الفصل الثالث

السنوات الرائعة

شهدت العقود الأولى من القرن السابع عشر نموًّا سريعًا في فهم طبيعة الأرض والسماء، تلك العملية التي عادةً ما كان يُشار إليها بالثورة العلمية. وكان الاعتماد القديم على فلسفة أرسطو سريع الاضمحلال في الجامعات، على الرغم من أن الفلسفة الطبيعية وعلم الأخلاق الأرسطي كانا يُدرسان على نحو روتيني عبر جميع أنحاء أوروبا في مرحلة ما قبل التخرج الجامعي حتى نهاية القرن. وفي المنظومة الأرسطية للفلسفة الطبيعية، كانت حركات الأجسام تُفسر «عرضيًّا» من حيث مقدار ما تحويه من العناصر الأربعة (التراب، والماء، والهواء، والنار)، وكانت الأشياء تتحرك إلى أعلى أو أسفل إلى موضعها «الطبيعي» اعتمادًا على أكثرية العناصر التي تتكون منها. وكانت الفلسفة الطبيعية تتعارض بطبيعتها مع علم الرياضيات أو موضوعات «الرياضيات المختلطة»، مثل علم البصريات، والهيدروستاتيكا، وعلم الأصوات الموسيقية، حيث كان يمكن استخدام الأرقام مع الكميات الخارجية القابلة للقياس مثل الطول أو المدة. كل هذا كان يحدث في كون تستقر الأرض في مركزه، محاطة بالشمس والكواكب.

حدث أول تغير دراماتيكي في علم الفلك — حيث اكتسب نظام مركزية الشمس الكوبرنيكي (أي إن الشمس هي مركز النظام الشمسي) مناصرين جددًا — على الرغم من المعارضة الرسمية من جانب الكنيسة الكاثوليكية والعديد من الطوائف البروتستانتية. وفيما بين عامي ١٥٩٦ و١٦١٠، كانت هناك ثورة في علم الفلك حركتها أعمال يوهانز كبلر وجاليليو جاليلي. فطرح كتاب «اللغز الكوني» لكبلر عام ١٥٩٦ نظامًا لمركزية الشمس أمكن فيه تحديد المسافات بين الكواكب من خلال رسم مدارات الكواكب داخل مجسمات متناسقة. ونشر كبلر أيضًا نظرية مغناطيسية للحركة الكوكبية في كتابه العظيم «علم الفلك الجديد» الصادر عام ١٦٠٩، وهو أطروحة ضمت أول قانونين مما عرف فيما بعد بقوانين كبلر (والقائلة بأن الكواكب تتحرك في مدارات قطع ناقص أو إهليلجية، وأنه بالنسبة للشمس، التي تقع عند إحدى بؤرتي مدار معين، تقطع كل الكواكب نفس المسافات في نفس الفترات).

في عام ١٦٠٩، حوَّل جاليليو زوجًا من العدسات إلى آلة أتاحت له تكبير الأشياء. وأدار هذا «التلسكوب» نحو السماء، وأدرك أن كوكب المشتري له مجموعة من الأقمار تدور حوله، مثلما تدور الكواكب حول الشمس. وفي كتابه القصير «الرسالة الفلكية» الصادر عام ١٦١٠، صرح أيضًا بأن القمر به جبال وأودية، وأن درب التبانة يتألف من آلاف النجوم. وفي عام ١٦١٣، زاد في تحديه للنظرية التقليدية السائدة، التي كانت تقضي بأن السماء «منزهة عن العيب»، وذلك من خلال إثبات أن الشمس بها بقع. وقد أضاف كبلر قانونه الثالث في كتابه «انسجام العوالم» الصادر عام ١٦١٩، والذي نص على أنه بالنسبة لأي مدار كوكبي، فإن مكعب متوسط المسافة بين الشمس والكوكب يتناسب طرديًّا مع مربع فترة دوران الكوكب حول الشمس. وفيما دحضت اكتشافات جاليليو بفاعلية الاعتقاد في كمال السماء، كانت لقوانين كبلر أهمية محورية لنيوتن في إثبات الفرضيات الأساسية في كتاب «المبادئ الرياضية».

لم ينته إسهام جاليليو في علوم القرن السابع عشر عند أعماله في علم الفلك. ففي عام ١٦٣٢، أقدم بشجاعة على نشر كتابه «حوار حول النظامين الأساسيين للكون»، وهو عمل حاول إثبات النظام الكوبرنيكي للعالم. وبسبب ذلك وضع قيد الإقامة الجبرية في منزله حتى نهاية حياته في عام ١٦٤٢، على الرغم من صدور رائعته «حوارات وبراهين رياضية لعلمين جديدين» في عام ١٦٣٨. وكان أرسطو يفترض أن الأجسام المقذوفة قد تعرضت في البداية لحركة «عنيفة» ثم سيطرت عليها بعد ذلك الحركة «الطبيعية» التي دفعت الجزيئات الأرضية للجسم إلى أسفل نحو موضعها الطبيعي. وذهب أيضًا إلى أن الأجسام تسقط بسرعات تتناسب مع وزنها. بدلًا من ذلك، أعلن جاليليو في كتاب «الحوارات» أن مسار المقذوفات قطع مكافئ، بينما المكون الرأسي لأي جسم بالقرب من سطح الأرض يمكن التعبير عنه كقانون ينص على أن إجمالي المسافة التي تسقط منها الأجسام من أي وزن أو «حجم» رأسيًّا تتناسب مع مربع الوقت المستغرق في السقوط. كذلك أوضح أن الأسباب الفيزيائية للجاذبية غير ذات أهمية، وفي الواقع سوف تكون بالغة الصعوبة في اكتشافها، فيما يعد تعارضًا آخر مع المشروع الأرسطي بأسره. ومن خلال إظهاره أن عددًا من الظواهر في المجال الأرضي يمكن حسابها رياضيًّا، أرسى جاليليو قواعد علم الميكانيكا الحديث. ويعد انتصار نيوتن الأكبر — والموضح في كتابه العظيم الذي يحمل نفس الاسم — هو توضيح أن «المبادئ الرياضية» كانت أساس العديد من الظواهر الطبيعية.

ثمة بُعْدٌ أساسي آخر للعلم الحديث موضح في أعمال فرانسيس بيكون. ففي نفس الوقت الذي كان فيه جاليليو وكبلر عاكفين على وضع علم الفلك والميكانيكا، كان بيكون يروج لفكرة أن الطريقة المناسبة لفهم الطبيعة هي الاندماج معها مباشرةً بدلًا من التعامل معها من خلال النصوص الأرسطية (أو أي نصوص أخرى). وذهب بيكون إلى أن إجراء مشروع تعاوني هو الطريق الأوحد لتحقيق تقدم في الفلسفة الطبيعية، وفي إطار ذلك أشار إلى الاكتشافات الأخيرة لقارة أمريكا والمحيط الهادي وأشاد بالتطورات التي حققتها الفنون والحرف. فإبداء ملاحظات عن حقائق منفصلة من شأنه أن يزيد المعرفة بالعالم المرئي، بينما التجارب المصممة جيدًا من شأنها تحليل العالم الطبيعي إلى أجزائه الأساسية المكونة له، واستخراج معلومات عن أسرار الطبيعة الحقيقية. وقد أشاد بيكون أيضًا بالطريقة التي استعد بها الخيميائيون لتحليل الطبيعة، وإن كان قد أسف لأساليب حياتهم المنغلقة ولغتهم الاصطلاحية الغامضة.

