الفصل الثاني

التعامل مع الأمور فلسفيًّا

وُلد نيوتن في يوم عيد الميلاد عام ١٦٤٢ (والذي يوافق ٤ يناير عام ١٦٤٣ في معظم دول أوروبا)، وفقًا للتقويم المعتمد آنذاك في إنجلترا؛ إذ لم تكن وقتها قد اعتمدت التقويم الميلادي مثل معظم الدول الأوروبية. وشهد العقد الأول من حياته وحشية الحروب الأهلية بين القوى البرلمانية والقوى المؤيدة للحكم الملكي في أربعينيات القرن السابع عشر، والتي وصلت لذروتها بإعدام تشارلز الأول في يناير عام ١٦٤٩. وكان عمه وزوج والدته قسيسيْن في الأبرشيات المحلية، ويبدو أنهما قد عاشا دون التعرض لكثير من المضايقات من جانب السلطات الكنسية التي اجتمع بها البرلمان للنظر في «الانتهاكات» الدينية. وفي عقده الثاني، عاش تحت حكم الكومنولث البروتستانتي المتطرف، والذي تغيَّر في عام ١٦٦٠ حين استعاد تشارلز الثاني عرشه. وُلد نيوتن لعائلة ميسورة نسبيًّا، ونشأ في جو من التقوى والورع. كان والده — واسمه إسحاق أيضًا — مزارعًا صغيرًا ورث في ديسمبر من عام ١٦٣٩ أرضًا وقصرًا جميلًا في أبرشية وولسثروب بمقاطعة لينكولنشاير. كانت والدته حنا آيسكوف، تنتمي للطبقة المتوسطة العليا، وعلى ما يبدو لم تتلق سوى التعليم الابتدائي (كما كان معتادًا بالنسبة لتلك الفترة). غير أن شقيقها ويليام تخرج من كلية ترينيتي بجامعة كامبريدج في ثلاثينيات القرن السابع عشر، وكان له دور مؤثر في توجيه نيوتن للالتحاق بنفس الكلية.

توفي والد نيوتن، الذي لم يكن فيما يبدو يستطيع توقيع اسمه، في أوائل شهر أكتوبر من عام ١٦٤٢، قبل زهاء ثلاثة أشهر من ميلاد ابنه. وقد أخبر نيوتن كوندويت بأنه وُلد طفلًا ضئيل الحجم ومعتل الصحة، وكان بقاؤه على قيد الحياة أمرًا مستبعدًا؛ لدرجة أن السيدتين اللتين أرسلتا في طلب النجدة من سيدة نبيلة توقفتا للاستراحة وهما في طريقهما إليها، ليقينهما بأن الطفل سيموت قبل عودتهما. وعلى عكس التكهنات، عاش نيوتن، وترعرع في كنف والدته حتى سن الثالثة، حين تقدم للزواج منها بارناباس سميث، وهو قس عجوز بإحدى الأبرشيات المحلية. كان سميث ثريًّا، وقد تزوجا في يناير من عام ١٦٤٦ بعد أن تعهد بترك أرض لوليدها الأول. كانت والدة نيوتن تقضي معظم وقتها مع زوجها الثاني، وأنجبت منه ثلاثة أطفال قبل وفاته في عام ١٦٥٣ (وكان أحد هؤلاء الأطفال هي والدة كاثرين كوندويت). وعلى الرغم من أن جون كوندويت كان كثيرًا ما يتكلم بحماس عن فضائل حنا بوجه عام، وكان حريصًا على الإشارة إلى أنها كانت «أمًّا رءومًا» لجميع أبنائها، فقد كان يؤكد على أن إسحاق الصغير كان المفضل لديها. وأيًّا كانت حقيقة ذلك، فإن الأدلة التي ساقها نيوتن بنفسه تشير إلى أنه قد جمعته علاقة عصيبة للغاية بوالدته وهو في مرحلة المراهقة، ودائمًا ما كان المؤرخون يجدون صعوبة في إيجاد تطابق بين رواية كوندويت وبين حقيقة أن نيوتن قد تُرك بالفعل لمدة سبع سنوات في وولسثروب لينشأ تحت رعاية جدته لأمه.

