الفصل الرابع

تألُّب أوروبا على تركيا وهجوم هانوتو على الإسلام

أوروبا تتألَّب على تركيا

في مستهل هذا القرن العشرين بعد أن تنبه الشرق الإسلامي العربي وبعد انتصار اليابان على روسيا؛ قامت حركة الفرس الدستورية وشبَّت نار ثورة عظيمة فناهضتها روسيا التي كانت دولة استعمارية وخنقت تلك الثورة مستعينة بالشاه محمد علي الذي لقي حتفه مؤخرًا، وقد ضرب مجلس النواب الفارسي بالقنابل وسجن أعضاءه وقتل من زعمائه من قتل.

وفي سنة ١٩٠٨ ظهر الدستور العثماني وبدأت الحركة الوطنية العثمانية في الظهور بقوتها، فخشيت أوروبا عاقبة ذلك فأوعزت إلى إيطاليا بالهجوم على طرابلس في ١٩١١ فهاجمتها واستولت على السواحل وحدثت فيها حرب تشيب لهولها الولدان وجيوش الطليان، ولا تزال تلك الحرب قائمة بين إيطاليا وبعض المحاربين من رجال القبائل.

وفي سنة ١٩١٢ تألَّبت دول البلقان الصغرى على تركيا وحاربنها ونشرن بلاغًا يشبه كلام الملوك الصليبيين في القرون الوسطى، ولم ينكر هذا الأمر أحد من ملوك أوروبا حتى ولا إمبراطور ألمانيا حليف تركيا الوحيد. ومن المناظر التي كانت تفتت القلب في القاهرة في أثناء تلك الحرب والتي كانت تدل على جمود أهل مصر وجهلهم واستغراقهم في الغفلة أن الصبيان من باعة الجرائد كانوا ينتشرون في عاصمة مصر انتشار الجراد في كل ساعة من ساعات النهار منادين باسم جريدة يونانية اسمها «فوس» أي النور، وهي تحمل أنباء انكسار الترك ساعة فساعة وتخريب مدنهم وانهزام جيوشهم واحتراق مدنهم، وجماعة الأروام والبلغار والصرب ممن يعيشون في مصر يقبلون عليها ويشترونها ويقرءونها شامتين وهم يسيرون في شوارع القاهرة ويربحون ويدفعون ثمن الجرائد من أموالنا، والمصريون لا يدركون هول هذا الأمر ولا يشعرون بفظاعته، ولو أنك تخيلت الألمان في شوارع ليڤربول يقرءون في صحف ألمانية أخبار انكسار الإنجليز في عاصمتهم وصبر الإنجليز على ذلك؛ لأدركت هول هذه المسألة، ولكن وَدَاعة أخلاقنا وإكرامنا للضيف وظننا بأن هذا الأمر لا يعنينا جلب علينا هذا وأفظع منه …

وقد تمكنت دول البلقان من التغلب على تركيا وطردنها من أوروبا ولم يبقين لها إلا الأستانة، ولكن أجزاء أخرى من العالم الإسلامي أدركت هول المصاب فشعر له المسلمون في الهند، وما كان أبشع منظر العالم الإسلامي في تلك الفترة المشئومة ١٩١٢ حيث كانت تركيا تُنْتهب وتُدمَّر في أوروبا، وطرابلس تغلب على أمرها في شمال أفريقيا، ومصر تخضع خضوعًا قاسيًا لحكم لورد كتشنر فاتح الترنسفال والخرطوم؛ فجَزَع بعض ساسة أوروبا من عواقب ذلك الأمر وخافوا على أوروبا من يقظة الإسلام ومن شدة الغيظ والقهر، فكتب هانوتو يلوم إيطاليا: «إن إيطاليا لا تحارب تركيا وحدها بل تحارب العالم الإسلامي كله، فإيطاليا جنت على نفسها وعلينا جناية لا يعلم غير الله عاقبتها ومنتهاها.»

هانوتو والإسلام

وكأن هانوتو هذا نسي أن فرنسا وطنه لم تفعل أقل مما فعلت إيطاليا، فاستولت على الجزائر وتونس وكانت تحاول الاستيلاء على مراكش، وما حادثة «أغادير» في سنة ١٩١٢ ببعيدة، وهي التي أوشكت أن تشعل نار الحرب في صيف ١٩١١ بسبب احتكاك ألمانيا وفرنسا على شواطئ المغرب الأقصى.

