الفصل الخامس

الأديان في الشرق وتحوُّل بعض شعوب العالم عن المعتقدات

الأديان في الشرق والغرب

يقول علماء الاجتماع إن الدين ظاهرة اجتماعية كغيرها من الظواهر التي لازمت الإنسان بحكم خلقته وتفكيره ومحيطه. غير أن الناظر في أمم الشرق والغرب يدهش لكثرة العقائد التي ظهرت في الشرق وانتشرت في ناحياته منذ الخليقة حتى الآن، وقلة الأديان التي ظهرت في الغرب ولا يزال أهله متمسكين بها. وإذا أعرضنا عن اختلاف الآراء العلمية والدينية من حيث خلق البشر وأصل تكوينهم وما كانوا عليه تفاديًا من الدخول في مباحث وإن كانت نافعة إلا أنها بعيدة عن الغاية من هذا الكتاب؛ وجدنا الأصل فيه السذاجة التامة والتجرد عن التفكير وهو الوجود البُدائي أو الفطري، وأن المعرفة والعلم والحضارة كلها طارئة عليه، سواءً أكانت من السماء بطريق الوحي أم من الاختبار من الحياة والاحتكاك بسائر المخلوقات إلى أن يصل إلى درجة تقرب في نظره القاصر من الكمال، وقد يشترك في إبلاغه هذه الدرجة الهبة والكسب معًا، فقد ترقى الإنسان درجات بعضها فوق بعض فسار من الهمجية أو الوحشية وهمُّه في هذه المرتبة سد الرَّمَق وقضاء شهوته فهو في هذا الطور حاطب وصائد، وإن كان بعض علماء أوروبا كشفوا أنه كان في هذا الطور متفننًا ومصورًا فعثروا في بعض الأحافير على صور حيوانات انقرضت، وكشف بعض الباحثين في فرنسا على مقربة من قرية جلوزيل آثارًا تدل على أنه كان يعرف الكتابة في عهود سابقة لعهد التاريخ، وإن كان انبرى بعض العلماء أمثال بيل الفرنسي رئيس معمل التحقيق الكيميائي في باريس، المتوفى في سنة ١٩٢٩،١ لنفي هذه النظرية وتفنيدها والادعاء باصطناع تلك الآثار، ولم يُفصل في تلك المسألة إلى حين كتابة هذه الأسطر.

ومن تلك المرتبة انتقل الإنسان إلى المرتبة الثانية وهي مرتبة الألفة والمعيشة المتحدة والنظر إلى عجائب الخليقة والتأمل في الكون بعين الانبهار والدهشة، وقد بدأت العاطفة الدينية تظهر في هذا الطور وبدأ الإنسان يفكر في خالق للكون ومنظم له، وبدأ أيضًا يميز بين الخير والشر والضار والنافع، وقد يكون شرع في الكتابة والتدوين على الأحجار والمعادن جهد الاستطاعة، لأن فطرته تدفعه أبدًا إلى تدوين الآثار وتركها التي تدل عليه بعده، ولم تكن عقول البشر وصلت إلى البناء والعمارة ولكنها تَرَقَّت إلى الزراعة وتأليف الأنعام للانتفاع بها، وقد دامت هذه الفترة بضع مئات من ألوف السنين.

ومنها انتقل الإنسان الموفَّق في الإقليم الحسن والمحيط الملائم للدرجة الأولى من سلَّم المدنية كما نفهمها، فنشأت الحضارات القديمة كالحضارة البابلية والآشورية والحميرية والمصرية القديمة والفينيقية وغيرها. وفي تلك الفترة ظهر الأقوياء الذين تسلطوا على القبائل والعشائر وانتحلوا لأنفسهم صفات الرياسة والملك بالقوة القاهرة والحرب، ثم ظهرت المدن والصناعات والتجارة، وكلما ترقى الإنسان فيها ترقى من الوجهة المعنوية فوُضعت القوانين وسُنَّت الشرائع وجاءت بعض الأديان بالتدريج على أيدي الحكماء ثم الأنبياء.

بداية الدين

وأول ما ظهرت المعتقدات والشرائع في الشرق، وأقدم ما اطلعنا عليه في العهد الحديث قوانين حامورابي التي وُجدت مدوَّنة في الحجر ونُشرت في أوروبا في سنة ١٩٠٠، ولما كانت تلك المدوَّنات ذكرت الطوفان وقصصًا تشبه ما ورد في الكتب المنزلة من خلق آدم وحواء وطردهما من الجنة وقصة الأم التي تلد من غير علاقة جنسية مباشرة مما يشبه ما جاء في بعض الأديان المنزَّلة؛ فقد دُهِش العلماء في أوروبا، واضطُرَّ إمبراطور الألمان ويليم الثاني الهوهنزولرني أن يجاهر برأيه في تمسكه بالدين المسيحي وأن ظهور هذه المدوَّنات لم يزعزع عقيدته في ملته، وكان علماء آخرون من الألمان قد أظهروا تشابهًا كثيرًا بين المسيحية السمحاء وبعض أديان الهند كعقيدة البراهمة وغيرها.

بيد أن المجوسية هي أولى الديانات المعروفة لنا وقد ظهرت في بلاد الفرس، وهم يعتقدون بوجود إلهين: أحدهما نور ومبدأ الخير ويسمونه أورمزاد أو يزدان، والثاني ظلام ومبدأ الشر ويسمونه أهرامان أو أهرمن، وهما في نظر فقهاء المجوسية متماثلان في الأزلية والقوة ولكن بينهما عداء ومعاندة، فإذا كثرت الشرور في العالم كان الغالب أهرامان وإذا ظهر الخير وانتشر كان الغالب أورمزاد.

وقد انقسم المجوس عدة فرق، منهم الكيومورتية أصحاب كيومرت الذي يقال إنه آدم، والرزوانية والزردشتية أصحاب زردشت بن بيورشت، والثنوية وهم الذين ثابروا على الاعتقاد بإلهَي الخير والشر، والمانوية والمزدكية والبيصانية والفرقونية وأصحاب مذهب التناسخ، ومنهم من أنكر الشرائع والنبوات وحكَّموا العقل وزعموا أن النفوس العلوية تفيض عليهم الفضائل. وأهم هذه الفرق فرقة زرداشت، لأنه كان موحدًا وأنكر إلهَي النور والظلام وأن الشرور توجد في العالم صادرة عن طبيعة المخلوقات اللازمة كالظل الذي يصدر عن الأجسام ضرورة وأنها لا تزال حتى نهاية العالم، فيقوم الأموات ويحاسب كل إلى عمله، لأن الله خلق ملكًا للنور وآخر للظلام، وأن يوم نهاية العالم وهو يوم الحساب يذهب ملك الظلمة وأتباعه إلى مكان فيه ظلام وعذاب، وأن ملك النور وأتباعه يمضون إلى مكان فيه نور وهناء دائم فلا يرون الشر إلى الأبد.

