الفصل الثامن

العَوْدَةُ إِلَى الوَطَن

(١) الْمُفاجَأَةُ

ظَلِلتُ أَتَرَقَّبُ عَوْدةَ الشَّيْخِ وَالْإِسْپاني ثَمانِيَة أَيَّامٍ. ثُمَّ وَقَعَ لِي حادِثٌ لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لي على بالٍ. فقَدِ اسْتَيْقَظْتُ مِن نَوْمِي على صُراخِ «جُمْعَةَ»، وهُوَ يَصِيحُ ويُنادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «سَيِّدِي سَيِّدِي! لقَدِ اقْتَرَبُوا مِنَّا.»

فارْتَدَيْتُ ثِيابي — مِن فَوْرِي — وَأَسْرَعَتُ نَحْوَ الشَّاطِئِ. وَأجلْتُ لِحاظِي في عُرْضِ الْبَحْرِ، فَرَأَيْتُ زَوْرَقًا شِرَاعِيًّا مُيَمِّمًا١ جَزِيرَتَنا؛ وهُو عَلَى بُعْدِ مِيلٍ وَنِصْفِ ميلٍ منها. فَأَمَرْتُ «جُمْعةَ» أَنْ يَتَرَيَّثَ٢ في الْأَمْرِ، حتَّى نَتَعرَّفَ جَلِيَّتَهُ.٣ وَأكَّدْتُ لهُ أَنَّ راكِبِي الزَّوْرَقِ لَيْسُوا أصْحابَنا الَّذِينَ أَرْسَلْنا أباهُ والْإِسْپانِي لِإِحْضارِهِمْ، وليْسَ في قُدْرَتِنا أَنْ نَعْرِفَ: أَأَعْدَاءٌ لَنا أمْ أَصْدقاء؟
ثمَّ ارْتَقَيْتُ٤ قِمَّةَ الْجبَلِ، وَرَأَيْتُ — مِنْ خِلالِ مِنْظارِي — سَفينَةً واقِفَةً على مَسافةِ مِيلَيْنِ ونِصْفِ مِيلٍ تَقْريبًا. وقدْ عَرَفْتُ — مِنْ أُسْلوبِ بِنائِها — أَنّها سَفينَةٌ مِن سُفُنِ بِلادِنا؛ فَأَيْقَنْتُ أنَّ خَلاصِي مِنَ الْأَسْرِ قَرِيبٌ، وَفاضَ قَلْبي بِشْرًا وَسُرُورًا. وَلكنَّنِي شَعَرْتُ — في نَفْسِي — بِشَيءٍ مِنَ الِانْقِباضِ يُنَغِّصُ علَيَّ هذا الْفَرَحَ.
فَقَدْ تَوَجَّسْتُ٥ شَرًّا؛ لِأَنَّنِي لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُعَلِّلَ اقْتِرَابِ مثْلِ هذهِ السَّفِينَةِ منْ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ النَّائِيَةِ، عَلَى غَيْرِ حاجَةٍ إِلَى الْمُرُورِ بِها. ورَأَيْتُ — منَ الحَزامَةِ٦ وَأصَالَةِ الرَّأْيِ — أَنْ أتَرَيَّثَ؛ حتَّى أَتَبَيَّنَ الْحَقِيقَةَ واضِحةً، لا لَبْسَ فِيها ولا غُمُوضَ.

(٢) شَكْوَى الرُّبَّانِ

ولَمَّا رَسا الزَّوْرَقُ عَدَدْتُ راكِبيهِ؛ فَرأَيْتُهُمْ أحدَ عَشَرَ مِنْ بَنِي وَطَني، ورَأَيتُ — مِنْ بَيْنِهِمْ — ثَلاثةً مَشْدُودِي الْوَثاقِ. ثُمَّ قَفَزَ خَمْسَةُ رِجالٍ إِلى الشَّاطِئِ يَقُوْدُونَ أَسْراهُمْ بِالْحِبالِ، فلمْ أفْهَمْ شَيْئًا، ولَمْ أَهْتَدِ إِلى حَلِّ هذا اللُّغْزِ الْغامِضِ.

فَقالَ لِي خادِمي «جُمْعَةُ»: «لا شَكَّ في أَنَّهُمْ سَيَأْكُلُونَ أسْراهُمْ كما يَفْعَلُ بَنُو وَطَنِنا.»

