الفصل التاسع

مبارك الصباح وخَزْعَل وسوء الذكرى

مبارك الصباح وخزعل

لم يبق في قراء العربية في العشر السنوات الأولى من هذا القرن العشرين قارئ لم يشغل وقته وفكره بأخبار الكويت والمحمرة، فكنت في عصر كل يوم تتناول الصحف فلا تجد إلا أخبار الكويت ومبارك الصباح. وكان هؤلاء المكاتبون المأجورون يرسلون برسائل تمليها الأغراض الشخصية والمنافع المادية، فلم تكن تَستَبين الحق. ولم يفطن في مصر إلا القليل من النُّبَهاء إلى أن وراء الستار ما وراءه، فإنه ما كان يصل إلينا من الأخبار سوى نُتَفٍ عن حوادث خطيرة تحدث في جزيرة العرب، فهؤلاء الأمراء وهم من علمنا خُلقًا ونشأةً وحبًّا للمال والشهوات قاموا يجلسون على العروش بعدل وبغير عدل ويقترفون الجرائم ويبددون الأموال.

وقد أخذنا هذين الرجلين نموذجًا لغيرهما من أمراء العرب. كلمة كوت معناها بيت ومنها كوت الإمارة الذي اشتهر في الحرب، والكويت تصغير كوت، وهو اسم لإمارة في الخليج الفارسي لها عاصمة هو ثغرها، وعائلة الصباح التي حكمت الكويت أصلها من عرب خيبر حيث يكثر اليهود في التاريخ القديم، وقد توطنوا في الكويت منذ مائتين وخمسين عامًا. وقد نسج صباح رأس الأسرة خيوط الدسائس حتى تمكن من الإمارة على كويت، وكان الحكم شورى بين العشائر إلى أن تولى صباح بن جابر ثالث أو رابع هذه الأسرة، وقد تقلص ظل تلك الشورى تمامًا في أيام ابنه مبارك الذي كان ظالمًا مستبدًّا، فهذه أسرة عربية إسلامية توصل مؤسسها إلى الملك بحيلة وأخذ يعدل بين الناس هو واثنان من خلفائه إلى أن فسد الجيل الثالث والرابع، فوصل حكمهم إلى الظلم والاستبداد والقتل وبيع الضمائر ودس الدسائس والعيش في جو من الفتنة والدنايا، وبدلًا من أن استتباب الأمر للأمراء يؤدي بدولتهم إلى الترقي في سبيل المدنية والنظام والعدل، تراهم يتأخرون وينحطُّون وتفسد مشاربهم وتندثر تقاليدهم، ويجرُّون إلى الفساد والهاوية تلك القبائل والعشائر التي ملَّكتهم عليها. حكم الفرد والغنى وعدم المسئولية والميل الشرقي للاستبداد وتقلص ظل الفضيلة وعدم الوازع الديني والخلقي وانحطاط دول الشرق والإسلام في أنحاء العالم؛ قد تعاونت كل هذه العناصر على تسميم عقول هؤلاء الرؤساء وقضت عليهم، ولو أنهم وجدوا مثالًا حسنًا في تركيا أو في مصر أو في جزيرة العرب أو في شمال أفريقيا فلعلهم كانوا يخجلون من أنفسهم ومن الأمم الأخرى إن لم يستحوا من الله ورسوله. فهذه نفوس فطرية تستعمل الحيلة في الحصول على السلطة، وقد يكون منهم الذكي والشجاع والقائد المغوار والسياسي الداهية، ولكن لا يكون منهم الحاكم العادل الرحيم، فيستغلون الشعوب لمصلحتهم ثم يستنجدون بالعدو الأجنبي على إخوتهم وأعمامهم وأبنائهم وعلى شعوبهم أنفسها فضلًا عن الأمراء جيرانهم، ثم يقعون في يد المغتصب أو المستعمر، ويموتون ميتة المجرمين والجناة بعد أن يقضوا حياة خاصة مخزية في الشهوات والخمور وتبديد المال واعتلاء صهوة الأهواء والانغماس في كل رذيلة. أما الحياة العامة فهي عندهم الدسائس والقتل والتقرب من الدول القوية لتنفيذ المآرب الشخصية، أما الأمم التي وكلت إليهم شئونها والتي كانت وديعة في أعناقهم، أما حياة الشعوب، أما الرعية التي هم مسئولون عنها بوصف كونهم رعاة فعليها السلام والإكرام … وبعدهم الطوفان.