التحق نيوتن بمدرستين محليتين حتى بلغ ١٢ عامًا، ليلتحق بعد ذلك بمدرسة جرانثام الثانوية، وهناك أقام مع صيدلي محلي يُدعى جوزيف كلارك، الذي تبين أن متجره مصدر رائع للمعلومات. وقد قال أحد أحفاد كلارك لويليام ستوكلي إن نيوتن أظهر اهتمامًا بالغًا بالأدوية والكيماويات الوفيرة هناك، فيما أشار ستوكلي إلى أنه كان يقضي وقتًا كبيرًا في جمع الأعشاب، وربما تعرف على خصائصها من صبية كلارك. وعاش نيوتن مع أبناء زوجة كلارك، وكان من بينهم كاثرين، التي أصبحت فيما بعد السيدة فينسنت، وأدلت بقدر وافر من المعلومات عن ذلك الصبي المعجزة. وكان كل من يقابل ستوكلي يحكي له عن «نبوغه المثمر الاستثنائي» في صناعة الآلات، ويخبره أنه «بدلًا من اللعب وسط أقرانه من الصبية — عند العودة من المدرسة — كان دائمًا ما يشغل نفسه في المنزل بصنع حلي من أنواع مختلفة، ومجسمات من الخشب، وأي شيء يقوده خياله إليه». وقد أشارت السيدة فينسنت، التي زُعم أن المخترع الشاب كان يهيم بها حبًّا، إلى أن زملاءه في المدرسة كانوا «لا يكنون له قدرًا كبيرًا من الحب»؛ لإدراكهم أنه «يملك قدرًا من العبقرية والنبوغ» يفوق ما يملكونه. وبدلًا من ذلك، كان إسحاق الصغير «صبيًّا مفكرًا وصامتًا وهادئًا دومًا»، ولم يكن يلعب قط مع الصبية، بل كان من آن لآخر يصنع أثاثًا لبيوت الدمى للفتيات «ليضعن عرائسهن وحليهن عليها».

قام نيوتن ببناء «متجر كامل للأدوات» في جرانثام، وكان ينفق كل النقود التي تعطيها له والدته على شراء المناشير، والأزاميل، والبلطات الصغيرة، والمطارق، وما شابهها من أدوات، «والتي كان يستخدمها بنفس القدر من البراعة والمهارة، وكأنه تربى متشربًا بهذه الحرفة». وكان كثير من الآلات التي وصفتها السيدة فينسنت وغيرها قد عُرض في الأساس في كتاب من تأليف جون بِت بعنوان «أسرار الطبيعة والفن»، والذي كان جزءًا من مجموعة كتب تنتمي لجنس أدبي يحظى بشهرة بالغة تُدعى «السحر الرياضي»، والتي احتوت على العديد من الوصفات وتصميمات الآلات. لم يكن نيوتن ليتقبل المعلومات ببساطة دون تطويرها على نحو مثير. فلعدم رضاه باستنساخ طاحونة هوائية ورد وصفها في كتاب بِت، ذهب ليشاهد نسخة حقيقية منها بُنيت في قرية مجاورة، «وكان يلازم العمال يوميًّا»، و«حصل على فكرة دقيقة عن آليتها، حتى إنه صنع نموذجًا حقيقيًّا ورائعًا لها». وقد تجاوز نموذجه المبدئي وقام بتعديل وضبط الآلية بحيث تُدار الأشرعة بواسطة فأر يقود عجلة أثناء محاولته للوصول لبعض الذرة. وفيما اختلف رواة ستوكلي حول آليتها، فقد اتفقوا على أن الناس كانوا يقطعون أميالًا لمشاهدة «طاحونة الفأر». وقد أشار ستوكلي عن إدراك وفطنة إلى أن الآلات «الهزلية» كانت عادةً ما تجذب انتباهه. ففضلًا عن طاحونة الفأر وأثاث الدمى، تفحص نيوتن نسيج وأبعاد طائرة ورقية بسيطة، وصنع نموذجًا أفضل، وأرفق بها مصباحًا يضاء بالشموع، مما بث الفزع في نفوس أهل القرية ومنحهم الكثير لمناقشته بينما يحتسون الجعة.

