إلمَامَة

بقلم  كامل كيلاني

تعد قصة «روبنسن كروزو» من أشهر القصص العالمية التي كتب لها الخلود. وقلما تجد فتى — أو فتاة — ممن يتكلم الإنجليزية في أي بلد من بلاد العالم، لم يقرأها في شغف وسرور لا حد لهما، وهو مبتهج بتلك القصة الفاتنة، التي تشرح له كيف غرقت السفينة، ومات من فيها، ونجا واحد بمفرده من ملاحيها، وعاش في جزيرة مقفرة لا أنيس بها. وكثيرًا ما يسأل الطفل أبويه عن دقائق القصة وتفاصيلها.

وقد اتخذها رجال التربية أساسًا لتثقيف الأطفال، لأنها تعودهم الجد والدأب، وتنشئهم على الحياة الاستقلالية أحسن تنشئة. وقد جعلوها أساسًا لنظام الكشافة، كما اتخذوها مرشدًا لهم ومعينًا في اقتباس نظرية ربط المواد الدراسية ببعض.

figure

وقد ولد مؤلف هذه القصة «دانيل ديفو» بمدينة «لندن» عام ١٦٦١م، ومات في ٢٦ من أبريل سنة ١٧٣١ م. وكان مشهورًا بالصدق والأمانة.

وكان اسم أبيه «جيمس فو».

وقد ظل اسم المؤلف — منذ نشأته إلى أن بلغ الأربعين من سنيه — «دانيل فو»، ثم تغير بعد ذلك؛ فأطلق عليه الناس اسم «دانيل ديفو». وكان لهذا التغيير قصة طريفة؛ هي أنه كان متعودًا أن يمضي بحوثه ومقالاته بالحرف الأول من اسمه ويردفه بالاسم الثاني منه كاملًا هكذا «د. فو»؛ فتعود الناس أن ينطقوا باسمه هكذا: «ديفو».

ثم غلب ذلك الاسم عليه، لذيوعه وخفته على السمع وجمال موسيقاه؛ فأصبحوا يسمونه منذ ذلك الحين «دانيل ديفو».

وليس لدينا أنباء وثيقة عن نشأة هذا الكاتب النابغة، كما أننا لا نعرف شيئًا يذكر عن سيرته الأولى. وغاية علمنا أن أباه كان قصابًا (جزَّارًا) يعيش في «لندن»، وأنه قد عُنِيَ بتعليم ولده وتثقيفه العناية كلها، ولم يأل جهدًا في تعهده بالدرس والتحصيل على خيرة معلمي عصره، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة من عمره أُرْسِلَ إلى إحدى جامعات «لندن» ليتم ثقافته. وهكذا تفقه المؤلف في الدين، وبرع في علوم الرياضة والجغرافيا والتاريخ وما إلى ذلك، كما أتقن خمس لغات. وقد وُفِّقَ إلى كتابة كثير من البحوث الرائعة: من دينية واجتماعية وإصلاحية وسياسية، فكانت سببًا في إذاعة مواهبه ونبوغه بين معاصريه.

•••

وكان عصره عصر اضطرابات وثورات. وقد اشترك في بعضها، وعرض نفسه لأخطار القتل والسجن والتنكيل، فآثر الهرب إلى «إسبانيا»، حيث استخفى عامين، ثم عاد إلى وطنه. وساعده الحظ، فتزوج في «لندن». واشتغل بالتجارة، فلم يكتب له النجاح فيها؛ لانصرافه عنها إلى الكتابة والبحث. ولم تمر عليه سبع سنوات حتى أرهقه الدَّيْنُ الذي أربى على سبعة عشر ألف جنيه. ولكن ثقة دائنيه به قد ساعدته — فيما بعد — على أداء هذا الدين الجسيم.

ثم رحل إلى «برستول»، حيث أنشأ صحيفة باسمه، وكتب فيها كثيرًا من اقتراحاته الاقتصادية المثمرة؛ فأخذت بها بلاده، وأقرت آراءه فيها، وكان يحث مواطنيه على إنشاء الطرق، والمصارف الاقتصادية للفقراء، وما إلى ذلك من تنظيم الخطط الناجحة لتعليم جمهرة الشعب.

وكان لاقتراحاته تلك أكبر أثر في نفس «بنيامين فرانكلين»، الذي قرر — صراحة — أنه استفاد أكبر فائدة من البحث الذي سبقه إليه «ديفو» منذ عدة سنوات، وقد حمد الحظ السعيد الذي قاده إلى هذا البحث في مكتبة أبيه.

وقد اتصل بالملك «وليم الثالث» ودافع عن سياسته، فذاع صيته.

ولما مات «وليم الثالث» آلمه موته، وعده خسارة فادحة. وانتهز خصومه الفرصة؛ فتألبوا عليه ونكلوا به. ثم عطفت عليه الملكة «حنة»، بعد أن توسط له أحد الوزراء؛ فظلت تشمله برعايتها حتى ماتت.

كيف اشتهر ديفو؟

أما شهرة «ديفو» العظيمة، فكان بدؤها قصيدة نظمها في الدفاع عن «وليم أورنج» ملك إنجلترا حينئذٍ، ردًّا على قصيدة نظمها أحد الشعراء في التهكم به، فأكسبته عطف الملك وحب الشعب والحكومة، وأحرز منصبًا جليلًا في عام ١٦٩٤م.

