الفصل السادس

أحد القلة المختارة من الله

حين التحق نيوتن بكلية ترينيتي، وجد نفسه أمام نظام يؤكد على الأهمية البالغة لدراسة كتابات آباء الكنيسة، وبالطبع الكتاب المقدس. وفي فترة ما — على الأرجح في أوائل سبعينيات القرن السابع عشر — أصبح مناهضًا متطرفًا لعقيدة الثالوث القدوس؛ لإيمانه بأن عقيدة الثالوث القدوس المألوفة كانت فسادًا مبهمًا وشيطانيًّا جلبه محرفو الكتاب المقدس في القرن الرابع بعد الميلاد. واقتنع نيوتن بأن مَن وضعوا أصول العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، أثناسيوس، إلى جانب العديد من الرهبان، وأعضاء الكنيسة، وأباطرة الإمبراطوريات الشرقية والغربية، قد لوثوا العقيدة بإدخال كلمات جديدة على المسيحية، وأقحموا نصوصًا ملفقة في الإنجيل وكتابات آباء الكنيسة، وملئوا المجالس الكنسية بأنصارهم الفاسدين. وكان في قلب مخططهم تلك الرؤية الخفية — كما رآها نيوتن — التي مفادها أن المسيح كان مشابهًا للرب من الناحية الجسدية. وكان نيوتن يؤمن بأنه قد اصطُفي من الله لكشف الحقيقة بشأن انحدار المسيحية، وكان يعتقد أن ذلك هو أهم عمل سوف يضطلع به على الإطلاق.

إنَّ في حاجة نيوتن إلى إعفاء خاص من الترسيم الكهنوتي إشارة إلى أن آراءه المهرطقة قد سيطرت عليه بحلول نهاية عام ١٦٧٤. ومن المستبعد للغاية أن يكون قد دعي لاعتناق هذه المعتقدات من جانب أي شخص آخر، وإن كان قد استطاع من منطلق مبدأ «اعرف عدوك» أن يقرأ آراءً مماثلة في الكتابات المعاصرة المناهضة لعقيدة الثالوث القدوس، شأنه شأن طلاب آخرين. غير أن المسيحيين الأرثوذكسيين كانوا يعتبرون مناهضة الثالوث القدوس إلحادًا رهيبًا، وكان هناك عقوبات شديدة في لوائح القوانين لمن يقللون من شأن طبيعة المسيح. وباستثناء اثنين أو ثلاثة ممن يُعرف تعاطفهم معه، قضى نيوتن جل حياته يخفي آراءه الدينية عن الآخرين.

إن الكثير من مذكرات نيوتن الأولى تظهر مناهضة عفوية للمذهب الكاثوليكي كانت لتلقى قبولًا اجتماعيًّا لدى طلاب كامبريدج. ولكن إذا كان ذلك مقبولًا، فإن تقليل نيوتن من شأن المسيح فيما يتعلق بالله لم يكن مقبولًا. ففي مرحلة مبكرة، آمن نيوتن بأن هناك أدلة إنجيلية وافرة على أن المسيح كان مختلفًا عن الرب وأدنى منه، بينما النصوص المؤيدة لعقيدة الثالوث القدوس كانت عبارة عن إقحامات فاسدة أو قراءات خاطئة «متعمدة». وفي مواضع كثيرة من الإنجيل، اعترف المسيح، الذي هو الكلمة التي خلقها الله، بأنه مخلوق أدنى من الله. وإذا كان لدى المسيح قدرات إلهية — وهو ما كان نيوتن يعتقده — فإن ذلك يرجع إلى أن الله قد سمح لذلك بأن يحدث. فقد أذن الله لابنه أن يذل نفسه على الصليب، وهذا بالفعل ما جعله جديرًا بأن يعبد، ولكن ليس كإله. وقد أصبح المسيح ابن الله حين أصبحت الكلمة قطعة لحم في أحشاء مريم العذراء؛ وكان هذا المخلوق وحده، وليس الروح البشرية التي تواجدت مع الكلمة الإلهية، هو الذي عانى على الصليب. وأخيرًا، كانت مشيئة الله هي ما جعلت المسيح يُبعث من جديد.

