الفصل الأول

السفر عبر الفضاء

بين الأسطورة والعلم

ظل السفر عبر الفضاء قرونًا طويلة وهو لا يعدو أن يكون أضغاث أحلام.

فهناك الكثير من الأساطير التي تحكي لنا قصة إنسان يطير إلى العوالم الأخرى، أو قصة زوَّار يأتون من تلك العوالم في زيارة للأرض: وعلم الأساطير اليونانية القديمة، على وجه الخصوص، غنيٌّ بمثل هذا النوع من الأساطير؛ فنحن نجد على سبيل المثال قصة إيكاروس. وإيكاروس هذا شخص ركب على ظهره أجنحة من الريش وثبتها بالشمع، ثم طار بها حتى اقترب من الشمس. وهنا ذاب الشمع وسقط إيكاروس في البحر وغرق. وهناك قصة أخرى، وهي قصة الإسكندر الأكبر الذي أراد أن يزور السماء في عربة تقودها مجموعة من النسور. وثمَّة أسطورة صينية تزعم لنا بأن السلالة الصينية انحدرت إلينا من القمر.

وفي الأيام المظلمة من العصور الوسطى، تجنب الناس فكرة التحليق في الفضاء، وكان ذلك خوفًا من اضطهاد الكنيسة. وشذَّت عن هذا الموقف الملحمة الهندية المسمَّاة «رامايانا»؛ إذ تحكي لنا الملحمة بأن بطلها سافر إلى السماء.

وفي عصر النهضة، بُعث من جديد الاهتمام بالتحليق بعيدًا عن الأرض. وانعكس ذلك في صورة رؤًى خيالية. ومع نمو معرفة الإنسان بالطبيعة، حلَّت التخمينات العلمية محل الأساطير.

وفي القرن السابع عشر، ظهرت أولى المحاولات التي أُعدَّت بطريقة فنية لتحقيق الاتصال بين الأرض والأجرام السماوية الأخرى، إلا أن هذه المحاولات، رغم ذلك، لم تكن مبنية على أساس علمي.

وأشار العالم الإنجليزي جون ويلكينز إلى أن التحليق في الفضاء من الأمور الممكنة، وكان ذلك في كتابه «مقال عن عالم جديد وكوكب آخر». وقد ذهب الروائي الفرنسي سيرانو دي برجراك إلى أبعد من ذلك. ومنذ أن عرف الإنسان كيفية الطيران، وهو يتحدث عن إمكانية استخدام الصواريخ للسفر عبر الفضاء، بل وصل به الأمر إلى أن تحدث عن أبسط تصميم لسفينة الفضاء التي تُبنى على هيئة صاروخ.

ولقد شاهد القرن التاسع عشر ظهور عدد من الروايات الخيالية التي تتحدث عن السفر عبر الفضاء، وبعض هذه الروايات لا تقوم على أساس علمي بالمرة؛ فهناك على سبيل المثال أبطال قصص الروائي جول فيرن، الذين أطلقتهم بندقية إلى القمر، إلا أن المؤلف تناسى تمامًا أن أبطاله هؤلاء سيلقون حتفهم حالما تُطلق البندقية.

وهناك الكثير من الروائيين الذين ظهروا في بداية القرن الحالي، وكتبوا روايات خيالية تعالج الحياة في العوالم الأخرى، ولقد شاعت هذه الروايات بين جمهور القراء، ومن هؤلاء الروائيين ﻫ. ج. ويلز في إنجلترا، وأ. بوجدانوف، وأخيرًا تولستوي وأ. بيلياييف في روسيا.

•••

وهناك بعض العلماء الذين كتبوا عددًا من الروايات والقصص عن التحليق في الفضاء. ومن بين هؤلاء العلماء ك. أ. تسيولكوفسكي.

•••

لا مراء في أن علم السفر عبر الفضاء أصبح من حقه الآن أن يُعامل على قدم المساواة مع أي فرعٍ من فروع العلوم الأخرى.

إن تاريخ علم السفر عبر الفضاء مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمجالات الأخرى للبحث العلمي؛ إذ من المستحيل مثلًا أن يُكتب لعلم السفر عبر الفضاء، البقاء دون دراية بعلم الفلك، أو دون معرفة بتعاليم نيقولا كوبرنيكوس عن بنية المجموعة الشمسية.

