الفصل السابع

الشرق العربي: بيان طبيعته وأهله وخيراته

الشرق العربي

نقصد بالشرق العربي البلاد الشرقية في آسيا وأفريقيا التي تتكلم بالعربية وتكتبها، سواءً أكانت تلك البلاد تدين بالإسلام أم بالنصرانية، وقد يكون في أحد تلك البلاد لغة أخرى بجانب العربية ولكن العربية هي المعوَّل عليها في مخاطباتهم ومكاتباتهم سواء أكانت تلك البلاد مستقلة أو واقعة تحت سلطة أجنبية. فتكون بلاد الشرق العربي هي:
  • أولًا: جميع بلاد أفريقيا التي تتكلم العربية، وهي مصر وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وما يليها من بلاد السودان والواحات إلى غرب أفريقيا.
  • ثانيًا: سورية وفلسطين ولبنان وشرق الأردن.
  • ثالثًا: العراق والموصل وديار بكر وعاصمتها بغداد.
  • رابعًا: مملكة عمان وشمر والقصيم.
  • خامسًا: جزيرة العرب، وفيها نجد والحجاز واليمن وحضرموت وعسير وتهامة.
  • سادسًا: كل إمارات الخليج الفارسي كالكويت والأحْساء والمحمرة والبحرين.

وهذا الشرق العربي كما ترى بلاد كبيرة واسعة الأكناف، وربما كانت ما عدا الحجاز (الذي وُصف بأنه واد غير ذي زرع) من أخصب بلاد العالم مع اعتدال في هوائها وطباع أهلها، فضلًا عن أنها كلها في وسط المعمور وعلى طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وكانت كلها قديمًا بلاد الحضارة والأديان المنزَّلة والعمارة والزراعة والصناعة والتجارة ومركزًا للعلم والأدب والفنون، وليس ما يمنع أن تعود إلى ما كانت عليه من العظمة والغنى.

أما عدد سكانها فيبلغ على سبيل التقريب من خمسة وستين مليونًا إلى سبعين مليونًا، ومعظم هذا العدد من الحضر سكان المدن والبلدان والقرى، وفيهم الأعراب سكان الخيام الذين يعيشون عيشة البداوة ويسرحون بأنعامهم وهؤلاء يقلون شيئًا فشيئًا ولا يتجاوزون ثلاثة ملايين ونصف أو أربعة ملايين.

وقد شوهد أن أهل الشرق العربي من سكان البلاد المتاخمة للفرس والأرمن والأكراد والأتراك، وإن كانت عليهم بعض الصبغة من هذه الأمم إلا أنهم ينزعون دائمًا في ميولهم ومشاربهم وأغراضهم وتقاليدهم إلى العرب، لأن استقراء علماء الاجتماع دل على أن الذين يتكلمون لغة من اللغات تكون نزعاتهم في ميولهم ومشاربهم وتقاليدهم وأغراضهم السياسية والاجتماعية إلى جانب أهل لغتهم وإن بعُدوا عنهم في المعتقد والجوار أكثر مما هي إلى جانب أهل لغة أخرى وإن هم قَرُبوا منهم في الجوار والمعتقد حتى وفي الجنسية البعيدة (بحث للأستاذ جبر دومط، مقتطف أغسطس سنة ١٩١٠). ولذا ترى كل الأمم التي تعيش في ظل بلاد إسلامية تنتحل وسائل معايشها ومدنيتها وحضارتها وإن خالفتها في المعتقد. وقد يسمي أحدهم نفسه إسلامي الحضارة ذلك أن الإسلام تميز باللغة العربية التي كانت أداته في نشر لوائه، فترى المسلم الغريب اللسان يسعى جهده للأخذ بطرف من اللغة العربية التي هي مفتاح ذلك الدين ومدنيته الوارفة الظلال وكل ما يتعلق بهما. ومما يصادق نظرية تأثير اللغة في الشعوب التي تتكلم بها وتتخاطب أن الدول الأوروبية المستعمِرة إذا احتلت بلدًا شرقيًّا سارعت إلى محاربة لغته ونشرت لغتها وآدابها حتى تقطع العلاقة بين الشعب ولغته الأصيلة، وهي جماع معتقداته وميوله ومشاربه وتقاليده في حياته الاجتماعية والسياسية، ثم تدفعه إلى لغتها الغربية فينجذب نحو آدابها ومدنيتها مقلِّدًا لا معتقِدًا، ومحال عليه أن يضارع القوم في أخلاقهم ومبادئهم فيفقد القديم ويفوته الجديد ويبقى أبدًا مضيَّعًا. وقد كان النضال شديدًا بين اللغة العربية واللغات اللاتينية والإنجليزية، فخرجت الأولى ظافرة وخاب المستعمرون في هذا وحده.

