الفصل الثالث والعشرون

النزعة التقريرية والتأثرية في فرنسا

كوربيه. مانيه. مونيه. ديجاس. رينوار. رودان

نشأت النزعة التقريرية في فرنسا حوالي سنة ١٨٤٠، وكان زعيمها «كوربيه» الذي ولد سنة ١٨١٩ ومات سنة ١٨٧٧.

وقد نشأ «كوربيه» في أورنان، إحدى مدن فرنسا الصغيرة التي خلد الرسام ذكرها في رسومه. وقصد إلى باريس لكي يتعلم الحقوق، ولكنه عكف على الرسم. وكان جمهوري المبدأ، يعطف على العمال، ولذلك فمعظم رسومه إن لم نقل جميعها يتعلق بحياة الطبقات الفقيرة. وكان يكره الخياليين، الذين كانوا يستخرجون موضوع رسومهم من الأشعار وقصص القرون الوسطى، ويقول: إن الحياة وأعمال الناس هي الموضوع الذي يجب على الرسام أن يتناوله ويدرسه وينقله على لوحاته.

ويُحكى عنه أن أحد الأغنياء رغب إليه أن يرسم بعض الملائكة في إحدى الكنائس فاجابه قائلًا: «ملائكة! ولكني ما رأيت في حياتي ملائكة، فكيف أرسمها وأنا لم أرها؟!».

ولما عمت الثورات أوروبا سنة ١٨٤٨ راجت رسوم «كوربيه» لديمقراطيته وحبه للعمال، ونال في تلك السنة وسامًا يجيز له عرض رسومه بدون أن تقر على ذلك لجنة المعارض. وقد انتفع هو بذلك، لأنه عندما زالت النشوة الثورية وجاء وقت الارتداد، وكرهت رسومه، بقي يعرضها ويستعمل حقه.

ومن أحسن رسومه صورة «الحجارين» أي مقتلعي الأحجار، و«جنازة في أورنان». ولكن صورته «رسم الرسام: رمز حقيقي» هي أحسن ما خلفه؛ لأنها تمثل لنا حياته وأغراضه من فن الرسم. فقد رسم نفسه وهو يشتغل برسم الريف حول أورنان، مدينته الأصلية، وعن يمينه شحاذ وعامل وتاجر وقسيس ولص ولحاد، وهم الأشخاص الذين كان يعطف عليهم ويرسمهم، وعن يساره بعض أصدقائه ومنهم «بولدلير» و«برودون».

وفي سنة ١٨٧١ حوصرت باريس وأعلنت الشيوعية فتعين هو رئيسًا للجنة الفنون الجميلة. فأمر بهدم العمود الذي يخلد ذكرى نابليون، فلما زال الحصار ورجعت الحكومة الفرنسية حوكم على ذلك، وحُكم عليه بغرامة قدرها ٤٠٠٠٠٠ فرنك. ولكنه فر إلى فرنسا ومات بعيدًا عن بلاده سنة ١٨٧٧.

وخلف «كوربيه» في قيادة النزعة التقريرية «أدوار مانيه» الذي ولد سنة ١٨٣٣ ومات سنة ١٨٨٣. وكان يتبع طريقته بفرق واحد، وهو أنه لم يكن ديمقراطيًّا مثله فكانت أشخاصه من الطبقة المتوسطة ولم تكن من العمال.

وكان مولد «مانيه» في باريس، وكانت نية أبويه أن يدريس الحقوق ولكنه مثل «كوربيه» ترك هذا العلم والتحق بمرسم «كوتور» (توفي سنة ١٨٧٩) ثم ساح في ألمانيا والنمسا وإيطاليا لدرس القدماء. وكان يلتفت إلى موضوع ظلال الأضواء في الصورة. ويُحكى عنه أنه سئل ذات مرة وهو يرسم جماعة من الناس: «من هو أهم هؤلاء الأشخاص؟».

فقال من فوره: «أهم الأشخاص عندي هو الضوء».

ولما أقيم معرض الصور سنة ١٨٨٣ في فرنسا عرض «مانيه» بعض رسومه فرُفضت. ولكن نابليون الثالث عندما سمع بأن اللجنة المكلفة بدرس الصور وقبولها أو رفضها قد رفضت عددًا كبيرًا، أمر بإيجاد معرض آخر «للمرفوضين». وكان بين هؤلاء المرفوضين: «هويسلر»، و«مانيه»، و«لاتور»، و«كلود مونيه»، و«رينوار» وغيرهم.

وكان من الرسوم المعروضة صورة «غروب الشمس» لكلود مونيه. وقد كتب تحتها «تأثر»، وبدلًا من أن تستثير هذه الصورة إعجاب الزائرين استثارت ضحكهم حتى إنه أطلق على هؤلاء المرفوضين اسم «التأثريين». ولصق هذا الوصف بكلود مونيه فرضيه منهجًا جديدًا للرسم ينسب إليه وسار فيه.

ولم يكن «إدوار مانيه» يعرف كلود مونيه قبل هذا المعرض، ولكنهما للتشابه بين اسميهما وللاشتراك في الطريقة الجديدة صار هدفًا للسب والتشهير.