أمراء العرب

كان مبارك الصباح الذي حكم الكويت أكثر من عشرين عامًا شابًّا قويًّا ذكيًّا، وقد ولد حوالي نصف القرن التاسع عشر، واشتُهر في شبابه بالشجاعة والفروسية، وقد روينا فيما مضى من هذا الكتاب أنه في سنة سبعين المسيحية عندما كانت حرب ألمانيا وفرنسا بالغة أقصى شدتها كان في جزيرة العرب حرب أخرى ولكن ليس بين دولتين متعاديتين مثل بروسيا وفرنسا، ولكن بين أخوين هما عبد الله وسعود ولدا فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود الكبير، وهذان الولدان هما من أعمام الملك عبد العزيز ملك الحجاز الحالي وقد كان له ثمانية أعمام، فلجأ عبد الله إلى الدولة العثمانية وفاوض مدحت باشا الذي كان والي بغداد، وعلمنا أن مدحت عيَّن عبد الله قائمقامًا وانتهز الفرصة وأرسل جيشًا ففتح القطيف والأحساء، ولما رأى مشايخ الكويت جيش الدولة العثمانية انضموا إليه، وتولى مبارك الذي كان شابًّا جيشًا كبيرًا من رجال العشائر وساعد على فتح الأحساء، واعتبرت الدولة إمارة الكويت موالية لها واعترفت الكويت بسيادة اسمية للدولة.

في سنة ١٣١٣ھ توفي الشيخ عبد الله شيخ الكويت وخلفه أخوه محمد، وكان له أخوان طامعان في الملك هما مبارك وجراح، ولكن محمدًا علم بتلك المنافسة فأراد أن يضعفها بضم أحد أخويه إليه فأشرك معه أخاه جراحًا في الحكم كما لو كان وزيرًا أو وكيلًا، فهنا إخوة ثلاثة لم يكونوا من أم واحدة وقد ورثوا البغض من أمهاتهم وليس لهم ما يشغلهم عن التطلع للإمارة كما هي الحال عند أمراء أوروبا، مثل الانشغال بأعمال البر أو طلب العلم أو اقتناء التحف أو السياحة في أنحاء العالم … وقد رأوا بأعينهم أو سمعوا أن سلاطين آل عثمان يضطهدون إخوتهم وعمومتهم وأولياء عهودهم، وقد يلجئون إلى خلع بعضهم بعضًا، ويسجن السلطان الجالس على العرش أخاه أو عمه إن لم يدس له السم في الدسم أو يناوله فنجان القهوة المشهور. وهؤلاء العرب محاربون بطبيعتهم، قد يغدرون في سبيل السلطة وقد يخونون العهود، أما الله والدين والعقيدة والذمة والشرف فقد وضعوها في «الخُرْج» من زمن طويل.

وهذا ما تراه مجسَّمًا في حياة عائلة صباح المنكودة.

فإليك ثلاثة إخوة: محمد وجراح ومبارك.

محمد أمير الكويت بالميراث، وقد أشرك جراحًا ليتقي شره وليأمن مغبة اتحاد جراح ومبارك ضده، وكان محمد ضعيفًا وكان جراح صاحب النفوذ الأكبر في الحكم، وكان يحب المال ويدخره ويَضَنُّ به على غيره.

كان مبارك طموحًا للمجد، شديد البأس، حديد الطبع، ماضي العزيمة، متهوِّسًا متسرعًا في أعماله، عصبي المزاج، كثير التقلب فيه من أسد الغاب ومن الحرباء، له طبع بدوي وذوق حضري يجعله يميل تارةً للعزلة وطورًا للترف، يحبه عدوه حينًا وحينًا يخشاه، فيخلص له أولًا ويداريه ثانيًا، وصاحب مثل هذا الخلق يميل إلى النعومة في العيش ميله للمغامرة في الحياة، فهو يحتاج إلى المال لا ليكنزه كما يفعل أخوه جراح، بل لينفقه ويسرف فيه ويجود به، ولهذا كان محبوبًا من العشائر يلتفون حوله ويقرون له بالزعامة.