وكما حدث في حالتي الطاحونة الهوائية والطائرة الورقية، صنع نيوتن ساعة خشبية، وبعدها مباشرةً صنع نموذجًا أفضل لها. وقد كانت هذه النسخة المعدلة — المزودة بقرص مدرَّج — تُدار بواسطة سيل منتظم من قطرات الماء كان يزودها بها كل صباح، وصُنعت من صندوق أعطاه له همفري بابينتون. وبابينتون هو شقيق السيدة كلارك (التي كانت صديقة مقربة لحنا سميث)، وكان قد فُصل من كلية ترينيتي لرفضه ميثاق قسم الولاء للكومنولث، ولعب دورًا مهمًّا في حياة نيوتن على مدى العقود اللاحقة. ونجح نيوتن في توسيع نطاق براعته الفنية الفائقة لينتقل إلى الساعات الشمسية المعقدة، محولًا ملامح منزل كلارك المتنوعة إلى أنواع مختلفة من الساعات، وبحسب ستوكلي، فقد «أظهر عظمة ونطاق فكره برسم خطوط طويلة، وربط خيوط طويلة بكرات متحركة عليها؛ وغرز أوتاد في الحائط لتمييز الساعات وأنصاف وأرباع الساعات». وقد صنع «تقويمًا» من هذه الخطوط «وكان يعرف من خلالها أي يوم من الشهر أصبح؛ وموعد دخول الشمس في الأبراج، وشهور تساوي الليل والنهار والانقلاب الشمسي». وقد أصبحت ساعات نيوتن الشمسية، شأنها شأن الكثير من إنجازاته الأخرى، معروفة في الأبرشية. ولعل هذه الساعات هي أعظم إنجازاته في مرحلة الصبا، ويعتقد ستوكلي أنها كانت أساس انبهاره بالحركات السماوية.

تفوق نيوتن أيضًا في الأنشطة الفنية، مثل الرسم وحتى تأليف الشعر، على الرغم من أن ولعه بالشعر كان مؤقتًا. فكان يغطي جدران غرفة عُلِّيَّة البيت الخاصة به برسومات من الفحم لحيوانات، وبشر، ونباتات، وأشكال رياضية، ونقش اسمه على الأرفف. وفي منتصف القرن العشرين، اكتُشفت رسومات هندسية، رسمها نيوتن بلا شك، محفورة على المبنى الحجري لقصر وولسثروب.

fig2
شكل ٢-١: كان كتاب جون بِت «أسرار الطبيعة والفن» هو المصدر الذي اعتمد عليه نيوتن لتصميم ساعة تعمل بالماء.

ويمكن تقييم النزعة الفنية لدى نيوتن في تلك الفترة من خلال سلسلة من الملاحظات عن كتاب بِت، وُضعت داخل مفكرة كان قد اشتراها في عام ١٦٥٩. تشهد هذه الملاحظات على اهتمام نيوتن بالجوانب العملية للرسم، وكذلك اهتمامه بإنتاج مجموعة كبيرة من الأحبار والطلاءات الملونة، سواء من الحيوانات، أو النباتات، والمعادن، أو من خلال مزج ألوان موجودة مسبقًا. وبعد مرور ما يزيد عن عقد، ساهم آخر هذه الموضوعات في شهرته. ثمة إرشادات أخرى تتعلق بكيفية صنع طعم صيد السمك، وطرق مختلفة، ليست جميعها بالغة التعقيد، لصيد الطيور بإدخالها في حالة سُكر. احتوى كتاب بِت أيضًا على وصفات لمراهم ودهانات عامة، دوَّن نيوتن عددًا منها. وبالفعل، من بين الأشياء القليلة التي تذكرها جون ويكينز فيما بعد — وهو رفيق غرفته لمدة عشرين عامًا في كامبريدج — أن نيوتن كان غالبًا ما يأخذ وصفة دوائية بشعة كان يصنعها بنفسه («بلسم لوكاتيلو») كواق من الأمراض. وقد جاءت بعض هذه الملاحظات من كتاب «السحر الرياضي» لجون ويلكنز، وهو عمل شهير قدم معلومات مشابهة لمعلومات بِت، فيما كانت فقرات أخرى في المفكرة تتعلق بالطرق المختلفة لإحداث حركة مستديمة، وهو موضوع حاز اهتمامًا بالغًا في العقود اللاحقة.