فَأَكَّدْتُ لهُ أنَّ هذا لَنْ يكونَ، وَلَنْ يَتَعَدَّى انْتِقامُهُمْ مِنْ أَسْراهُمْ أنْ يَقْتُلوهُم، أمَّا أنْ يَأْكُلوهُمْ فَذلِكَ ما لا يَدُورُ لَهُمْ بِخَلَدٍ.٧
وبَعْدَ قَليلٍ تَرَكوا الْأَسْرَى في مكانِهِمْ، ثُمَّ ذَهَبُوا يَجُوبُونَ الْجَزِيرَةَ٨ مُتَنَزِّهِينَ، حتَّى السَّاعةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الظُّهْرِ. فَوَقَفُوا يَسْتَرِيْحُونَ تَحْتَ أشْجَارِ الْغابَةِ، بَعْدَ أنِ اشْتَدَّتْ حَرارةُ القَيْظِ، وَجَهَدَهُمُ٩ الْحَرُّ؛ فَانْطْرَحُوا عَلَى الْأَرْضِ، وَاسْتَسْلَمُوا لِلنَّوْمِ.
فَدَنَوْتُ مِنَ الْأَسْرَى، وَسأَلْتُهُمْ عَنْ مَصْدَرِ شَقَائِهِمْ؛ فارْتَعَدَتْ فَرائِصُهُمْ١٠ مِنْ رُؤْيَتِي. وَلكِنَّنِي طَمْأَنْتُهُمْ حَتَّى سُرِّيَ عَنْهُمْ١١ ورَأَوْا أمَلًا كَبِيرًا فِي خَلاصِهمْ.
وَقَدْ قالَ لِي أَحدُهُمْ، وَقَدْ شَرِقَتْ١٢ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ: «أنا رُبَّانُ السَّفِينَةِ الَّتِي تُقِلُّ هؤُلاءِ الْمَلَّاحِينَ. وَقَدْ ثارَ عَلَيَّ رِجالِي وَتَمَرَّدُوا، وَعَزَمُوا عَلَى أَنْ يَتْرُكُوني فِي هذهِ الْجَزِيرَةِ الْعازِبَةِ الْمُقْفِرَةِ، مَعَ هذَيْنِ الرَّفِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ أَبَيَا١٣ أنْ يَشْرَكاهُمْ فِي تَمَرُّدِهِمْ وَعِصْيانِهِمْ.»

(٣) النَّصْرُ

فسَأَلْتُهُ: «أَتُعاهِدُني عَلَى أنْ تُقِلَّني وَصاحِبىِ «جُمْعَةَ» فِي سَفِينَتِكَ، إِذَا أنْقَذْتُكَ مِنْ هذِهِ الْوَرْطَةِ١٤؟»

فَقال: «لَوْ تَمَّ ذلِكَ لَأَصْبحْتُ رَهْنَ إِشارَتِكَ.»

فَرَسَمْنا خُطَّةً بارِعَةً لِلْقَبضِ عَلَى الْعُصاةِ، والِاسْتيلاءِ عَلَى زَوْرَقِهِمْ.

وَقَدْ فاجَأْناهُمْ وَهُمْ نائِمُونَ، وَأَوْهَمْتُهُمْ أَنَّ لَدَيَّ جَيْشًا كَبِيرًا؛ فاضْطُرَّ أَكْثَرُهُمْ إِلَى الْإِذْعانِ،١٥ وَعاهَدُونا عَلَى الْإِخْلاصِ.

ثُمَّ ذهَبَ الرُّبَّانُ و«جْمُعَةُ» وَرِفاقُهُ إِلَى السَّفينَةِ، وَأَسَرُوا وَكِيلَ الرُّبَّانِ وَمَنْ أَلْهَبَ مَعَهُ نَار الْفِتْنَةِ، وَأَطْلَقُوا سَبْعَ طَلقَاتٍ مِنْ مَدْفعِ السَّفِينَةِ إِعْلانًا لِانْتِصارِهِمْ. فَلَمْ أَعُدْ أَتَمالَكُ مِنَ الْفَرَحِ، وَلَمْ أَكَدْ أُصَدِّقُ ما أَرَى؛ فارْتَمَيْتُ عَلى فِراشِي، وَاسْتَسْلَمْتُ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ.