وقد توفي زردشت هذا في القرن الخامس قبل المسيح، ولا يزال هؤلاء المجوس في العالم إلى الآن وهم عَبَدَة النار المقدسة، وقد اضطُهدوا في وطنهم الأصلي فرحلوا منذ ألف سنة إلى الهند وهم طائفة البارسي الموجودون في بومباي، وقد قام منهم أفذاذ مجاهدون خدموا المسألة الهندية في الهند وفي أوروبا، ومنهم مدام كاما٢ الشهيرة التي جاهدت في سبيل بلادها في أمريكا وأوروبا وأسَّست جريدة «باندي ماترام» وأنفقت ثروتها في قضية الهند وعاشت عيشة الزهد والتقشف في لندن وباريس وسويسرا، وتوفيت منذ بضع سنين في السبعين من عمرها. وهم الذين يُلْقون بموتاهم في «برج الصمت» حتى تأكلهم الطير وتسقط عظامهم في بئر هناك، وقد حدثنا أحد أدباء الفرس أن للمجوس بقية في بعض جبال إيران ولا يزالون على عبادتهم الأولى خفية.

وبعد المجوس ظهر الصابئة أو الكِلْدان، وهم أول من عبد الأصنام وسجد لها بعد عبادة الأجرام السماوية. وهؤلاء يعتقدون أن لنفوس العظماء من الموتى كرامة عند الله كالوسطاء بينه وبين خلقه، وانتقلوا من هذه العقيدة إلى عبادة الملوك والأبطال والأسلاف كما تصنع اليابان في هذا الزمان. وأحد ملوكهم نيقوس الذي شيَّد مدينة نينوى التي كانت إحدى حواضر بابل وآشور، وقد علا نجم هذه الطائفة في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح ٢٠٥٠، وكان إبراهيم الخليل من هذه الطائفة ولكنه ثار عليها وخرج على أبيه الذي كان من صُنَّاع الأوثان وعُبَّادها، ومن طوائفهم الحنفاء القائلون بأن الرُّوحانيات منها ما وجودها بالقوة ومنها ما وجودها بالفعل، فما هو بالقوة يحتاج إلى ما يوجده بالفعل، وعلى قول ابن خلدون يقر هؤلاء الحنفاء بنبوة إبراهيم وأنه منهم.

والذي يهمنا من أمر الصابئة أنهم أول من قال بالنبوة، فقال أحد أئمتهم بيدان بأن من يدرك عالم الأرواح فهو نبي، وأن النبوة من أسرار الألوهية، وكلا المجوس والصابئة لم يعبدوا الشمس أو الأصنام إلا لاعتقادهم بأنه سبحانه يسكن الأولى ويحل في الأخيرة.

ثم ظهرت تقاليد وسنن كلدانية وفريجية ويونانية وفارسية وصينية وهندية وأمريكية (الهنود الحمر) ومكسيكية، وكلها مُجْمِعة على أن الإنسان قد أُنذر بالطوفان، وأن الطوفان كان عقابًا للإنسانية على ما ظهر منها من الشر ولم تَنْجُ من الغَرَق إلا أسرة واحدة، وأنها نجت على فُلْك مشحون فيه صنوف من الحيوان والطير والدواجن وبلغ جبلًا عاليًا، واستدل على ذهاب الطوفان بالحمامة، وأن الجنس البشري تجدد من نسل واحد، وهو بلا ريب عين الخبر الوارد في التوراة.

البراهمة

وبعد أن حبطت زوبعة الطوفان ظهر الفينيقيون القدماء، فأخذوا بأطراف من عقائد الصابئة فعبدوا الأجرام السماوية والأصنام، وعبد العرب في الجاهلية على طريقة المجوس ثم عبدوا الأصنام والتوتيم. وظهر المصريون القدماء بمدنيتهم العظيمة وعلومهم الباهرة، ولكنهم أخذوا عبادتهم عن الصابئة والعرب الأقدمين، وتاريخهم الديني معلوم لنا بقراءة تاريخ بلادنا ومشاهدة آثارها.

ولما أخذ اليونان بالعقائد قسَّموا أربابهم إلى درجتين الأولى والثانية، وأنصاف الآلهة من الثانية وهم عظماء الرجال مثل هرقل وأبولون، أما آلهة الدرجة الأولى فهم زحل وتيتان وستاوسريسه.

وقد نسجوا بخيالهم الشعري أساطير وقصصًا من أغرب ما تصوَّره العقل، وهذه الأساطير هي أساس الميتولوجيا اليونانية، وقد نظمها هوميروس في قصيدة الإلياذة الخالدة، وهناك تقرأ أسماء جوبيتر وفينوس ونبتون وغيرها.

ولم تنقرض الوثنية من العالم الشرقي على الرغم من ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام، فإن الهنود الوثنيين لا يزالون براهمة وبوذيين. والبراهمة أنكروا نبوة البشر، ومنهم الزهاد الذين يهجرون اللذات الطبيعية، وأصحاب الرياضة المطلقة، وأصحاب التناسخ، وأصحاب الرياضة الفاعلة. والدين البرهمي يعلم بوجود إله واحد، فإن لهم آلهة أخرى يسجدون لتماثيلها، وقد انشق عن بَرْهَم ثلاثة آلهة أخرى، وهم برهمة وفشنو وسيڤا. ويعتقدون أن آدم وحواء لما تجاوز نعيمهما الحد حُكم عليهما أن لا يعيشا إلا من عملهما وكسبهما، وأن الأرواح بعد الموت تتناسخ فتمر من جسد إلى جسد. وإذا تأملت إلى ذلك الثالوث البرهمي وجدت أن برهمة يرمز به إلى الخلق، وبفشنو إلى الخير، وبسيڤا إلى الشر، وقد يقولون برهمة هو الموجد وفشنو هو الحافظ وسيڤا هو المهلك.٣

ويعتقدون بأن هؤلاء الآلهة لا بد لكل واحد منها أن يتجسد بهيئة من الهيئات، فهم دائمًا يترقبون ظهور آلهة متجسِّدة كالإله الذي يسمونه ديبور ويزعمون أنه عاش منذ خمسمائة سنة وينسبون إليه العجائب.

