحت تعتدي على الشرق في قسوة ووحشية بقصد الامتلاك والاستعباد؛ فكروا في أن الاستقلال السياسي يجب أن يسبقه التجدد الروحي والعقلي والعلمي والتربية النفسية، وأن هذا الإصلاح المعنوي هو العلاج لذلك الشقاء العظيم الذي يعانيه المسلمون من الذل والهوان في سائر أقطارهم، ففكروا في الرجوع إلى الطرق الصوفية، ولكن هذه الطرق كالنقشبندية والبكطاشية وغيرهما قد قالت كلمتها الأخيرة وخرجت تتسلل من مسرح الحياة العامة، ولن يكون لها دور تمثله في حياة الإسلام بعد ذلك، كما أنني ضعيف الأمل في الوهابية والسنوسية.

وكلتاهما طريقتان للإصلاح الديني ناشئتان في الصحراء الأولى في جزيرة العرب، أي في آسيا والثانية في أفريقيا، والطريقة السنوسية تقوى وتنمو وتعظم وتنتشر ولكنها لم تركب يومًا مركبًا خشنًا ولم تسلك مسلكًا وعرًا. ومدار هذه الطريقة على تعليم أفرادها الطاعة المطلقة للمقدَّم والوكيل في الزوايا، فهي ترجع إلى تسويد الفرد وتحكُّمه وإطلاق يده، بل يعيش أفرادها تحت سلطة ثنائية المقدَّم والوكيل. والسنوسية بقوتها رابضة ولم تحرك ساكنًا ولم تشترك في حرب ظاهرة ولم تجاهر بعدائها لأحد، فعلمها عند ربي ومستقبلها مجهول.٢

أما الوهابية فعلى العكس ظهرت بأنها قوة محاربة وقد فتح رجالها بلاد الجزيرة ويملك أحدهم الآن معظم بلاد العرب ولا يزاحمه فيها إلا الإمام يحيى، ولكن هذا الملك العربي العظيم تبقى سلطته محدودة ما دام محوطًا من جميع الجهات بالقوة الإنجليزية في الشمال والجنوب والشرق والغرب، وهو في الوقت الذي يضم أثناءه إلى بلاده إمارة العسير الإدريسية بمحالفة ولاء أشبه شيء بمحالفات الحماية الأوروبية تراه يعقد محالفة حسن الجوار مع ملك العراق الخاضع للانتداب الإنجليزي وتراه يحتمل ثوار الدروز على حدود ملكه «احتمالًا دوليًّا»، فالوهابية حركة دينية حربية وهي بطبيعة الحال مقضيٌّ عليها بأن لا تخرج عن جزيرة العرب.

ويغلب على فكري أن كلًّا من مؤسسي الوهابية والسنوسية ظنَّا أن الإسلام ظهر أولًا في الصحراء وخرج بقوته لفتح العالم، فأرادا تقليد صاحب الشريعة الإسلامية في كيفية التكوين البدائي.

ولكن محمدًا وصحابته أتموا العمل كله في بضع سنين، وهؤلاء الوهابيون والسنوسيون مضت عليهم عشرات السنين وهم في صحرائهم رابضون، وربما كان يكون للسنوسية مستقبل في أفريقيا حيث إرشاد الزنوج الوثنيين فتكون حركتهم سائرة نحو الجنوب والغرب، وحينئذ يكون عملهم جزءًا من المنهاج الذي نتمناه لأفريقيا وهو انتشار الإسلام فيها وتنظيم حياتها الاقتصادية لتخليصها شيئًا فشيئًا من النفوذ الغربي الظالم، ونحن إذا عرفنا أن هذا هو منهاج السنوسية نرحب بها ونشجعها ونتمنى لها النجاح، ولكن ينبغي لها أن تتضافر مع الأمم الشرقية الأخرى لتوحيد القوى وتبادل المعونة المعنوية، وتُروى عن السنوسي عبارتان: الأولى قوله «الترك والنصارى إني أقاتلهم معًا وأضربنهم ضربة واحدة»، وهذه الرواية لم تثبت صحتها ولم نر لها أثرًا في الحقيقة.