figure
ثُمَّ جاءَ الرُّبَّانُ وَعانَقَني، وَقالَ لِي: «إِنَّ السَّفِينَةَ وَرُبَّانَها وَمَلاَّحِيها لَيْسُوا إِلَّا مِلْكَ يَدَيْكَ وَطَوْعَ إِشارَتِكَ.» فأَيْقَنْتُ — حِينئِذٍ — بِالْخَلاصِ، وغَلَبَنِيَ السُّرُورُ عَلى أَمْرِي؛ فَلَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَنْبِسَ١٦ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.
ثُمَّ أَفَقْتُ مِنْ ذُهُولي ودَهْشَتي، فَأَقْبَلْتُ عَلَى الرُّبَّانِ أُعانِقُهُ وأَشْكرُ لَهُ أَحْسَنَ الشُّكْرِ. وَقَدْ أَحْضَرَ لِيَ الرُّبَّانُ هَدايا فاخِرَةً، وأَطْعِمَةً لَذِيْذَةً، وثِيابًا جَمِيلةً، وَما إِلَى ذلِكَ مِنَ التُّحَفِ والطُّرَفِ.١٧

(٤) مُعَدَّاتُ السَّفَرِ

وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْنا إِلَّا أَنْ نَتَأَهَّبَ لِلسَّفَرِ. وَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُنا على تَرْكِ زُعَمَاءِ الثَّوْرَةِ مِنَ الْمَلَّاحِينَ فِي تِلْكَ الْجَزِيرَةِ؛ حَتَّى لا يُفْسِدُوا عَلَيْنا أَمْرَنا. وَقَدْ شَرَحْتُ لَهُمْ وَسائِلَ الْعَيْشِ وَأَسالِيبَ الْحَيَاةِ فِي تِلْكَ الْبِقاعِ،١٨ وَعَلَّمْتُهُمْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ الْخُبْزَ، وكَيْفَ يَبْذُرُونَ وَيَحْصُدُونَ، وَكَيْفَ يُجَفِّفُونَ الْعِنَبَ، وَما إِلى ذلِكَ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ. ثُمَّ ذَكَرْتُ لَهُمْ أَنَّ سِتَّةَ عَشَرَ إِسْپانيًّا قادِمُونَ عَلَيْهِمْ — بَعْدَ أَيَّامٍ قَلِيلَةٍ — وَتَرَكْتُ مَعَهُمْ كِتابًا إِلَيْهِمْ أُوصِيهِمْ بِهِمْ خَيْرًا. وَأَخَذْتُ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثيقَ والْعُهُودَ أَنْ يَعِيشُوا جَمِيعًا مُتَعاوِنِينَ مُتَحابِّينَ.

وَتَرَكْتُ لَهُمْ ما كانَ لَدَيَّ مِنْ سِلاحٍ، وَهُوَ خَمْسَةُ مُسَدَّساتٍ، وَثلاثُ بُنْدُقِيَّاتٍ، وَثلاثَةُ سُيُوفِ، كما تَرَكْتُ لَهُمْ كلَّ ما بَقِيَ عِنْدِي مِنَ الْبارُودِ والرَّصاصِ. وَشَرَحْتُ لَهُمْ: كَيْفَ يَتَعَهَّدُونَ الْمِعْزَى؟ وَكَيْفَ يَحْلُبُونَ لَبَنَها؟ وَكَيْفَ يَصْنَعُونَ مِنْهُ الزُّبْدَ والْجُبْنِ؟

(٥) فِي أَرْضِ الْوَطَنِ

وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي وَدَّعْتُ هذهِ الْمَمْلَكَةَ النَّائِيَةَ، وأَخَذْتُ مَعِي قَلَنْسُوَتِي — وهِي مِنْ جِلْدِ مَاعِزٍ، كما عَلِمَ القارِئ — ومِظَلَّتي وبَبَّغائِي. وأَخَذْتُ ما كانَ عِنْدِي مِنَ النُّقُودِ، وَقَدْ عَلاها الصَّدَأُ لِطُولِ احْتِجابِها فِي أَثْناءِ هذِهِ الْأَعْوامِ.

figure
ثُمَّ أَقْلَعَتْ بنا السَّفِينَةُ فِي التَّاسِع عَشَرَ مِنْ «دِيسمْبِرَ» عامَ ١٦٨٦م بعْدَ أنْ لَبِثْتُ فِي هذِهِ الْجَزِيرَةِ ثَمانِيَةً وعِشْرِينَ عَامًا وشَهْرَيْنِ وتِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وقَدْ فَرِحَ «جُمْعَةُ» بِمُرَافَقَتي إِلى بِلادِي، وآثَرَ صُحْبَتي١٩ على كُلِّ شَيْءٍ.