وروى رومان رولان المؤلف الفرنسي الشهير المقيم الآن ببلدة فيلنيف على شاطئ بحيرة جنيڤ؛ أن راما كريشنا المتصوف الهندي الشهير وُلد من علاقة أمه بإله ظهر لها وباشرها وأولدها هذا الولي العظيم (الكتاب في ثلاثة مجلدات وظهر سنة ١٩٢٩ و١٩٣٠ على التوالي).

ولهذه العقيدة معابد عظيمة في كل بلاد الهند، ومنها معبد الإلهة كالي الذي بلغ من الفخامة والضخامة والغنى وجمال الزينة ما لم يبلغ هيكل آخر. وفي أحضان هذه الإلهة نشأ وتربى الوليُّ راما كريشنا الذي تتلمذ له فيفيكنندا الذي كان أعظم من ظهر في الهند من رجال الإصلاح، وكان له شأن عظيم في مؤتمر الأديان الذي عُقد بمدينة واشنطون سنة ١٨٩٣ وهو خليفة راما كريشنا السالف الذكر.

البوذيون

أما البوذيون فهم أتباع جوتاما بوذا الذي له أخبار طويلة وقصص، ووقف كثيرون من علماء أوروبا وقتهم وعلمهم على درس تاريخه وأعماله، ومن أهم ما كُتب عنه كتاب «البوذا وحياته وتعليمه وأصحابه» تأليف أولدنبرج أستاذ بجامعة كيال، ونقله إلى الفرنسية فوسيه بباريس، طبع الكان سنة ١٩٢١. وقد حقق فيه مولد بوذا في حديقة لومبيني «ص٩٥»، حيث يوجد عمود كُتب عليه: «هنا وُلد سعيد السعداء!» وتكلم على عهد بناريس تلك المدينة المقدسة عند الهنود. وكانت غاية بوذا إصلاح الدين البرهمي، فجاء إلى أورڤيلا حيث يقطن ألف من البراهمة ويشعلون النار المقدسة تبعًا لأمر الڤيدا ويتوضئون في نهر نيرانجارا «ص١٣١»، فدنا بوذا من المكان الذي يقطنه ملك الثعابين وسحقه بقوته فأُعْجب به البراهمة ودعَوْه أن يقضي الشتاء معهم فلبَّى دعوتهم وأخذ يُظهر الكرامات والمعجزات، فآمن به رئيسهم كسابا ولكنه لم يستطع ترك أديان أجداده فأظهر له بوذا المعجزة الكبرى وهي أن حدثه بما يجول في خاطره، فسجد أمامه كسابا وإخوته وآمنوا به. وسواء صح أن جوتاما بوذا كان ملكًا ابن ملك ترك العرش والزوجة والولد وهو في مقتبل العمر ليحارب الموت والألم والفقر، أم كان زاهدًا مصلحًا خلا بنفسه للعبادة والتجرد حتى قويت نفسه على الكفاح الذي استعد له؛ فإنه لا نزاع في أن البوذية التي سبقت المسيحية بستة أو سبعة قرون كان لها شأن عظيم في الشرق الأوسط والشرق الأقصى، فقضت تقريبًا على تعاليم البراهمة ونقلت ملايين الناس من البرهمية المستبدَّة المظلمة إلى عقيدة أفضل وأرقى. ومن العجيب أن جوتاما بوذا ظهر في سنة ٦٢٣ قبل المسيح كما أن النبي محمدًا ولد في سنة ٦٢٥ بعد المسيح، أي إن بين كل من هؤلاء الأنبياء الثلاثة سبعة قرون. وليس لفظ بوذا اسمًا إنما صفة ومعناها المنوَّر أو المطلِع أو المدرِك.

وقد عارض بوذا دين البراهمة القاسي بدين مؤسَّس على الحنان والرحمة نحو المرأة ونحو الضعفاء والبائسين والمرضى، وصدق في مبدئه الأول وهو مكافحة الألم والشر في العالم. وقد قُسِّمت حياته إلى اثني عشر قسمًا، أهمها القسم العاشر وفيه خبر ابتدائه في تعليم الدين واجتماع الرجال والنساء والأغنياء والفقراء والمرضى حوله، وإيمان كثيرين من الأمراء والحكَّام به، وقد أسس مدينة سرافاستي على شاطئ الجنج حيث شاد معبدًا. ولا ريب في أن جوتاما انقطع للعبادة والتقشف ست سنين، وقد بدأ خلوته وهو في الثلاثين من عمره، وأنه هزم خصمه ماريا الذي جمع جيوشًا جرَّارة لهلاكه.

وخلاصة مذهبه القول بالثواب والعقاب بعد الموت، ويسمون دار الخلود جوكورا كف، أي السعادة الأبدية، وسعادة كل إنسان تكون بحسب استحقاقه، ولا تُنَال تلك السعادة إلا بالتقوى والمحافظة على نواميس بوذا، وهي خمسة: (١) لا تقتل (٢) لا تسرق (٣) لا تزْنِ (٤) لا تكذب (٥) لا تسكر سكرًا شديدًا.

والذين يخالفون تلك النواميس تُرسل أرواحهم إلى دار الشقاء واسمها دسيجوكف ليُعذَّبوا فيها إلى حين. غير أن العالم أولدنبرج السالف ذكره أثبت في ص٣٣ من ترجمة بوذا وشرح تعاليمه أن هذا المبدأ مبدأ الخلود والعذاب والثواب لم يكن معروفًا عند البراهمة بل منكورًا بتاتًا، فقد جاء على لسان ياجنا فالكيا أنه قال لامرأته: «لا تطمعي في الخلود، سوف تصيرين كالأغنياء ولكن الغنى لا يضمن الخلد، لا يوجد إدراك ولا حياة بعد الموت»، فكانت البوذية تتقدم تقدمًا عظيمًا على البرهمية، لأنها وضعت حدًّا للحياة وجعلت جزاءً للخير وعقابًا على الشر.

وقال بوذا:
كل مركَّب مآله إلى الفناء.

وغاية الإنسان هي الخلاص من الأوجاع والهموم. وعندهم أربع حقائق متعلقة بالألم ومصدره وتلاشيه والوسائل الموصِّلة إلى تلاشيه، ولهم طرائق الحقائق في ملاشاة الألم.