ولكن محمدًا الضعيف وجراحًا البخيل لم يكونا من علماء النفس فلم يطَّلعا على خفايا عقله وقلبه.

لقد أراد مبارك أن يتسلى عن الملك بالغزوات فنزع إليها والتفت حوله العشائر فغدا في حاجة دائمة للمال لينفقه في الحروب، وكان أخواه محمد والجراح يبغضان ذلك، لا خشية تفوقه عليهما بل خوفًا على المال الذي كان يطلبه دائمًا فكانا يضنان عليه بالنوال ويسيئان إليه وقد يمسكان عنه حتى نفقة بيته وعياله، فصبر مبارك على ذلك صبرًا جميلًا وكان حتى هذه اللحظة عاقلًا وبصيرًا، وكان صبره عليهما فضيلة ينبغي له أن يتمسك بها ليكون رجلًا عظيمًا. وربما ظن مبارك أن أخويه محمدًا وجراحًا لم يكونا عثرة في سبيل مجده الشخصي بل في سبيل عظمة الكويت فنفد صبره، كما نفد صبر مكبث، وتحرك في نفسه شيطان الغدر والانتقام، وتخيل نفسه ملكًا على البلاد، ولكن لا سبيل إلى الملك إلا بزوال محمد وجراح وهو عاجز عن إشهار الحرب عليهما.

جريمة مَكْبِث تعيد نفسها

وأخيرًا صحت عزيمته على الجريمة.

فنهض في ليلة من شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرام ولكن السنة كانت سنة شؤم سنة ١٣١٣ للهجرة، ونهض معه ولده ودخلا على الرجلين وهما نائمان محمد وجراح واستل مبارك وولده سيفيهما، وذبح مبارك أخاه محمدًا وأمر ابنه أن يذبح عمه جراحًا.

وعند الصباح، صباح الجنايتين، لم يُجَنَّ مبارك ولا ولده، وإن كانت الكويت قد ضجَّت لمقتل الرجلين، بل تمكن مبارك من إخضاع أهل الكويت فأذعنوا له إذعان الضعيف للقوي، وفرَّ أولاد الذبيحين إلى البصرة فشكوا أمرهم إلى واليها التركي الفريق حمدي باشا، وعلم مبارك بمسعاهما فسبقهما إلى بغداد يلجأ إلى واليها رجب باشا، وكان رجب باشا أعظم شأنًا من حمدي وأعلى مقامًا، ومبارك يعرف أخلاق الترك لا سيما أخلاق الولاة في البلاد العربية، وهذه أمور يحسن فيها التلميح دون التصريح، فتمكن مبارك ويداه مخضَّبتان بالدماء من استمالة رجب إليه بواسطة بعض الرجال، وبعض الهدايا طبعًا، وكتب رجب إلى القسطنطينية عاصمة الإسلام من ترك وعرب وعجم، يقول: «إن الحادث بسيط، وهو من الحوادث العادية المألوفة بين البدو، وخير للدولة أن لا تتدخل في الأمر لئلا يؤدي ذلك إلى تدخل الإنجليز …»، ولعله يشير من طرف خفي إلى أن الإنجليز يحمون مباركًا أو يشدون أزره ما دام قد قتل وغلب وملك، وهم دائمًا يحبون هذا الصنف من الرجال، لأنهم يملكون زمامه ويقدرون على الانتفاع به ويتهددونه دائمًا بالقصاص لجريمته، وهكذا كان شأنهم مع سالم بن تويني حين قتل أباه فإنهم حموْه إلى حين حتى امتصوه وأخذوا منه ما كانوا طامعين في أخذه ثم طردوه وجلبوا عمه الذي كان سجينًا عندهم في الهند وسلَّموه زمام الملك.