لم يكن جميع المعادين للأرسطيين يتفقون على أن مشروع جاليليو هو الطريقة الملائمة لكشف الحقائق العلمية. فقد أعد رينيه ديكارت وصفًا معقدًا لنوعيات البنى متناهية الصغر التي تشكل أساس العالم المادي. فافترض أن الظواهر المتواجدة في العالم من حولنا والتي تشبه الماكينات تعمل أيضًا على المستوى غير المرئي. وافترضت فلسفته الميكانيكية وجود عالم مجهري غير مرئي مأهول بالكلابات والبراغي تؤدي إلى تماسك العناصر معًا. وقد فُسرت ظواهر واسعة النطاق، على غرار المغناطيسية، والحرارة، والجاذبية، والكهرباء، من خلال نشاط «دوامة» شمسية عملاقة، خلفت آثارًا كبيرة على الظواهر الأرضية من خلال قذف أشكال متعددة من المادة. شارك ديكارت جاليليو في مناهضته للمنهج الأرسطي (وشاركه أيضًا تأييده وتأييد كبلر للمنهج الكوبرنيكي، وإن كان سرًّا)، ولكنه اتهم العالم الإيطالي بأنه «يبني دون أساس»، قائلًا إن التفسيرات العلمية ينبغي أن تصاغ في إطار الأسس الميكانيكية المجهرية للطبيعة. وكما سنرى لاحقًا، فقد كان ذلك هو العمل الأكثر تأثيرًا بالنسبة لنيوتن الشاب، على الرغم من أنه سرعان ما صار موضع عداء ومناهضة شديدين من جانبه.

مبتدئ في عالم الرياضيات

كان تعليم نيوتن في البداية تعليم طالب جامعي عادي بكامبريدج، وكان مطالبًا بقراءة قدر معتبر من الأدب اللاهوتي والأرسطي المقرر قراءته. وربما تكون محاضرات بارو في الرياضيات في ربيع عام ١٦٦٤ هي ما أثارت اهتمامه بالرياضيات الجادة، ودوَّن نيوتن فيما بعد أنه قد قرأ كتاب ويليام أوتريد «دليل الرياضيات» وكتاب ديكارت «الهندسة» تقريبًا في الفترة التي بدأ فيها بارو نشاطه في إلقاء المحاضرات. وفي شتاء عام ١٦٦٤-١٦٦٥، درس الرياضيات التحليلية لديكارت عن كثب (والتعليقات الواردة في نسخته من كتاب «الهندسة» والتي كتبها عالم الرياضيات الهولندي فرانز فان شوتن)، وأعمال فرانسوا فييت في الجبر، و«طريقة الكليات» لجون واليس. وباستخدام ما نطلق عليه الهندسة التنسيقية الديكارتية، أتقن المعادلات التي عرَّفت القطوع المخروطية المتنوعة (الدوائر، والقطوع المكافئة، والقطوع الناقصة، والقطوع الزائدة). وعلى الرغم من أنه استهان في البداية بإنجاز إقليدس في كتابه «العناصر»، فقد احترم الإنجازات القديمة لإقليدس وأبولونيوس فيما بعد، متخذًا منهجهما القالب المعياري للأعمال الرياضية.

fig3
شكل ٣-١: نظرية الدوامات الديكارتية: النظام الشمسي، المحيط بالشمس (S)، ويحده النقاط FFFFGG. أما النظم الأخرى فتحوي نجومًا في مركزها.

قرب نهاية عام ١٦٦٤، اكتشف نيوتن كيفية قياس «التواء» أو درجة انحدار أي منحنى عند أية نقطة. وقد عُرِف ذلك باسم «إشكالية المماسات»، وطُورت على يد علماء رياضيات أمثال جيمس جريجوري ورينيه فرانسوا دي سلوز. وسرعان ما بنى نيوتن على منهج صاغه ديكارت أمكن من خلاله تحديد الخط المتعامد على منحنى ما (أي الخط المتعامد على المماسات) عن طريق إيجاد نصف قطر ميل دائرة كبيرة عند نقطة تماسها مع المنحنى. فأخذ نيوتن «الخطوط المتعامدة» بين نقطتين قريبتين، مما سمح للمسافة بينهما بأن تصبح صغيرة اعتباطًا. حينئذٍ استطاع أن يوجد خط التماس لأي نقطة من خلال معادلات «تعبر» عن أي قطع مخروطي، وكذلك الحد الأقصى والحد الأدنى للمعادلات ذات الصلة. وقام بتعميم الإجراء ليعبر عن العناصر الأساسية لما نطلق عليه التفاضل، والذي يمثل من خلاله ميل المماس معدل التغيير الذي يطرأ على منحنى ما عند أي نقطة.

مع بداية شتاء عام ١٦٦٣-١٦٦٤، كان نيوتن قد شرع في قراءة تحليل واليس للطرق التي يمكن من خلالها إيجاد المساحات أسفل أجزاء أي منحنى بتقسيم المساحة إلى أجزاء متناهية الصغر. وفي الوقت الذي نشر فيه واليس كتابه «حساب الكميات متناهية الصغر» في عام ١٦٥٥، كان معروفًا أنه للمعادلات الأساسية ، فإن المساحة أسفل المنحنى بين صفر والنقطة هي . وقد عُرف ذلك ﺑ «التربيع»، وكان هذا هو الشكل البدائي لما نطلق عليه الآن التكامل. كانت هناك معادلات أكثر تعقيدًا تطلبت أساليب مختلفة مثل استخدام المتسلسلة اللامتناهية، التي أتاحت التقريب لقيمة نهائية مع وصول متسلسلة من الحدود إلى حد معين. وقد طور واليس هذه الفكرة بتربيع القطع الزائد والقطع المكافئ، واكتشاف سلسلة من الحدود والتي تقترب من القيمة .
قرأ نيوتن أعمال واليس بعناية في شتاء ١٦٦٤-١٦٦٥، وقدم تقنيات بديلة لتحقيق نفس النتائج. وسرعان ما قام بتنقيح تقنية واليس من أجل التفكير في تربيعات المنحنيات في إطار القوى العشرية (بمعنى إدخال الجذر التربيعي والتكعيبي والجذور الأخرى). وتجاوز ما وصل إليه واليس بإيجاد المتسلسلة الصحيحة لتربيع الدائرة، ونتيجةً لتوسيع نطاق الرؤى المكتسبة من هذا النجاح، توصل أخيرًا لاكتشاف النظرية ذات الحدين المعممة (أي للقوى الصحيحة والعشرية) من أجل توسيع نطاق أي معادلة على الشكل ، والتي أعلن عنها للمرة الأولى في خطاب إلى لايبنتز في عام ١٦٧٦.

