تمهيد

في بريطانيا إبان العصر الفيكتوري، كان كل طالب يعرف أن السير إسحاق نيوتن نابغة رياضية وعلمية منقطعة النظير، وكان باستطاعة غالبيتهم أن يقدم بيانًا مبسطًا لأهم اكتشافاته. ففي علم البصريات، اكتشف نيوتن أن الضوء الأبيض لم يكن عنصرًا أساسيًّا في الطبيعة، بل يتألف من أشعة أولية ممتزجة معًا، وكانت الأجسام تبدو بلون معين لأنها تميل لعكس أو امتصاص ألوان بعينها دون غيرها. وفي مجال الرياضيات، اكتشف نيوتن نظرية ذات الحدين لفك مجموع متغيرين مرفوع لأي قوة، وكذلك القوانين الأساسية لحساب التفاضل والتكامل. فتعامل ذلك مع معدل التغيير الذي يطرأ على أي متغير (شكل منحنى أو سرعة جسم متحرك) في أي لحظة، وكذلك أتاح تقنيات لقياس المساحات والأحجام أسفل المنحنيات (وغيرها من الأشياء الأخرى). وقد استغرق عمله في كل من مجالي الرياضيات والبصريات عقودًا عديدة ليحوز القبول التام من جانب معاصريه، ويعود ذلك فيما يتعلق بالمجال الأول إلى أن عمله لم يعرض إلا على مجموعة محدودة من العلماء المعاصرين، وبالنسبة للمجال الثاني فيرجع إلى أن كثيرين وجدوا صعوبة في إعادة إنتاج إنجازاته، التي تُعد ثوريَّة للحد الذي يتعذر معه فهمها بسهولة.

أما المجد الذي توج طريقة نيوتن، فقد كان مصدره كتابه الذي ألفه تحت عنوان «المبادئ الرياضية» والصادر عام ١٦٨٧، والذي قدم فيه قوانين الحركة الثلاثة، وذلك المفهوم الرائع الخاص بالجاذبية الكونية، والمتمثل في أن جميع الأجسام الضخمة دائمًا ما تجذب جميع الأجسام الأخرى وفقًا لقانون رياضي. وباستخدام مفاهيم جديدة تمامًا مثل «الكتلة» و«الجذب»، أعلن نيوتن في قوانينه للحركة: (١) أن جميع الأجسام تظل على حالتها من الحركة أو السكون ما لم تتأثر بقوة خارجية، (٢) أن التغيير في حالة جميع الأجسام يتناسب طرديًّا مع القوة التي تسببت في هذا التغيير، وأنه يحدث في اتجاه تلك القوة المؤثرة، (٣) أن لكل فعل رد فعل مساويًا له في المقدار ومضادًّا له في الاتجاه. وقد شكلت دراسة نتائج عمله في هذا المجال الأساس للميكانيكا السماوية خلال القرن الثامن عشر، وأتاحت المجال لظهور فيزياء جديدة — نعتبرها هي الفيزياء الصحيحة — للأرض والسماء (باستثناء تأثيرات النسبية العامة والخاصة). وبذلك، لم يكن من فراغ أن الغالبية العظمى من المتعلمين منحته لقب «مؤسس الفكر».

بخلاف ذلك، عانت نخب بريطانيا في العصر الفيكتوري في التعامل مع جوانب أصعب من حياة نيوتن وأعماله؛ لما كان معروفًا عنه أيضًا أنه خيميائيٌ متفان ومهرطق متطرف. كذلك أظهرت أدلة لا تقبل الجدل أنه انتهج سلوكًا ذميمًا نحو مجموعة من معاصريه. ومنذ ذلك الحين، ظل تفسير شخصيته ومواجهة مشكلة التوفيق بين الجوانب «العقلانية» و«غير العقلانية» من عمله بمنزلة تحد أمام المؤرخين. إضافةً إلى ذلك، أن حقيقة أن الكثير من أوراقه البحثية المهمة لم تصبح متاحة للدراسة والفحص الجاد إلا في سبعينيات القرن العشرين تعني أنه لم يكن من الممكن تكوين صورة متوازنة لأعماله إلا في العقود القليلة الماضية.

وعلى الرغم مما كان معروفًا منذ زمن؛ أن نيوتن كان لديه هذه الاهتمامات الشاذة فيما يبدو — والتي كان يدرك بلا شك أنها أهم من مساعيه الأكثر «احترامًا» — فقد ظلت التراجم الذاتية الحديثة الشهيرة له تظهر تلك العناصر الشاذة وكأنها توصف لأول مرة. غير أن هذه الكتب لم تقدم رؤى جديدة، وكذلك لم تنهل من المواد المذهلة التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت في السنوات القليلة الماضية. وتطلق معظم هذه الأعمال أيضًا ادعاءات مبالغًا فيها عن الروابط والصلات بين الجوانب المتعددة لنشاط نيوتن الفكري. وتهدف هذه المقدمة إلى تدارك هذه المشكلات مع الأخذ في الاعتبار المؤلفات العلمية الحديثة، والنسخ التي أُتيحت مؤخرًا عبر الإنترنت من المؤلفات والكتابات. والواقع أن نيوتن الذي يبرز من خلال تلك المصادر أغرب بكثير مما كان يبدو في التراجم الحديثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