بيد أن الإنجليز لم يكونوا غافلين ولم يكونوا نائمين ولم تكن أعينهم المبثوثة مغمضة ولا آذانهم المرهفة صماء، فقد سمعوا بالخبر واهتموا بالأمر. وكذلك لم يقصِّر أولاد القتيلين وهما في البصرة عن الالتجاء إلى قنصل إنجلترا في نفس الوقت الذي التجئوا فيه إلى الوالي حمدي باشا، وهم معذورون، لأن الموتور معذور، وصاحب الدم يستنصر أيًّا كان في سبيل الانتقام. ولم يكن هؤلاء الأولاد من الدهاء السياسي والوطنية الحارة بحيث يهدرون دم والديهم ليقال عنهم إنهم أهل شَمَم وإباء فلم يلجئوا للأجانب. وكان القنصل الإنجليزي في البصرة طويل الباع في الدسائس فنصر أولاد محمد وجراح على عمهم مبارك وسعى في سبيلهم وسبيل سياسة دولته في الخليج الفارسي سعيًا حثيثًا أرغم الدولة العثمانية على التخلي عن مبارك وتخييره بين عقوبات ثلاث تنطوي اثنتان منها على النفي:
  • (١)

    إما أن يحضر مبارك إلى إصطامبول ويقبل عضوية في مجلس شورى الدولة.

  • (٢)

    وإما أن يسافر إلى بلد يختاره وترسل إليه الدولة معاشًا مدى الحياة.

  • (٣)

    وإذا عصى الأمرين فإن الدولة تجرد جيشًا لمحاربته.

قد تقول إن هذا ليس عقاب قاتل، ولكنه في الحقيقة عقاب لأنه حرمان المجرم من ثمرة الجريمة وخلعه من العرش الذي طمع فيه واستولى عليه بالغدر والدم.

ولكن عزيمة مبارك لم تقف عند هذا الحد، ولم ييْئَس من النجاة، فاستجمع إرادته وقصد الوكيل السياسي الإنجليزي في أبي شهر وهو يعد حاكم الخليج الأكبر.

وأنت ترى أن مباركًا يحب العلا في كل شيء، فقد قصد رجب باشا والي بغداد وخصومه لجئوا إلى والي البصرة، وعندما لجأ خصومه إلى قنصل البصرة لجأ هو إلى الوكيل العام في الخليج الفارسي وهو أكبر شأنًا من قنصل البصرة.

لقد انتصرت إنجلترا على يد قنصلها بالبصرة وأرغمت الدولة على الشروع في معاقبة مبارك. ولكن إنجلترا نفسها وجدت فرصة سانحة بالتجاء مبارك إلى وكيلها في الخليج، وهي يهمها أمران: أن تخذِل تركيا أمام العرب وترجع في كلمتها، وأن يبقى على عرش الكويت رجل يكون لإنجلترا عليه يدٌ كما قدمنا.

أوعزت إنجلترا إلى تركيا أن تضغط على مبارك وتكشر له عن أنيابها حتى أيقن مبارك أنه فقد أسباب النجاة، فالتجأ إلى إنجلترا فلبَّت طلبه وأكرمته وغسلت يديه الملطختين بدماء أخويه وطيبت خاطره، ولا يعلم إلا الله ماذا جرى بين رئيس الخليج وبين مبارك، ولعله ليس بأقل مما جرى بين مفستوفيليس وفَوِسْت الشهير، ضمنت له إنجلترا الحياة والملك وعاهدها على العبودية والولاء.

وعندما وصل المركب الحربي العثماني إلى الكويت يقل نقيب البصرة وبعض موظفي الدولة حاملين الأمر العالي الهمايوني وهم يصممون على تنفيذه، جاء مركب حربي آخر ينقذ الشيخ مبارك ويطرد المركب العثماني من مياه الكويت.

وكان هذا المركب الآخر يحمل راية «يونيون جاك» وشعاره: فرِّقي يا بريطانيا وسودي!

الخط الهمايوني

وعاد الشيخ مبارك إلى الكويت ونجا من خصومه في البر والبحر، وتعاهد مع آل سعود على آل الرشيد وما زال ينصر آل سعود حتى أخذوا الرياض وقتلوا خصمه الألد عبد العزيز الرشيد. فأخذ يرهق الرعية بالضرائب التي لم يُسْمع بمثلها في الشرق ولا في الغرب فشارك الأهالي بالثلث فيما يملكون أو يبيعون أو يستأجرون، وشيد القصور وفرشها بأفخر الأثاث والرياش ومتَّع نفسه بأنواع الملاذ. لاعب العشائر وغالبها وغازل الدولة العثمانية وأقسم لها يمين الولاء، ثم انقلب عليها وعاهد الإنجليز وأخلص لهم لينقذوه من أعدائه العرب والترك، قرَّب آل سعود وربَّى عبد العزيز ملك الحجاز الحالي في قصوره، ولكن لم يكن الحب خالصًا لله بل ليضرب بهم خصمه ابن الرشيد.