في أوائل عام ١٦٦٥، أدرك نيوتن بوجه عام أن تقنيات المماسات والتربيعات هي عمليات معكوسة، بمعنى أنه كان لديه النظرية الأساسية للتفاضل والتكامل. ومع أواخر عام ١٦٦٥، وفيما قد يعد تقليدًا لبارو، كان عادةً ما يتعامل مع المنحنيات كنقاط تنقش خطوطًا في فراغ افتراضي تحت ظروف معينة، وأشار إلى «السرعات» التي تتعرض لها النقاط في لحظات معينة من الوقت. وكان هذا هو ما أطلق عليه التفاضل والتكامل «المنساب»؛ لأن قيم النقاط على المنحنى «تنساب» من نقطة إلى التي تليها. وحينئذٍ صار بالإمكان التعامل مع المساحات أسفل المنحنيات ليس كمجرد مجموعات من الأجزاء متناهية الصغر، ولكن كمساحات تتشكل «حركيًّا» من خلال تقدير الفراغ الذي تمر عبره خطوط تربط نقطة متحركة بقيم مماثلة تقع أسفل النقطة المتواجدة على المحور السيني مباشرة. وقد رُتب معظم هذا العمل العبقري منهجيًّا في مقال رائع صدر في أكتوبر من عام ١٦٦٦، وكان عبارة عن أطروحة صنفته كأبرز عالم رياضيات في العالم.

التفاحة

تعد القصة المتداولة عن أن التفاحة التي سقطت على نيوتن كانت الحافز الذي دفعه للتفكير في المقارنة بين القوة التي تسببت في إسقاط التفاحة بتلك المطلوبة للحفاظ على القمر في مداره هي القصة الأشهر على الأرجح في تاريخ العلم. وسواءٌ أكانت صحيحة أم لا، فإنه في الوقت الذي كان نيوتن يقوم فيه باكتشافاته الرياضية، كان عاكفًا على توسيع نشاطه ليمتد إلى سلسلة استثنائية من الأبحاث في الميكانيكا جعلته أول من يوحد القوى الحاكمة للحركات على الأرض وفي السماء. وبحسب اعترافه، بدأ نيوتن صياغة رؤاه الجديدة باكتشاف القانون الذي يظل بموجبه جسم دوار في مداره. وسرعان ما صاغ سلسلة من قوانين الحركة، كان يتذكر (ويطور) الكثير منها حينما كان عاكفًا على تأليف كتاب «المبادئ الرياضية» بعدها بعشرين عامًا. وفي مفكرة بعنوان «المسودة»، كتب نيوتن في أوائل عام ١٦٦٥ ما يزيد عن مائة حقيقة بديهية عن الحركة، شملت مفهوم القصور الذاتي الأساسي، فيما قام أيضًا باستحضار تبرير ميتافيزيقي للاعتقاد الخاص بأن تأثيرات التصادمات لا بد أن تكون مساوية لسببها، وهي نسخة بدائية لقانون الحركة الثالث الذي ورد في كتابه «المبادئ الرياضية». وبالأخذ في الاعتبار كتلة الجسم وسرعته، أدى تحليل نيوتن الرائع إلى قانون ينص على بقاء قوة الحركة، أو الزخم، كما هي قبل وبعد التصادم.
بعد ذلك، راح نيوتن يبحث بنشاط وبراعة في مسار الجسم الذي يُقذف من جوانب مربع مغلق، متخيلًا أن إجمالي التصادمات الأربعة التي يمارسها كل جانب من جوانب المربع مماثل ومساو للقوة الإجمالية المطلوبة للحفاظ على جسم ما في مدار حول نقطة مركزية. وبناءً على الافتراض القائل بإمكانية تكبير عدد الجوانب التي تحدث تصادمًا لما لا نهاية (بحيث يكون دائرة)، خلص نيوتن إلى أن القوة الإجمالية المطلوبة لإبقاء الجسم يتحرك في دائرة في دورة واحدة «تعادل بالنسبة لقوة حركة الأجسام نسبة كل تلك الجوانب [أي محيط الدائرة] لنصف قطر الدائرة». فإذا كانت «قوة حركة الأجسام» تساوي ، فإن إجمالي القوة الناتجة في دورة واحدة هي . وإذا كان الوقت المستغرق لدورة واحدة هو ، فإن حاصل قسمة القوة على الوقت، للتعبير عن «القوة المؤثرة على جسم دوار في لحظة معينة»، هو . وقد نشر كريستيان هويجنز هذه النتيجة التي تمثل نواة تطور الميكانيكا لأول مرة في عام ١٦٧٣، على الرغم من أن نيوتن كان قد استخدمها بالفعل قبل ذلك بسنوات ليتخطى بذلك ما أنجزه هويجنز.
أدرك نيوتن آنذاك أنه استطاع معالجة مشكلة أثيرت أول ما أثيرت على يد جاليليو، وهي تحديدًا النسبة بين القوة التي تحافظ على ثبات جسم ما على الأرض (الجاذبية) و«القوة الطاردة المركزية»، أي ميل نفس الجسم للانطلاق في الفراغ بفعل دوران الأرض. وقد اشتق نيوتن الرمز للتعبير عن القوة الأولى، أي العجلة الناتجة عن الجاذبية. أما بالنسبة للثانية، فقد قرر أن القوة الطاردة المركزية من شأنها دفع الجسم في دورة واحدة للأرض عبر المسافة ، ومن خلال تحديد قيمة لحجم الأرض، خلص إلى أن قوة الجاذبية أقوى من القوة الطاردة المركزية بمقدار ٣٥٠ مرة (إذ إن من شأن الجاذبية أن تدفع جسمًا ما للنزول لمسافة ١٦ قدمًا في ثانية واحدة، فيما تجعله القوة الطاردة المركزية يتحرك لمسافة نصف بوصة فقط).

وبفعل تأثر نيوتن بمشهد سقوط التفاحة على الأرجح، عقد في أواخر ستينيات القرن السابع عشر مقارنة بين ميل القمر إلى الابتعاد عن الأرض وبين قوة الجاذبية عند سطح الأرض، وهي إشكالية أشار إليها جاليليو. وباستخدام رقم للتعبير عن حجم الأرض جعل القمر بعيدًا عن الأرض بحوالي ٦٠ قطر دائرة أرضية (أي المسافة من مركز الأرض إلى خط الاستواء)، استنتج أن ميل جسم ما للابتعاد عن خط استواء الأرض (قوتها الطاردة المركزية) يفوق ميل القمر للابتعاد عن الأرض بقرابة ١٢ مرة ونصف. فإذا كان استقرار مدار القمر يتطلب أن تقوم القوة الطاردة المركزية بموازنة الجذب الموجه مركزيًّا الذي تولده الأرض، فإن القوة الطاردة المركزية للقمر تساوي قوة جاذبية الأرض عند سطحها بمقدار ٣٥٠ × ١٢٫٥ (= ٤٣٢٥) مرة.

