الفصل السابع

نجوم النهضة

دافنشي. أنجلو. رفائيل

من يقرأ حياة دافنشي بتفاصيلها الصغيرة يمكنه أن يمثل في ذهنه تلك الاضطرابات الذهنية التي أصابت الناس في عصر الانتقال من القرون الوسطى إلى القرون الحديثة، نعني بذلك الزمن الذي عاش فيه دافنشي بين ميلاده سنة ١٤٥٢ ووفاته سنة ١٥١٩.

ففي حياة دافنشي رأت أوروبا دخول الأتراك إلى القسطنطينية، وهزيمة المسيحيين أمام المسلمين، كما رأت اكتشاف أميركا، وفي كلتا الحادثين ما يدفع إلى التفكير، ووضع العقل فوق النقل، والرأي فوق العقيدة، والشك مكان اليقين.

ويمثل دافنشي عصره، لأنه عبقري أحاط في دراسته وهمومه الذهنية بطائفة كبيرة من العلوم والفنون كأنه كان يجوع إلى التجارب والمعارف، فكان رسامًا كما كان مثَّالًا يصنع التماثيل، وكان عالمًا أدرك بذهنه أن جبال الألب كانت تحت الماء، وكان يدرس الرياضة درس الهوى والتعلق والشغف، وكان لا يكف عن التجارب الجديدة حتى صنع مرة طيارة، ولم يمنعه من الاستمرار في تتميم اختراعها إلا حماسة تلاميذه الذين خشي عليهم من اقتحام الهواء، وكان يخترع آلات الحرب وأدوات السلم، وكان موسيقيًّا ماهرًا، ومع ذلك وضع أحسن كتاب في زمنه عن التشريح، قال عنه فسارى:

يحدث أحيانًا أن السماء تهب أحد الأشخاص من الجمال والنعمة والقدرة بحيث أن كل ما يعمله يبلغ من الروعة الإلهية أن يسبق جميع ما يعمله سائر الناس، ويثبت بوضوح أن عبقريته إنما هي هبة من الله وليست اكتسابًا بالحذق الإنساني، وقد رأى الناس هذا في ليوناردو دافنشي الذي لا يمكننا مهما فعلنا أن نبالغ في جماله الشخصي، والذي كان له من القدرة الخارقة ما كان يستطيع به أن يحل أية معضلة تعترضه.

ولم يبالغ فسارى في هذا الوصف فقد كان دافنشي موهوبًا، يجمع إلى قوة جسمه التي كان يمكنه بها أن يلوي نعل الفرس بيده، جمال طلعته ورقة نفسه، حتى ذُكر عنه أنه كان يشتري العصافير من التجار ثم يطلقها في الهواء.

وقد أرسله أبوه إلى المدرسة، ولكنه «كان يدرس عدة أشياء ثم يتركها»، ومع ذلك كان مع نزقه هذا يلزم شيئًا لا يتركه وهو الرسم، فأخذه أبوه إلى الرسام «فروشيو» لكي يتتلمذ عنده، ويحكى أن فروشيو هذا كان يعمل في إتمام صورة كبيرة تمثل «يوحنا المعمدان» وهو يعمد المسيح، وكان قد كُلف بعمل صورة أخرى، فاضطر للسرعة أن يكلف دافنشي بأن يرسم على الصورة أحد الملائكة، وقام دافنشي بهذا العمل، وكان الملك الذي رسمه خيرًا من الملائكة التي رسمها أستاذه، فلما عاد فرشيو تعجب لهذه العبقرية التي تفجرت من هذا التلميذ، ولكنه في الوقت نفسه تأسف لأن تلميذًا لم يدرب يجيد الرسم أكثر منه، ويُقال إنه من ذلك الوقت لم يتناول الريشة وقصر نفسه على نحت التماثيل.