لم يقدم هذا الانغماس في عوالم براعته العملية نذرًا لمستقبله العظيم فحسب، ولكنه قاد إليه مباشرة. وبالفعل، قدم ستوكلي وصفًا رائعًا لكيفية ارتباط ميول نيوتن المبكرة التي استحوذت عليه بانتصاراته اللاحقة. فقد أشار إلى أن براعة نيوتن المبكرة في استخدام الأدوات الميكانيكية، إلى جانب خبرته في الرسم والتصميم، كان لهما نفع بالغ لمهارته التجريبية «وأعدت له أساسًا متينًا لتطبيق ملكاته العقلية القوية عليه». كان نيوتن يملك كل السمات ليصبح فيلسوفًا طبيعيًّا عظيمًا على نحو فريد، مثل «البصيرة النافذة»، و«الثبات الذي لا يقهر، والمثابرة في إيجاد حلوله»، و«قوة عقلية ضخمة في توسيع نطاق حججه [و] سلسلة استنتاجاته»، و«مهارة فذة في الجبر وما شابهه من طرق التنويت». ومثل جميع الأطفال، كان يميل للتقليد، ولكنه في رأي ستوكلي «وُلد فيلسوفًا في واقع الأمر. وكان للتعلم والمصادفة والكد دورهم في توضيح بعض الحقائق البسيطة والعامة أمام عينيه الثاقبتين»، وقد عمد تدريجيًّا إلى توسيع نطاق هذه الحقائق «حتى كشف عن اقتصاد الكون الأكبر».

طفل ورع

قدر ما كان مستغرقًا في ابتكار آلاته، كان الصبي الريفي الموهوب يعاني تعاسة شديدة في شبابه. ففي أواخر مايو من عام ١٦٦٢، وضع قائمة بأسلوب الاختزال بكل الخطايا التي ارتكبها في العقد السابق من حياته، وظل لفترة قصيرة يدون كل الأخطاء التي ارتكبها أثناء دراسته بكامبريدج. لقد كان مصطلح «متزمت» مصطلحًا خاطئًا تمامًا كوصف لعقيدة نيوتن الدينية، ولكن القيم الأخلاقية البروتستانتية المتطرفة المرتبطة بهذا المصطلح تصف على نحو دقيق الشخص الذي تبدى لنا بين فقرات المذكرات. فالكثير من هذه الخطايا غطت أنشطة كان يؤديها في يوم السبت («يوم الراحة») الذي يفترض فيه بالمسيحيين الأتقياء الورعين أن يلزموا الراحة. وفي الكثير من أيام الأحد خلال فترة خمسينيات القرن السابع عشر، كان نيوتن يقرأ كتابًا تافهًا، ويأكل تفاحة في الكنيسة، ويصنع ريشة، وساعة، ومصيدة فئران، وبعض الحبال، وفي المساء يصنع الفطائر. وقد اعترف بأنه كان يثرثر ﺑ «لغو فارغ» في يوم الرب، ومن ثم فلا غرابة في أنه أيضًا كان يسمع العديد من العظات ويحفظها بلا اكتراث، فيما دوَّن أيضًا أنه قد فاته تمامًا الذهاب إلى الكنيسة في إحدى المناسبات. وفي بعض الأحيان، كان يكرس نفسه للتعلم وكسب المال أكثر من تكريسها لله، مفضلًا «الأمور الدنيوية»، والحق أن الكثير من خطاياه تدل على فشله في العيش كإنسان ورع: «لم أكن أعيش وفقًا لعقيدتي»، و«كنت أهمل الصلاة»، وهو ما جعله يصبح بعيدًا عن الله، وفشل في حبه لذاته وفي «الاشتياق» لطقوس الرب.