فقد برهن كوبرنيكوس على أن الأرض ليست هي مركز الكون، كما برهن على أن الكواكب بأكملها، وبما فيها الأرض، تدور حول الشمس، كما اكتشف يوحنا كيبلر القوانين التي تضبط حركة الكواكب، وحدَّد إسحق نيوتن بوضوح القوانين الأساسية التي تخضع لها حركات الأجرام السماوية. وكان نيوتن يرى كذلك أن من الممكن أن تنطلق قذيفة من الأرض، وتصبح بمثابة «قمر» مصغَّر، أي بمثابة كوكب صناعي تابع للأرض. كما كان يرى أن من الممكن أن ينطلق جسم من الأرض إلى الفراغ اللانهائي.

لهذا، فإن تعاليم كوبرنيكوس، والقوانين التي اكتشفها كيبلر ونيوتن، تُعتبر كلها ذات أهمية قصوى لعلم السفر عبر الفضاء؛ وذلك لأن سفينة الفضاء يمكن أن يُنظر إليها باعتبارها نوعًا من الأجرام السماوية، كما أنها سوف تتخذ لها مسارًا محددًا في غاية الدقة، وتسير فيه عبر الفضاء، وستخضع لنفس القوانين التي تخضع لها الأجرام السماوية.

ولقد ظهر علم السفر عبر الفضاء نتيجةً لتطور علم الفلك وصناعة الصواريخ.

وإذا ألقينا نظرة سريعة إلى تاريخ الصاروخ، سنلاحظ أنه معروف منذ القدم، فقد اعتاد الصينيون في الأزمنة القديمة أن يُطلقوا صواريخ من البارود؛ بقصد التسلية في الأعياد الكبرى. كما كانت تُستخدم الصواريخ في العصور الوسطى كذلك للأغراض العسكرية.

وفي نهاية القرن السادس عشر، ظهرت رسوماتٌ وأوصاف للصاروخ ذي المراحل، وظهرت في منتصف القرن السابع عشر، رسومات لصواريخ مجهزة بزعانف هوائية.

وعرفت روسيا صناعة الصواريخ منذ بداية القرن السابع عشر، وكان ذلك بفضل الجهد الذي بذله العالم أوبنزيم ميخايلوف. وقد أُسست في عام ١٦٨٠م، أول «مؤسسة للأبحاث الصاروخية»، ورأس هذه المؤسسة ك. ي. كونستانيتينوف في منتصف القرن التاسع عشر. ويُعتبر هذا العالم أعظم خبير في صناعة الصواريخ في الفترة السابقة على الثورة الروسية. وقد عمل على تطوير الصاروخ الحربي الروسي لدرجة لا بأس بها، وفي عام ۱۸۸۱م، وضع العالم الروسي ن. أ. كيبالتشيك تصميم طائرة صاروخية.

ونقح العالم الروسي الشهير ك. أ. تسيولكوفسكي (١٨٥٧–١٩٣٥م) نظرية حركة الصاروخ في الفضاء، كما وضع هذا العالم تصميم أول صاروخ يسير بوقود سائل.

وجديرٌ بنا أن نذكر من بين أتباع هذا العالم كلًّا من ف. أ. تساندر (۱۸۸۷–۱۹۳۳م)، والعالم ي. ف. كوندرانيوك، الذي توفِّي عام ١٩٤٢م.

وهناك كثيرٌ من العلماء الأجانب الذين أسهموا بنصيب وافر في علم السفر عبر الفضاء. ومن بين هؤلاء العالم روبرت أسنولت بلتيري (فرنسا)، وهرمان أوبرث، وأ. زايينجر (ألمانيا)، وروبرت ﻫ. جودارد (الولايات المتحدة)، وأ. أنانوف (فرنسا)، والعالم و. لي، وأ. هالي (الولايات المتحدة)، وي. ستيمار (السويد)، وأ. بيرجيس، وأ. كلارك (بريطانيا)، وﻫ. جارتمان (جمهورية ألمانيا الاتحادية). كما أسهمت في ذلك جمعيات دراسية ما بين الكواكب (مثل الجمعية البريطانية على سبيل المثال).