ومات بوذا في الثمانين من عمره، وقاومت جثته النار فلم تُحرق بها، وبعد موته انقسم أتباعه إلى فرقٍ قامت بينها بسبب تشعُّب الآراء حروب دامية.

وبعد موت بوذا بزمن قصير ظهر الحكيم كونفوشيوس الصيني ومعناه باللاتيني المعلم المحترم. وقد نشر تعليمه في حياته وخدم الحكومة، ولم يقل إنه نبي ولا رسول واكتفى بصفة الحكمة، ولكن أهل الصين عبدوه وبنوْا الهياكل لتمجيده بعد موته، وهم يقدمون الذبائح من الخَنَانِيص والأرانب أمام هيكله ويركعون أمام صورته، وله كتب خمسة في الكون والطبيعة والحكومة والسياسة والأخلاق والمرأة، ورجال مِلَّته يحفظون كتبه وشرائعه ويؤدون فيها فحصًا يوميًّا. وقد تحاشى هذا الحكيم الذي علا نجمه على نجم سقراط وإن كان قد عاش قبله أنْ يتكلم في العقائد الدينية، بل بذل كل جهده في تنظيم طقوس مفصَّلة وأقام تعاليمه من الحكمة الأدبية على أساس مكارم الأخلاق والاستقامة والعدل والأمانة والذمة. وأمامنا كتاب صغير في حكمة كونفوشيوس باللغة الإنجليزية، طبع جاي وبيرو سنة ١٩٠٤ في مائتي صفحة، وقد تناول فيه الكلام على الحكومة والآداب والفضيلة والتعليم والزواج وعلاقة الأسرة وواجب الأبناء والنساء والملك والأغنياء والصداقة والرجل المتميز العبقري وواجب الحكام وتقدم الحضارة والشعر الصيني. وبالجملة قد بحث كونفوشيوس في كل شيء ولم يذكر العلاقة العظمى بين الإنسان والله، وهذا عجيب من حكيم شرقي في بلاد شرقية كادت تؤلِّهه.

ولكن كونفوشيوس كما قلنا لم يحاول مطلقًا أن تكون له علاقة بالسماء أو بما وراء الطبيعة أو بما يبعد عن فهم الإنسان العادي، بل إنه في كثير من أقواله ينكر العناية الربانية ولا يؤمن بالبعث والخلود ولا يعترف بالنبوة، ولو اعترف بها لادَّعاها لأنه كان أحق أهل زمانه وأحق بني وطنه بها.

أما الفضائل الخمس التي ذكرها فهي المحبة والبر والاحتشام والمعرفة والإيمان (أي عقيدة الرجل بنفسه) وقيل إنها السخاء والعدل واللطف والحكمة والبساطة، وقد ذكر الأرباب حينًا فقال: «احترم جميع الأرباب، ولكن أَبْعِدهم عنك ما استطعت.» ولعن الذين صنعوا الأصنام. ولما حضرته الوفاة عاده صديق له وقال له: ألا تصلي قبل موتك؟ فأجابه كونفوشيوس: أيليق بي أن أصلي؟!

قال صاحبه: نعم، صلُّوا لأرباب السماء وآلهة الأرض.

فقال كونفوشيوس: لقد صليتُ من زمن طويل.

وقد ذكرنا كونفوشيوس في هذا المقام لأنه كان من معاصري بوذا ولأن البوذية انتشرت انتشارًا عظيمًا في الصين، وقلنا إنه بعد موت بوذا انشقَّ أتباعه فرقًا، فكانت منها فرقة اللاما بالتبت وهم يؤمنون بإله واحد وبالثالوث وبالجنة والنار والتناسخ ويزعمون أن اللاما إذا أشرف على الهلاك اختار صبيًّا صغيرًا موعودًا فتحل في الصبي روح اللاما ويصبح الصبي زعيمًا إلى أن يكبر فهو لاما منذ مات سلفه. وما اللاما إلا تجسيد لإلههم «لا» وهو يقيم على وضع التربيع في مكان خفي بقصر باتولي ويعبده أهل التبت، ولأتباع لاما فرقة في بورمانيا وأخرى في جداما.

ومن فروع البوذية «السينتوية» ومصدرها بلاد اليابان، وهذه السينتوية قائمة على عبادة الأوثان، وكان اليابانيون يعبدون الشمس ثم عبدوا الحصان لأنه من أعوان الشمس، وللفرس صور معلقة في هياكلهم. واليابان لا يتعرضون للمذاهب الدينية ما دامت لا تمس سلامة الدولة ولا تقلق راحتها، ولذا سهل نشر الأديان المنزَّلة في اليابان.

والسينتيون يعتقدون بإله واحد خالق كل شيء وله صفات الكمال ولكنه منزَّه عن الشئون الدنيوية وقد تنازل عنها وسلَّمها لأرباب غيره، فإدارة العالم في أيدي أرواح كثيرة، وقاعدتهم التمتع بالسعادة في هذا العالم، ولا يعرفون إلا شيطان الثعلب لأنه أفتك الحيوان بزرعهم. وعندهم خمسة أمور يعوِّلون عليها في دينهم: (١) نار طاهرة (٢) التطهير الروحي وهو الخضوع التام للعقل والجسد، وهو الاحتراس من كل نجس كالدم وبعض اللحوم ومعاشرة السفهاء واستماع فحش القول (٣) حفظ الأعياد الكثيرة (٤) الحج إلى الأماكن المقدسة (٥) عبادة الآلهة في الهياكل والبيوت.

ومن علومهم الخفية التي يكتمونها عن العامة القانون الأخير المتعلق ببداءة كل المخلوقات، ولا يبوح به الكهنة للطلاب إلا إذا تعهد الطالب بالكتابة أنه لا ينجِّس ذلك الشيء المقدس بإظهاره للعامة والجهَّال، وهذا القانون في كتابهم المسمى «أوداكي» وترجمته: «في بداية فتح كل الأشياء كان الخلود والخواء سابحَين كما تسبح الأسماك في البحر للتنزه، فخرج منهما شيء متحرك وقابل للتغير، فصار ذلك الشيء نفسًا أو روحًا واسمه كونيتو كودا تسنوميكوتو.»

