مقدمة الطبعة الثانية
السفر عبر الفضاء حلم داعب خيال البشرية منذ بداية الوعي بالوجود. حلم جمع بين الرهبة والخوف من كائنات غريبة تسكن الفضاء، وبين الخيال والطموح الجامح. وعبَّر الإنسان عن حلمه الجَسور بعبارات مزيج من الروع والقداسة والخيال الأدبي؛ حيث ينطلق اللسان بأحاديث عن سكان الفضاء وما يحملونه للبشر من نُذر شر أو بشائر خير، وقدرات على رسم المصير والتحكم في شئون البشر؛ وحينًا آخر بأحاديث وروايات تدخل باب الخيال الأدبي أو الخيال العلمي. وظل الفضاء رهانًا ونطاقًا لا يقربه الإنسان إلا بخياله.
ولكن البشرية بإرادتها الصلبة، ودأبها على تحصيل المعارف، ورغبتها الأصلية في مغامرة كشف الحجب ورفع أستار المجهول، وإيمانًا بحقها في الفهم والمعرفة وانتزاع حقها في الوجود، وأن لا مستحيل، استطاعت مرحلة بعد مرحلة أن تعزز خَطْوها على هذه الأرض، داخل هذا الكون الفسيح تبحث، وبفضل السؤال والشك ومغامرة المعرفة، وتراكم الإنجازات، وتضافر الجهود العلمية وفهم قوانين الطبيعة، استطاعت اختراق حُجب الفضاء القريب ثم البعيد، مع التطلع إلى الأبعد فالأبعد، وكأن الكون كله بين يدي البشر مجال للاستثمار، ومجال للمزيد من البحث والمغامرة المعرفية، ومجال للإنجاز والوثب إلى البعيد، إلى حيث دان لها المستحيل.
عرف الإنسان الجاذبية مبحثًا علميًّا له قوانين، وتيسر له تفسير الكثير من الظواهر، ولكنه ظن نفسه أسير جاذبية كوكب الأرض. وواصل جهود البحث العلمي لفهم ظواهر الطبيعة من حوله، وعرف كيف يخترق حاجز الجاذبية، واكتشاف قوانين الفضاء.
ظل السؤال الأبدي: ماذا عن مكان ومكانة الإنسان على هذا الكوكب الأرضي وفي الكون؟
كانت للقدماء جهودهم وأحلامهم التي تجسَّدت في رؤًى وتأملات عن النجوم والكواكب، وعلاقتها بمصائر وأقدار البشر والمجتمعات. ومع هذه الجهود والرؤى رسموا خرائط الكون القريب، وحدثونا عن أبراج السماء وانتماء البشر إليها. نجد هذا في بابل وآشور، وفي مصر القديمة، وفي حضارتَي الأزتك ومايا في أمريكا الجنوبية، وفي بلدان آسيا حيث الصين والهند … إلخ، أي إنها قضية إنسانية أو مشكلة مؤرِّقة للإنسان. وظل الإنسان على مدى هذا التاريخ كيانًا مفعولًا له، خاضعًا لأقدار تسطرها أبراج السماء تجسيدًا لأقدار أعلى. أو هكذا كانت صورة الكون وتصور الإنسان. وساد اعتقاد أن الكون كله تجلٍّ لقدرة أعظم، وأن الإنسان هو محور الكون، وترسَّخ على مدى الأحقاب رأي أن الإنسان كيان منفصل ومستقل عن الطبيعة التي نشأت، حسب تصوره، لخدمته وقد أتاها عابرًا.
ولكن البشرية، بفضل جهود البحث الدءوب، وتراكم المعارف التي تجسد تراث الإنسانية، والقدرة على فرز الغث وإضافة الجديد الجيد، بدأت مسيرة مغايرة نوعيًّا على طريق كشف أستار الحُجب، وتمثل المسيرة بداية الشك في الموروث، والتحدي للتقليد، والجسارة لإثبات المغاير المختلف تأسيسًا على البحث العلمي، وإطالة النظر، والبرهان، والالتزام بمنهج حاكم لكل هذا، هو المنهج العلمي.
وعانى أهل الفكر والبحث والنظر أشدَّ المعاناة للتعبير عن إنجازاتهم، واقتناص الفرصة للإفصاح عن حقيقة جديدة. وما أشدَّ الآلام والمعاناة! وهكذا عرفت ساحة العلم شهداء ضحَّوا فداء المعرفة، منهم من قُتل على الخازوق أو حرقًا، ومنهم من أُودِع السجن، ومنهم من قنع بأن سجن هو أفكاره حبيسة بين جوانحه، أو أرغمته سلطات التراث على الإنكار والاستنكار. وعرفت ساحة العلم رُوَّادًا تدين لهم جميعًا بالفضل. والفضل ممتد منذ قديم الزمان وموصول حتى يومنا هذا بفضل الجهود المُطَّردة.
بدأت عمليات البحث في العصر الحديث على يدي نيقولا كوبرنيك في القرن ١٦، الذي رأى أن الأرض ليست مركز الكون. وهو الرأي الذي دعمه من بعده جاليليو جاليلي في مطلع القرن ١٧، مع أول تلسكوب يوضح برؤية العين أن الأرض كوكب يدور في فلك حول الشمس. وتتابعت موجات البحث العلمي الفلكي على مدى القرون التالية، واتَّسع أفق الكون المحيط، وتزايدت التساؤلات التي تلتمس الإجابة، وتوفرت بفضل البحث العلمي تكنولوجيات، أي أدوات بحث جديدة متطورة بالغة الدقة والقدرة، وتضاعفت طموحات البشرية، واتسعت آفاق الرؤى والبحث بقدر اتساع آفاق غموض الكون.