أظهر الحب للعجمان ثم حاربهم وأشعلهم نارًا على ابن سعود.

كان ككثيرين من الأشرار في هذه الدنيا سواءً أكانوا شعبًا أو ملوكًا موفقين سعداء الحظ. فلما عاد إلى الكويت ظافرًا وهو الخارج منها هائمًا على وجهه ملطَّخًا بدماء أخويه، سبقته شهرته بالنفوذ والغلبة والانتصار على سياسة الدولة العثمانية والاحتماء ببريطانيا، فإن الإنجليز كما لا يخفى على اللبيب عقدت معه حلفًا «أنجلوكويتيًّا» خلاصته أن لا يكون للشيخ مبارك علاقة مع حكومة أجنبية سواها، لأن البَيُون الخئون غيور لا تحب لأحد من رجالها أن يغازل أخرى … والقلب لا يسع اثنتين ولو كان قلب مبارك أو خزعل … وتعهدت هي من ناحيتها أن تحميه من كل اعتداء خارجي من البحر، وليس لها في البر شأن فلا تتدخل في شئون العشائر.

وغنيٌّ عن البيان أن اندحار الترك ورجوع مركبهم بالوالي والموظفين والخط الهمايوني قد قطع علاقة الكويت بالدولة، وعلم مبارك أن الترك قد «نقعوا الخط الهمايوني» وشربوا منقوعه قبل أن يصلوا إلى شط العرب، وربما احتفظوا بالثُّمَالة والسُّؤْر للصدر الأعظم ووزير الخارجية بالمايين والباب العالي.

وكانت هذه المعاهدة سنة ١٣١٣ التي كُتبت حتمًا بمداد أحمر، ليكون بينها وبين فعلة مبارك وجه شبه ولو في اللون؛ مقدمة للمعاهدة الكبرى التي حصلت عليها إنجلترا في سنة ١٩١٣ قبيل الحرب العظمى بعام واحد بين تركيا وبريطانيا، وفي تلك المعاهدة العامة تنازلت الدولة العثمانية — رحمها الله — عن سائر حقوقها في قطر والبحرين ومسقط وعمان لبريطانيا، وأخذت على عاتقها (مسكينة حامية حمى الأمم الشرقية المستضعفة!) واجب إنارة الخليج وحراسته من الأعداء! (من هم؟!)

امتد نفوذ مبارك الصباح إلى البصرة والمحمرة وصارت له كلمة مسموعة في أبي شهر مقر الوكيل الإنجليزي منقذه، ولكنه مع كل هذا النفوذ في الجزيرة والخليج وشط العرب وشاطئ فارس، ومع توفيقه في الحرب والسياسة؛ لم يكن موفَّقًا للخير، فقد بنى لنفسه قصورًا عدة ولم يبْنِ لله سوى بيت واحد، ولم يهتم بتعليم شعبه ولا صحة أبدانهم، ولم يفعل إلا جمع المال وتبديده في ملاهيه وشهواته، ولم يخلص لأحد، وعاش ومات في محرم سنة ١٣٣٤ والحرب العظمى في ضحاها ١٩١٥.

مبارك يهوى خزعلًا لأنه قتل أخاه

أستغفر الله! بل كان له صديق من نوعه أحبَّه حبًّا جمًّا صافيًا هو الشيخ خزعل، فبنى له في الكويت قصرًا، كما بنى له خزعل في المحمرة قصرًا، لقد أعطاهما الله الملك فليتمتعا به ولتهلك الشعوب العربية ولتسقط الدولة العثمانية ولتنتشر خراطيم الأخطبوط البريطاني في كل مكان! فليس هذا بضائرهما شيئًا قليلًا ولا كثيرًا ما دام الخِوان ملآنًا والدَّنُّ عامرًا والنَّدامَى يتقاذفون من كل فج عميق يصطحبون الغواني والراقصات من مصر والعراق والشام!