ومِنْ عَجيبِ الْمُصادَفاتِ أَنَّ يَوْمَ خَلاصِي مِنْ هذِهِ الْجَزِيرَةِ وافَقَ يَوْمَ خَلاصِي مِنَ الْأَسْرِ فِي رِحْلتَي السَّابِقةِ، الَّتِي عَرَفَها القارِئُ العَزِيزُ.

وفِي الْيَومِ الْحَادِي والْعِشْرِين مِنْ شَهْرِ «يُنْيَةَ» عامَ ١٦٨٧م وَصَلْتُ إِلى «لَنْدَنَ» بَعْدَ أَنْ غِبْتُ عَنْها خَمْسَةً وثَلاثِينَ عامًا.

(٦) السَّفَرُ إِلَى لِشْبُونَةَ

وَرَأيْتُني غَرِيبًا في بِلادِي، وَوَجَدْتُ والِدَيَّ قَدْ ماتا مُنْذُ زَمَنٍ طوِيلٍ، وَلَمْ أَجِدْ أحَدًا يَعْرِفُنِي مِنْ رِفاقِي الْقُدَماءِ؛ فَعَزَمْتُ عَلَى السَّفَرِ إِلى «لِشْبُونَةَ»، لِأَتعرَّفَ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِفْسارِ عَمَّا آلَتْ إِلَيْهِ دَسْكَرَتِي،٢٠ في «الْبَرَازِيلِ». وقَدْ عَجَّلْتُ بِالسَّفَرِ إلَى «لِشْبُونَةَ» — وَمَعِي «جُمْعَةُ» — فَبَلَغْناها في «أَبْرِيلَ».
وَعَثَرْتُ — لِحُسْنِ حَظِّي — على رُبَّانِ السَّفِينَةِ الَّذِي أَنْقَذَني في رِحْلَتِيَ الْأُولَى حِينَ فَرَرْتُ مِنَ الْأَسْرِ، وكانَ قَدْ شاخَ وَتَرَكَ سَفِينَتَهُ لِوَلَدِهِ فذَكَّرْتُهُ بقِصَّتي، وَسَأَلْتُهُ عَنْ دَسْكَرَتِي فِي «الْبَرَازِيلِ»؛ فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْها مُنْذُ تِسْعِ سَنَواتٍ، وَأَنَّهُ لَمْ يَأْلُ جُهْدًا فِي إِرْسالِ الرُّسُلِ إِلَى شُرَكائِي، حَتَّى ظَفِرَ — بَعْدَ بَضْعَةِ أَشْهُرٍ — بِنَصِيبِي مِنَ الْمالِ وَالْبَضائِعِ؛ فَأَرِبَتْ٢١ ثَرْوَتِي على خَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْجُنَيْهاتِ.

وَقدْ ضَمِنْتُ بِذلكَ رَيْعًا سَنَوِيًّا — مِنْ ضَيْعَتي بِالْبَرَازِيلِ — لا يَقِلُّ عَنْ أَلْفِ جُنَيْهٍ؛ فَأَجْزَلْتُ مُكافَأَةَ الرُّبَّانِ الْمُحْسِنِ، اعْتِرَافًا بِفَضْلِهِ عَلَيَّ، وَصَنِيعِهِ الَّذِي أَسْلفَهُ إِلَيَّ.

وَبَقِيتُ عِدَّةَ أَشْهُرٍ حائِرًا مُضْطَرِبًا، لا أَدْرِي: إِلَى أَيِّ بَلَدٍ أَقْصِدُ؟ ثُمَّ اسْتَقَرَّ عَزْمِي عَلَى السَّفَرِ إِلَى «إِنْجِلْتِرا».

١  قاصدًا.
٢  يتمهل.
٣  حقيقته.
٤  صعدت.
٥  أحسست.
٦  الحكمة.
٧  لا يمر بعقلهم.
٨  يجولون فيها.
٩  أتعبهم.
١٠  فزعوا.
١١  ذهب خوفهم.
١٢  امتلأت.
١٣  امتنعا.
١٤  إذا خلصتك من هذا المكان الذي يعرضك للهلاك.
١٥  التسليم.
١٦  أنطق.
١٧  الأشياء الغريبة الثمينة.
١٨  الأراضي.
١٩  اختار أن يلازمني.
٢٠  قريتي.
٢١  زادت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