وفي نفس المخطوطة التي أجرى فيها هذه العملية الحسابية، اشتق نيوتن قانون التربيع العكسي للمسافات للقوة المؤثرة على جسم دوار بدمج قانونه الخاص لقوة الجسم الدوار في قانون كبلر الثالث. وتذكر نيوتن فيما بعد أن الرقم الذي استخدمه للقوة التي تحفظ القمر في مداره (٤٣٢٥) قد «توافق بشكل شبه تقريبي» مع ذلك الرقم الناتج، بالأخذ في الحسبان مربع المسافة بين القمر والأرض (٦٠٢ = ٣٦٠٠) المطلوب لقانون التربيع العكسي. وعند هذه النقطة، أعزى نيوتن الاختلاف بين هذه النتائج لتأثيرات دوامة أرضية؛ وفيما بعد أدرك أن الاختلاف ناتج عن قياس خاطئ لحجم الأرض، وكذلك رأى في هذا الجهد الخرافي دليلًا على أسبقيته في ابتكار قانون للجاذبية الكونية. غير أن هذا الجهد قدر ما كان مدهشًا، فقد افتقد العديد من عناصر نظريته العظيمة.

أسئلة فلسفية

لم تستنفد هذه الاهتمامات غزارة نيوتن العلمية بأي حال، وفي مفكرة أخرى دون مجموعة من الملاحظات من نصوص أرسطية ومن تعليقات عليها. وقد غطت هذه الملاحظات موضوعات في المنهج الدراسي العام الذي يدرسه أي طالب بجامعة أوروبية، مثل علم الأخلاق، والمنطق، والبلاغة، والفلسفة الطبيعية. وفي مرحلة ما، على الأرجح في أواخر عام ١٦٦٤، توقف عن أخذ مقتطفات من الكتب الدراسية الأرسطية وأدرج مجموعة من الملاحظات والاستفسارات الفلسفية تحت عنوان «أسئلة فلسفية محددة». وفوق العنوان دون عبارة شائعة تعني في الإنجليزية «أفلاطون صديقي، وأرسطو صديقي، لكن الحقيقة صديق أعظم».

وُضعت الفقرات الأولى في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تحت عناوين تتعلق بطبيعة المادة، والسبب وراء «تماسك» بعض الأجسام متناهية الصغر معًا لتكوِّن أجسامًا أكبر، وطبيعة الحرارة والبرودة، وأسباب سقوط بعض الأجسام وارتفاع بعضها. وقد قدم انتقادات قوية للنظريات التقليدية، وبالفعل صارت الموضوعات العامة التي علق عليها محور اهتمامه لبقية حياته. وكان للفقرات الأولى نكهة ميتافيزيقية اختلفت تمامًا عن المنهج التجريبي الذي تبناه بعد ذلك بفترة وجيزة. ففيما يتعلق بطبيعة المادة — على سبيل المثال — اتبع منهج هنري مور في كتابه «خلود الروح» (١٦٥٩)، وأشار إلى أن الذرات هي أحجار الزاوية الأساسية للعالم المادي لا محالة. وعلى عكس «النقاط الرياضية»، لا يمكن تقسيم المادة إلى أجزاء لا متناهية، إذ إن مجموعة من الأجزاء متناهية الصغر، مهما كانت صغيرة، لا يمكن أن تشكل جسمًا متناهيًا. وفيما يتعلق بالتماسك، عوَّل نيوتن على الافتراض الديكارتي بأن «دوامة» شمسية أطلقت مادة مخلخلة شكلت الغلاف الجوي؛ وهذا بدوره «ضغط» على الأرض مسببًا «احتشادًا قويًّا لكل المادة الموجودة في العالم».

ظل نيوتن ملتزمًا بنموذج الدوامة الديكارتي حتى بدايات ثمانينيات القرن السابع عشر. وأطلق على أدق أجزاء الدوامة مصطلح «المادة الأثيرية»، وإن كان قد استخدم فيما بعد كلمة «أثير» لتمييز ذلك الوسط المتغلغل غير القابل للاكتشاف عن «الهواء» الأكثر غلظة. وتساءل ما إذا كان اهتياج الدوامة قد أدى إلى تسخين الأجسام، وتساءل أيضًا ما إذا كانت السخونة قد نتجت عن هواء نُقل عن طريق الضوء، أم نتج عن الضوء ذاته مباشرةً. كذلك، طرح السؤال الخاص بما إذا كان بالإمكان تجميد الماء بإزالة حرارته داخل مضخة بويل الهوائية (التي كانت تفرغ الهواء أو تضغطه داخل غرفة زجاجية). أما بالنسبة لحركة المادة إلى أسفل التي تسبب الجاذبية، فلا بد أن ترتفع مرة أخرى في شكل مختلف لأن (أ) بدون حدوث ذلك كانت تجاويف الأرض الواقعة تحت سطحها لتتضخم وتنتفخ. (ب) المادة المرتفعة لأعلى كانت لتلغي المادة الهابطة لأسفل، ولما كان هناك جاذبية. وذهب أيضًا إلى أن المادة الصاعدة لا بد أن تكون «أكثر كثافة» من المادة الهابطة، وإلا ضغطت على أجزاء (داخلية) «أكثر» من الأجسام الكبيرة، مما يحدث قوة صاعدة أكثر تأثيرًا من القوة الهابطة. ولم يخمد ذلك الاهتمام بفكرة الكون الدوري مطلقًا، ويمكن رؤية أهميتها في أعماله الخيميائية والعلمية اللاحقة.

حتى الظواهر السماوية أمكن بحثها من خلال التجربة. فقد أعقب ملاحظات من كتاب «مبادئ الفلسفة» لديكارت عن طبيعة المذنبات مباشرةً ملاحظات نيوتن الخاصة عن مذنب ديسمبر ١٦٦٤، وهو حدث استهلك من وقته وطاقته ما تركه في حالة من «الاختلال»، حسبما ذكر فيما بعد. لاحظ نيوتن أن المذنب قد تحرك شمالًا «عكس اتجاه تيار الدوامة»، واقترح تجارب رائعة لاختبار الآثار المحتملة للدوامة القمرية. هل تسبب تأثير القمر في حدوث تيارات المد والجزر؟ أشار في البداية إلى أن الإجابة هي لا، لأنها تكون أقل ما يكون عند مولد القمر، ولكن هذا لم يحدث. على الرغم من ذلك، قد يكون من الممكن إحضار أنبوب من الزئبق أو الماء، ونرى ما إذا كان ارتفاع السائل في الأنبوب قد تأثر بالجوانب المتعددة للقمر.