لا يوجد سوى عاهرة بابل واحدة فقط

كانت عقيدة الثالوث القدوس — في رأي نيوتن — مبهمة وزائفة، وكان الدفاع عنها من خلال حجج وبراهين ميتافيزيقية غامضة، وكانت تُفرض على الوثنيين إما بالقوة أو بمزجها بممارسات وثنية لتخفيفها. وقد أعطى أهمية بالغة لبساطة العقائد الأساسية للمسيحية، وشدد على أن عددًا محدودًا للغاية من المعتقدات عن المسيح — والتي أسماها بولس لبن الرضع — هو اللازم للتحلي بإيمان ينجي من المهالك. وشملت هذه المعتقدات أن يسوع هو المسيح المتنبأ به في العهد القديم، وأنه ابن الرب الذي بعث من جديد بعد أن أذل نفسه على الصليب أمام أبيه، وأنه يومًا ما سيعود ليحكم «الأحياء والموتى المبعوثين للحياة». على الرغم من ذلك، كانت هناك حقائق أعمق في الكتاب المقدس، أو ما يسمى «لحم للرجال»، يكتسبه من هم «في سن النضج» بعد تعميدهم وإشراكهم في طائفة. وقد كانت هذه المعرفة، التي تكتسب من خلال الدراسة الممتدة، من الأشياء التي لم تكن ضرورية للعقيدة المسيحية، ولم يكن المسيحيون ليتورطوا في نزاعات بشأنها خشية أن تقودهم إلى الانقسام والشقاق.

كان أهم مبحث دراسي هو النبوءة، خاصة في سفر رؤية يوحنا، آخر أسفار العهد الجديد. كان نيوتن متفقًا مع الكثير من أهم المفسرين البروتستانتيين في القرن السابع عشر حول الأساليب الجوهرية المطلوبة لفهم سفر الرؤيا. فكان يؤمن مثلهم بأن الرموز الواردة به تشير إلى معركة بين الخير والشر اندلعت في نهاية القرن الرابع، فيما أشارت الرموز والتوصيفات الأساسية إلى فترات محددة حين كانت الكنيسة الحقيقية مضطهدة، وكان أعداء الحقيقة يتحكمون في الصالحين أو يُغلبون من جانبهم. والحق أن مناهج بعينها كانت معيارية للغاية لدرجة أنه كان يؤمن بأنه يبني على «اكتشافاتها» الأساسية؛ كما في حالة أعمال سلفه في كامبريدج، المدعو جوزيف ميد. وبالعمل وفقًا لطريقته، استطاع نيوتن بوضوح أن يناقش القضايا التقنية النبوئية مع واحد على الأقل من معاصريه (هو هنري مور) دون الإفصاح عما يعنيه ذلك بشأن تاريخ المسيحية.

وفي شرح ضخم لسفر الرؤيا يرجع على نحو شبه مؤكد للفترة بين ١٦٧٥ و١٦٨٥، قدَّم نيوتن «براهين» تثبت آراءه مثلما فعل في كتابه «المبادئ الرياضية». فبدأ بادعاء أنه «بفضل الرب» حصد معرفة في الكتابات النبوئية، وأنه مع قرب الإفصاح عنها، صار عليه التزام أخلاقي بتدريس معناها من أجل تنوير وتثقيف الكنيسة. ولم يشمل ذلك كل المسيحيين، وإنما:

بقايا أشخاص قليلين متناثرين ممن اختارهم الرب، كهؤلاء الذين يستطيعون تكريس أنفسهم بإخلاص وجدية للبحث عن الحقيقة، دون أن تقودهم المصلحة، أو الثقافة، أو رموز السلطة البشرية بلا تفكير.

إن البحث في الكتاب المقدس الآن هو «واجب اللحظة الكبرى»، والإخفاق في إدراك علامات المجيء الثاني للمسيح على نحو صحيح سوف يترك المسيحيين عرضة لنفس القدر من النقد الذي تعرض له اليهود لإخفاقهم في إدراك أن يسوع هو مسيحهم المنتظر. وقد كانت تلك مهمة لا يمكن لأحد الاضطلاع بها إلا أنقياء القلب، وقليلون هم المهيئون لهذا. وعلق نيوتن أن المؤمن الحقيقي يُعرف أيضًا بأنه يبدو جديرًا بالازدراء، بينما كانت «توبيخات العالم» هي علامة الكنيسة الحقيقية.