عبادة الفتيش في أفريقيا

عبَّاد الفتيش يبلغون مائتي مليون من البشر الذين لا يزالون على حال من الهمجية وهم من أهل أفريقيا والجنس الأسود بصفة خاصة. ويراد بالفتيش الشيء الذي له روح أو خالٍ من الروح كالشجر والصخر والبيض والشوك وعروق الحشائش والحبوب وغيرها. وقد شرح عبادتهم سير جون لوبوك (لورد أفبري) في كتابه «أصول المدنية»، وهربرت سبنسر في كتاب علم الاجتماع وهو الجزء الثالث والرابع من فلسفته. وبعض هؤلاء المتوحشين يعبدون الأصنام ويصورونها على هيئة إنسان أو حيوان مخيف أو عفريت أو من الجن، ومنهم من يدين بعبادة فتيش خاص يعتقد تعظيمه كالثعبان والنمر والتمساح والأليجاتور والغوانا، ومعظم عبدة الفتيش من سكان أواسط أفريقيا وغربها وشاطئ الذهب ونيجيريا وسنجامبيا. وهؤلاء الناس إذا اعترض عليهم المبشرون وعيَّروهم بعبادة هذه الفتيش من الجماد والحيوان ردوا عليهم بأن عقيدتكم توافقكم ونحن نمقتها ونهزأ بها، كذلك عقيدتنا توافقنا ولا يهمنا مقتكم إياها وسخريتكم منها. وممن يدينون بهذه الفتيش سكان الجزائر بالمحيط الهادي وهم من أهل الجَمَال وبلادهم غنية بأنواع الفواكه والثمار الشهية وشواطئهم ملآنة باللآلئ، وهم إباحيون لا سيما سكان «جزيرة الجمعية» الذين ألَّفوها بينهم لانتهاز فرصة الحياة والتمتع بكل ملاذِّها ومقاومة امتداد النسل. ومن هؤلاء الناس من يضحُّون بالبشر لمعبوداتهم الصخرية والخشبية.

وهم يعبدون الجَمَال بحيث إذا وُلد لهم مولودٌ مشوه أو دميم قتلوه. ويعتقدون بالسحر والأرواح الشريرة، ولكل قبيلة منهم رئيس سحرة اسمه كاجور، يعالجهم ويُغْنيهم ويستنزل لهم المطر ويتوسط بينهم وبين الفتيش، وإذا تدلَّل عليهم في إجابة طلب من مطالبهم قيَّدوه وضربوه حتى يستجيب لهم، وهم لا يعرفون الحلال والحرام بحسب معتقدات أصحاب الأديان المنزلة، ويكرهون أهل الجنس الأبيض، ولكنهم يكرمون الضيف ولا يُطْلعونه على أسرارهم، ولهم في الحرب شجاعة فائقة، ولهم ألعاب ومراقص وحفلات مدهشة، ويشوهون وجوههم وأبدانهم في سبيل ما يعتقدونه زينة كخزم الأنف والشفة العليا وتكبيرها ومطها والوشم على كامل البدن وغرس الدبابيس في الرأس والشعر وطلي الجسم بألوان زاهية.

فضل الأديان المنزَّلة

لقد قطعت الإنسانية هذا الطريق الطويل كله، ولا تزال شعوب تعد بعشرات ومئات الملايين تسير فيه، قبل أن تصل إلى الديانات المنزلة التي هي اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد كانت هذه الديانات تقدمًا عظيمًا على ما سبقها وما لا يزال معاصرًا لها من المعتقدات الوثنية، فإن آسيا كلها لا تزال وثنية ما عدا مائة أو مائتي مليون من المسلمين في الصين وإندونيسيا والهند وتركستان وبلاد فارس، أما اليابان كلها والصين والهند فلا تزال بوذية وكونفوشيوسية وسينتونية، ولا تزال أفريقيا بأسرها فتيشية ما عدا خمسين أو ستين مليونًا في شمالها وشرقها وغربها.

ولكن اليهودية كانت فتحًا عظيمًا بالنسبة لتلك المعتقدات الوثنية، فقد جاءت شريعة منظمة بعقائد ثابتة وطقوس شريفة بعيدة عن دنايا الوثنية والفتيش، ولسنا في حاجة للكلام على واحدة من تلك الديانات الثلاث المنزلة، لأنها معلومة للجميع وكتبها المقدسة بين أيدينا وأحبارها وقساوستها ومشايخها بين ظهرانَيْنا، ومعابدها وكنائسها ومساجدها قائمة في وسطنا ومحيطنا.

ولكن أردنا ذكرها لندلِّل على أمرين؛ الأول: أنها كغيرها من الأديان السالفة الذكر قد ظهرت جميعها في الشرق ولم تظهر واحدة منها في أوروبا أو أمريكا أو أفريقيا، لأن عبادة الفتيش التي ذكرناها في أفريقيا لا تعد دينًا، بل هي مجموعة أساطير وأوهام أدخل في فن الفولكلور وعلوم الشعوب منها في الأديان والعقائد.

ولكن العجيب في أمر الأديان المنزلة في الشرق أنها هي أيضًا قد انشقَّت فرقًا وشيعًا؛ فكان من اليهود الفرقة الصاديكمية والسمرة والصدوقيون والفرقة الخاسيديمية والفريسيون والكتبة والأسينيون والهيروديون والليبرتيون. وكذلك في المسيحية ظهرت فرقة الأجنوستيك أو العارفين والدوسيتيين والكورنثيين وفرقة الأيونيين والمانوية (نسبة إلى ماني الفارسي الذي انتحل النصرانية في القرن الرابع المسيحي) والنيقولاويون، وظهرت فرق للبحث في طبيعة المسيح وفرق في المجادلة وهم البيلاجيون، ثم أخذت المجامع تلتئم فكان المجمع النيقاوي فالقسطنطيني فالأفسسي فمجمع اللصوص (ص١٤٩ من تاريخ الأديان لنوفل) فالمجمع الخلكيدوني ثم ثلاثة أو أربعة مجامع في القسطنطينية ثم في نيقيا وفي رومة والمجمع اللاتيراتي والليوني والفيرنزي (نسبة إلى فيرنزه بإيطاليا) والباسيلي والروماني والترنتواني، ولا تزال المجامع تعقد في رومة وتصدر التعاليم الأخيرة، وآخرها المجمع الأوكمنيك ١٨٦٩-١٨٧٠ الذي عقد في رومة.

ولهذه الديانة كنائس تقليدية أشهرها الكاثوليكية والأرثوذكسية والإنجيلية أو البروتستانتية، ومن أهل الفرق اليعقوبيون والسريان والأفيقيون والأرمن والنساطرة أو الكلدان، وقامت في روسيا قبل الثورة شيعٌ تزيد على مائتي شيعة ولا يقل أتباعها عن خمسة عشر مليونًا، ومنهم رافضو عماد الأطفال، وأصحاب التبتل، ومنهم من ارتد عندما شاع أمر عصمة البابا.