كانت هناك أيضًا بعض الوقائع المعتادة لأي مراهق في قريته. فكان يضع دبوسًا في قبعة صبي آخر لكي «يوخزه»، وكان يرفض المجيء للمنزل حين تطلب منه والدته ذلك، وكذب على والدته وجدته بشأن امتلاكه لقوس ونشاب. وفي أوقات أخرى، كان «يتشاجر» مع الخدم. كذلك كانت جرائم الطعام بارزة: فكان يسرق ثمار الكرز من إدوارد ستورر، ابن زوجة كلارك، وكان يختلس ثمار البرقوق والسكر من صندوق طعام والدته. بل إنه اعترف بأنه كان يفرط في الطعام أثناء مرضه، وبالفعل كان أول ما كتبه في القائمة القصيرة للخطايا التي ارتكبها حين كان طالبًا في كامبريدج تدور حول هذا الخطأ. ثمة تعليقات أخرى في القائمة الأولى تصف عناصر أكثر قتامة من نفسيته. فقد لكم إحدى شقيقاته، وضرب «كثيرين»، وأوسع آرثر ستورر — شقيق إدوارد — ضربًا. والمعنى الدقيق لعبارة «لدي أفكار وكلمات وأفعال وأحلام قذرة» في قائمة نيوتن غير واضح، وكذلك الحال فيما يتعلق بأسفه لاستخدامه «وسائل غير مشروعة» لإخراج نفسه من حالة «الكرب والحزن» التي يمر بها. وهناك أيضًا اشمئزاز حقيقي يظهر من خلال تذكره «لتمني الموت لنفسه وتمنيه للبعض»، ولعل أكثر هذه الذكريات بشاعة تلك الذكرى البعيدة حين هدد بحرق زوج والدته ووالدته ومنزلهما. كذلك جمَّع نيوتن قائمة بالكلمات الشائعة الواردة في كتاب فرانسيس جريجوري «إعادة ترتيب المسميات القصيرة» الصادر عام ١٦٥١ مرتبة أبجديًّا. فأضاف لمصطلحات مثل «أب»، و«زوجة»، و«أرملة» كلمات مثل «فاسق»، و«عاهرة» لم يكن لها وجود في كتاب جريجوري، وهي تعبيرات ربما تشير لرأيه في والدته وزوجها.

أعلن غضب نيوتن عن نفسه في مناح أخرى من حياته. فوفقًا لكوندويت، الذي عرف نيوتن عن قرب، كان الاستياء والرغبة في المنافسة هما القوتان اللتان دفعتا نيوتن للتفوق على الجميع في بداية مشواره الأكاديمي. وغالبًا ما كان نيوتن يروي له قصة عن أيامه الأولى في المدرسة الثانوية حين كان قابعًا في مؤخرة الفصل، وهي قصة ربما ترتبط ﺑ «اعترافه» بضرب آرثر ستورر. ففي أحد الأيام، تلقى ركلة في معدته وهو في طريقه إلى المدرسة، وبعد انتهاء الدروس اشتبك في فناء الكنيسة مع الشخص الذي اعتدى عليه. وعلى الرغم من أن نيوتن «لم يكن في قوة خصمه، فقد كان لديه روح وعزم أكثر منه بكثير لدرجة أنه ظل يوسعه ضربًا إلى أن أعلن أنه لن يشتبك معه أكثر من ذلك». وفيما بعد، حثه ابن ناظر المدرسة على أن يدفع وجه خصمه للارتطام بجانب الكنيسة. بعد ذلك، كافح نيوتن من أجل التفوق على خصمه في التعلم، ولم يتوقف حتى تفوق عليه في الترتيب الدراسي، وبعناد لم يتوقف صعد ليصبح الأول على المدرسة.

كان لأنشطته الخارجة عن المنهج الدراسي تأثير عكسي على أدائه الدراسي، إلا أن قدرته كانت هائلة حتى إنه استطاع استئناف نشاطه الأكاديمي وتفوق على أقرانه كلما شاء. وقد أشار ستوكلي إلى أن «بعض الصبية الكسالى أحيانًا ما كانوا يسبقونه شكليًّا، لكن هذا دائمًا ما كان يدفعه لمضاعفة جهوده ليتخطاهم». ويبدو أن ناظر المدرسة جون ستوكس، قد اكتشف موهبة نيوتن في مرحلة مبكرة، لكنه لم يستطع إبعاد الصبي عن مطارقه وأزاميله. غير أنه في النصف الثاني من عام ١٦٥٩، قررت والدته إخراجه من المدرسة لإدارة ممتلكات الأسرة. وعلى الرغم من أنه قد وُضع تحت رعاية موظف موثوق فيه، فإن هوسه ببناء السواقي وغير ذلك من النماذج، وقدرته على الغرق في بحور كتبه، جعلا من نيوتن شخصًا غير مناسب تمامًا لهذه المهمة. فقد شردت الأغنام والماشية الذي كان من المفترض أن يعتني بها إلى الحقول المجاورة، وتوضح الوثائق أنه قد غرِّم لذلك في أكتوبر من العام نفسه. وكان بالكاد يتذكر تناول الطعام، وبحسب ستوكلي، كانت «الفلسفة تشغل كل أفكاره».