في كل مرحلة كان نيوتن يقترح تجارب لحسم أسئلة فلسفية محورية. ولم يأت طالب جامعي آخر بمثل ما أتى به نيوتن في هذا الصدد. فقد قدم سلسلة من الاختبارات لتحديد جاذبية مختلف العناصر، وكذلك للتثبت مما إذا كان وزن الأجسام قد تأثر بالتسخين أو التبريد، أو بنقلها إلى أماكن أو ارتفاعات مختلفة. وعلى نحو ساحر — وفي إطار نظريته عن الجاذبية — تساءل أيضًا عما إذا كان بالإمكان عكس أو كسر «أشعة» الجاذبية مثل أشعة الضوء. فإذا أمكن جعل بعض من أشعة الجاذبية تصطدم بعجلة أفقية ذات أضلاع مزواة على درجة معينة لجعلها تدور مثل طاحونة هوائية، أو إذا سمح لها فقط بالاحتكاك بأحد نصفي عجلة رأسية لجعلها تدور، فقد يكون هناك حركة مستديمة. بالمثل، طرح نيوتن سلسلة من التساؤلات في موضع آخر في المفكرة لاشتقاق نشاط مستديم من الأشعة المغناطيسية. هل يستطيع مغناطيس، ربما من خلال نقل هذه الأشعة، أن يحدث دورات في قطعة حديد ملتهبة على شكل أشرعة هوائية كأشرعة الطاحونة الهوائية؟ ولاختبار هذه الأفكار على الأرجح، اشترى نيوتن مغناطيسًا ذا جودة عالية في عام ١٦٦٧، وبعد ذلك بفترة قصيرة أجرى سلسلة من التجارب المبتكرة بواسطة برادة الحديد المغناطيسية.

ومرة أخرى أثيرت لديه أسئلة حول طبيعة الهواء والماء من خلال قراءاته لكتاب ديكارت «مبادئ الفلسفة»، واستهلك ما كتبه ديكارت عن البنى المجهرية للأجسام الصلبة واللينة قدرًا كبيرًا من طاقته وجهده. واقترح نيوتن هنا، وفى موضع آخر، استخدام مضخة بويل الهوائية لحسم تخمينات نظرية عويصة، كان الكثير منها يتعلق بالأثير. فانكسار الضوء — على سبيل المثال — حدث في مضخة هوائية مفرغة، حتى أصبح لزامًا أن يحدث عن طريق «نفس المادة الرقيقة في الهواء وفي الفراغ». ولكن هل كان مدى الانكسار واحدًا في مختلف أنواع الزجاج؟ لم يفكر بويل في ذلك، ولكن نيوتن فعل، وبالفعل كان هناك مضخة هوائية متاحة له في كلية كرايست.

fig4
شكل ٣-٢: فكرتان لماكينات ذات حركة مستديمة تعمل عن طريق موجات الجاذبية من مفكرة نيوتن «الأسئلة الفلسفية» بكلية ترينيتي.

عن العقل والجسد

تتعلق الكثير من الفقرات في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» بطبيعة الروح وموقعها بالتحديد، والأدوار التي لعبها كل من العقل الداخلي الذاتي والأجسام الخارجية في التجربة. وكان نيوتن منبهرًا منذ البداية بما نطلق عليه إشكالية العقل والجسد، وأيضًا بحقيقة أن الناس على اختلافهم لهم ردود أفعال متباينة تجاه نفس القضية. وتحت عنوان «عن التجانس أو النفور» كتب يقول:

إن ما يبدو مذاقه حلوًا في فم شخص قد يكون مرًّا في فم شخص آخر. ونفس الأشياء التي تبعث رائحة محببة لشخص قد تبعث رائحة منفرة لآخر … والمشاهد التي لا تحرك البعض تذهل البعض الآخر، والألحان الموسيقية لا يسمعها الجميع بنفس البهجة. والأمر نفسه ينطبق على اللمس.

وفي قسم آخر بعنوان «عن الإحساس» (في ملاحظات مأخوذة من كتاب مور «خلود الروح»)، علق قائلًا إن «مذاق الفلفل الحار لأهل جاوة بارد».

وفي نفس سلسلة الملاحظات، علق نيوتن أيضًا على المواقع المختلفة من المخ والتي استند إليها الفلاسفة باعتبارها موضع الروح. وقد سجل ظواهر عديدة تثبت أن المخ يمكن أن يلحق به ضرر بالغ دون أن يؤثر ذلك على الإحساس. إن الضفدع يسلب منه «الإحساس والحركة» لو أن مخه قد تعرض للثقب، ولكن الإنسان يحتفظ بقدرته على استخدام حواسه ما لم يصل الثقب إلى الأوعية الدموية الرئيسية. ولا يستطيع الإنسان — حسبما يبدو — أن يرى من خلال الثقب الذي يحدثه منشار جماجم (أو مثقاب) في رأسه، ولكن «أقل ثقل على مخ الإنسان حين يكون مثقوبًا يجعله مجردًا تمامًا من الإحساس والحركة».

كان أحد العناصر الأساسية لبرنامج أبحاثه المبكر يتعلق بطبيعة حرية الإرادة، والإشكالية المرتبطة بها والخاصة بكيفية ارتباط الروح ببقية الجسد. فبعض الحركات الجسدية لا إرادية. وتحت عنوان «عن الحركة»، دوَّن نيوتن أن الكثير من الحركات البشرية ميكانيكية على نحو بحت: فالموسيقيون يستطيعون العزف دون تفكير، والمطربون يغنون «دون إلقاء بال لأي نغمة أو إغفالها»، والناس يسيرون دون إدراك منهم لكيفية فعل ذلك. وكان التقيؤ الذي يستحث عن طريق دفع عظمة فك الحوت في حلق المرء مثالًا آخر للحركة الميكانيكية البحتة، وقد أثبت ذلك بوضوح أن حركات الحيوانات «ميكانيكية ومستقلة عن الروح».

على الرغم من ذلك، فقد تضمن وصف نيوتن للروح تفنيدًا عنيفًا لأي تفسير ميكانيكي بحت لسلوكياتها. فشأنه شأن معظم معاصريه، لم يشأ نيوتن أن يُوصَم بالسمعة الإلحادية التي تلاحق الفلاسفة الميكانيكيين أمثال ديكارت وتوماس هوبز. وفي ظل ارتباط ملكة الروح بالهوية الشخصية، جاءت الذاكرة لتقدم دليلًا مهمًّا ذا صلة بمنابع سلوكيات الإنسان. إن تلقي الرأس ضربات يمكن أن يؤدي بالذاكرة للتلاشي التام، فيما يمكن إعادة تنشيطها عن طريق أحداث مماثلة تحدث بعد ذلك بوقت طويل. وفي فقرة بعنوان «عن الروح»، ذهب نيوتن إلى أن الذاكرة تتألف مما هو أكثر من حركة «المادة المعدلة»، وأنه لا بد أن بداخلنا «أساسًا» يمكننا من استدعاء شيء ما للذهن بمجرد توقف الحدث الأصلي. وتلك الرؤية كانت واحدة من النقاط الحيوية لفلسفة نيوتن الطبيعية فيما بعد.