كان من العناصر الأساسية لعملية تفسير الكتاب المقدس «الترتيب المنهجي» للنبوءة وفقًا لمجموعة من القواعد. وقد كان العديد من هذه القواعد عناصر قياسية في التفسير الإنجيلي البروتستانتي، مثل الحاجة للإصرار على معنى واحد فقط لنقطة معينة في الكتاب المقدس ما لم تتواجد أسباب لفعل العكس، وهو ما رجح أن المعنى سيكون «حرفيًّا» في الأساس، ولكن من حين لآخر كان من الممكن إجازة معنى «روحي». وبالنسبة لهذا المعنى الروحي، كان لزامًا أن يتم هذا وفقًا لتقاليد «لغة مجازية» نبوئية كان المفسرون القدماء يتقيدون بها. فقد كان التحول إلى قراءة روحية لفقرة ما دون أساس ضربًا من الضلال، وهذا التساهل في التفسير هو منشأ كل بدعة موجودة حسب رأي نيوتن. كان لزامًا أن تكون التفسيرات «تلقائية»، وكانت لا بد أن تجعل الكتاب المقدس على أكبر قدر من «البساطة». والأهم من كل ذلك أنه كان ينبغي أن تكون الرؤى والرموز النبوئية متجانسة إحداها مع الأخرى وفقًا لتلك القواعد قبل تطبيقها على الأحداث التاريخية. لقد كان من الصعب فهم سفر الرؤيا، ولكن بحل شفراته بالشكل الملائم، أصبح ذا أهمية بالغة للكنيسة الحقيقية. فلم يكن بالإمكان إثبات الدين الحقيقي كما يثبت برهان في الهندسة الإقليدية، ولم يكن ليقنع سوى حفنة من الناس؛ ولكن هذا ما كان يجب أن يكون عليه الأمر. وخلص نيوتن إلى أنه يكفي «أنه قادر على حشد قبول هؤلاء الذين اختارهم الرب».

ووفقًا لخطته، دون نيوتن قائمة مطولة «للتعريفات» النبوئية والتي اعتمدت على عدد من المصادر المختلفة. ووفقًا للأسلوب النبوئي، كانت الشمس تشير إلى ملك، والقمر إلى من يليه في السلطة، والنجوم إلى كبار رجال المملكة. أما الأرض، فكانت تشير إلى أمم الأرض، أو عامة الناس في أية أمة، فيما كان البحر يشير أيضًا إلى شعب أو أمم؛ وكانت الأرض والبحر معًا يشيران إلى نوعين مختلفين من الناس. وفي بعض الأحيان، كان من الممكن أن تعني الكلمات أكثر من شيء واحد، ومن ثم كان من الممكن أن تشير كلمة جبل إلى مدينة أو معبد، حسب السياق الواردة فيه.

بعد تدوين التعريفات، بيَّن نيوتن بعد ذلك كيفية ارتباط رؤى معينة إحداها بالأخرى. ففيما كانت بعض الرموز في سفر الرؤيا «متعاقبة»، بمعنى أنها تشير إلى أحداث لاحقة أو سابقة، اعتبرت الأخرى «متزامنة»، أي تشير إلى جوانب مختلفة للفترة نفسها. ولكن كما رأينا، فقد كان من الممكن عرض الصلات القائمة بينها قبل ربطها بأحداث معينة. ولفت نيوتن إلى أن جميع المفسرين تقريبًا قد أدركوا أن رؤية الأختام السبعة بالسفر، والتي تراءت ليوحنا في بداية النبوءة، كانت تشير إلى أحداث متعاقبة. فقد أشارت الأختام الستة الأولى لفترة سبقت سيطرة الردة الكبرى. ففي الختم الخامس — على سبيل المثال — جسدت التوصيفات الخاصة بامرأة في المخاض وتنين أحمر مستبد (الشيطان) يستعد لالتهام الطفل، المصير المتوقع للكنيسة الحقيقية (المرأة)، والخطر العظيم الذي واجه سلالتها («الطفل الرجل»).