وعند هذه المرحلة، تبدأ القصص الخاصة بتطور نيوتن في تصويره كدارس روحاني زاهد، وليس صانعًا موهوبًا. وفيما بعد، أشارت أدلة مختلفة إلى أنه قد أصبح معروفًا بسلوكه الساذج أو «عديم الحس» حين التحق بجامعة كامبريدج. ولكونه مديرًا ميئوسًا منه لشئون عائلته، كان يرشو الخادم للتصرف نيابة عنه، ووجد ملاذًا علميًّا في العلية حيث كان يقيم بينما كان في المدرسة، ليغرق وسط كومة من المجلدات الطبية والعلمية التي تُركت هناك. وفي مناسبات أخرى، كان يضطجع فحسب أسفل سياج من الشجيرات أو أسفل شجرة ويقرأ كتابًا. وذات مرة، أفلت حصان نيوتن من لجامه، وسار لأميال دون وعي فيما كان مستغرقًا في كتاب يقرؤه. وكانت والدته «في غاية الانزعاج من ولعه المبالغ فيه بالقراءة»، فيما كان العاملون يصفونه بأنه «صبي سخيف لن يصلح لأي شيء».

جاء طوق النجاة ممثلًا في ستوكس، الذي أخبر حنا أن موهبة نيوتن الهائلة يجب ألا تُدفن في «عمل ريفي بسيط». فقد رأى «المقدرة غير العادية للصبي، وأعجب بابتكاراته المدهشة، وبراعة يده، وكذلك ذكائه الرائع الذي فاق سنوات عمره القليلة»، وأخبر والدته أنه «سيصبح إنسانًا فذًّا ورائعًا للغاية». وعرض ستوكس أن يتركه يقيم بالمدرسة مجانًا، وهو ما قد يعتبر عاملًا أساسيًّا في موافقة حنا على السماح لابنها بالعودة إلى المدرسة الثانوية للاستعداد للالتحاق بالجامعة، ليعود إلى هناك في خريف عام ١٦٦٠، ويتلقى دروسًا إضافية في اللغة اللاتينية واليونانية. وفي يومه الأخير بالمدرسة ألقى ستوكس خطابًا مؤثرًا في وداعه زُعم أنه أدمع عيون بقية المدرسة. وقد أشار ستوكلي إلى أن أيًّا من مثل هذه العواطف لم يراود العاملين الذين أعلنوا صراحةً أنه «لا يليق لأي شيء سوى الجامعة».

ترينيتي

في تلك الفترة، كان قد تقرر بالفعل أن يلتحق نيوتن بكلية ترينيتي بجامعة كامبريدج، أرقى كليات إنجلترا. وعلى الأرجح أن اتحاد قوى ويليام آيسكوف وهمفري بابينتون، الذي كان قد أعيد مؤخرًا كعضو بالكلية، كان هو العامل الذي حسم إرسال نيوتن إلى هناك. وصل نيوتن إلى كامبريدج في ٥ يونيو من عام ١٦٦١، كطالب «يسدد مصروفاته بأداء أعمال خدمية»، وهي مكانة متدنية لا تتماشى مع الثروة التي تملكها والدته بشكل مثير للاستغراب. كان هؤلاء الطلاب الذين كان عليهم الدفع مقابل طعامهم وحضور المحاضرات أيضًا، في الواقع بمنزلة خادمين لزملائهم أو للطلاب الأثرياء، ومن المحتمل أن يكون نيوتن قد عمل في هذه الوظيفة لدى بابينتون، وإن كان ذلك مستبعدًا. تفاعل كل من قاطني المدينة الجامعية من الطلاب والعاملين بالكلية سريعًا وبإيجابية مع إعادة تشارلز الثاني إلى الحكم في الربيع الفائت، وحل المؤيدون للحكم الملكي محل المعينين من جانب الكومنولث في المناصب المرموقة. وصار العالم الأنجليكاني جون بيرسون، مؤلف الكتاب المؤثر «بيان العقيدة» في عام ١٦٥٩، أستاذًا بالجامعة في عام ١٦٦٢، وفي عهده ركزت الكلية على أشكال أكثر تقليدية للمعرفة والعلم وخاصة الدراسة اللاهوتية.

