الفصل العاشر

القناطير وحيوانات أخرى

خلال العقد الأخير من حياته، واصل نيوتن أداء الكثير من واجباته ومهامه الإدارية في الجمعية الملكية ودار سك العملة، على الرغم من أن صحته لم تساعده في ذلك على نحو متزايد. وفي عام ١٧٢٥ نصحته كاثرين وجون كوندويت بالانتقال إلى أجواء كنسينجتون الأكثر صحية بعيدًا عن دخان لندن المميت. وتضاءلت أيضًا طاقاته الفكرية، على الرغم من أنه كان يخصص ساعات من كل يوم لدراسة النبوءة، وتاريخ الكنيسة، وعلم التقسيم الزمني للتاريخ. وظهرت طبعة ثالثة من كتاب «المبادئ الرياضية» في عام ١٧٢٦، عكف على تحريرها هنري بمبرتون، وإن كانت هذه الطبعة لم تضف إلا القليل إلى الطبعة الثانية.

وعلى الرغم من انتهائه كقوة إبداعية منذ زمن، ظل نيوتن الفيلسوف الطبيعي الأبرز في أوروبا. وظل لعقود يضع أتباعه ومريديه في مواقع القمة في كبريات الجامعات الهولندية والبريطانية، وحين لم تعد مثل هذه المواقع متاحة، راح معجبوه يتحدثون عن الفلسفة النيوتنية في العديد من الكتب وسلاسل المحاضرات. وبحلول عشرينيات القرن الثامن عشر، تربع النظام النيوتني على القمة، على الرغم من أن عقائده ومبادئه استغرقت عشر سنوات بعد وفاته لكي تحظى بالقبول والرضا الكامل في فرنسا. وقد تحقق ذلك بفضل المهارات الترويجية لفولتير، وفرانشكو ألجاروتي، ومدام دو شاتليه، إلى جانب الاستكشافات العلمية في بيرو ولابلاند التي أثبتت أن الأرض مفلطحة عند القطبين كما ادعى نيوتن.

واصل نيوتن سعيه المتواصل وراء الحقيقة الدينية، وإن كان قد أصبح أكثر حذرًا بشأن قراءة الأحداث المعاصرة كتحقق للنبوءات. ففي مسودة يعود تاريخها إلى عشرينيات القرن الثامن عشر، حدد عام ٢٠٦٠ تاريخًا ليوم القيامة في البداية، لا سيما من أجل إرباك هؤلاء الذين كانوا يأملون في بداية سريعة للألفية. ولم يلعب علم المستقبليات التخميني دورًا في الأساليب التفسيرية لرجل كان يؤمن بتفسير النبوءة في إطار الحقائق التاريخية. ولا يزال هناك مسودات ضخمة عن تاريخ الكنيسة المبكر، عاصر الكثير منها وارتبط بنزاعاته مع لايبنتز. استكشفت هذه المسودات التاريخ المبكر للمسيحية، وأصبح نيوتن مهتمًّا بالطريقة التي حرفت بها الجماعات المهرطقة المتعددة، مثل الكاباليين والغنوصيين، العقيدة الحقيقية بواسطة الميتافيزيقا، «محوِّلين الكتب المقدسة من إطار أخلاقي إلى إطار ميتافيزيقي».

وكما يرى كوندويت، فقد كان أهم أعماله في فترة شيخوخته بحثًا اختار له عنوان «مقترح السلام أو جنوح النظام الكنسي للسلام». لقد كانت مبادئ الدين المسيحي موجودة في «الكلمات المعبرة» للمسيح والحواريين — «ليس في الميتافيزيقا أو في الفلسفة» — ولم يكن بالضرورة أن توجد في الكتاب المقدس كما هي الآن. إذ كانت جميع الأمم في البداية لها دين واحد، كانت مبادئه الأولى هي:

أن يكون لك إله واحد، وألا تنصرف عن عبادته، ولا تدنس اسمه؛ وأن تتجنب القتل، والسرقة، والفسوق، وكل الموبقات؛ وألا تقتات على لحم حيوان حي أو تشرب دمه، ولكن أن تكون رحيمًا حتى بالوحوش الضارية؛ وأن تقيم محاكم العدل في كل المدن والمجتمعات لتضع هذه القوانين موضع التنفيذ.