بعد افتتاحية الختم السابع مباشرة تنشق الأرض عن وحش له قرنان، حسبما ورد في سفر الرؤيا، بينما يتحدث كتنين، مما دفع البشر جميعًا إلى نقش الاسم الدال على رقم الوحش (٦٦٦) على جباههم. وقد تم تجسيد الأتقياء في سفر الرؤيا من خلال المصطفين اﻟ ١٤٤ ألفًا الذين تلقوا ختم الرب، والذين حماهم أحد الملائكة. ثمة رمز آخر جسد الحَمَل (المسيح) يقف على جبل صهيون مع المصطفين، الذين نقش على جباههم اسم الله. فأطلق التنين سيلًا جاريًا من الماء من فمه (والذي افترض نيوتن أنه يقصد به جحافل من الفاسدين غالبًا ما كانت تجسد من خلال البحر)، فيما كانت المرأة المضطهدة (الكنيسة الحقيقية) الآن تحاول الهروب إلى البرية، وهو الأمر الذي ساعدتها فيه «الأرض»، أي الأتقياء. بعد فترة قصيرة، اتجه معظم المفسرين إلى رمز صوت الأبواق السبعة، والتي أعلنت ظهور دين وحش ذي عشرة قرون (وهو شكل جديد وأكثر بشاعة من التنين)، برز من البحر. وعن طريق المعجزات الزائفة، يغري الوحش ذو القرنين الناس إلى عبادة الوحش ذي العشرة قرون، ومن ثم إقامة دين جديد على الأرض،؛ وقد أدرك معظم البروتستانت أن هذا يشير بوضوح إلى ظهور المذهب الكاثوليكي الروماني.

وبينما استوعب معظم المفسرين البروتستانت رمزًا آخر لصب سبعة جامات مملوءة من غضب الله على التابعين الوثنيين للوحش للإشارة إلى تاريخ حركة الإصلاح البروتستانتي، قام نيوتن ﺑ «المزامنة» بين كل جامة وبوق «متوافقين»، وبعدها قام بمجانسة ذلك مع رمز الرعود السبعة. وذهب إلى أن هذه الرعود قد أضيفت حتى تجسد «الفترات الفاصلة» بين الجامات السبعة، والأبواق السبعة، والرعود السبعة نفس لغز الاسم الدال على رقم الوحش (٦٦٦). وهكذا قدم كل جامة وبوق متصلين رقميًّا وصفين مختلفين لفترة معينة، وكل رمز يثري الصورة التي يقدمها الآخر. وعن طريق عدم تخصيص مكانة خاصة للجامات باعتبارها وصفًا خاصًّا لتجارب البروتستانتية، أشار نيوتن بوضوح إلى أن الإصلاح قد قلل بالكاد من النفوذ المتنامي للإمبراطورية الوحشية.

عند إطلاق البوق الخامس، نمت قوة الوحش بشكل مذهل، وشن حربًا على «بقايا» نسل السيدة. كانت هذه اللحظة النبوئية في نظر معظم المفسرين البروتستانت — ولم يكن نيوتن استثناء — إيذانًا بفترة طويلة تجسدت من خلال مجموعة من أكثر الصور والرموز المجازية حيوية يمكن أن تجدها في سفر الرؤيا. كانت هذه هي فترة حكم رجل الخطيئة — أو المسيح الدجال — الذي ورد ذكره في سفر الرؤيا بوصفه النبي الكذاب أو الوحش ذي القرنين، والذي سيتحول إلى عاهرة بابل. وبحسب وصف نيوتن للوحش ذي القرنين: «إن كونه دولة دينية مسيحية وثنية يجعل منه بحكم الطبيعة عاهرة بأدق معاني الكلمة، وليس لدينا سبب لافتراض وجود أكثر من عاهرة بابل واحدة.» استمرت هذه الفترة، حتى نهاية الختم السادس، (في سفر الرؤيا) لمدة ١٢٦٠ يومًا، احتُجزت خلالها السيدة، التي استقرت الآن داخل البرية بشكل تام، في مكانها من جانب الوحش، الذي يشن حربًا على القديسين والشهداء ويذبحهم، بينما ملوك العالم يمارسون الفجور مع العاهرة ويعبدونها.