وفي مقال استثنائي قصير آخر بعنوان «عن الخلق»، ناقش نيوتن «أرواح» الحيوانات التي كان معظم فلاسفة عصره يعتقدون أنها ذات طبيعة منفصلة تمامًا عن طبيعة أرواح البشر. وقد أشار نيوتن إلى وجود نوع من «الروح اللاعقلانية» البدائية التي حين اتصلت بأنواع مختلفة من أجسام الحيوانات، تسببت في وجود الحيوانات الضارية المتنوعة الموجودة الآن. وبطريقة الاختزال (نظرًا للطبيعة الجريئة لحجته)، أشار نيوتن إلى أن القول بأن الله في الأصل قد خلق أرواحًا معينة لفصائل معينة هو تأكيد لفكرة أنه (الله) قد بذل جهدًا أكثر مما كان يحتاج. فالاختلافات والفوارق بين الفصائل نبعت من فطراتها، التي اعتمدت على تكوين أجسامها. وعلى نحو أكثر تطرفًا، ذهب نيوتن إلى أن الأرواح البشرية كانت متشابهة في الأساس، وأن الاختلافات بين البشر نبعت فقط من فوارق في تكوينهم الجسماني. وفي فقرة أخرى مستقلة ومقتضبة عن الله، أشار إلى أنه ليس من الممكن أن يكون البشر ولا الحيوانات نتاج «اختلاطات وليدة الصدفة بين الذرات». فبذلك كان هناك العديد من الأجزاء غير النافعة، «فتجد هنا قطعة لحم، وتجد هناك عددًا مفرطًا من عضو ما، وربما كان لبعض الحيوانات عين واحدة فقط، وللبعض الآخر أكثر من عينين».

بدأت المحاولة الأكثر روعة للتمييز بين أعمال الروح والجسد بسلسلة من الملاحظات عن طبيعة «الخيال» والإبداع. فالخيال هو ملكة للروح أنتجت خيالات وصورًا كتلك الموجودة في الأحلام والذاكرة. وذهب نيوتن إلى أن الخيال يتقد في أذهاننا عندما نرى الأشياء ونحن «في حالة من الانتباه الشديد»، وذلك في بيئة يتوافر فيها «الهواء الطيب، والإمساك عن تناول الطعام، والاعتدال في الشراب». غير أنه يتهدم ﺑ «السكْر، والنهم، وكثرة الدراسة (فمن تلك الأمور ومن الشغف المفرط يأتي الجنون)، واضطرابات الروح». وحذَّر نيوتن من أن «التأمل» يثير المخ لدى البعض لدرجة تقودهم إلى «التشتت»، فيما يؤدي لدى البعض الآخر إلى «ألم ودوار». ومن الممكن تدريب المخ على التخيل للقيام بأشياء جديدة، وأشار نيوتن إلى قصة مشهورة من كتاب جوزيف جلانفيل «غرور الدوجماتية» (١٦٦١) لطالب بأكسفورد تعلم التحكم في العقل من الغجر «بتنمية وتقوية خياله».

بعد الفقرة التي كتبها عن طالب أكسفورد ببعض الوقت، ولكن في موضع لاحق لها مباشرة داخل النص، سجل نيوتن سلسلة من تجاربه الخاصة على الخيال والرؤية. ففي مرحلة ما في عام ١٦٦٥، أجرى نيوتن سلسلة من التجارب الخطيرة على بصره تضمنت التحديق في الشمس لفترة زمنية ممتدة. ودُوِّنت هذه التجارب كتجارب شخصية، ولكن وصفه المفصل لسلسلة من التجارب كان يحوي إشارة تدل على وجود انفصال موضوعي عنها. فبعد أن حدق في الشمس لبعض الوقت بعين واحدة، لاحظ أن جميع الأجسام ذات الألوان الفاتحة بدت له حمراء اللون، بينما الأجسام الداكنة بدت مائلة إلى الزرقة. ومن النظرة الأولى بدت الورقة البيضاء حمراء حين نظر إليها بالعين المصابة، ولكن نفس الورقة بدت خضراء «إذا نظرت إليها عبر ثقب صغير للغاية بحيث لا يصل لعيني سوى شعاع ضوء بسيط».

لم تنته التجربة بأي حال، إذ إنه عندما خمدت حركة «الأرواح» في عينيه (حسبما كان يعتقد)، استطاع أن يخلق صورة تلوية أو طيفًا للشمس بإغلاق عينه. وهناك ظهرت بقعة زرقاء اللون صارت أفتح في المنتصف، وأحيطت تدريجيًّا بدوائر متحدة المركز، ألونُها الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق والبنفسجي. ومن خلال تنويع التجربة تحت ظروف مختلفة، لاحظ أن البقعة تتحول إلى الأحمر في بعض الأحيان. وعندما كان يفتح عينه مرة أخرى، كان يرى ألوانًا بالضبط كما حدث بعد التجربة الأولى. فخلُص إلى أن الشمس وخياله يتبعان نفس الأسلوب في التأثير على الأرواح الكامنة في عصبه البصري والمخ. ونظر بالخارج إلى سحابة وشاهد نفس الآثار المائلة للحمرة («والتي تميل أكثر للسواد في معظمها») مثلما حدث عندما حدق في الورقة البيضاء، وبعد فترة استطاع أن يجعل بقعة «تتألق وسط الأحمر القاتم» حين نظر إلى سحابة كانت براقة لدرجة أدمعت عينيه.

إن حقيقة أن هذه التجربة لم تكن سوى بداية لسلسلة من مثل هذه التجارب تبوح بالكثير عن إخلاص نيوتن الشديد لمهمته على نحو فريد من نوعه. فبعد أن منح عينه قدرًا من الراحة، انتظر حتى ساعة بعد الغسق «وكرر التجربة السابقة كاملة». وفي تلك المرة، حين نظر بعينه السليمة إلى أجسام بيضاء مثل ورقة أو سُحُب، استطاع أن يرى صورة للشمس على خلفيتها، وكانت الصورة محاطة ﺑ «بحمرة قاتمة وسواد». ووجد شبه استحالة في تجنب رؤية صورة للشمس، ما لم يحاول جاهدًا لتركيز خياله على مهام أخرى. وحين كانت صورة الشمس محتملة بالكاد في أي من العينين، استطاع أن يتخيل أشكالًا عديدة في الموضع الذي كانت فيه الشمس، «وربما كانت تتجمع معًا لدرجة تجعل أضعف الناس بصرًا يجزم بأن أوضح خيالات الأشياء مرئية وظاهرة». وأضاف: «ومن هنا، قد يجتمع شيء من طبيعة الجنون والأحلام معًا». وكانت تلك هي القوة الثابتة لهذه التجارب، حتى إن نيوتن سردها تفصيلًا لجون لوك في عام ١٦٩١، وسردها مرة أخرى لجون كوندويت في عام ١٧٢٦، مخبرًا إياه أنه لا يزال بإمكانه استدعاء صورة للشمس إذا ركز تفكيره عليها.