وكانت أعظم الشيع المسيحية أتباع لوثيروس وكالڤن وزنجويل وكلهم محتجون، وانتشرت مذاهبهم في ألمانيا وهولندا وإنجلترا وسويسرا والسويد والنرويج.

وكان في إنجلترا الموحدون والمطهرون، وكلما صعدت إلى الشمال وجدت فرقًا تخالف البروتستانت وتعلو عليهم. ومن السكسون فرقة الكويكرس وأتباع سويد نبرج. وكل فرقة تخالف الأخرى وتقاومها وتنكر معتقداتها، كما أن جميع اليهود يخالفون النصارى وينكرون ديانتهم.

الشرق متدين

وإن هذا الدين الحنيف لم يخلص من البدع التي ظهرت فيه وأوجبت وضع علوم الكلام، فقد ظهر فيه المعتزلة والمشبِّهة والقدرية والجبرية أو المجبرة والمرجئة والحرورية والنجارية والجهمية والرفضية والخوارج. وكل فرقة من هذه الفرق انقسمت إلى فرق صغرى وشيع.

وقد استعرضنا الأديان التي ظهرت في الشرق لنقف القارئ على حقيقة مهمة وهي أن معظم الأفكار الدينية والروحانية التي ظهرت في العالم إنما كان مصدرها آسيا، حتى الدين المسيحي الذي ساد في أوروبا وأمريكا، وأن أمم الشرق لم تقنع كغيرها بعقيدة واحدة ولم تصلح بمرشد واحد أو مرشدين، بل احتاجت في حياتها النفسانية إلى عشرات الأديان وكل دين ينطوي على مئات من الشِّيَع والفرق والأحزاب. في حين أن ممالك أوروبا وأمريكا، وهم ذوو مدنية عظيمة وقوة مادية أعظم، قد دانوا بدين واحد وهو النصرانية وإن كانوا من قبل وثنيين، إلا أن تلك الوثنية قد زالت واتخذوا الدين المسيحي في كل بقعة وأرض وشعب من سواحل سيبريا شرقًا إلى شواطئ المحيط غربًا.

وحتى وثنيتهم كانت ترجع إلى عبادة الكواكب والأبطال (في اليونان ورومة) ولم تنزل إلى عبادة الأحجار والأشجار. وإن الأمم الآسيوية والأفريقية التي أقبلت على الأديان المنزلة، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، قليلة جدًّا بالنسبة للكثرة الوثنية، ويعد انتحال واحد منها في آسيا أو أفريقيا استثناءً، فإن للبرهمية والبوذية وعبادة الأفيال والكونفوشيوسية والسنتينوية القَدَح المُعَلَّى في شعوب آسيا. والإسلام في كل من الصين والهند وجزر المحيط استثناء، ما عدا أهل إندونيسيا وبضع عشرات الملايين في بقية آسيا. ولعل قارة أفريقيا هي وحدها السائرة نحو الإسلام بقدم ثابتة، ولكن لا بد من مضي بضعة أجيال على انتشار الإسلام فيها.

فماذا استفاد الشرق من هذه الروحانية المبالغ فيها، في حين أن أهل أوروبا وأمريكا وأستراليا سنُّوا الشرائع ونظموا المجالس وأحدثوا حضارة قوية التهمت الشرق بأجمعه؟ إن الشعوب الشرقية استغرقت كل قواها في المباحث التي وراء الطبيعة وبعد الموت وفي أعلى السموات، ولم تصرف كثيرًا من جهودها فيما هو ماثل أمامها على سطح الأرض. إن في الهند براهمة واصلين يمكنهم نقل الجبال بإيمانهم، ويأتون في كل يوم بالعجائب التي نقرأ عنها ونراها ويقِر بها كتَّاب فضلاء أمثال رومان رولان في كتابه عن راما كريشنا وڤيڤيكندا، ولكن هؤلاء القديسين والواصلين الذي يتحملون أشق الآلام في تعذيب أبدانهم وإماتة نفوسهم، وبلغوا الذروة من العلوم الروحانية، وعبدوا الآلهة والأرباب المتعددة الأيدي والرءوس والأرجل وزينوا الهياكل بالأحجار الكريمة والذهب والفضة؛ لم يقدروا على إبطال فعل مدفع واحد في حروب الاستعمار التي أعلنتها عليهم أوروبا، وإن شئنا التأدب في مقامهم قلنا إن أهل الباطن لم يرغبوا في التدخل في أمور أهل الظاهر. فهل من وراء هذا كله فائدة للشرق؟ وهل الاستمرار على هذه العبادات الوثنية السخيفة يعود على الشرق بخير بعد أن تبددت قوى هذه الأمم؟٤

حقًّا إننا رأينا أمة وثنية آسيوية تكافح وتتحضر وتتغلب على دولة أوروبية، وهي اليابان، ولكنها وحيدة ومنفردة والبحث في معتقداتها أدى بنا إلى العلم بأنهم لا يكترثون كثيرًا لأربابهم، ويتخذونهم وسائل للوصول إلى أغراضهم الدنيوية. وهل لا بد للشرق من الإفراط في الأديان بعد الذي رأينا؟ إن أوروبا تعيِّر البيزنطيين بما وقعوا فيه من الإفراط في الاشتغال بالدين بمناقشات بيزنطية أدت إلى اقتحام الترك عاصمتهم وهم يبحثون في هل الملائكة ذكور أم إناث، وهل للمرأة روح مثل الرجل أم لا! فهل تريد بقية أمم الشرق أن تقع في مثل ما وقع فيه أهل بيزنطة من الخيبة والخسران؟

وقد حدث في العهد الأخير حادثان جليلان في تاريخ العالم، أولهما أن الروس وعددهم ٤٠٠ مليون وكانوا زعماء الكنيسة الأرثوذكسية وكانوا من المتعصبين للدين ومن أهل التشدد في المذاهب؛ قد طلَّقوا الدين المسيحي بتاتًا، ونشروا الإلحاد وأقاموا له هيكلًا كان أصله مجمعًا للقساوسة والبابوات الأرثوذكس، وهم لم يصابوا ببلاء ولا تزال دولتهم قائمة.