وأبى إلا أن يزحم وقته بالعمل، فأنشأ مصنع طوب كبيرًا، ولكنه لم يوفق فيه لكثرة أعماله. ثم مات «وليم أورنج» في عام ١٧٠٢م، ففقد «ديفو» بموته أكبر نصير ومشجع له.

•••

وفي عهد الملكة «حنة» لقي «ديفو» كثيرًا من العنت والإرهاق؛ فتأول خصومه في بعض مقالاته ما شاء لهم الحقد والهوى. وانتهت محاكمته بسجنه، وتغريمه غرامة فادحة في أواخر يونية سنة ١٧٠٣م.

وقد شهر به خصومه، ولكن ذلك لم يقلل من إعجاب منصفيه الذين عرفوا نبل قصده وشرف غايته. وقد كتب في سجنه عدة مقالات نفيسة. ولما خرج من السجن أنشأ صحيفة أخرى نالت أكبر النجاح، وظلت تصدر إلى عام ١٧١٣م. وكانت أول أمرها تظهر مرة في الأسبوع، فمرتين، ثم ظلت تصدر تباعًا ثلاث مرات كل أسبوع.

•••

وقد لقي «ديفو» كثيرًا من الاضطهاد والعنت، وتعرضت حياته للقتل، ثم عاد بعد ذلك إلى خدمة الحكومة. وفي عام ١٧١٤م فصل من عمله، وعاد إلى التعرض للإعنات مرة أخرى. وتألب عليه أعداؤه، ودبروا له كثيرًا من الدسائس والمؤامرات، ورموه بالأنانية، فأنشأ صحيفة جديدة سماها: «الدعوة إلى الشرف والعدل». ودافع عن مبادئه وأغراضه دفاعًا مجيدًا. وكانت هذه الصحيفة خاتمة حياته السياسية. ثم ساءت صحته وألح عليه المرض، ولكن بنية جسمه القوية ساعدته على التغلب على متاعبه وأمراضه، فاسترد صحته بعد قليل.

وقد ألف كثيرًا من البحوث والمقالات والرسائل في الدِّين والحكومة والوطن. ثم ألف في أخريات أيامه نخبة من الكتب الشائقة التي أقبل عليها الجمهور أيما إقبال. وقد أدرك بفطرته تعلق الجمهور بالقصص، وشدة تأثره بها، وتهافته عليها؛ إذا كانت صادقة الوصف والتحليل، دقيقة في تصوير الحياة. فنال بقصصه نجاحًا عظيمًا؛ لأن قصته كانت تحلق دائمًا في جو سحري خلاب يزينه الصدق والدقة والإخلاص.

•••

وفي عام ١٧١٥م ألف كتاب «معلم الأسرة» فنال قسطًا كبيرًا من النجاح والذيوع، وأقبل عليه الجمهور. ثم ألف كتابه الخالد «روبنسن كروزو» وهو أشهر قصصه. وقد ظهر فيه أثر القصة العربية الخالدة «حي بن يقظان». ونشر القسم الأول منه في أبريل سنة ١٧١٩م، وكان حينئذٍ قد قارب الستين من عمره.

وقد لقي هذا الكتاب من الإقبال والشهرة ما لم يكن يحلم به «ديفو»، وأصبح حبيبًا إلى كل نفس. ومن العجيب أنه لقي كثيرًا من المتاعب والصعوبات في البحث عن ناشر ينشره له في أول الأمر. وليس في قدرتنا أن نعلم كم ربح من كتبه، وإن كنا نستطيع أن نعرف مدى نجاحه العظيم، فقد نفدت أربع طبعات متوالية في أربعة أشهر متعاقبة. وبعد زمن قليل ظهر القسم الثاني من القصة، فلقي من الرواج والنجاح والإقبال مثل ما لقي سابقه. وهكذا ظفر «ديفو» بالشهرة عن طريق هذا الكتاب، ولم يظفر بها عن طريق بحوثه السياسية والدينية الكثيرة، على أن له عدة مؤلفات أخرى.

وقد سار على نهجه بعض الكتاب، ولم يقدر لهم الفوز ولم ينجح من بينهم غير كتاب «روبنسن سويسرا» أو «الأسرة السويسرية» الذي ألفه «رودلف نيس» أستاذ الفلسفة في جامعة «برن». وقد اختار لقصته أسرة عددها ستة أشخاص، ينجون من الغرق؛ فتتألف منهم أسرة سعيدة متعاونة، يظللها الوئام والحب؛ فتتغلب على العقبات والمصاعب.

•••

على أن «ديفو» له عدة مؤلفات أخرى، نذكر منها كتابه عن «الطاعون الهائل» الذي انتشر عام ١٦٦٥م. ولكن لم يرزق أي كتاب من كتبه حظًّا من الخلود كما رزقت قصة «روبنسن كروزو». ولقد كانت كتبه شائقة جذابة، ولكن ليس لها سحر هذه القصة، وروعة هذا الملاح الذي كُتِبَ له أن تغرق سفينته وأن يعيش في جزيرة مقفرة.

•••

وقد ساعده ما ربحه من المال — لقاء كتابته — على أن يقضي بقية حياته مستريح البال، بعيدًا عن الفاقة، فابتنى قصرًا فاخرًا، واشترى عربة جياد، وعاش عيشة راضية. ولكن صفوه لم يدم، فقد نهكه مرض النقرس، وضايقه عقوق ولده؛ فعجل ذلك بموته لما استولى عليه من الغم، ودفن في «لندن» في الرابع والعشرين من أبريل سنة ١٧٣١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