العراق

من أمهات الديار العربية قبل الإسلام وبعده، أما قبل الإسلام فلأن الحِلَّة كانت دارًا لملوك العرب من أيام جَذِيمَة الأبرش إلى آخر من ملك من المناذرة، وأما في الإسلام فقد اختُطَّت البصرة والكوفة في أيام عمر بن الخطاب وما زالتا مدينتَي العرب أجيالًا. ولما قام المنصور العباسي اختطَّ بغداد وبقيت دارًا للخلافة الإسلامية العربية إلى أن قدم هولاكو إليها في سنة ٦٥٦ھ، وقتل الخليفة المستعصم بالله واستباح المدينة أربعين يومًا، قيل فبلغ القتلى أكثر من مليون نفس ولم يسلم إلا من اختفى في بير أو قناة.

أما عدد سكان العراق فيبلغ نحوًا من ثلاثة ملايين وهو عدد كادت تبلغ ثلثيه بغداد وحدها في إبان عزها. والبلاد لا ينقصها خصب ولعلها من أخصب بلدان الدنيا ولا سيما بقعة مدينة بغداد وما حواليها فإنها تصلح للزرع والضرع وقد تَغِلُّ في رأي الخبراء أربعمائة ضعف، وربما كانت ثروتها المعدنية الكامنة في بطن الأرض أعظم مرات كثيرة من ثروتها الزراعية وليس التمر وحده هو مصدر الغنى الزراعي، بل إن البلاد فوق ذلك بلاد حبوب وقَطَّانِي وصوف وقطن وصمغ ورب السوس.

وقد غير اكتشاف آبار البترول وجه العراق، وإذا اهتم أهل البلاد بإحياء موات الأرض ولم يكتفوا ﺑ «بنات عماتهم» النخل، كان لهم موارد ثروة لا تنضب، فإن معدل أثمان صادرات الصوف من بغداد والبصرة يبلغ نحو مليونًا ونصف مليون جنيه. وقد قامت أخيرًا في العراق نهضة صناعية باهرة مذ تأسست فيها مصانع للثياب الوطنية من أقمشة تصنع في البلاد، وقد بدأ رأس مال تلك المصانع بمائتي ألف روبية وبلغ الآن أكثر من أربعة أو خمسة ملايين روبية، وصار أهل البلاد كلهم يلبسون من المنسوجات الوطنية.

وقد استغنوا عن العمائم والطرابيش بغطاء رأس مستطيل الشكل أسود اللون يصنع في العراق أيضًا واسمه السدارة، وعلمت من سائح شرقي جليل ثقة أنهم أسسوا مصنعًا لدبغ الجلود وصناعة الأحذية منها، فلا يحتاجون بعد اليوم إلى ثياب أو أحذية أو قبعات أوروبية أو طرابيش نمسوية. وعلمت منه أن ياسين باشا الهاشمي قد حتَّم منذ بضع سنين على الحكومة أن تتعاقد مع مصانع الثياب لابتياع كسوة الجيش والجند وعمال الدواوين وأبناء المدارس، وهذا عمل جليل ليس بعده غاية لمخلص. ولا غرابة إذا نهضت العراق هذه النهضة المباركة فقد كانت مدن العراق من أكبر المراكز الصناعية والتجارية في العالم في أيام زهو العباسيين، فبغداد أخصب بقعة في العراق، ودجلة والفرات طريقان مائيان عظيمان ينصبَّان إليها من الشمال الأول رأسًا والثاني بما يوصل من الترع بينه وبين دجلة، ودجلة يوصلها بالبصرة اتصالًا لا ينقطع ثم البصرة توصلها بخليج فارس فخليج عمان فباقي البحار الكبيرة، فأي مركز إذن يفضل مركزها؟ وفي سنة ١٩٢٧ خرج من ميناء البصرة تسعمائة وخمسون باخرة محمولها ١٤١٨٤٦٠ طنًّا من المواد الأولية والثمار معظمها لبلاد الإنجليز.