وذاعت شهرة دافنشي بعد ذلك فطلبه الدوق سفورتسا لكي يكون في خدمته في ميلان، وهناك رسم الصورة المشهورة: «العشاء الأخير» الذي مثل فيه المسيح بين تلاميذه عندما أخبرهم بأن واحدًا منهم سيخونه، وكان دافنشي لتشعب خواطره بين العلم والفن والرياضة يتباطأ في عمله، وكان يصنع هذه الصورة لأحد الأديار القريبة من ميلان فلما أبطأ شكاه رئيس الدير إلى الدوق، وأرسل هذا إلى دافنشي يلومه على تباطئه، فأجابه دافنشي بخطاب جميل قال فيه:

بقي عليَّ من الصورة رأسان لم أتمهما بعد، فإني أشعر بالعجز عن تصور الجمال السماوي الذي يتمثل في مولاي (المسيح)، والرأس الآخر الذي يجعلني أفكر هو رأس يهوذا الخائن، فإني أعتقد أني لن أتمكن من تصوير وجه هذا الرجل الذي استطاع أن ينطوي على نية الخيانة لمولاه بعد أن انتفع به كل هذا الانتفاع، ولكن رغبة في توفير الوقت، فإني لن أفكر كثيرًا في هذا الرأس، بل أقنع بوضع رأس رئيس الدير، فهذا هو رأيي الذي لا أجد خيرًا منه الآن.

وضحك الدوق من هذه الفكاهة الجميلة وطلب من رئيس الدير ألا يقلق دافنشي بعد ذلك بشكاويه وإلحاحه في السرعة.

ولدافنشي صورة أخرى أشهر من صورة «العشاء الأخير» هي صورة «موناليزة» المشهورة باسم «الجيوكندة» فقد قضى فيها ثلاث سنوات وهو لا يتمها، إما لأنه كان كل يوم يجد في هذه المرأة معنى جديدًا يريد أن ينقله إلى اللوحة، وإما لأنه أحبها، فكان يتعلل بالتأخير لأنها كانت تأتيه كل يوم، وكان بالطبع يخشى إذا كملت الصورة أن يمنعها زوجها من الذهاب إلى مرسمه، ويبدو من تاريخه أن حبه لها كان عذريًّا.

وترك دافنشي الدوق وانضم إلى فرنسيس ملك فرنسا الذي أحبه واحترمه وحمله معه إلى فرنسا، وهناك مات، وكانت صورة «موناليزة» معه لم تفارقه، حتى إن الملك أراد أن يضعها في قصره، فرجاه دافنشي أن يتركها له حتى يموت، وهي الآن في متحف اللوفر في باريس، وقد ذكر فسارى أنه بلغ من عناية الملك فرنسيس بهذا الرسام أنه عندما سمع بمرضه زاره وحمل رأسه بين يديه، وكان دافنشي في غيبوبة، فلما أفاق ووجد الملك يُعنى به ويحنو عليه تأثر ومات.

ويجدر بنا هنا قبل أن نتكلم عن النجمين الأخيرين أن نذكر واحدًا عاصر الثلاثة وهو غرلندايو الذي ولد سنة ١٤٤٩ ومات سنة ١٤٩٤، وهو يمثل ديمقراطية الفن، فقد كان أولئك العظماء الثلاثة يرعاهم البابا أو الملك أو الأمير، أما هو فقد جعل مرسمه دكانه الصغير الذي كان يبيع منه إكليلًا اخترعه وصار يصنعه لكي يضعه السيدات على رءوسهن، والروح المسيحية التي وضعت جمال النفس فوق جمال الجسم واضحة في رسومه، فهو يصور جمال النفس ولا يبالي بالجسم، وهذا يخالف المألوف عند الأمم القديمة أيام الوثنية، فإنها كانت تفهم الجمال في الجسم، وأحسن صور غرلندايو هي صورة «الجد وحفيده»، وأنف الجد قبيحة بل وجهه دميم، ولكن الناظر إليه يستشف جمالًا في النفس في عاطفة الأبوة المرتسمة عليه وهو يحنو على حفيده الصغير، وله أيضًا صورة جيوفانا ترنابيوني.