وقد كانت بينهما رابطة أخرى وهي رابطة الإجرام فقد قتل خزعل أخاه كما ذبح مبارك أخويه.

ولما تبادل خزعل ومبارك القصور كما كانا يتبادلان الكئوس كلما كانا يجتمعان على ضفاف قارون أو على شاطئ الخليج ليقضيا أيامًا وليالي بين أسراب من القيان والعازفات ويديران أقداح الطِّلَا قبل أن تفاجئهما كأس المنون الدِّهاق، وقد سبق مبارك صديقه إلى العالم الآخر، أما خزعل فلا يزال على قيد الحياة في أحد سجون طهران. وخزعل هذا واسمه الرسمي أطول من أسماء أمراء الإسبان؛ سمو السردار أقدس معز السلطنة الشيخ خزعل خان بن نصرت الملك الحاج جابر خان الجاسبي المحيسني الكعبي العامري أمير نويان وسردار عربستان … إلخ إلخ.

وهو من أمراء العرب ولكنه يحكم ولاية فارسية، وكان غنيًّا وكان كريمًا على الشعراء والغواني والندمان، كأنه أحد أمراء البرامكة في عهد الرشيد، يحب اللهو والغناء ويميل إلى الأدب والشعر، ويحب أن يهاجر إليه الشعراء بقصائدهم المسروقة أو المصطنعة فيجيزهم ويملأ أفواههم دُرًّا كما يملأ حقائب الغواني ذهبًا وجوهرًا، وكان شعاره وهو في إمارته «الدنيا بحذافيرها الخفض والدَّعَة»، وقد قتل أخاه أيضًا كما قتل مبارك أخويه.

لقد كان هذا الشيخ الخليع متفانيًا في حب الجمال والفن كأنه أحد أعيان باريس في عهد الديكادنس، أو أحد أمراء الأندلس الذين سبقوا سقوط بني سراج. كانت تنقصه شجاعة مبارك وسياسته، ولكنه كان يحبه لتشابهٍ بينهما في الدَّهَاء والدس وحب الملذات. روى الأستاذ أمين الريحاني في كتاب «ملوك العرب» ج٢ ص١٧١ عنه ما يأتي:

تجيء المغنية من حلب أو الشام إلى المحمرة وهي لا تملك إلا خلخالها فتقيم عدة أشهر في القصر وتعود غنية مثقلة بالحلي. يجيء الأدباء والشعراء وفي جيوبهم قصائد المديح فيعودون من المحمرة وفي جيوبهم أكياس من المال. ا.ھ.

وكان الرجل شيعيًّا ولكنه يحب أهل السنة، ومسلمًا ويكرم النصارى واليهود والوثنيين، ويقرب القسيس ويصادق المبشر ويستفيد من محادثة البنَّائين الأحرار، يعاقر بنت الحان، ويلعب البوكر مع أصدقائه وضيوفه، فإن عزُّوا دعا أولاده إلى المائدة الخضراء المخمَّسة الأضلاع.

أما الشريعة السمحاء فهو يحبها وينفذ منها زواج المتعة، وكان له في مقر ملكه ستون زوجة، وهو قلَّ أن يعرف أولاده. وإذا ناوأه أحد من مشايخ القبائل وخرج عليه وكانت للشيخ الثائر بنت صالحة للزواج زاره خزعل وشرَّفه بالمصاهرة فتبرُد نار الفتنة وتحل محلها أفراح التعريس والزفاف. وكان إلى سن الخامسة والستين يسافر من عاصمته في سبيل النكاح. وكانت علاقاته مع ملوك الأرض حسنة، فجمع بواسطة السفراء والقناصل والوسطاء عشرات الأوسمة والنياشين من سلطان تركيا وشاه الفرس وملك الإنجليز وبابا رومة بنديكتوس الخامس عشر، ولكن أعظم نيشان كان يحمله في قلبه الأخضر الخصب وهو نيشان الغرام وشعاره:

أدين بدين الحب كيف توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني

هذا الشيخ الذي وصفناه، وكان صديق شيخ الكويت الخاص، وعندما أعلنت الحرب العظمى وسعت الوفود إليهما ذاك يجذبهما إلى الترك والألمان وهذا إلى الحلفاء، والشيخان يَعِدَان ويُخْلفان ويقولان ولا يَصْدُقان، ويتظاهران بالود للواحد في غيبة الآخر فإذا خلوْا بهذا الآخر قالا له إننا معك إنما نحن مستهزئان. وهما في كل دقة يجلبان المال، ويخزنان التحف والهدايا، ويظنان أن الأمر قد ينتهي بفوز النفاق بغير حاجة إلى الطِّعان. يقول أحدهما: اكتب للترك تنفعك عندهم ولا تضرك عند الإنجليز، ويقول الآخر: ابتسم لليتشمان وشكسبير، أحسن معاشرة لورنس زعيمهم الكبير.