اكتسب رجال، مثل فيثاغورس وسقراط وكونفوشيوس، هذه المعرفة، وبالتدريج أصبحت الفلسفة الأخلاقية للوثنيين — «القانون الأخلاقي لكل الأمم» — على الرغم من أن معظمهم كان يلجأ لعبادة الأوثان.

كانت عبادة الأوثان انتهاكًا لأولى ما اعتبره نيوتن الوصايا الكبرى؛ أي عبادة وإجلال الله. فليس لنا أن نمنح العبادة المستحقة له لأي مخلوق آخر، «ولا أن ننسب أي شيء لا معقول أو متناقض لطبيعته أو أفعاله خشية أن يظن بنا أننا نجدف على الله، أو ننكره، أو نخطو خطوة في اتجاه الإلحاد أو اللادينية». وكانت الشهوة والغرور — «الرغبة الجامحة في النساء والثراء والرفعة، أو التخنث والجشع والطموح» — هما أبشع انتهاكين للوصية الثانية من الوصايا الكبرى، والتي هي «الإنسانية»؛ أي تطبيق الإنصاف والعدل تطبيقًا عمليًّا، وحب الجيران كحبك لنفسك بمعاملتهم كما تحب أن تعامل به. لقد فرضت المسيحية الفريضة الجديدة المتمثلة في الرحمة بالآخرين، وإن لم يكن الجميع ليتفقوا في الرأي على أن نيوتن قد أظهر ذلك مطلقًا في ممارساته الخاصة، كما رأى فلامستيد.

أما بالنسبة للمجتمعات المسيحية، فقد ادعى نيوتن أن جميع هؤلاء الذين تم تعميدهم كانوا أعضاء في جماعة المسيح أو «الكنيسة»، حتى لو لم يكونوا أعضاء بأي كنيسة أو طائفة معينة. بعد التعميد، يفترض أن يترعرع البشر في نعمة الله وفضله من خلال دراسة النبوءات، ومقارنة العهد الجديد والعهد القديم، و«تعليم أحدهم الآخر في خنوع ومحبة دون فرض آرائهم الخاصة أو التشاحن بشأنها». وفي كنيسة إنجلترا، كان بالإمكان قبول الناس في طائفة أو ملة عن طريق طقوس وضع الأيدي على الرأس، وكان يمكن حرمانهم كنسيًّا إذا خالفوا أيًّا من البنود التي قُبل تعميدهم على أساسها، ولكن هذا لم يكن ينفي عضويتهم للكنيسة الأكبر والتي مُنحت لهم عن طريق التعميد. وعلى مدار حياته، كان نيوتن يشعر بقدرته على الجهر بإيمانه بالعقيدة الإنجيلية بينما كان يحتقر الكثير من معتقداتها؛ فما كان يهم القلة المختارة مثله هو معتقداتهم الدينية الخاصة.

كرَّس نيوتن أيضًا الكثير من سنواته الأخيرة لدراسة علم التقسيم الزمني للتاريخ. فقد جذب تأريخ الأحداث القديمة والتوفيق اليوهيميري بين السجلات التاريخية وسلالات الأنساب لمختلف الأمم انتباه الكثير من أعظم العلماء في كل من الدول البروتستانتية والكاثوليكية في القرون السابقة. وعلى الرغم من أن العهد القديم كان المصدر الأقدم والأكثر موثوقية للتاريخ القديم، فقد استخدم المؤرخون أساليب متنوعة للتوافق مع السجلات التاريخية الوثنية التي أحيانًا ما كانت تسرد نفس الأحداث. ومنذ أواخر القرن السادس عشر، وعدت التقنيات الفلكية بمساعدتهم في تعيين أحداث تاريخية محددة بمزيد من الدقة.