أما النجم الثاني فهو ميخائيل أنجلو الذي ولد سنة ١٤٧٥ ومات سنة ١٥٦٤، وهو يفوق دافنشي في الرسم والنحت، ولكن دافنشي يسمو عليه في الحكمة، وقد عاش دافنشي لذلك سعيدًا أما أنجلو فقد كان يضيق بالناس وبنفسه.

وقد كان والده قاضيًا وأراد أن يربي ابنه على أن ينشأ تاجرًا، ولكن عبقرية الصبي أبت إلا الظهور والتفجر، واضطر أبوه أن يلحقه بمرسم غرلندايو وهو في الثالثة عشرة، ولكنه مال إلى النحت أكثر مما مال إلى الرسم.

وكانت أسرة مديتشي لها السيطرة والاسم في ذلك الوقت، وكان لورنتسو عميدها، فبسط عليه رعايته وعين له مرتبًا وخصه بالتعليم في «مدرسة الحديقة» التي كانت قد أنشأها لتخريج المثَّالين.

وحوالي سنة ١٤٩٠ اهتزت فلورنسا بذلك المدعو «سافونا رولا» فقد كان هذا الرجل راهبًا رأى حواليه أمارات الانتقال من التقاليد الدينية إلى العصر الحديث عصر الشك، فكبر عليه ذلك وأخذ يدعو إلى كراهة العلوم والفنون، وكانت الكتب تجمع وتحرق علنًا في ميادين فلورنسا، وكان كثيرون يهجرون أعمالهم لكي يدخلوا في الرهبانية، ورأى ميخائيل أنجلو ذلك فلم يتأثر به بالعكس عمد إلى الوثنية الإغريقية فصار ينقل عنها، وصار يصنع التماثيل الرائعة للآلهة «باخوس» و«ادونيس» و«قوبيد».

وبقي سافونا رولا يصلي ويعظ الناس في الشوارع، ويسب البابا، ويصب اللعنات على المترفين والكافرين والذين يقرءون الكتب الوثنية، إلى أن سئمه أهل فلورنسا فأحرقوه سنة ١٤٩٨، ونصروا بذلك النهضة التي أوشكت أن تموت في مدينتهم.

وكان ميخائيل أنجلو قد فر من البندقية في هذه المدة ثم عاد إليها، وكان أحد التجار قد اشترى منه تمثاله «قوبيد» وباعه لأحد الكرادلة في روما بعد أن أوهمه أنه تحفة قديمة صنعها الإغريق، ولكن الكردينال عرف الغش ووقف على الحقيقة، ثم فرح لهذا الغش عندما تحقق أن إيطاليًّا حديثًا يمكنه أن يصنع تمثالًا يشبه تماثيل قدماء الإغريق، وبعث من فوره في طلب أنجلو الذي قصد روما وهناك بقي في رعاية الكردينال.

وبقي مدة في روما وهو متشبع بالروح الوثنية، ولكن وثنيته انتهت قبل أن يبرح روما إلى فلورنسا سنة ١٥٠١ حيث صنع تمثالًا لداود.

وبقي في فلورنسا أربع سنوات لم يسعد فيها، ولذلك فإنه ما كاد البابا يوليوس الثاني يستدعيه إلى روما حتى رحل إليها، وهناك عرض عليه البابا أن يبني له ضريحًا، فسافر ميخائيل أنجلو إلى مقالع كرارة واقتلع المرمر الذي يحتاج إليه، ثم عاد إلى البابا فرآه قد أبدل رأيه، فإن أحد الذين حوله أوهموه أن بناء الضريح في حياته فأل سيئ، فأحجم البابا عن المضي في مشروعه وطرد المثَّال من قصره.

وعاد أنجلو إلى فلورنسا، ولكن البابا عاد فاستدعاه، فلما بلغ روما أخبره البابا بأنه يريد أن يكلفه رسم السقف في مصلى سستين، وكان أنجلو يؤثر النحت على الرسم، فنصح له بأن يستخدم رفائيل بدلًا منه، فأصر البابا على إنفاذ كلمته.