وكانت المتاجر تصدِّر عن بغداد إلى إنجلترا قبل الحرب العظمى بعشرين عامًا، والإنجليز يرمقون العراق من عشرات السنين ويرمون إلى تكبير أهميتهم التجارية والسياسية على أيدي قناصلهم ووكلائهم في الخليج الفارسي، ومقدَّمهم في هذه المناصب سير برسي كوكس، الذي صار بعد عشرين عامًا من الخدمة السياسية في البحرين مندوبًا ساميًا لعهد الملك فيصل.

وفي سنة ١٩١٠ حدثت أزمة في الوزارة العثمانية أحدثتها شركة لنش الإنجليزية في العراق، وكان المرحوم سليمان البستاني معرِّب الإلياذة يعيش في تلك الجهات ويخدم الدولة قبل أن يعيَّن عضوًا في مجلس الأعيان العثماني، وقد كتب ما يستفاد منه تحذير الدولة من الخطر الاستعماري البريطاني.

وسوف نتكلم عن الخليج الفارسي والبحرين بما فيه الكفاية غير أن للكويت والأحساء صفة خاصة، فقد شغلت الكويت قراء الصحف العربية في نهاية القرن التاسع عشر، لأن الإنجليز كانوا يُلقون عليها حبائلهم ليجعلوا منها مستودعًا لذخائرهم وموطئ قدم لدى فتوح العراق، وكانت الكويت والأحساء تابعتين لولاية البصرة، وكان مدحت باشا واليًا على البصرة، ولا نزال نذكر أنه خطب ود الشيخ عيسى أمير البحرين فلم يجِبْ نداءه بل على العكس سلَّم خطابه إلى حلفائه الإنجليز.

ومذ كان مدحت باشا واليًا على البصرة حدث خلاف بين عبد الله بن سعود وأخيه سعود فلجأ عبد الله إلى مدحت يستنصره على أخيه، فألحق مدحت الكويت والأحساء بولاية البصرة وشكَّل منهما متصرفية سميت بمتصرفية نجد. أما الكويت فعلى أن يكون عبد الله بن سعود قائمقامًا عليها كل أيامه تحت حماية العثمانيين، فدخلت الكويت والأحساء تحت حماية العثمانيين حوالي ١٨٧٠ ولم ينازع منازع في ذلك، وتشكلت متصرفية الأحساء وكان يعيَّن لها المتصرفون العثمانيون ومعهم من الجند ما تقتضيه الحاجة السياسية والمدنية. كان ذلك والأمير ابن السعود الذي صار فيما بعد ملك نجد والحجاز ما زال فتًى وقد نشأ وترعرع في كنف الشيخ مبارك الصباح شيخ الكويت، الذي استولى عليها بعد عهد المتصرفية العثمانية. وكان يجب على مدحت أن يلفت نظر دولته إلى أهمية الكويت وجزيرة البحرين، ولسنا ندري أين كانت أعين الترك وآذانهم الطويلة طول القرن التاسع عشر وهم أصحاب العراق وجزيرة العرب، وكان ينبغي أن تكون «البحرين» تابعة للمتصرفية، ولكن الإهمال بل الغفلة من جهة وبعد الشقة من جهة أخرى (كأن إنجلترا والهند كانتا أقرب إلى الخليج الفارسي وجزيرة العرب من تركيا) والجهل بأهمية موقع الكويت وموقع الجزيرة معًا؛ كل ذلك جعل المتصرفين يغضون النظر عن الكويت والجزيرة ويتركون لرؤساء القبائل فيهما أن يتصرفوا بالبلاد والعباد كما يشاءون كأنهم مستقلون في المكانين المذكورين، وقد انتهى هذا التصرف السيئ بفقد البلاد جميعًا.

الكويت والمبشرون بها

أما الكويت فمدينة نظيفة ويبلغ عددها ثلاثين ألفًا، وميناها واسع أمين من أحسن مرافئ شرقي جزيرة العرب بل أحسنها، وكان الألمان يؤمِّلون أن تنتهي فيها السكة الحديدية البغدادية ولكن الدهر لم يساعدهم. غير أن هذا لم يقلل من أهميتها التجارية والحربية، فقد لعبت في الحرب دورًا مهمًّا فكانت مستودعًا للذخائر والأسلحة التي استعملها الإنجليز في حروب العراق ضد الدولة العثمانية وبعد ذلك ضد أهل العراق أنفسهم قبل تنصيب فيصل ملكًا عليهم. ويبلغ عدد سكان الكويت ثلاثين ألفًا الآن.