fig9
شكل ٦-١: عاهرة بابل، كما رسمها ألبريشت دورر، ١٤٩٨. 1

ووفقًا لنيوتن، كان البوق السادس (الذي هو بالنسبة له الجامة السادسة)، يشير إلى فترة، هي فترة الضيقة العظمى، حين تبلغ الردة ذروتها. فتُبشر كل أمة بالإنجيل ويقدم ما تبقى من الأتقياء والصالحين الشكر لله. أما البوق والجامة الأخيران، فيصفان وصول العديد من الناس من مختلف الأمم يحملون سعف النخل؛ فيقوم حمل الله بإطعامهم وإرسالهم إلى مياه الحياة، بينما يمسح الرب الدموع من أعينهم. ويلتئم شمل الحَمَل وزوجته المرتقبة، وهو صورة اصطلح على فهمها بوصفه رمزًا لالتئام شمل المسيح مع القديسين والشهداء.

النبوءة كتاريخ

استغرق نيوتن ومعاصروه البروتستانت المتشددون في هذه الرموز النبوئية وغيرها، وكانت في حد ذاتها منطقية وذات معنى لمثل هؤلاء الأفراد. غير أنه في إطار الشرح والتفسير الكامل لها، فقد كانت لا تزال بحاجة «لتطبيقها» على أحداث تاريخية. وقد أعقب نيوتن تعريفاته بتحليلٍ لتاريخ الكنيسة تمت صياغته في شكل «افتراضات» أو «آراء»، وهو شكل يعيد إلى الأذهان صيغة إحدى الأطروحات الرياضية. فأشار الختم الخامس — على سبيل المثال — إلى فترة كان الإمبراطور دقلديانوس يضطهد فيها المسيحيين ويذبحهم في بداية القرن الرابع بعد الميلاد. وأُعلن عن مجيء الإمبراطور قسطنطين في الختم التالي، وهي فترة أصبحت فيها المسيحية هي دين الدولة عن طريق تخفيف عقائدها ليستسيغها الوثنيون (حسب اعتقاد نيوتن). وعند وفاة قسطنطين في عام ٣٣٧، انقسمت الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، وكان ظهور الإمبراطورية الغربية (وفقًا لنيوتن) ممثلة في خروج الوحش ذي العشرة قرون من البحر.

اختلف ابنا قسطنطين — اللذان أصبحا قائدي هذين النطاقين — في آرائهما الدينية؛ فكان أحدهما وهو قنسطنس، مؤيدًا للعقيدة الثالوثية، أو كما أطلق عليه نيوتن «رسوليًّا»، فيما كان شقيقه (قسطنطيوس الثاني) يدعم المذهب الآريوسي والذي سمي بهذا الاسم نسبة للقس آريوس الذي دافع عن فكرة المكانة الدنيا للمسيح بالنسبة لله. وبحلول عام ٣٦٤، صار دين الوحش يُعبد علنًا في صورة أوثان على غرار «عظام الموتى وبقايا الرفات الآخر للشهداء»، وسرعان ما أصبح ذلك شائعًا إلى جانب عبادة الأشباح، وأشار نيوتن إلى أن «ذلك قد استمر منذ ذلك الحين». وحينئذ، أُطلق العنان للشيطان على الأرض ليمارس ما أطلق عليه نيوتن «لعبته الخبيثة» بإغراء الجهلة من خلال المعجزات الزائفة أو الشيطانية. وقد كان ذلك ممثلًا — في إطار فهم نيوتن للأحداث — في انتصار المذهب الكاثوليكي الروماني التثليثي واضطهاد الآريوسيين الصالحين.