وقد أظهرت أبحاث نيوتن الموسعة في تقسيم التاريخ معرفة ضخمة بالأدب الكلاسيكي وأدب العهد القديم. وفي محاولة منه لإعادة تأريخ — وتقليص طول — التاريخ المسجل بشكل جذري، استخدم أدلة فلكية جديدة تمامًا مبنية على ظاهرة الكسوف، وتبنى الفكرة المتطرفة القائلة بأن متوسط طول حكم الملوك في التاريخ كان يتراوح بين ١٨ و٢٠ عامًا. وباستثناء هيرودوت، الذي كان يكن له إعجابًا، فقد شجب سلالات الأنساب مفرطة الطول لجميع السجلات التاريخية الوثنية الأخرى.

انشغل نيوتن في التأريخ الدقيق لسجلات ما قبل المسيحية منذ بدايات ثمانينيات القرن السابع عشر، ولكن الجزء الأضخم من كتاباته في تقسيم التاريخ يرجع تاريخه إلى بدايات القرن الثامن عشر، حين كان رئيسًا لدار سك العملة. وقد ظهر «ملخص» في تقسيم الزمن لأول مرة بترجمة فرنسية تم إعدادها بعد سنوات عديدة من إيداع نيوتن نسخة إنجليزية في حوزة الكونت الفينيسي أنطونيو كونتي لتسليمها للأميرة كارولين. وتسبب ظهور هذا النص في إثارة غضب نيوتن بشدة وتسبب في ظهور العديد من التفنيدات لعقائده الأساسية، لا سيما من جانب العالمين الفرنسيين الكبيرين نيكولا فريريه وإيتيين سوسيه. وقضى نيوتن السنوات الأخيرة من حياته في تأليف نسخة أطول بكثير من كتاباته، وإن كانت لم تظهر إلا بعد وفاته في عام ١٧٢٨ تحت عنوان «تصحيح التقسيم الزمني لتاريخ الممالك القديمة».

كان من المحاور الرئيسة لبرنامج نيوتن تأريخ الرحلة البحرية لبحارة الأرجو، وهو الوقت الذي صنع فيه شيرون القنطور وموزيوس (أستاذ أورفيوس وأحد بحارة الأرجو) «مجالًا» انجذبت إليه الكويكبات الظاهرة آنذاك. وباستخدام أدلة مبهمة إلى حد بشع لتعيين المكان الذي حدد فيه شيرون موضع الاعتدالين على المجال، ومقارنتها بقيمة تقدم الاعتدالين السنوية الموجودة في كتاب «المبادئ الرياضية»، استنتج نيوتن تاريخًا للبعثة فيما بين ٩٣٧-٩٣٦ قبل الميلاد. وكان من العناصر الحيوية لمشروعه اتفاقه في الرأي مع المؤرخ اليهودي يوسيفوس (الذي تلا هيرودوت) في أن الفرعون المصري سيزوستريس هو نفسه شيشَق، الملك المصري الذي دمر المعبد «بعد» وفاة سليمان، والذي وُصف غزوه ليهودا في سفر الملوك الأول. وقد ازدهر سيزوستريس (أيضًا أوزوريس أو باخوس) في الجيل الذي سبق رحلة بحارة الأرجو، وهي حقيقة أتاحت لنيوتن ربط تواريخ التاريخ المصري بالسجل التاريخي الواقعي للعهد القديم.

ميلاد الحضارة

في العصور الأولى — وفقًا لنيوتن — كان هناك أمم عديدة مقسمة وفقًا للطريقة التي تفرق بها أحفاد نوح (زحل). وقد كان كل تراث خاص بإمبراطورية معينة يدعو أسلافهم بأسماء مختلفة، ولكنه كان يروي بالضرورة نفس التاريخ. وكان أبناء نوح وذريتهم يعيشون في العصر الفضي في ظل شرائع نوح السبع، ومضى ليعمِّر أجزاء مختلفة من العالم. وعلى الرغم من أن الأحداث كانت قديمة للغاية بما يتعذر معه تأريخها بدقة، فقد تحدث نيوتن بحماس وعاطفة شديدة عن الحياة عبر أوروبا في العصور الأولى قبل ظهور مباهج وزخارف الحضارة سواء في شكل الزراعة، أو الجعة، أو المال أو الحرب. وفي إحدى نسخ نص بعنوان «الممالك الأصلية»، طور تحليله الذي كتبه في ثمانينيات القرن السابع عشر وعاود التأكيد على أن الشكل الأصلي للعبادة قد ألزم القدماء بممارسة الشكل الفيستاوي للعبادة. غير أن ذلك كان ينحدر في كل الأحوال إلى الفسوق والزنا: فالمصريون — على سبيل المثال — أساءوا فهم معنى لغتهم الهيروغليفية وانحدر دينهم إلى المعتقدات المضحكة الخاصة بعبادة الحيوانات وتناسخ الأرواح.