نظرية جديدة عن الضوء والألوان

بعد فترةٍ من الفقرة المبدئية التي كتبها عن الألوان، سجل نيوتن مجموعة من التجارب بالموشورات الزجاجية على صفحة جديدة بنفس العنوان. من خلال هذه التجارب، لم يفند نيوتن النظرية الأرسطية عن الضوء والألوان فحسب، بل تحدى أيضًا المعالجات الموجودة لهذا الموضوع في أعمال ديكارت وبويل وهوك الحديثة. وليس بالإمكان تحديد التاريخ الذي عكف فيه نيوتن على هذه الأبحاث بوضوح، ولكن في تقارير لاحقة، ركز دافعه المبدئي لأبحاثه في جهوده التي بذلها لاستنساخ تقرير ديكارت عن تجاربه التي أجراها بموشور زجاجي في مقاله «الانكسار». في هذا العمل، ذهب ديكارت إلى أن الألوان التي تنتج عن طريق انتقال الضوء عبر موشور لتنعكس على حائط على بعد ٥٠ سنتيمترًا عن الموشور تفسر العمليات الداخلة في تكوين قوس قزح. وفي مرحلة ما، اقتنى نيوتن موشورًا من أجل استنساخ «ظاهرة الألوان الشهيرة» تلك، ولكن الفقرات التجريبية الأولى التي كتبها في مفكرة «الأسئلة الفلسفية» تشير إلى استعانته بأداتين.

كان التعليق الأول في القسم الجديد عن الألوان عبارة عن اقتراح باختبار ما إذا كان مزيج من اللون الأزرق والأحمر الموشوري يؤدي إلى تكوين اللون الأبيض. وكان نيوتن قد انتقد بالفعل النظريات القديمة التي تعتبر أن أي لون هو عبارة عن مزيج من الأسود والأبيض، أو تلك التي تفترض أن الألوان قد نشأت عن طريق امتزاج الظلال بالضوء. وفي موضع آخر بالمفكرة، تعرض نيوتن بالنقد أيضًا لفكرة أن الضوء ينتج عن الضغط. فهذا خطأ لا محالة، لأن ضغط الدوامة الذي يثقلنا كان ليجعلنا نرى ضوءًا ساطعًا طوال الوقت، فيما يكون المرء قادرًا على الرؤية في الظلام من خلال مجرد الركض فقط. وأخيرًا، هاجم نيوتن النظريات الموجية للضوء على أساس أن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة، بينما الموجات أو «النبضات» التي تنتقل عبر وسط أثيري ليست كذلك. وفي مرحلة مبكرة، أصبح مقتنعًا بفكرة أن الضوء يتألف من جسيمات أو كريات، وهو افتراض تعارض مباشرةً مع فكرة «النبضات» الموضحة في كتاب روبرت هوك «ميكروجرافيا» الذي كان قد نشر مؤخرًا آنذاك.

ورد وصف الملاحظة الرئيسية في ثالث مجموعة من التجارب، اختبر فيها نيوتن خيطًا — لُوِّنَ نصفه باللون الأزرق والآخر باللون الأحمر — من خلال موشور. وأشار إلى أن أحد النصفين «يظهر أعلى من الآخر، وكلاهما لا يسير في خط واحد مستقيم، بسبب عدم تساوي الانكسارات في اللونين المختلفين». وقد فسَّر هذه القابلية المتفاوتة للانكسار في إطار السرعة الأساسية «لجسيمات» الضوء، مفترضًا أن الأشعة ذات الحركة الأبطأ تنكسر على نحو مختلف عن الأشعة الأكثر سرعة، وأن الأشعة الزرقاء والبنفسجية شكلت الأشعة الأبطأ. واستنتج أن الأجسام تبدو حمراء أو صفراء كلما كان هناك امتصاص للأشعة الأبطأ، فيما تُرى زرقاء وخضراء وبنفسجية حينما لا يكون هناك انعكاس للأشعة الأسرع. وكان هذا هو أساس وصفه اللاحق الأكثر تعقيدًا لكيفية نشأة الألوان في الأجسام الطبيعية في إطار نزعتها «لإظهار» أنواع معينة من الأشعة. وباعتبارها جسيمات بطيئة أو سريعة الحركة، فقد كانت الأشعة الملونة سمات ثابتة للضوء العادي — الذي كان عبارة عن مزيج معقد منها — وكان الانكسار الموشوري «يظهر» الأشعة الفردية ولكن لا «ينتجها». وتعارض ذلك مع المفهوم المتفق عليه عمومًا بأن الألوان الموشورية قد نشأت من خلال «تعديلات» أحدثها الانكسار، وكان بمنزلة تهديد لكل من التفسيرات الأرسطية والتفسيرات الميكانيكية القياسية للضوء والألوان.

كذلك لم تنفصل أعمال نيوتن في هذه المرحلة عن فهمه للطريقة التي تساهم بها العين في تجربة الألوان، وبدأ في إجراء سلسلة من التجارب البصرية تساوت مع تجارب التحديق في الشمس في درجة الإضرار بالعين. فقد شوه عينه عن طريق الضغط العنيف عليها من أحد جانبيها، محدثًا عددًا من «الخيالات»، ثم أشار إلى أنه قد رأى «صورًا وخيالات تشع حيويةً» عن طريق «وضع شريحة من النحاس بين عيني وبين العظمة في موضع أقرب لمنتصف غلالة الشبكية مما أستطيع أن أضع إصبعي». وكرر نيوتن هذا الفعل في عدد من المناسبات، مجربًا إياه في الظلام، وأيضًا بدرجات مختلفة من الضغط. ولا داعي لذكر أن لا أحد آخر في تلك الفترة أتى بشيء مشابه لذلك من قريب أو بعيد.