وما زالا هكذا حتى تمكن الإنجليز من هزيمة الترك في البصرة، فإنهم اتخذوا الكويت مخزنًا للذخائر والسلاح، وأمروا خزعل بإعداد جيش جرار قوامه عشرة آلاف جندي، فقطعوا خط الرجعة على الأتراك وداروا حولهم، فاضطر الأتراك للتقهقر وفاز الإنجليز، وهكذا ضاع العراق على يدي هذين المجرمين الخائنين العابثين بحقوق الدول والشعوب.

ولكن ربك بالمرصاد.

فإن شيخ الكويت قضى غير مأسوف عليه في سنة ١٩١٥، إذ كان ربيبه ابن سعود قادمًا لتأديبه وهو الذي نشأ في بيته وكان يدعوه قائلًا أنت ولدي، وعبد العزيز بن سعود يقول: أي نعم يا والدي، ولكن في أخلاق ابن سعود ما لم يلتئم مع كل هذا الخبث والغدر العظيم.

أما الشيخ خزعل فقد أسره الفرس بحيلة غريبة بعد أن استفحل شره وتحققوا من شدة لؤمه وكيده، فقد كان جلالة الشاه بهلوي خان وزيرًا للحربية، فأرسل إلى خزعل هذا ضابطًا من الجيش الفارسي نزل في ضيافته وتودد إليه ووافقه على خطته في سروره ولذته، ثم دعاه إلى نزهة بحرية في زورق جميل، فلما أن بلغا الشاطئ الفارسي انقضَّت عليه شرذمة من الجند وقبضت عليه وساقته في سيارة إلى أحد سجون طهران، ووضعت حكومة الفرس يدها على المحمرة، لأنها ملكها وإحدى ولاياتها، وصادروا أملاك الشيخ الخليع الرقيع فلم ينفعه شعر الشعراء ولا عزف القيان، وتشفَّع الإنجليز لدى دولة الفرس في شأن الشيخ فأبقَوْا على حياته وهو لا يزال في طهران سجينًا.

لا نقول إن أمراء العرب كلهم من هذا القبيل، فإن بينهم رجالًا أشداء في الحق، أمناء على العهود، أهل صدق ووفاء وإخلاص، محبين لأوطانهم يذودون عنها ويتفانَوْن في حمايتها والحرص عليها، وفي مقدمتهم الإمام يحيى أمير اليمن. وكان أمراء مسقط وعمان في عهدهم الأول وقبل أن يدِبَّ بينهم دبيب الشقاق وتفرقهم المطامع والأحقاد؛ في أعلى ذروة من علوِّ الهمة وصفاء النية وحب الإسلام.

ولكن الكثرة الغالبة ولا سيما في العهد الأخير أخلاقها كأخلاق هذين الأميرين من أمراء دار التمثيل، اللذين يثيران البكاء حينًا وحينًا يثيران الضحك العميق. على أنهما لم يَخْلُوَا من الذكاء والشجاعة والإقدام وسعة الصدر ونباهة الذكر وصفاء الفكر، ولكن ما فائدة هذا كله إن كانت الإرادة ضعيفة وحب الاستبداد متمكِّنًا وظلم الشعب دَيْدَنَهما وبيع الوطن داءً دفينًا في فؤاديهما؟ بل ما فائدة المواهب إذا كان المال يُعْمي صاحبها ويُصِمُّه ويسهِّل له التفريط في حقوق البلاد؟ وأي نفع يعود على العرب من كثرة الزواج وتبذير المال في مجالس المدح والشراب وملء حقائب أهل الخلاعة بالذهب والفضة، ثم تكون لهما هذه الخاتمة الخاسرة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