وُصفت الردة الكبرى، التي حدثت بجعل عقيدة التثليث الأثناسيوسية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية في عام ٣٨٠، بفتح الختم السابع. كان المرتدون — في رأي نيوتن — الذين اجتاحوا الكنيسة الحقيقية واضطهدوا الصالحين، مسيحيين وإن كانوا من نوع «وثني» وفاسد؛ وجادل بأن البعض قد يعترض على فكرة أنهم كانوا يحملون العقيدة المسيحية ظاهريًّا، ولكن المسيحي «كان قادرًا على أن يكون أسوأ من أي نوع آخر من البشر». فكان إطلاق البوق الأول عام ٣٩٥ متزامنًا مع صورة رمزية تجسد رياحًا عاتية قادمة من الشرق، ومع الصورة الرمزية للجامة الأولى. وقد كان ذلك يتحدث عن «بلاء بغيض وبشع» حل ﺑ «الرجال الذين اتخذوا علامة الوحش، وأولئك الذين عبدوا صورته». وعلى نحو عفوي، زوَّد كتَّاب الكنيسة الكاثوليكية الأولى نيوتن بأدلة مباشرة على فساد رجال الدين المسيحي في هذه الفترة، مما حدا بالرب بالدفع بحشود من القوطيين ضدهم من الجزء الشرقي من الإمبراطورية. وفيما كان الكاثوليكيون يضطهدون جماعات من المسيحيين ممن أرادوا الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية الرئيسة اضطهادًا دمويًّا وعنيفًا، وهي ممارسة وجدها نيوتن الأكثر أسفًا على الإطلاق، اتجه القوطيون بأنظارهم إلى روما ذاتها بأحداث وحشية، وصلت لذروتها بتعرض المدينة للسلب والنهب في عام ٤١٠، وهو ما تجسد من خلال البوق الثاني والجامة الثانية.

ومضى نيوتن لادعاء أن البوق الثالث والجامة الثالثة، اللذين توافقا مع صورة رمزية لرياح قادمة من الجنوب، قد جسدا أحداثًا تعرض خلالها الكاثوليكيون الأفارقة للذبح على يد الونداليين، الذين كانوا أكثر وحشية بكثير من القوطيين، والذين على الرغم من إتيانهم بأعمال وحشية من آن لآخر، فقد كانوا يديرون روما بأسلوب ورع. وقد علم نيوتن من كتاب «تاريخ الاضطهادات الوندالية» لفيكتور بالفظائع الوحشية التي مارسها الونداليون على الكاثوليكيين الأفارقة المستبدين، الذين جادل نيوتن بأنهم كانوا دمويين بشكل غير مسبوق، وكانوا يغتالون من يرفضون اتباع ممارساتهم الخرافية، وشرعوا في تطبيق «تلك الاضطهادات الدموية التي كانت تُمارس في أوروبا، ولا تزال مستمرة في الكنيسة الكاثوليكية حتى يومنا هذا». ودوَّن نيوتن مرارًا وتكرارًا، وهو في حالة من الانفعال الشديد، أن الونداليين قد ردوا للكاثوليكيين اضطهاداتهم مضاعفة. فقام القائد الوندالي جينسريك بتعذيب الراهبات بألواح الحديد الساخن، مسببًا لهن العديد من التشوهات، وأقر نيوتن بأن ذلك كان أمرًا «في غاية القسوة». غير أن الكاثوليكيين كانوا فسقة، وكان ما عانى منه الآلاف منهم هو عدالة السماء. وذهب نيوتن إلى أنه من المهم معرفة أن الونداليين قد اضطهدوهم لفسوقهم وليس لديانتهم.