تلقي الدلائل المقتطفة من مفكرة صغيرة ببعض الضوء على كيفية قضاء نيوتن لوقته وإنفاقه لماله وهو طالب. فتبين العناصر الأولى التي كتبها شراءه لوازم أساسية مثل الكتب، والأوراق، والقلم والحبر، والمواد العادية اللازمة للمعيشة في سكن طلابي في القرن السابع عشر، مثل الملابس، والأحذية، والشموع، وقفل لمكتبه، وسجادة لغرفته، ومبولة. واشترى أيضًا ساعة يد، ولوحة شطرنج، ثم اشترى فيما بعد طاقمًا من قطع الشطرنج (ووفق رواية كاثرين كوندويت، أصبح في غاية البراعة في ألعاب الألواح)، ودفع سبعة بنسات قيمة اشتراكه السنوي للدخول إلى ملعب التنس. وتشير الفقرة الخاصة ﺑ «نفقات الحفلات الراقصة والرحلات» والتي تكررت في موضع لاحق، إلى أنه لم يكن يقضي كل لحظة في الدراسة خلال عامه الأول هناك. والحق أنه قد صنع قائمة منفصلة لنفقات «العبث» و«البذخ»، بما في ذلك شراء الكرز، والجعة، والمرملاد، وكعك الكسترد، والكعك، واللبن، والزبد، والجبن. وفيما بعد تحول إلى شراء التفاح، والكمثرى، والبرقوق المطهي.

وبسرعة بالغة — وعلى نحو فريد غير مألوف بين الطلاب الذين لا تزال سجلاتهم باقية — بدأ نيوتن في إقراض خادمه، وزملائه من الطلاب، والذين كان العديد منهم «موسرين» وكانوا يشغلون مكانة اجتماعية أعلى من مكانته نوعًا ما في الكلية. وكان معظم المستفيدين من سخاء نيوتن يردون ماله إليه، وهو ما تبين من خلال علامة ظهرت عبر السجل المتعلق بهذا الأمر. وفي مرحلة ما، تقريبًا في عام ١٦٦٣، التقى نيوتن بطالب موسر آخر، هو جون ويكينز (الذي أشار نجله نيكولاس إلى أن والده وجد نيوتن «وحيدًا وكئيبًا»)، وقررا الإقامة معًا. كان ويكينز يعمل بين الحين والآخر سكرتيرًا لنيوتن حتى غادر كامبريدج في عام ١٦٨٣ ليشغل وظيفة في الكنيسة. وقد علم نيك (نيكولاس) ويكينز من والده أن نيوتن كان ينسى تناول طعامه في أوقات العمل، وفي الصباح كان يستيقظ «في حالة من السرور لاكتشافه افتراض ما؛ دون أدنى اهتمام بنومه الليلي، أو مجرد إظهار حاجة إليه». وإذا صحَّت ذكريات نيوتن، فقد أصبح مفتونًا في العام نفسه الذي التقى فيه بويكينز بعلم التنجيم بأحكام النجوم — وهو تقييم آفاق مستقبل الفرد على أساس دراسة مواقع النجوم والكواكب — واشترى كتابًا عن هذا الموضوع. ونتيجة لعدم رضاه بذلك، اتجه في العام اللاحق إلى رياضيات إقليدس، فقط ليرفضها لبديهيتها بشكل يصل إلى حد التفاهة.