والثانية أنه لما قام المهدي في السودان واستنصر السنوسي طرد السنوسي رسوله وأجاب هازئًا: «من يكون هذا الصعلوك الدنقلاوي؟ ألا يمكنني أن أكون أنا المهدي إذا أردت ذلك؟»

ويؤيد صحة هذه الرواية أمران: الأول ما جاء في تاريخ السودان عن هذه الحادثة، والثاني أن السنوسي أعلن تكذيب المهدي وعدم تصديقه. فهذه فرصة كانت سانحة للسنوسية لمحاربة أوروبا تركتها تفوت، وربما كانت السنوسية ضعيفة في أول أمرها فلم يرغب السنوسي في معونة رجل من قارته وجنسه ودينه، كما أنه لم يرغب في الظهور بمظهر المُعادي لأوروبا. ذكرت في حاشية ما كان من شأن السنوسية مع الفاشستية، فإن الطليان الذين عجزوا عن إخضاع طرابلس في عشرين عامًا لقوا أثناءها الخيبة والهزيمة، أظهروا قسوتهم التي لا حد لها فخرَّبوا زوايا السنوسية وصادروا أملاكها وداسوا حرمة مساجدها، وأعلنوا الحرب على كل من ينتمي إليها، وقد حدث ذلك كله في ربيع سنة ١٩٣١، وكانت خاتمة تلك الفواجع مقتل المرحوم السيد عمر المختار الذي أسروه وشنقوه وهو بطل جريح في الثمانين من عمره.

تركستان الشرقية

زار القاهرة في مارس سنة ١٩٣١ شاب تركستاني من تركستان الشرقية اسمه السيد منصور خان يطوف بأنحاء الشرق للإلمام بشئون الأمم العربية والإسلامية، والسعي لإنشاء علاقات بينها وبين وطنه تركستان الشرقية حيث يعيش ملايين من المسلمين منقطعين عن بقية العالم لا يدرون من حوادث الأمم الإسلامية وشئونها شيئًا. وقد كتب هذا الشاب يشكو حال بلاده وظلم حكومة الصين المستبدة التي تستغل بلاده وتحكمها على الطريقة الرومانية، وقد قامت في ١٨٧٠ ثورة في تركستان الشرقية فأظهر أهلها المسلمون من الاستبسال والمغامرة في القتال ما لم يُسمع بمثله من قبل، وقام بينهم الزعيم يعقوب بك فهزم الصين وضم تركستان ونويان واستقل بهما عدة سنين وصار يعقوب يلقب بلقب أمير المؤمنين في الصين بعد أن صارت له دولة، ولكن الصين حشدت جيوشها وهزمته واستولت على البلاد من جديد وسكانها لا يقلون عن عشرة ملايين، أي عدد سكان القطر المصري قبل الحرب العظمى. وهم على صفات جليلة من الشَّمَم وإباء الضيم والشجاعة وعلو الهمة، وقد دخلوا في الإسلام أفواجًا، وهؤلاء المسلمون جميعًا يحكمهم أهل الصين البوذيون بالسلطة المطلقة. ولا يزال تقسيم الأمة التركستانية الاجتماعي تقسيمًا عتيقًا، ففيهم الزراع والصناع والتجار والعلماء، وعلماؤهم يعرفون العربية والفارسية وتعليمهم كتعليم الأزهر القديم، وبعضهم يعلِّمون بالتركية، وأعظم مدارسهم في كاشغر واسمها خاناق مدرسة، وعدد طلاب المدارس يبلغ أربعين أو خمسين ألفًا.

فهذه أمة مسلمة شرقية لا تحكمها أوروبا ولكن يحكمها الصينيون الشرقيون الوثنيون، وهم في بلادهم مثال الضعف والفوضى والمظالم فغلبتهم اليابان في ١٨٩٥، وقام نضال بين الإمبراطورية والجمهورية التي أسسها سن يات سن لا يزال حتى هذه الساعة.

•••

ونشبت مؤخرًا حرب بين الصين واليابان بعد خمس وثلاثين سنة على الحرب الأولى بينهما، واليابان تريد منشوريا والصين ممزقة بين الحروب الأهلية وفتنة الشيوعية. وتتميز هذه الحرب بكونها واقعة رغم أنوف جمعية الأمم لأن الدولتين المحاربتين من أعضائها، ففقدت العصبة هيبتها في الحقيقة. وربما جرت هذه الحرب وراءها ويلات في الشرق والغرب بسبب دسائس روسيا وغيرها، ولعل تركستان الشرقية تنتهز هذه الفرصة لتحرير وطنها.

١  لقد ظهر هذا الرجل بمظاهر غريبة بعد أن تُوفِّي أخوه، فذكره هنا هو لمجرد التاريخ لا تقديرًا ولا تقريظًا. المؤلف.
٢  بعد كتابة ما تقدم قضى الطليان على السنوسية (ربيع ١٩٣١) وخرَّبوا زواياها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