«ظهرت» عبادة الصور والسيدة العذراء في نهاية البوق الرابع والجامة الرابعة، وأذِنَ الله بعودة الكنيسة الكاثوليكية الأفريقية لفترة وجيزة، حتى يتسنى اضطهاد رجالها المتشددين الوقحين مرارًا ومرارًا على يد الونداليين. وفي بداية البوق الخامس والجامة الخامسة، كان هناك «مشهد جديد للأمور». فقد وصف سفر الرؤيا كيف تصاعد الدخان من حفرة اندفع منها بكميات مهولة وباء من الجراد — الجيوش في اللغة النبوئية — لا يعذِّب أي كائن حي عدا أولئك الذين لا يحملون ختم الرب على جباههم. وكان ذلك هو علامة ظهور الإسلام، الذي يؤرخ من وقت تولي النبي محمد مهمته كنبي في عام ٦٠٩ بعد الميلاد (وفقًا لتأريخ نيوتن). وكان فتح الحفرة هو إشارة لهجرته من مكة إلى المدينة في عام ٦٢٢، ولكن البوق الخامس والجامة الخامسة استمرا تحديدًا من عام ٦٣٥ إلى عام ٩٣٦. وأشار التعذيب الممتد إلى حقيقة أن المسلمين قد فرضوا حصارًا على القسطنطينية مرارًا دون أن يستطيعوا الاستيلاء عليها. وفي موضع آخر، «دخلت» عقيدتا الاستحالة وتطويب القديسين إلى الكاثوليكية، مع وصول الردة إلى ذروتها.

في البوق السادس والجامة السادسة، حرر أحد الملائكة أربعة آخرين كانوا مقيدين في نهر الفرات للإعداد لذبح «القسم الثالث من البشر» بواسطة «فرسان بدروع صدرية لامعة يمتطون خيولًا لها رءوس كرءوس الأسود. وأدين من استمروا في عبادة الأشباح، وأوثان الذهب، والفضة، والنحاس، والحجارة، والخشب «التي لا ترى ولا تسمع ولا تمشي»، إلى جانب هؤلاء الذين لم يتوبوا عن الشعوذة، والزنا، والسرقة. وتحكي الجامة السادسة كيف جف الفرات عندما جاءت، من أفواه التنين والوحش والنبي الكذاب، ثلاث أرواح نجسة في هيئة ضفادع، هي أرواح شياطين صانعة للمعجزات تعمل على إعداد الملوك والمسيحيين لمعركة هرمجدون. وقد جسد البوق — في رأي نيوتن والكثير من معاصريه البروتستانت — صعود الإمبراطورية التركية للحكم، إلى جانب الساراسيين (الشرقيين) «الذين يمثلون النكبة الكبرى التي ابتلي بها العالم المسيحي خلال الألف عام المنصرمة». وكان الاستيلاء على القسطنطينية في عام ١٤٥٣ هو إشارة ذبح القسم الثالث من البشر، فيما لم يكن أحد في حاجة للسؤال عن المقصودين باتهام النبوءة بالعبادة الكاذبة.

كان هذا التحليل المدهش والمبتكر بكل ما في الكلمة من معنى هو الشغل الشاغل لنيوتن في سبعينيات وثمانينيات القرن السابع عشر. فباستخدام أساليب مشابهة لمعاصريه البروتستانت المتشددين، قام بقلب كل من كان يعتبرهم المسيحيون التقليديون بكل طوائفهم وقناعاتهم أبطال وأشرار التاريخ رأسًا على عقب. والحق أنه في نفس التوقيت الذي كان يؤلف فيه نيوتن كتاب «المبادئ الرياضية»، كان يعكف على كتابة تحليل مفصل وشامل للطريقة التي استوفى بها الكاثوليك — الذين كان يطلَق عليهم «المشعوذون» و«السحرة» — شروط البوق السادس والجامة السادسة. ولم يكن الكثير من الأحداث التي كانت لتسبق البوق الأخير والجامة الأخيرة قد وقعت بعد، وكرر نيوتن التحذير الذي حواه عمله الفلسفي من أنه لم يكن ليغامر بإطلاق تخمينات غير موثوقة بشأن طبيعة أو توقيت الأحداث المستقبلية. ففي الواقع، كان نيوتن ينظر إلى أعماله كتحليل قائم على الملاحظة والأدلة لكيفية تحقق النبوءات على مر التاريخ. وفي بدايات القرن الثامن عشر، زحزح توقيتاته للأحداث المستقبلية العظيمة، معتقدًا أنه لا بد من مضي فترة طويلة من الفساد قبل «المجيء الثاني».

هوامش

(1) © The Trustees of the British Museum.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