وعلى الأرجح أنه حضر المحاضرات الأولى لأستاذ الرياضيات إسحاق بارو، الذي كان أول من شغل هذا المنصب، في مارس من عام ١٦٦٤، وربما لاحظ الأستاذ الجامعي وجود طالب يقظ للغاية وسط الحضور. وفي الشهر اللاحق لمحاضرة بارو الافتتاحية، أقامت ترينيتي واحدة من مسابقاتها الدورية للمنح الدراسية، واشترك فيها نيوتن. وبحسب روايته للقصة فيما بعد، كان بارو هو ممتحنه، والذي لم يتخيل أن يكون الطالب الشاب قد جرؤ على مطالعة كتاب ديكارت الرائع «الهندسة»، وهو عمل فذ كان من الواضح أن نيوتن لديه من التواضع ما منعه من الاعتراف به، فيما خاب أمله لانعدام معرفة نيوتن بإقليدس. ومع ذلك فاز نيوتن بالمنحة، ومن ثم أصبح مخولًا لعدة امتيازات. وفي بداية العام اللاحق، تقريبًا في نفس العام الذي اكتشف فيه نظرية ذات الحدين المعممة، أُجبر على خوض اختبار مطول في معارف أكثر تخصصًا للتأهل للحصول على درجة البكالوريوس. وفي رواية لاحقة، ذكر أنه شارف على الإخفاق في هذا الاختبار، وإن كان من المحتمل أن تكون الرواية قد خلطت بين هذا الحدث وبين اختبار المنحة الدراسية الذي عقد في العام السابق.

دمر الطاعون أجزاءً متعددة من إنجلترا في منتصف عام ١٦٦٥، وعاد نيوتن إلى موطنه مع معظم الطلاب الآخرين في أواخر يوليو أو أوائل أغسطس. وبعد عودته إلى كامبريدج في مارس من عام ١٦٦٦، استمر في إقراض العديد من الطلاب أنفسهم الذين كان يقرضهم من قبل، ولكن الطاعون عاود الظهور مرة أخرى في بداية فصل الصيف، ليتخذ نيوتن من لينكولنشاير ملاذًا له مرة أخرى، والتي شهدت إنتاج جزء كبير من أكثر أعماله إبداعًا، على الأرجح في منزل بابينتون في بوثباي باجنل. وفي ٢٠ مارس عام ١٦٦٧، تلقى ١٠ جنيهات استرلينية من والدته، والتي أعطته نفس المبلغ حين عاد إلى كامبريدج في الشهر اللاحق. وعلى مدار العام اللاحق أنفق جزءًا كبيرًا من هذا المال — إضافة إلى الأموال التي استردها من المدينين له — على معدات لصنع أدوات الطحن وإجراء التجارب، وثلاثة أزواج من الأحذية، والخسارة في لعب الورق (مرتين)، ومعاقرة الشراب في إحدى الحانات (مرتين)، إلى جانب شراء بعض المجلدات الأولى من دورية «المعاملات الفلسفية»، وكتاب توماس سبرات المنشور حديثًا وقتئذٍ «تاريخ الجمعية الملكية»، وبعض البرتقال لشقيقته. وفي سبتمبر اشترك في مسابقة أخرى، وهذه المرة لنيل عضوية الكلية. وسواءٌ أكان ذلك بدعم من بابينتون أو بارو، أم ببساطة بسبب عبقريته وتفانيه في المنحة اللذين تألقا خلال الأربعة أيام مدة الاختبار الشفوي، فقد انتُخب نيوتن كعضو غير أساسي بالكلية.

ومن الواضح أن هذا يشير ضمنًا كذلك إلى أنه كان خبيرًا في نوعية المعرفة اللاهوتية التي كان بيرسون يطلبها، وكنتيجة لانتخابه لعضوية الكلية، أقسم على أن يجعل علم اللاهوت محور تركيز دراساته وأن يُرسَّم لدرجة الكهنوتية أو يستقيل. بعد ذلك بفترة وجيزة انتقل نيوتن إلى غرفة جديدة، وعمل على تجديدها لتناسب ذوقه. وفي يوليو من عام ١٦٦٨، نُصِّب أستاذًا في الآداب، مما أتاح له الانتقال إلى منصب عضو أساسي بالكلية. وأنفق مزيدًا من المال على المواد اللازمة لتفصيل ردائه الجامعي، واشترى قبعة باهظة الثمن، وحلة، وسجادًا من الجلد، وأريكة (اشتراها مناصفة مع ويكينز)، وبعض المواد لصنع سرير جديد من الريش. كذلك اشترى ثلاثة موشورات مقابل شلن للواحد، إلى جانب «قطع زجاجية» على الأرجح للتجارب الكيميائية، فيما قام بأولى رحلاته إلى لندن في أواخر الصيف، وسرعان ما تبعته سمعته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