وفي تركيا أدخل مصطفى كمال آراء جديدة وغيَّر من مظاهر المسلمين في أحوالهم، وصرف النظر عن الأشكال، ووجَّه قوته إلى تنمية الدولة وإعظام شأنها، ونقل الكتابة من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ فقامت عليه قيامة فريق من الناس يقدسون الدين دون سواه، وقام مدافعون عن مصطفى كمال يبررون فعله بما جرى لدولته وقومه على أيدي أوروبا لأنها كانت دولة الإسلام الكبرى، فكانت أوروبا تضطهدها وتحاربها وترمي إلى هلاكها واغتصاب أملاكها حتى قضت عليها … والأعجب والأدهى أن المسلمين أنفسهم الذين كانوا تحت أحكام تركيا انقلبوا عليها وحاربوها ولم يساعدوها في ظرف من ظروف الضيق التي وقعت فيها.

فلم يساعدوها عندما اعتدى عليها الموغول منذ سبعمائة سنة، وجرَّد محمد علي وإبراهيم جيوشهما لمهاجمتها في عهد السلطان محمود في سورية والأناضول، وهما من رعاياها وولاتها.

وفي حرب روسيا لم يتقدم إلى مساعدتها إلا أفراد متطوعون ولم تسيِّر دولة إسلامية جيشًا من جيوشها للمحاربة في صفوف الأتراك إلا لَمَمًا، وفي العهود الأخيرة خلق لها العرب أنواع القلاقل في جزيرة العرب وسوريا والعراق حتى قضوْا عليها. ووجد الحلفاء وزراء من الأتراك وشيوخًا من مشيخة الإسلام يفتون بكفر مصطفى كمال ومن معه وبمروقهم من الدين ليسيئوا إلى سمعتهم في العالم الإسلامي، أما هم وسادتهم الذين كانوا منغمسين في المعاصي والفجور إلى أذقانهم وكانوا يمدون أيديهم لرشوة الأجانب فلم يكونوا خائنين ولا مارقين ولا ملحدين بل طَهَرَة أبرار! ولما ذهب مُلْك تركيا بفعل أوروبا من جانب وبفعل المسلمين من جانب آخر، وسقطت تلك الخلافة البالية البائدة التي لم يكن لها معنى ولا طعم ولا ذوق ولا قيمة؛ قام المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ومعظمهم مأجورون ووسطاء، ينْعُون على مصطفى كمال سلوكه، ويطْعَنون في شرفه وذمته وإخلاصه وأخلاقه، ويهددونه بأنه فقد الجنة، كأنهم هم ضمنوها لأنفسهم وأخذوا بها صكًّا على رضوان!

ولم يقف الأمر عند ذلك، بل إن أحد المسلمين واسمه مصطفى الصغير، وهو مسلم هندي، دخل إلى تركيا باسم جمعية الخلافة المؤسَّسة في الهند، وتجسس على الرجل وأخذ يرسل التقارير إلى سادته الذين ربَّوْه في عليكره وفي أكسفورد وأطلقوه كالأفعى السامة ينفث سمومه في دولة الإسلام الباقية.٥

ولكن مصطفى كمال ورجاله تمكنوا من القبض عليه والحصول على اعترافه ودقُّوا عنقه بعد ذلك، وقد أعلن هذا اللعين إخلاصه ورقبته في حبل المشنقة لأحد ملوك أوروبا وقال إنه يترك أسرته أمانة لدى جلالته …

أوروبا تضطهد مصطفى كمال

وقد أظهر مؤلف «تاريخ الخدمة السرية الإنجليزية» أسرارًا وخفايا تكاد تكون من الأحلام أو نوعًا من أنواع الكابوس الذي يعتري النائم … على أن مصطفى كمال هذا لم يوشك أن يحرر بلاده وشعبه ويلُمُّ شعَثه ويعلن الجمهورية ويفصل الحكومة عن الدولة ويتخذ القوانين الأوروبية الحديثة المدنية والجنائية والدستورية؛ حتى قامت أوروبا تناوئه، وقد استعملت في هذا مشايخ الطرق المناحيس من الأكراد وغيرهم، فقامت في بداية الأمر فتنة في إصطامبول أُعدم بسببها رجال كانوا فيما مضى نابهين أمثال جاويد باشا الذي باع حياته رخيصة في سبيل مؤامرة منحطة، وكان يمكنه الاستفادة من مواهبه الاقتصادية وانتفاع البلاد به. ثم تلتها ثورة الأكراد الأولى وكان محركها شيخًا مفتونًا، وتغلب عليها مصطفى كمال بعد جهود عظيمة، ثم تلتها ثورة الأكراد الأخيرة ١٩٣٠، وكان زعماؤها من المشايخ المتصوفين الذين يرون في أعمال مصطفى كمال كفرًا وخروجًا على الدين، فعذرناهم لجهلهم وتعصبهم وربما رثينا للشيخ الذي مات فَرَقًا قبل الوصول إلى حبل المشنقة، ولكن بعد أيام انكشف الأمر عن القبض على سبعة ضباط من الإنجليز كانوا يدبرون تلك الفتنة وقد أُعْدِموا رميًا بالرصاص ولم يَنْطِقوا بحرف واحد. وإذن كانت أوروبا وراء هذه الثورة أيضًا، وغايتها خلق المشاكل لمصطفى كمال حتى تسقط دولته، فلو كان مصطفى كمال ملحدًا وخرج على الإسلام لينال حُظْوة أوروبا، لم تكن أوروبا لِتسلط عليه جنودها وضباطها وتنفق الأموال في خراب بلاده. فالأفضل للمسلمين في الشرق أن يتركوا نغمة الانتقاد والتقريع ضد مصطفى كمال وغيره وأن «يتركوه كما تركهم»٦ وأن ينظروا إلى شئونهم الخاصة ببلادهم وأوطانهم، وأن ينظروا إلى الجِذْع الذي في أعينهم بدلًا من أن ينظروا إلى القشة التي في عين جارهم.