والكويت في فلاة قاحلة ليس لها ما تعتمد عليه إلا التجارة، وتجارتها متسعة مع شمر ونجد والحجاز، ومنها ترسل الخيول إلى البنادر الهندية، وفي جنوبيِّها واحة القطيف وهي من أخصب الواحات في بلاد العرب حتى تمتد إلى قطر.

روى لنا سيد عظيم من رجال الشرق العاملين على خدمته أنه زار الكويت في غرض له فوقف من أخبار المبشرين على العجائب، فقد علم أنهم قسموا البلاد إلى مناطق نفوذ في الخليج الفارسي، فالمبشرون الكاثوليك لا يتعدون منطقتهم والمبشرون البروتستان كذلك، ولهؤلاء الأخيرين قصة فكهة تدل على صبرهم وثباتهم وحسن إيمانهم.

فإنه جاء منهم أربعة من صميم بلاد الإنجليز الذين لا يطيقون فيها حرًّا ولا شمسًا (وهم لا يرون قرص الشمس مرة في كل عام)، فرضُوا أن يعيشوا في وسط بلاد يُضرب المثل بشدة قيظها، وتعد مصر في أشد أيامها حرًّا بمثابة سويسرا بالنسبة لها، وتلك البلاد وهي الكويت خالية من كل وسائل الراحة البدنية فلا طرق ولا شوارع ولا ماء صالح للشرب ولا أدوات صحية … تصور هؤلاء الإنجليز الأربعة الذين جاءوا بزوجاتهم كيف يعيشون في هذا الوسط الغريب عنهم مستهدَفِين لأخطار الطبيعة وأخطار الحياة!

وقد بدءوا أولًا ببناء مستشفى وتأسيس مكتبة، وقد بقي المستشفى والمكتبة خاويين على عروشهما لا يؤمهما أحد من أهل البلاد مدة أربع سنين، فلم ييأس المبشرون الثمانية ولم يضْجَروا ولم يتسرب اليأس إلى قلوبهم، بل لجئوا للدرجة الثانية من العمل وهي أن نساءهم الأربع تحجَّبن واتخذن أسماء أنثوية إسلامية فاطمة وعائشة وزينب وزبيدة، وأخذن يغشين منازل أهل الكويت ليعالجن المرضى ويواسينهم ويخففن آلامهم في سكون وهدوء ولا تنطق واحدة منهن بكلمة في الدين، وهن ينتظرن سُنُوح الفرصة ليقُمْن بعد قليل بواجبهن الأصيل وهو التبشير، وكفاهنَّ الآن أنهن تملَّكن قلوب الذين خدمْنَهم بالعلاج والدواء. وهكذا يعملون ويعملن في صبر وثبات دون أن يشعر أحد بخطورتهن.

والبقعة بين رأس قطر والقطيف مَغَاص من أحسن مغاوص اللؤلؤ في العالم كانت ولا تزال إلى اليوم، وسكان قطر والبحارنة (أهل البحرين) كلهم يشتغلون بالغوص نصف العام تقريبًا. ومن مدن تلك الجهة هَجَر القديمة المهجورة المشهورة بتمرها حتى ضُربت به الأمثال فقيل «ناقل تمر إلى هجر» كما يقال «ناقل قطن إلى مصر.»

وقد أسس الترك هذه المتصرفية التي حكينا عنها آنفًا منذ ستين عامًا وكان ينبغي لهم أن يُعْنَوْا بها منذ ذلك التأسيس، ولعلهم لم يدركوا أن تلك البلاد هي مفتاح البلاد العربية غربًا ومفتاح الهند شرقًا ومفتاح العراق شمالًا وبها طرق التجارة المهمة للشرق والغرب.

والحَسَا أو الحفوف وهي هجر القديمة هي المحطة الأولى على طريق القافلة من خليج فارس إلى مكة وجدة والمدينة.

إن البحرين وهي جزيرة اللؤلؤ الآن تحت حماية الدولة البريطانية، وقد تدخلت في نصب حاكم لها منذ سنة ١٨٦٧، فإنها في تلك السنة نصبت عيسى بن علي حاكمًا أو سلطانًا على الجزيرة بعد أن عزلت أباه عن كرسي الحكم.