fig17
شكل ١٠-١: تصوير إينك سيمان لنيوتن عام ١٧٢٦. 1

وللهفته للرد على الهجمات التي تصاعدت ضد برنامجه عبر القنال الإنجليزي، كان نيوتن يعكف على تأليف كتابه «تصحيح التقسيم الزمني لتاريخ الممالك القديمة» خلال العامين الأخيرين من حياته. وبالفعل كتب عدة نسخ من فصول عديدة من العمل لم تظهر إلا بعد وفاته. واختفت العناصر الأكثر تشويقًا وثورية لمشروعاته العظيمة، ولم يتبق سوى قائمة من الأحداث الموجعة المتعاقبة. وفي تلك الأسابيع والشهور الأخيرة، حاول نيوتن فيما يبدو أن يعيش الحياة المثالية التي شرحها بوضوح للمسيحي الصالح، وإن كان غضبه وحاجته لسحق الخصوم يطفوان على السطح من آن لآخر. فكان يصرف مبالغ طائلة من المال لكل من الأقارب والغرباء، وكان يعمل على تنظيم التبرع بالأناجيل. وكما رأينا في بداية هذا الكتاب، فقد كان الزوجان كوندويت يتذكران كراهيته الشديدة للاضطهاد والقسوة على الحيوانات.

وبحلول تاريخ وفاته في ربيع عام ١٧٢٧، كانت شهرته وإنجازاته قد أتت على سمعة وإنجازات أي فيلسوف طبيعي آخر على الإطلاق. وكانت مكانته نادرًا ما تضعف في تلك الأثناء، وفي إطار مدى تجاوز الإنجازات العلمية لأي شخص لإنجازات معاصريه، لا بد أن يحتل نيوتن تصنيفًا يفوق الأبطال الآخرين أمثال داروين وأينشتاين. وعلى مدى ثلاثة قرون قدمًا، لا تزال حياته الخاصة واهتماماته الأكاديمية «الأخرى» مبهرة، فيما تشير استطلاعات الرأي إلى أن الأغلبية على مستوى العالم يعتبرونه أعظم مفكر عرفه العالم.

لقد تبنى نيوتن مناهج متنوعة لحل المشكلات في مختلف مجالات عمله، وإن كان ذلك لا ينفي وجود صلات وروابط دائمة بين الجوانب المختلفة لأبحاثه الفكرية. وعلى الرغم من كونها بالضرورة مشروعًا شخصيًّا، فقد كان هو نفسه ينظر إلى أبحاثه اللاهوتية باعتبارها الجانب المُحدِّد لحياته، وكانت لغة ومعنى الكتاب المقدس — إلى جانب ما يُقال عن دوره في التاريخ — يحكمان سلوكه أكثر من أي شخص آخر. ومن الضروري أن ننظر بعين الاحترام لإيمانه القوي، وإن كان موجهًا نحو الكتب، غير أن الشجاعة والخيال والأصالة المذهلة التي صبغت إنجازاته في علم البصريات، والفيزياء، والرياضيات أكثر جدارة بإعجابنا. وبينما كان كوندويت يكافح من أجل الانتهاء من ترجمته لحياة نيوتن، اقترب بشكل خطير من التأكيد على أن صفات نيوتن قد جعلته أكثر من إنسان. وعلى الرغم من أنه لم يكن إلهًا، كان هناك مبرر في رأي هالي يفيد بأنه ما من إنسان آخر استطاع الاقتراب من مكانة الآلهة على الإطلاق مثله.

هوامش

(1) Courtesy of Dr Milo Keynes.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