إن الدين لله ويجب أن يبقى بين الإنسان وربه، وأن لا ندخله في كل شيء ونجعله مسئولًا عن كل شيء، لقد انشغلت أفكارنا بالدين وشئونه حتى انسدل على بصيرتنا وأبصارنا حجاب كثيف لا يكشف ما وراءه فعَمِينا عن حقائق الأمور الملموسة أن الدين لا دخل له في أعمال البشر، ولا سيما في السياسة، فما انشغالنا نحن المسلمين بالحلال والحرام والجائز والمباح والمحظور في السياسة والخلافة والإمامة هو الذي ينقذنا أو يميتنا على حق ولكنه يُورِثنا الخَبَال والحَيْرة، وقد أمرنا الدين بأمور واضحة ونهانا عن مثلها بجلاء، وفي أنفسنا قوانين سامية تدلنا بالفطرة على أن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، فلا فائدة من اندفاعنا في التفصيلات اندفاعًا أعمى بعد أن تركنا الكليات. لقد تركنا العمل وتعلَّقنا بالأقوال، وودَّعنا الشجاعة والوفاء والإخلاص والإيمان بالله والثقة بالنفس واستقبلنا الصغائر والتمسك بالحروف.

ولا ننسى أن الأديان قد أَوْرَثت في كل بقاع الأرض حروبًا، فأهل الدين الواحد يحاربون بعضهم بعضًا وأهل الأديان المختلفة يتحاربون كلٌّ يريد انتصار طائفته، فأُهْرقت دماء كثيرة في سهول العالم وجباله ومدنه ووديانه.

فالنصارى اضطهدوا اليهود وطردوهم من بلادهم وطاردوهم فآواهم الأتراك والإسلام، والشيعة حاربت أهل السنة،٧ والنصارى حاربوا المسلمين وأجْلوهم عن الأندلس، والكاثوليك قتلوا البروتستانت في موقعة سانت بارثلميه الغادرة، وأوروبا أعلنت على الإسلام الحروب الصليبية، ولكن هذه الحروب قد انتهت الآن وأصبحت أوروبا تهاجم الشرق لكونه شرقًا سواءً أكان أهله مسلمين أو نصارى أو وثنيين، والكلمة ليست اليوم للإيمان ولكنها للغلبة والقوة في سبيل السيطرة السياسية والفتوح الاقتصادية.

فيجب على الشعوب الشرقية أن تنظر إلى ذلك بعين البصيرة وأن توجه همتها إلى الدفاع عن كيانها لا باسم الدين ولا بسببه ولكن باسم القومية وباسم الحضارة وباسم الإنسانية، وأن تجعل الدين رائدها في الأمور النفسية والخلقية.

إن المعتقدات ثروة روحانية وليست مثارًا للأحقاد، وإن الإنجليز قد اتخذوا من الفروق الدينية في الهند سلاحًا من أفظع الأسلحة، فكان الشقاق بين الهندوس والمسلمين سببًا دائمًا لسيادتهم، وطالما قامت في مدن الهند المقدسة كبناريس وكلكتا وأحمد آباد فتن عظيمة بين الهنود والمسلمين أريقت فيها الدماء وضحكت بسببها بريطانيا، لأنها علمت أنها الوسيلة الوحيدة التي تضمن سيادتها ونفوذها، ولم تخشَ إنجلترا جانب الهند إلا بعد أن ظهر شبه ائتلاف بين الهندوس والمسلمين، وقد أذاع الإنجليز حجة جديدة ضد الإسلام لمصلحة الهندوس فقالوا في صحفهم: «إننا هنا نحمي البراهمة والبوذيين من اعتداء الإسلام الذي لا يزال قوة فاتحة في الهند ولكنها الآن كامنة نائمة وإنما نومها إلى حين، فإذا تركناكم لن تلبث أن تتيقظ وتعيد الكرة على بلادكم لإذلالكم وقهركم وتأسيس دولة إسلامية تماثل دولة الموغول.»

ولم تكن الهند وحدها التي سلكت فيها إنجلترا هذا المسلك بل إنها لعبت بهذه النار في مصر أيضًا، ففي سنة ١٩٠٧ عندما تولى غورست مكان كرومر خلقوا مسألة الأقلية والأكثرية، وادَّعى بعض الأقباط أنهم مظلومون وخائفون وكتب بعضهم «الإنسانية تتعذب» وسافر قرياقص ميخائيل إلى إنجلترا حيث وضع على رأسه قبعة طويلة وحمل على المسلمين حملة منكرة في الصحف والمجلات، وادَّعوا أن حركة مصطفى كامل إسلامية متعصبة لأنه كان في أول عهده ينتمي إلى السلطان عبد الحميد، وحاولوا إنكار نبوته الوطنية. ولم تمُتْ هذه الفتنة إلا في حركة سنة ١٩١٩، حيث تعاهد الأقباط والمسلمون على الاتحاد في المسألة الوطنية، وتعانق قُسُس الأقباط مع مشايخ المسلمين وخطب الشيوخ في الكنائس والقسس في المساجد، وارْعَوى قرياقص عن غيِّه وطُوِيت صحيفة الوطن التي كانت مصدر هذه الحركة الخطيرة. ولم يكن ذلك الاتحاد إلا ثمرة الآلام التي ذاقها العنصران وأدركها عقلاؤهم، وتبينوا أن الأمر كله دسيسة إنجليزية يُقصد به إلى تفريق الكلمة وتشتيت الشمل. ثم إن هؤلاء المشايخ الذين ينتمون للإسلام قد رأينا سوء فعالهم في مجرى التاريخ من عهد جنكيزخان إلى عصرنا هذا، مارِّين بأدوارهم في الدول العباسية والأموية والفاطمية والعثمانية كفانا الله شرهم وحفظنا من كيدهم.

١  قتله رجل صاحب قضية تعيَّن فيها بيل خبيرًا وقدم تقريره ضد الرجل لمصلحة المدَّعي وهو من الأغنياء. وهو فيليبونيه.
٢  علمنا من المعاصرين أنها عاشت بضع سنين في باريس، ويرجع إليها الفضل في تعليم بضع فتيات وتثقيفهن على نفقتها.
٣  هذه هي عقيدة جاندهي (غاندي)، ولكنه تحرر من قيودها ومال إلى التوحيد كما علمت منه شخصيًّا.
٤  لا ننكر أن غاندي مستمد طريقته الروحية من تلاميذ راما كريشنا وهو يستعين بالزعيم الديني الأكبر، وقد يعطي التصوف الهندي ثمرته إذا أنتجت جهودها خيرًا للوطن.
٥  وباسم جمعية الخلافة وأذنابها يعيث شوكت علي في الأرض، وإن كنا نربأ به عن الحظ الذي صادف مصطفى الصغير!
٦  في الحديث الصحيح: «اتركوا الترك ما تركوكم.»
٧  اغتبط العالم الإسلامي بصلاة زعيم الشيعة إمامًا لأهل السنة في المؤتمر الإسلامي بالقدس ٨ ديسمبر ١٩٣١ سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