ومنذ أكثر من خمسين عامًا صدر هذا الكتاب في ترجمته العربية، بينما البشرية على أعتاب الأمل لاختراق حجب الفضاء، وكان لا يزال الأمل العربي غضًّا جنينًا أو جديدًا في ألَّا يقنع العرب بدور المشاهدين للفتوحات العلمية؛ إذ يرونها بعين التقليد إعجازًا لا إنجازًا، وإنما الأمل في أن يكونوا مشاركين موضوعيين، سبَّاقين أو أندادًا أكفاءً مثلما كانت الصين وقتذاك ومثلما هي الآن. ومضت السنون ونحن أسرى الإعجاز.
وصدر الكتاب وقتذاك، ولا يزال حتى يومنا هذا، تجسيدًا للأمل وتوضيحًا للحدث، وتعبيرًا عن المبادئ العلمية الأساسية لعلوم الفضاء وإنجازاته. يُعتبر الكتاب في تاريخ صدوره أول كتاب عربي علمي عن الفضاء، مع أول رحلة إلى الفضاء مع إطلاق صاروخ يحمل الكلبة لايكا. وتتابعَت بعده كتب ودراسات مثلما تواترت رحلات الفضاء؛ لتعود بالكم الوفير من المعلومات التي تظل ملكًا لأصحاب الجهد والعلم. ويمثل الكتاب ضرورة للقارئ العربي الذي ينشد ألَّا يشعر بالغربة والاستغراب إزاء رحلات الفضاء، بل يشعر أنه على أُلفة بها، وأنها عمل بشري مؤسس على العلم والتكنولوجيا، وجهد ميسور لمن عقدوا العزم على المساهمة الإيجابية، يخوضون لجج نهر الحياة الدافق بدلًا من القناعة بالتقاعس والبقاء على قارعة طريق الحياة، رءوسهم تعشعش فيها أفكار بالية، بينما العيون مذهولة من هول المفاجآت العلمية والتكنولوجية المتطورة أبدًا، وليس لهم فيها نصيب.
ويعرض الكتاب بأسلوب علمي بسيط يناسب المثقف العام. يبدأ بحكاية السفر عبر الفضاء في التراث الإنساني، وموقعها بين الأسطورة والعلم. ثم يُحدثنا عن سفن الفضاء: ما هي؟ وكيف تتكون؟ ومشكلاتها، وأهمها مشكلة الإفلات من جاذبية الأرض، وتكوين الصاروخ حامل السفينة وسرعاته وأنواع الوقود، ويقرن ذلك بصور ورسوم توضيحية للمجموعة الشمسية وزوايا الانطلاق والحركة، وهيكل مكونات الصاروخ. ثم يحدِّثنا بعد ذلك عن سفينة الفضاء المأهولة، وكيفية حياة رواد الفضاء من نوم وغذاء ومتابعة بحثية، والمشكلات النظرية والعلمية للعودة والهبوط على الأرض في موقع محدد لها.
ويقدم الكتاب رؤية توضيحية للقمر الاصطناعي: تصميمه، وطرق إطلاقه، ودوره لتوفير المعلومات عن طبقات الجو العليا، ودوره باعتباره محطة أرصاد طائرة، أو محطة لوجستية، فضلًا عن الاستفادة في مجالات أخرى عديدة، مثل البث الإعلامي والتجسس وغيره. ويحدثنا بعد ذلك عن الرحلات المزمع الانطلاق بها إلى كواكب المجموعة الشمسية، والتي كانت أملًا وقتذاك، وأصبحت حقيقة الآن، شاهدة على أن العلم هو السبيل الأوحد لتحقيق التقدم والرفاه، في ظل مجتمع مؤمن بالعلم، ومؤمن بالإنجاز وإرادة الإنسان والسبق في الماراثون الحضاري. هذا، أو لنقنع بدور المتفرج الذي يرى ولا يعمل، بل ولا يفهم.
وامتدَّت مسيرة العلم آمادًا فاقت كل الخيال، ومع كل هذه الإنجازات المذهلة، لا تزال المسيرة في البداية، وتفتحت تفاصيل لا نهائية، واتسعت آفاق لا حدود لها في علوم الفضاء والبيولوجيا وغيرها. واشتد عزم الإنسان، وقويت إرادته، وترسخ سلطان العلم والعلماء بفضل قوة رواده وعزمهم ودأبهم ومعاناتهم، الذين تحدَّوا سطوة وسلطان التقليد.
وأدعو القارئ إلى أن يقرأ مقدمة الطبعة الأولى المكتوبة منذ أكثر من خمسين عامًا، لتصدمه المفاجأة المتمثلة في الأمل المتوهج وقتذاك بأن يكون للعرب دورٌ ناجز في ساحة العلوم، ومنها علوم الفضاء، ولكن بعد هذه العقود الخمسة، يبين بوضوح كيف وُئد الأمل، كيف خبا وتبدَّد، أو ما ظنناه أملًا داعب خيالنا في شبابنا، وإذا به لا يزال سرابًا خادعًا، وكأننا إذ نعيد طبع الكتاب، إنما نرثي حلمًا من أحلام اليقظة في إطار سخرية الزمان.
القاهرة – ديسمبر ۲۰۱۰م