تطريق فؤاد صلد

بعد ساعة من الزمان حسبها يوسف عامًا انفتح الباب، ودخل منه جورجي آجيوس وفي يده المصباح والكرسي ثم جلس، فلما تبينه يوسف جحظت عيناه، وقال محرقًا الأرَّم: رح اشنق نفسك.

– لماذا؟

– كذا فعل يهوذا قبلك.

– أنا أرقى من يهوذا.

– لم يجسر يهوذا أن يرى سيده بعد تسليمه.

– لذلك أنا أرقى منه؛ فهو ابتدأ ولم يكمل، أما أنا فأكمل ما ابتدأت.

– ماذا عساك أن تفعل بعد تسليمي؟

– ماذا بعد التسليم غير الصلب؟

– إذن نحن عدوَّان.

– بل نحن صديقان كما كان يهوذا والمسيح قبلنا.

– ولكن الفرق بين يهوذا والمسيح كان عظيمًا جدًّا.

– والفرق بيني وبينك أعظم.

– كيف ذلك؟

– كان المسيح ويهوذا إنسانين.

– ونحن؟

– أحدنا حيوان.

– إذن تعترف أنك حيوان!

– لو كنتُ حيوانًا لشنقت نفسي كما فعل يهوذا بعد تسليم سيده.

– إذن أنا الحيوان؟

– نعم، وأنا الإنسان.

– كيف ذلك؟

– لأن الإنسان شرير والحيوان صالح، الإنسان يكذب والحيوان يصدق، الإنسان يظلم والحيوان يرحم، الإنسان ينتقم والحيوان يسامح، الإنسان غادر والحيوان أمين، فأنت سيئ الحظ؛ لأن صديقك إنسان فليتك إنسان، فما كنت تركن إليَّ، أو ليتني حيوانٌ فما كنت أغدر بك.

– أود أن أصوغ منك حيوانًا.

– يستحيل عليك أن تحول النحاس إلى ذهب.

– بكم بعتني يا جورجي؟

– بقدر ما أخسرتني.

– ماذا أخسرتك؟

– أخسرتني ألفًا وخمسمائة جنيه.

– بعتني بأغلى من المسيح.

– لأني أذكى من يهوذا، فأعرف كيف أساوم.

– هل قبضت الثمن؟

– متى أنجزت مهمتي أقبض ثلاثة آلاف جنيه.

– تغدر بي لأجل ثلاثة آلاف جنيه؟

– بل لأجل حياتي.

– هل حياتك في خطر؟

– كلا، وإنما قوتي في خطر من ضعف الهرم، فبثلاثة آلاف جنيه أكسب آخرتي، أما نصحت لي أن أستعد لآخرتي؟ فها أنا أستعد لها.

– أبهذا الغدر تستعد لها؟

– لم أجد أسهل من هذه الوسيلة.

– تقول: متى أنجزت مهمتك تقبض الثمن، فمتى تنجزها؟

– متى عادت الفتاة إلى أمها.

– إذن كسبك يتوقف على تسليمي الفتاة.

– وحياتك أيضًا تتوقف على هذا التسليم.

– تعني: إما حياة الفتاة لها أو حياتي لي وآلاف الجنيهات لك.

– بل الكل معًا أو لا شيء.

– تعني أن نضحي بحياة الفتاة؛ لكي أخلص أنا وتكسب أنت.

– لا خطر على حياة الفتاة ولا نضحي بها.

– نعم، نضحي بحياتها الأدبية.

– ستتزوج الفتاة رجلًا وفير الثروة، وتكون في نعيم لم تحلم به.

– إن ما تعده أنت نعيمًا تعده هي جحيمًا، وإلا ما نفرت من هذا الزواج.

– لم تنفر إلا لأنك أريتها الوجه المظلم في هذا الزواج، فلو أريتها الوجه المنير ما نفرت، بل كانت تتمتع بأحلام النعيم الذي ستصل إليه.

– لم أُرِها إلا الحقيقة ناصعة، فرأت الوجهين وأدركت أن الظلمة أبدية ثابتة، وأن النور ومضة زائلة؛ ولهذا نفرت من تلقاء نفسها.

– أنت ظلمت هذه الفتاة.

– بماذا ظلمتها؟

– هي تمثال من شمع وأنت طبعت عليه مبادئك.

– أبهذا ظلمتها؟

– نعم؛ لأن مبادئك تؤدي إلى الشقاء، راجع تاريخ حياتك القصير في مصر، وقل إلى أي سعادة أدت بك هذه المبادئ، فلو تركت الفتاة بين يدي أمها تطبع في خلقها مبادئها، لكانت الفتاة وهي زوجة ذلك الغني تشعر أنها في نعيم تحسدها عليه ألوف الفتيات.

– ظلت أمها تطبع مبادئها فيها خمسة عشر عامًا، وأنا لم أطبع فيها من مبادئي إلا مدة ساعة، فلو لم تكن مبادئي أصح ما …

– ما زالت الفتاة طينة لينة يسهل نسخ القديم منها وطبع الجديد فيها، ردها لأمها فتنسخ منها ما طبعته أنت وتطبع ثانية ما نسخته.