على أن هانوتو لم يكن ليكشر أنيابه لإيطاليا حبًّا في سواد عيون طرابلس ولا نصيحةً لإيطاليا ولكن خوفًا على مستعمرات فرنسا العزيزة!

وهانوتو هذا هو الذي كان منذ خمسة وثلاثين عامًا من أكبر أعداء الإسلام في السياسة والاستعمار.

وقد كتب مقالًا مشهورًا في جريدة جورنال سنة ١٩٠٢ جاء فيه:

في تلك البقعة الأفريقية التي أصبحت مقر الإسلام جاءت الدولة الفرنسوية لمباغتته، وجاء القديس لويس الذي ينتمي إلى إسبانيا بوالدته (رمز إلى الأخذ بالثأر من العرب والإسلام) ليُضْرم نيران القتال في مصر وتونس، وتلاه لويس الرابع عشر في تهديده بالإيالات الأفريقية الإسلامية، وعاود هذا الخاطر نابليون الأول فلم يوفق إلى تحقيقه الفرنسويون إلا في القرن التاسع عشر حيث أخنوْا على دولة الإسلام التي كانت لا تَنِي في متابعة الغارات على القارة الأوروبية، فأصبحت الجزائر في أيديهم منذ ٧٠ عامًا، وكذلك القطر التونسي منذ عشرين عامًا.

وقد وصلت طلائع قوانا الآن إلى أصقاع من الصحراء تنتهي إليها كثبانها الرملية، فعظم اندهاش الباقين من خصومنا (يقصد الأمم الإسلامية) وتزايد ذهولهم، لأنهم بعد اندفاعهم شيئًا فشيئًا في الفيافي وبطون الخبوت وظنهم أنهم صاروا في أمنع موئل؛ شعروا بأنفسهم وقد حلَّق عليهم الأوروبيون من جميع الجهات.

إذن فقد صارت فرنسا بكل مكان في صلة مع الإسلام بل صارت في صدر الإسلام وكبده، حيث فتحت أراضيه وأخضعت لسطوتها شعوبه، وقامت تجاهه مقام رؤسائه الأولين، وهي تدير اليوم شئونه وتجبي ضرائبه وتحشد شبانه لخدمة الجندية وتتخذ منهم عساكر يذُبُّون عنها في مواقف الطِّعان ومواطن القتال.

وبعد أن وصف شعائر الحج واتجاه المسلمين شطر مكان واحد وهو الكعبة، قال:

يؤخذ مما تقدم أن جراثيم الخطر لا تزال موجودة في ثَنِيَّات الفتوح الأوروبية وطَيِّ أفكار المقهورين الذين أتعبتهم النكبات التي حاقت بهم ولكن لم تُثَبِّط هممهم.

ثم أشار إلى رأي فريق من الأوروبيين في الإسلام، ومنهم كيمون في كتابه «باتولوجيا الإسلام»، وفيه قوله المرذول:

إن الديانة المحمدية جذام فشا بين الناس وأخذ يفتك بهم فتكًا ذريعًا، بل هي مرض مريع وشلل عام وجنون ذهولي يبعث الإنسان على الخمول والكسل ولا يوقظه منهما إلا ليسفك الدماء ويدمن على معاقرة الخمور ويَجْمَح في القبائح، وما قبر محمد في مكة إلا عمود كهربائي يَبُثُّ الجنون في رءوس المسلمين ويلجئهم إلى الإتيان بمظاهر الهيستريا العامة والذهول العقلي وتكرار «الله» إلى ما لا نهاية (يشير إلى حلقات الذكر) والتعود على عادات تنقلب إلى طباع أصلية ككراهة لحم الخنزير والنبيذ والموسيقى والجنون الروحاني والليمانيا والماليخوليا وترتيب ما يستنبط من أفكار القسوة والفجور في اللذات!