وبعد ذلك ببضع سنين أصبحت تدعي أن لها حق الحماية أو الوصاية على الكويت، ولها فوق ذلك من النفوذ في كل خليج فارس ما لم يسعْ أحدًا من ساسة العثمانيين أن يجهله فإنها هي المسيطرة معنويًّا على كل الحركات التي تجري على شواطئ هذا الخليج الغربية والشرقية في بلاد فارس وفي بلاد العرب وفي يدها إن شاءت أن تثير الخواطر أو تسكِّنها، فإن عمالها هناك أهل إدراك ويقظة (أمثال كوكس) لا تفوتهم حركة ولا سكنة تنتفع بها أمتهم أو يزداد بها نفوذ دولتهم. أما معنى الحماية البريطانية فمنع معاوقة تجارتهم ومنع بيع الرقيق علنًا وليس لهم معتمد خصوصي، ثم ترك الحكام الوطنيين وشأنهم والقضاة وشأنهم يظلمون أو يعدلون ويرتشون أو يعِفُّون، فإذا تجاوزوا ذلك إلى مخابرة سياسية أو أظهروا شيئًا من الاستقلال في تصرفاتهم مع دولة أخرى فحينئذ تظهر الحماية البريطانية ويظهر أثرها بالمنع، وفي ما عدا ذلك لا أثر لها إلا أن يكون ذلك مرتبًا سنويًّا تدفعه الدولة البريطانية للشيخ أو الأمير عن حماية التجارة أو منع بيع الرقيق أو تألُّفًا له.

شمر بلاد أو واحة واقعة

شمر بلاد أو واحة واقعة بين أجأ وسلمى جبلَي طيئ، وعاصمتها حائل، وهي مدينة ابن الرشيد وكرسي إمارته، وإلى جنوبها القصيم العليا والقصيم السفلى، وفيها عنيزة وبريدة مدينتا نجد (نجد الحجاز)، ويقول السائحون إنها بلاد طيبة الهواء جيدة التربة ولا أثر فيها للبعوض والذَّبَّان ولا للقمل والبراغيث ولا رائحة للمجزرة بها واللحم لا يخْنُز هناك، وسماؤها غاية في الصفاء ونسمات أسحارها لا أعَلَّ ولا أنعش منها. وكانت حائل تابعة لرياض، تعترف بسيادتها.

وقد ضعف شأن رياض عندما لجأ عبد الله إلى مدحت باشا ضد أخيه سعود وهما ابنا فيصل الوهابي فانتهزت حائل هذه الفرصة واستقلت، واستمرت المدينتان تتنازعان السلطة والسيادة. وكان ضلع الولاة العثمانيين مع حائل، فكان والي بغداد والبصرة يجعل أمراء بيت الرشيد حماة لطريق الحج من قبل الدولة العثمانية فكان آل الرشيد يعترفون بسيادة الدولة، وأقل ما للعثمانيين من الحقوق على حائل ورياض أيضًا الحماية التي هي أشبه بالحماية الإنجليزية على كثير من أجزاء الجزيرة العربية في جهات اليمن والشِّحْر أو في جهات الخليج الفارسي.

وترجع تلك الحماية إلى دخول الولايات السعودية الوهابية — وهي نجد واليمامة والعارض ووشم والسدير والقصيم وشمر وعسير اليمانية — في حوزة العثمانيين على أيدي محمد علي وإبراهيم عند استفحال أمر الوهابية.

وأكد تلك الحماية سنة ١٨٧٠ التجاء عبد الله بن فيصل إلى مدحت واعتراف أمراء حائل لهم بالسيادة العامة وثَلُّهم أمراء رياض من بيت سعود أثناء المنازعات التي وقعت بين أمراء هذين البيتين من حوالي أربعين سنة إلى الآن.