وفي ١٠ مارس من سنة ١٥٠٨ كتب ميخائيل أنجلو هذه العبارة: «اليوم أنا ميخائيل أنجلو المثَّال قد شرعت في رسم المصلى».

وفي السنة التالية كتب يقول: «ليست هذه مهنتي … فأنا أضيع وقتي».

ولكنه بعد أربع سنوات وهو راقد على ظهره انتهى من رسم السقف الذي يعد الآن من مفاخر الفن الإيطالي. وقد قسم السقف ثلاثة أقسام كل قسم منها مجزأ ثلاثة أجزاء، فالقسم الأول يشتمل على خلق الدنيا في ثلاثة أجزاء: أولها الله عز وجل يفصل بين النور والظلام، وثانيها يخلق النجوم، وثالثها الله يبارك على الأض، والقسم الثاني يحتوي على سقوط الإنسان في ثلاثة أجزاء أيضًا: أولها خلق آدم، وثانيها خلق حواء، وثالثها الإغواء والسقوط، والقسم الثالث يحتوي على الطوفان، وهو أيضًا ثلاثة أجزاء: أولها تقدمه نوح، وثانيها الطوفان، وثالثها سكر نوح.

وقد أصيب المثَّال بآلام وأوجاع من بقائه أربع سنوات وهو ينسطح كل يوم لكي يرسم السقف حتى بقي بعد ذلك مدة إذا أراد أن يقرأ أو يرى شيئًا جليًّا رفعه فوق رأسه على ما اعتاد من أيام الرسم.

وعاد إلى فلورنسا، وكانت قد ذاعت شهرته وصار أهل فلورنسا يفاخرون به، وقادهم الحب له إلى الاغترار به، فأقاموه في ثورة لهم مديرًا للتحصينات يقاتل أسرة مديتشي، وفر من المدينة التي انهزمت، وعادت هذه الأسرة التي كان يحاربها فاستخدمته وأذلته.

ولكن البابا بولس الثالث أنقذه من هذا الذل، فكلفه برسم «يوم القيامة»، ثم عاد فكلفه بصنع القبة التي ما تزال روما تفتخر بها.

وقد زاره فسارى في أواخر سنيه وذكر عنه فقره، وأنه لا يأكل سوى القليل من الخبز والنبيذ، وأنه مع ذلك لم يكف عن النحت، فقد صنع لنفسه خوذة يلبسها على رأسه ويضع فيها الشمعة، فيقوم في الليل ويكب على عمله في ضوء هذه الشمعة التي لم تكن تشغل إحدى يديه.

وقبل أن يموت بيوم أحس باقتراب الأجل المحتوم فأوصى وصيته بحضور خادمه وأصدقائه وجاء فيها قوله إنه «يوصي بروحه لله وبجسمه للأرض».

أما النجم الثالث فهو رفائيل الذي وُلد سنة ١٤٨٣ ومات سنة ١٥٢٠ وهو في السابعة والثلاثين من عمره، وقد قضى هذه الحياة القصيرة يتقلب في السعادة بخلاف تلك الحياة الطويلة التي قضاها ميخائيل أنجلو في الشقاء والفقر.

وقد درس رفائيل في فلورنسا فاستدعاه البابا إلى روما سنة ١٥٠٨ وهناك شرع في تزيين قصر الفاتيكان، ثم تعين المعماري الأول لكنيسة القديس بطرس والأمين لآثار رومية القديمة، وكان جميل الوجه لا يمشي في روما إلا وحوله حاشيته، حتى يُحكى عنه أنه وهو في سيره التقى بميخائيل أنجلو، فقال له هذا بلهجة الحسد وهو يرى الحاشية التي حوله: «تسير هنا كأنك قائد على جيش».

فأجابه رفائيل: «وأنت تسير كأنك الجلاد يقصد إلى النطع».

ومعظم رسوم رفائيل دينية، وهو أفضل من رسم «العذراء» وأكسبها جمالًا وشبابًا لا يجدهما الإنسان عند أي رسام آخر، ومات في يوم ميلاده سنة ١٥٢٠ بحمى لم تمهله سوى بضعة أيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