وكم يباهي هانوتو بأن شعبه الفرنسوي الجمهوري المبادئ البالغ أربعين مليونًا ولا مرشد له إلا نفسه، لا عائلات ملوكية فيه يتنازعن الحكم ولا رؤساء يتناولون الرياسة بطريق الوراثة، هو الذي تقلد زمام شعب آخر (هو الشعب الإسلامي بأفريقيا) لا يلبث أن ينمو حتى يساويه في العدد …

هذا هو جبريل هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا، وقد ظهر منذ ثلاثين عامًا بمظهر المتعصب المستبد الشامت، وهو الذي يلوم إيطاليا في سنة ١٩١١ على هجومها على طرابلس، لأنه كان يطمع في أن تغتالها فرنسا الجمهورية لتكمل لها السيادة على الشعب الإسلامي الأفريقي، وهو الذي يشتغل الآن بوضع تاريخ رسمي للدولة المصرية، فتُرى أية الخطط يسلك: أخطته الأولى خطة العداء والتعصب والبغضاء، أم خطة الخوف من يقظة الإسلام البادية في ملامه لإيطاليا، أم خطة ثالثة رسمتها له حوادث الحياة وتجاربها بعد أن جاوز حدود السبعين وتربع في دَسْت الأكاديمية وطلَّق السياسة في وطنه وانقطع للأدب والتاريخ؟

ليس في ظني أن عتاة الغرب يتركون موقفهم حيال الإسلام، فإن ملك اليونان لما حارب تركيا أوقد نار حرب صليبية جديدة، واستنصر وزراء بريطانيا وحرك تعصب المسيحية على الإسلام، وكانت قيصرية روسيا تريد أن تجعل من جامع أيا صوفيا كنيسة، وأراد فنزيلوس ذلك ونشره في الصحف، وغيرهم يريد أن يكون مسجد عمر بن الخطاب معبدًا أو هيكلًا لملة أخرى، ووصف لويد جورج دخول جنرال اللنبي لبيت المقدس بآخر حرب صليبية.

غير أن هذه الأفكار لم تتغير في خلال السنين القليلة من القرن العشرين التي تلت حروب أوروبا ضد تركيا، فإنه لما نشبت الحرب العظمى وانضمت تركيا إلى ألمانيا مضطرة مقهورة، قام ساسة أوروبا الغربية والحلفاء يصرحون رسميًّا بأن الغاية الكبرى من الحرب هي إنشاء نظام عالمي حديث أساسه مكارم الأخلاق والإنصاف ورعاية حقوق الأمم المستضعَفة وإطلاق الحرية للأمم الصغيرة ونظرية تقرير المصير، ولكن جاء مؤتمر فرساي كاشفًا عن مقاصد أوروبا فما خسرته في الميادين الأوروبية كسبته في الممالك الشرقية وخرجت كل دولة منها بغنيمة، فدفع الإسلام حساب تلك الحرب في العراق وجزيرة العرب وسوريا وشمال أفريقيا، لأن فرنسا وإسبانيا اقتسمتا مراكش، وظهر أن أوروبا لا تريد بالشرق والإسلام خيرًا وأن منهاج ويلسون وتصريحات ساسة الحلفاء لم تكن إلا حبائل نُصبت حتى استعانت أوروبا بجيوش شرقية واشترت سكوت الأمم المغلوبة أثناء الحرب بأبخس الأثمان، وهو الكلام والوعود التي صدقها أو تظاهر بتصديقها (وهو الأصح) الملك حسين ومن كانوا معه، وقد شعر بعض علماء المشرقيات والمشتغلين بالمسائل الإسلامية بقوة هذه الصدمة.

فقال ليون كايتاني مؤلف كتاب Les annales de L’Islam (وقد زار مصر في سنة ١٩٠٨) في سنة ١٩١٩ ما نصه:

إن الحرب العظمى قد هزت البناء الشرقي من أساسه وبعثت في شجرة حياته روحًا جديدًا، فالشرق بأجمعه من أقصى الصين إلى المحيط يضطرب، ففي مصر وبلاد العرب وجميع الأقطار المحمدية حركات وطنية ونهضات قومية كبرى، جميعها متماثلة الصفة العامة وموحَّدة الغاية ترمي إلى البعث من جديد ومقاومة الهجوم الأوروبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