ولقد أحرزت صناعة الصواريخ تقدمًا هائلًا منذ ذلك الحين، وهذا ما تكشفه لنا الأرقام التالية: ففي العقد الثالث من هذا القرن تمكن صاروخ ذو مرحلة واحدة، يسير بوقود سائل، من أن يضرب الرقم القياسي في الارتفاع وقدره ١٣ ك.م، وفي عام ١٩٥٢م، بلغ هذا الرقم ٢١٧ ك.م، وفي عام ١٩٥٤م، ١٤ك.م.

وأحرزت الصواريخ المتعددة المراحل نجاحًا أفضل من ذلك بطبيعة الحال؛ إذ ضربت رقمًا قدره ٤٠٠ ك.م عام ١٩٤٩م، وفي عام ١٩٥٣م مسافة تقرب من ٥٠٠ ك.م، وهي الآن تبلغ ارتفاعًا قدره ألف ك.م، ومن المؤكد أن هذه الأرقام ليست بالأرقام المثيرة إلى حد كبير، إذا ما قورنت بالمسافات التي تفصل بين الأرض والأجرام السماوية الأخرى.

فالمسافة بين الأرض والقمر مثلًا تعادل هذا البعد مئات المرات، كما أن المسافة بين الأرض وأقرب الكواكب تساويها عشرات الآلاف، ومع ذلك ينبغي علينا ألا نغض من قيمة المكاسب التي أحرزتها صناعة الصواريخ.

ولو تمكَّنا من أن نزيد من سرعة الصاروخ الحديث إلى الضعف، لتحوَّل هذا الصاروخ إلى كوكب صناعي تابع للأرض، وهذا ما سنبلغه خلال سنين قليلة. ولو زادت سرعة هذا الصاروخ إلى ثلاثة أمثاله، فسوف يخرج من مجال جاذبية الأرض ويتجه إلى القمر.

ومع ذلك، فليست المشكلة من السهولة بهذا القدر. فلكي نحصل على مثل هذه السرعة، لا بد لنا من أن نخفف من وزن الصاروخ الحديث، ولا بد أن نزيد نسبة كتلته. كما يجب أن يكون بناء الصاروخ متماسكًا لدرجة قوية، حتى يقاوم درجات الحرارة والضغوط العالية. وهذه هي المشاكل التي تواجه العلماء والمهندسين الآن.

وثمَّة اعتقاد شائع بأنه لكي يستطيع الإنسان التحليق في الفضاء، فلا بد أن تحدث ثورة في فن العلوم الصناعية (التكنولوجيا)، لكنه اعتقاد خاطئ؛ إذ إن التحليق في الفضاء يتحوَّل بالتدريج إلى مسألة يمكن إجراؤها عمليًّا؛ فالنجاح الذي أحرزناه في تطور صناعة الصواريخ، وفي التحكم في حركة الأجسام عن بعد، وفي الطبيعيات، وعلم الأحياء، كل هذا يخوِّل لنا الاعتقاد بحق بأن الإنسان أصبح الآن على عتبة السفر عبر الفضاء. واليوم يشتغل علماء كثير من البلاد في هذا المجال، وليس علم السفر عبر الفضاء من الأمور التي تعني الخواص فقط، بل إنها تعني كذلك الجمهور العام بالمعنى الواسع، ولقد تكونت منذ الحرب الماضية جمعيات خاصة لعلم السفر عبر الفضاء في أكثر من عشرين قُطرًا.

ومنذ أكثر من ثلاثين عامًا مضت، تكوَّنت في الاتحاد السوفييتي جماعات من هُواة علم السفر عبر الفضاء. وفي بداية عام ١٩٥٤م، تكونت جمعية لعلم السفر عبر الفضاء، وتعرف هذه الجمعية باسم «نادي شكالوف الهوائي المركزي». وفتح هذا النادي للراغبين في السفر عبر الفضاء. ولقد شكلت أكاديمية العلوم باتحاد الجمهوريات السوفييتية الاشتراكية منذ عهد قريب لجنة للسفر عبر الفضاء، وحددت الأكاديمية جائزة لتشجيع البحث في هذا المجال، وتعرف هذه الجائزة باسم «جائزة تسيولكوفسكي». ولا شك في أن هذه الإجراءات كلها ستعجل باليوم الذي ستحل فيه مشكلة السفر عبر الفضاء.

ويمثل هذا الكتيب أحد الجهود التي تُبذل بهدف تقديم عرض موجز يكشف عن الإمكانات التي بين أيدينا الآن، والتي تساعد على السفر بين الكواكب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