عمان ومسقط

إن في شرق الجزيرة العربية وعند الخليج الفارسي إمارات وسلطنات ودويلات صغيرة شأنها شأن الجزيرة العربية من حيث كونها إسلامية شرقية، ولكن إنجلترا بسطت عليها نفوذها من زمن طويل لا لأنها أغنى بلاد العالم بجواهرها ولآلئها ودراريها، ولكن لقربها من الهند وخطورة مركزها السياسي، وهي تفوق من تلك الناحية جنوب الجزيرة الغربي حيث توجد عدن وغيرها من الإمارات والسلطنات الصغيرة الواقعة هي أيضًا تحت النفوذ البريطاني. ومن تلك الولايات العربية إمارة عمان فإن لها تاريخًا يهِمُّ كل عربي، لأنها رفعت علم الناطقين بالضاد إلى أَوْج السماء في القرن العاشر الهجري، فقال بعض المؤرخين إنه لم تقم لهم قائمة منذ خرجوا من الأندلس بغير عمان التي دامت نهضتها من سنة ١٠٠٠ إلى ١٢٥٠ هجرية، فنشأ بها فطاحل عظماء كونوا دولة عربية قائمة على أساس العدل واستولت على بعض ثغور البحر الأحمر ثم على المحيط الهندي والخليج الفارسي فأفريقيا الشرقية إلى رأس الرجاء الصالح، وفي بضعة أجيال صار أهل عمان سادة على هذه البحار الثلاثة العظمى وصار لهم أسطول ضخم هاجم الأسطول البرتغالي ومزقه إرْبًا وشتَّت شمل البرتغاليين وأجلاهم عن جميع الثغور الهندية والفارسية والأفريقية. وكان الأسطول العماني مؤلفًا من ثلاثمائة قطعة بين بارجة وفُرْقاطة ونسَّافة وحرَّاقة، وقد وصفه سرهنك باشا في كتابه «دول البحار» وذكره كثيرون من مؤرخي الشرق وذكروا أسماء السفن الكبرى التي كانت تشبه المدرعات والدردنوط والطرادات الأوروبية، وهو الأسطول الإسلامي الرابع أو الخامس الذي ظهر في البحار بعد أسطول صلاح الدين الأيوبي وقبل أساطيل الدولة العثمانية والأسطول المصري الذي تألبت عليه الدول وقضت عليه في موقعة ناڤارينو. ومن أسماء تلك السفائن الحربية العمانية «الفلك والملك والناصري وكعب رأس والرحماني والإمامي واليعربي وعمان ونزوى والفتح والنصر ويعرب وقحطان»، كما يسمي الإنجليز مراكبهم «الملكة إليزابيث وفيكتوريا ونلسون» وغيرها.

ومن البديهي أن الإنجليز لم يصبروا على هذه الدولة البحرية الشرقية التي كانت تهددهم في أملاكهم في آسيا وأفريقيا، وقد يستقر نفوذها في الهند وإندونيسيا والهند الصينية شرقًا وإلى شرق أفريقيا والسودان وجنوب أفريقيا غربًا، بعد أن امتد ذلك النفوذ إلى تلك الناحيات فعلًا، فعملت في مدى ثمانين عامًا على إضعاف تلك الدولة والقضاء على أسطولها ثم الاستيلاء على بلادها وقهرها شيئًا فشيئًا، وما زالت بريطانيا تعمل على انحلال تلك الدولة العمانية البحرية إلى وقتنا هذا. وهذه السلطنة يحكمها الآن السلطان تيمور، والشائع أنه وبلاده تحت الحماية البريطانية، ويقال أيضًا إنه مستقل في بلاده ولكنه مرتبط مع دولة إنجلترا بمعاهدات تقضي بأن لا يمنح أية دولة أوروبية امتيازًا في بلاده، لمجاورتها للهند. وقد حدثت في عمان ثورة عظيمة كان تيارها جارفًا، تمكن الثوار في أثنائها من طرد ولاة السلطان تيمور من جميع البلاد الداخلية حتى إن والي السلطان بنزوى، وهو السيد سيف بن حمد، انتحر من شدة الحصار، وحوصر السيد نادر أخو السلطان بسمائل شهرًا، فاضطر لتسليم البلاد لزعماء الثورة، وحوصر ابن عم السلطان السيد أحمد بن إبراهيم خمسة أشهر بحصن الرستاق ثم سلم البلاد. واستفحل أمر الثوار في الداخلية واستتب لهم الفتح فيها فانقلبوا إلى الثغور البحرية فوقف الأسطول الإنجليزي في وجوههم وضرب بعض المدن بالقنابل مثل بركا وقريات.

وعند ذلك أراد الإنجليز تحوير المعاهدة التي بينهم وبين السلطان تيمور وانتهزت إنجلترا هذه الفرصة فزادت بعض البنود المؤيدة لسلطتهم فاضطر السلطان تيمور لقبولها، وحدث إثر ذلك أن قابل ملك الإنجليز عظمة السلطان تيمور فقويت شائعة الحماية التي بسطها الإنجليز على عمان ومسقط.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