قياس الانكسارات

واصل نيوتن تجاربه البصرية فيما يُسمى مفكرته «الكيميائية»، التي أدرج فيها مقالًا آخر بعنوان «عن الألوان». كان ذلك مشروعًا مختلفًا على نحو جذري، إذ بدأ ببيان لفحص أجري على خيط ذي لونين عبر موشور، ولكنه ضم بعد ذلك سلسلة من التجارب المبتكرة للغاية على الانعكاس والانكسار. وفيما كان معاصروه (الذين لم يُعرفوا بإمكانية تفاوت القابلية للانكسار) قد أسقطوا أشعة منكسرة على بعد متر أو نحو ذلك على أقصى تقدير، أوضح نيوتن أن الأشعة الملونة المختلفة تختلف في معاملات انكسارها عن طريق إسقاط أشعة منكسرة على حائط على بعد ٧ أمتار (٢٢ قدمًا و٤ بوصات). ففي غرفة مظلمة، سمح لضوء الشمس بالدخول عبر فتحة صغيرة للغاية وسط الستائر، ليجد أن الأشعة عندما انكسرت عبر موشور مثلث الشكل، كونت شكلًا مستطيلًا وليس دائريًّا على الحائط. وكما أشار من قبل، فقد انكسرت الأشعة الزرقاء أكثر من الحمراء، وإن كان قد حرص أيضًا على الإشارة إلى أن الحمرة والزرقة لم تكونا صفتين أساسيتين للأشعة، ولكنهما كانتا الشكل الذي بدت به الأشعة للعين. وبقياسات فائقة الدقة، قرر أن الأشعة مختلفة الألوان التي تنبثق من الموشور لها درجات الانكسار الخاصة بها، وهي حقيقة لم يكن أحد قد لاحظها حتى ذلك الحين.

في وقت لاحق خلال هذه السلسلة من التجارب، وصف نيوتن إجراء أكثر تعقيدًا، تعرضت من خلاله الأشعة المنبثقة من الموشور لمزيد من الانكسار عبر موشور ثان. وتعرضت كل أشعة من الأشعة الزرقاء والحمراء لنفس درجة الانكسار التي تعرضت لها عند تمريرها من الموشور الأول، ولاحظ نيوتن أن الأشعة الملونة الفردية لم تتحول إلى ألوان أخرى عند كسرها عبر الموشور الثاني. وعندما أدخل موشورًا ثالثًا ووضع جميع الموشورات في وضع متواز، سمح للأشعة المنبثقة من جميع الموشورات بالتداخل معًا؛ وكما أشار «أينما تمتزج الأشعة الحمراء والصفراء والخضراء والزرقاء والبنفسجية المنبعثة من الموشورات العديدة معًا، فإنها تظهر بيضاء». ومن خلال هذه التجارب صار لديه السمات الأساسية لما صار بعد ذلك نظريته الناضجة عن الضوء والألوان. فذهب إلى أن الضوء الأبيض لم يكن كيانًا أساسيًّا أدى لظهور الألوان من خلال «تعديله»، ولكنه تألف من عدد (لم يكن نيوتن قد حدده في هذه المرحلة) من الأشعة الأولية المختلفة، «لكل منها معدل انكسار ثابت خاص به»، متجاهلًا بذلك ما ذكره عن الجسيمات.

ثمة ملاحظة مهمة أخرى تمثلت في تحليله للأفلام الرقيقة الملونة، تلك الظاهرة التي كان هوك أول من لاحظها. فمن خلال فحص قطعة مسطحة من الزجاج عبر عدسة وُضعت في أقرب موضع ممكن لقطعة الزجاج، تستطيع أن ترى حلقات متحدة المركز ذات ألوان مختلفة. وعن طريق حساب نصف قطر انحناء العدسة، وصل نيوتن إلى حد قياس طبقة الهواء الرقيقة الموجودة بين الحلقات متحدة المركز وبين الشريحة، والتي قدرها بقرابة مائة ألف جزء من البوصة. وقد وضع هذا التحليل في زهاء عام ١٦٧٠ أو ١٦٧١، متوصلًا إلى نتائج ظهرت لأول مرة في عمله «حوار حول الملاحظات» الذي أرسل إلى الجمعية الملكية في نهاية عام ١٦٧٥، ثم بعد ذلك في كتابه «البصريات» الصادر عام ١٧٠٤. وكان اكتشافه الأساسي هو أن سُمك طبقة الهواء الرقيقة عند أي نقطة يتناسب مع مربع قطر كل دائرة أو حلقة. إضافةً إلى هذا، فقد شكلت الصعوبة التي واجهها وآخرون في محاولة إحداث احتكاك بين قطعتي الزجاج فيما بعد دليلًا رئيسيًّا على وجود قوى منفرة قصيرة المدى.

أظهر المقال الثاني من مقالات «عن الألوان» على نحو حيوي أيضًا أن تجارب العين ظلت جزءًا أساسيًّا من مشروعه. فبعد الاستغناء عن الشريحة النحاسية كأداة فعالة، اقتنى «مخرزًا»، وهو أداة حياكة تستخدم لعمل فتحات في القماش، ومرة أخرى غرزه داخل التجويف الذي يقع خلف عينه «في أقرب موضع ممكن لمؤخرة عيني». وكما حدث في السابق، ظهر عدد من الدوائر، وكانت على حد تعبيره «أوضح ما يكون عندما واصلت فرك عيني بسن المخرز، ولكن إذا ثبَّتُّ عيني والمخرز، حتى وإن واصلت الضغط على عيني به»، كانت الدوائر «تخبو وتبهت، وغالبًا ما تختفي إلى أن أقوم بتجديدها بتحريك عيني أو تحريك المخرز».

fig5
شكل ٣-٣: رسم نيوتن لما قام به من تشويه لعينه بواسطة مخرز.1

صرَّح نيوتن فيما بعد أن اكتشافه للزيغ اللوني قد وضع نهاية لجهوده لتحسين عملية تجليخ العدسات من أجل التلسكوبات الكاسرة. وكان ديكارت قد أشار إلى أن وضع عدسة مجلخة في أي من قطاعين مخروطيين (قطع زائد أو قطع ناقص) سوف ينتج عنه الصورة الواضحة التي لا يمكن الحصول عليها عن طريق عدسة كروية (نظرًا لقانون الانكسار). وقد قضى نيوتن نفسه ساعات عدة يحاول القيام بالشيء نفسه، وسجل نتائجه في «المسودة». ولكن الزيغ اللوني جعل مثل هذه المحاولات مكررة، إذ إن الألوان المختلفة تنكسر على نحو مختلف، ولا يمكن الاستعانة بها لتكوين صورة واضحة. ولو كانت التلسكوبات الكاسرة خارج نطاق الاختيار (على الرغم من أن نيوتن لم يتخل عن الفكرة تمامًا)، فلربما كان بإمكانه أن يصنع واحدًا يستخدم مرآة؟ ففيما اكتفى معاصروه بمناقشة الإمكانية النظرية لصنع مثل هذه الأداة، انطلق نيوتن وصنع نسخة ناجحة، صانعًا كل جانب من الجهاز بيديه. وكان المعدن المصنوع منه الجهاز يفقد بريقه بسهولة وكانت الصورة عديمة اللون، ولكنه حل مشكلة الزيغ اللوني وكان يكبر الأجسام كأي نظارة كاسرة جيدة. وكان ذلك إنجازًا استثنائيًّا، وبسببه اكتسب نيوتن — مكررًا ما فعله في جرانثام — شهرة في كامبريدج.

هوامش

(1) By permission of the Syndics of Cambridge University Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