وقد سبق أن قلنا: إن «إدوار مانيه» كان تقريريًّا ينزع إلى وصف الحقيقة، وقد بقي كذلك مدة طويلة يجري على خطة «كوربيه». وأحسن رسومه في ذلك الوقت هو صورة «الكوكب السائغ». ولكنه انتهى بأن انضوى إلى المدرسة الجديدة التأثرية كما يُرى في رسمه لصورة «مشرب الفولي بيرجير».

والآن يجدر بنا أن نلخص النزعات الفنية منذ الثورة الفرنسية ثم نشرح النزعة التأثرية. ففي مدة الثورة ظهر «القديميون» أي الذين ينزعون إلى درس الرومان واليونان ويرسمون آلهتهم وأساطيرهم. ثم ظهر «الخياليون» الذين ينزعون إلى رسم حوادث القرون الوسطى ويستخرجون موضوعاتهم من الشعراء والقصصيين، ثم ظهر بعدهم «التقريريون» الذين يقتصرون على تقرير الحقائق. وأخيرًا ظهر «التأثريون» وعلى رأسهم «كلود مونيه».

فالرسام التقريري يرسم الأشياء كما هي حين يتأمل المنظر ويتدبره، ولكن الرسام التأثيري يرسم الصورة كما تفجأه بمنظرها وكما يتذكرها خواطر سريعة تمر بذهنه وتترك فيه أثرًا بارزًا تنسى فيه التفاصيل ويبقى الأثر البارز. وبعبارة أخرى نقول: إن المنهج التأثري يرمي إلى التأليف بين الشكل العمومي بلا تحليل أو عناية بالتفاصيل.

وقد احتاج التأثريون إلى درس الألوان درسًا علميًّا، ومالوا إلى الألوان البراقة مع معرفة التغير الطارئ على الأشياء لتغير الضوء الساطع عليها. فلون الأعشاب إذا رؤيت عن كثب أخضر، ولكنها إذا رؤيت عن بعد صارت زرقاء. ولون الثلج عن كثب أبيض، ولكنه إذا رؤي عن بعد كما ترى أسناد جبال الألب صار نحاسيًّا، فهذه الاختلافات أخذ التأثريون يدرسونها لمعرفة الأثر الذهني الذي تتركه الصورة في نفس الناظر.

وقد ولد «كلود مونيه» سنة ١٨٤٠وقضى مدة الخدمة العسكرية في الجزائر. وعرف «رينوار» وصادقه، كما صادق بعد ذلك «مانيه» وأسس مرسمًا في باريس. ومن أحسن رسومه صورة «جسر لندن».

ومن الثائرين أيضًا «ديجاس» الذي ولد سنة ١٨٣٤ ومات سنة ١٩١٧. وقد رحل «ديجاس» سنة ١٨٥٦ حيث تشبع برسوم النهضة. ولما عاد إلى باريس شرع يرسم الموضوعات التاريخية. ومن رسومه في ذلك لوحة كبيرة هي «منظر الحرب في القرون الوسطى». ولكنه ترك ذلك إلى نقل صور الحياة التي يحياها الناس حوله، فكان يرسم المناظر في القهوة ودار التماثيل ومضامير السباق والمرأة التي تكد للعيش. وقد تأثر فنه مثل هويسلر بالفن الياباني. ومن أحسن رسومه صورة «الراقصة» التي تتوهج بشباب الفتاة وحماستها وانتعاشها بالفرح والانتصار وهي تتلقى هتاف المتفرجين. وقد كاد يختص برسم أوضاع الرقص حتى نبغ في ذلك. وباع إحدى لوحاته المسماة «الراقصات في الحانة» بعشرين جنيهًا. وقبل أن يموت بيعت هذه اللوحة نفسها بمبلغ ١٧٤٠٠ جنيه.

ومن الثائرين أيضًا «رينوار» الذي ولد سنة ١٨٤١ ومات سنة ١٩١٩. وقد بدأ حياته الفنية بالرسم على الصيني. وبقي طول حياته يميل إلى الزخارف لهذا الميل أو التربية الأولى. وقد نشأ في ليموج، ولكنه غادرها إلى باريس حيث أقام له مرسمًا واختص برسم الأشخاص.

ومن أحسن من أنجبتهم فرنسا المثَّال «رودان» الذي أعاد إلى الناس في عصرنا ذكرى ميخائيل أنجلو والعبقرية الإيطالية القديمة. وقد ولد في باريس سنة ١٨٤٠ ومات سنة ١٩١٧. وقد استعمل الطريقة التأثرية في نحته، وصنع تمثال الكاتب القصصي «بلزاك» على هذه الطريقة. وقد ابتدع طريقة جديدة في نحت التماثيل، وهو أنه كان أحيانًا يصنع التمثال وينحته كاملًا ناصعًا، ولكنه يتركه في الحجر الغشيم الأصلي الذي نحت منه ليتوهم الناظر إليه كأنه قد انتفض من ذلك الحجر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