– لم تستطع أمها طبع شيء، بل كانت تحسن التمويه على عين بصيرتها، فلما أزلت أنا هذا التمويه رأت الفتاة الحقيقة من نفسها، فنفرت من نصائح أمها.

– ما هذا التمويه الذي أزلته أنت؟

– أخبرتها أن للرجل ثلاث خليلات، فإذا تزوجته كانت رابعتهن.

– بهذا ظلمتها؛ لأنك لو تركتها في عماها لكان في وسع الرجل أن يضع على بصيرتها غشاءً فوق غشاء من عيشة الرخاء، فتشعر أنها في نعيم دائم أنت تحرمها منه الآن؛ ولذلك أقول: إنك ظلمتها.

– أتعد عيشة الفجور نعيمًا؟

– نعم، سل الرفيقات الثلاث يخبرنك عن نعيمهنَّ، فلو خُيرت إحداهنَّ بين مرافقة الرجل والسماء لاختارت مرافقته.

– نعم؛ لأنها لا تعلم ما هي سماء الحياة الأدبية، فهي معذورة إذا فضلت المعلوم على المجهول، فلو خيرت فتاة انطبعت فيها مبادئ الحياة الروحية بين هذه الحياة مع القلة، وبين حياة الفساد مع الثروة لفضلت تلك.

– كأنك تقول لي:

لكل امرئٍ من دهره ما تعودا

– نعم.

– إذن لماذا لم تترك هيفاء تتعود الحياة الأخرى الجسدية؟

– لأنها تعودت الحياة الروحية أولًا، فإذا جربت الأخرى، وجعلت أخيرًا تقابل بينهما شعرت أنها سقطت في شقاء هائل لا تعود تستطيع الخلاص منه، فأنا أريد أن أنجيها من هذا السقوط.

– أتعد عيشة الغنى والسعة شقاءً وسقوطًا؟

– نعم، سل أي واحدة من أولئك الرفيقات: هل تريدين أن تعيشي عيشة زوجية طاهرة ليس فيها استعباد للسعة، ولفضل الرفيق الذي لا يرضيه شيء؟ تتنهد وتقل لك: «آه لو يمكن ذلك!» فهل تنكر أنه يستحيل؟ نعم يستحيل؛ لأنها سقطت إلى هاوية عميقة ولا يمكن أن تصل إليها يد لتنتشلها، أفلا تعد ذلك سقوطًا هائلًا؟

ففكر جورجي هنيهة، وقال: ولكن هذه القاعدة ليست مطردة، أفلم ترَ امرأة تركت الحياة الزوجية الطاهرة، واتخذت الحياة الجسدية الفاسدة؟

– نعم، ولكن سلها ذلك السؤال بعد ذلك تجبك نفس الجواب.

– قد تجيب نفس الجواب وقد تجيب عكسه.

– إن أجابت عكسه كان لها بعض العذر، وكان لذلك سبب، ولكن ليس جوابها سنَّة ما دامت هناك ساقطات يتحسرن على النهوض.

– كأنك تقول لي: إن النساء صنفان صنف يندم وصنف لا يندم.

– نعم، والصنف الأول أغلب، وهيفاء منه، وأنا أريد أن أقيها الندم على زلة القدم.

– ما أنت مسئول عن الفتاة.

– بل أنا مسئول؛ لأني تعهدت لها بالخلاص والإخلاص فلا أنقض عهدي.

– هل تريد أن تتزوجها.

– لا لا.

– إذن أنصح لك أن تسلمها.

– لن أسلمها.

– إذن أتأسف أنك لم تقبل نصائحي والأخير منها أثمنها.

ونهض جورجي وحمل فانوسه وكرسيه، وهمَّ أن يخرج، فصاح به يوسف قائلًا: جورجي.

– نعم.

– تعال اجلس.

فجلس جورجي قائلًا: جلست، ماذا تريد؟

– أليس لك قلب؟

– كان لي، وأما الآن فأنا بلا قلب.

– أنا أرد قلبك إليك.

– لا أريد استرداده؛ لأني بلا قلب أسعد حالًا مني به.

– لقد نسيت لذة القلب يا جورجي.

– لم أنس لوعته.

– إذن لم يزل لك أثر قلب، فبالله قل لي: كيف فقدت قلبك؟

– فقدته مع بنيَّ وزوجتي.

– هل تريد أن يكون لك بنون؟

– لا.

– لا تجاوب بلا تعليل.

– لماذا أريد أن يكون لي بنون؟

– لكي تعيش بقية العمر أسعد منك الآن.

– كيف أعيش أسعد مني الآن؟

– بحب البنين.

– أبعد هذه الشيخوخة أستطيع أن أحب.

– تحب حبًّا أعظم من حب الشبيبة.

– وهل بقي من العمر ما يكفي للزوجة والبنين؟ إنك تدفعني إلى تعاسة.

– أي تعاسة هذه؟

– تعاسة أن أرى زوجة وأطفالًا لا أستطيع أن أعولهم مع نفسي، فأموت منغصًا وتعيش عائلتي بعدي شقية، لا لا، إن نصحك معكوس النتيجة.

– وما قولك إذا كنت أبًا لأولاد كبار لا ينغصك تركهم، ولا يشقون بعدك؟

فضحك جورجي قائلًا: وهل تظن أني أحب أولادًا ليسوا من دمي؟

– لماذا كنت تحب بنيك؟

– لأني ربيتهم وبذلت روحي لأجلهم فأحبوني.

– وإذا كنت الآن تبصق على الثلاثة آلاف جنيه؛ لتخلص حياة فتى جسدية وحياة فتاة روحية، فكم تظن يكون حبهما لك؟

ففكر جورجي مطرقًا وبقي صامتًا، فقال له يوسف: أود أن تتصور كم يكون حب يوسف وهيفاء لك، لا تستطيع أن تتصور ذلك طبعًا.

فرفع جورجي نظره إلى يوسف وقال متنهدًا: الحق أني لا أدري.

– أنا أصور لك ذلك، هل تعرف حكاية الأسد؟

– ما هي حكاية الأسد؟

– قيل: إن أميرًا كان يحب فتاة، وكانت الفتاة تحب سواه ففرَّت من أمام وجهه وتاهت في البراري، فأرسل عصابة وراءها، فلجأت الفتاة إلى كهف وباتت فيه، فلما طلع الصباح استيقظت على أنين مخيف، فرأت في جانب من الكهف أسدًا مضَّجعًا يتألم كأنه يموت، فجزعت في أول الأمر ورامت أن تنسل من الكهف، ولكنها رأت العصابة التي تطاردها، فخافت أن تقع في أيديها وفضلت أن تقع فريسة للأسد على أن تكون فريسة للأمير، فتقدمت إليه ورأت في رجله شوكة كبيرة، فأدركت سر أنينه، فشدَّدت قلبها وتقدمت إلى رجله واستخرجت الشوكة منها، وهو ينظر إليها، ولما استراح الأسد خرج من الكهف فطاردته العصابة، وتغلبت عليه وأسرته، وبعد ذلك لم تستطع الفتاة فرارًا من وجه العصابة، فوقعت في يد الأمير، ولما عجز الأمير عن استمالتها إليه أمر أن تربط إلى عمود في رحبة مسورة بالحديد وأن يطلق الأسد عليها، وكان ما أمر، فهل تعلم ماذا حل بالفتاة؟

– هل أعرض الأسد عنها؟

– بل حلَّ وثاقها، أليس ذلك عجيبًا؟

فقال جورجي مكفهرًّا: ليس عجيبًا؛ لأن الأسد حيوان يذكر الجميل والأمير إنسان مفترس.

– حسن، فما قولك بحيوانين أرق من الأسد قلبًا، وكم يكون حبهما لك إذا أنقذت حياتيهما؟!

– يكون شديدًا طبعًا.

– فما قولك إذن أن تنقذني، وكلانا ننقذ هيفاء ونعيش أنا وهيفاء معك كولدين لك، ونعنى بك كأب حتى آخر نسمة من حياتك؟

فكاد جورجي يجهش بالبكاء، ثم تجلد وقال: ما زلت يا يوسف خياليًّا، وتريد أن تمثل تمثيلًا، إذا كنا أنت وأنا حرَّين لنمثل هذا الدور، فهيفاء ليست حرَّة بل هي مقيدة بأم لا تزال حية.

– لقد صَدَقْتَ، إنها حية تلسع، فما هي أم هيفاء.

– صفها ما شئت، وأما هي فتعتقد أنها تخدم ابنتها.

– قلت لك: ليست هيفاء ابنتها ولا تلك المرأة الفاجرة أمها، بل هي خالتها وقد لا تكون خالتها أيضًا.

– ماذا تقول؟

– أقول: إن هيفاء قالت لي: إنها تعرفها خالتها، وإنما تلك المرأة السليطة تدعي الآن أنها أمها.

– ألا تعرف هيفاء أمها الحقيقية؟

– كلا، لا تعرف أمها ولا أباها، ولم تعِ على هذا العالم وشقائه إلا وهي في حوزة تلك الفاجرة، وهي ادعت لها أنها خالتها لا أمها، فلا يبعد ألا تكون خالتها أيضًا؛ ولهذا أقول لك: إن هيفاء تقدر أن تتحرر من رق تلك الفاجرة بمجرد إرادتها.

فسكت الاثنان هنيهة، ثم قال جورجي: قد أصبحتُ رجلًا شريرًا يا يوسف، فلماذا تحاول عبثًا أن تشتق مني رجلًا طيبًا، لا طيب من الخبيث.

– لا بد أنك كنت قبلًا رجلًا طيبًا، فليس مستحيلًا أن تعود إلى أصلك، فأصل الشوكة بزرة في وردة ثم نضجت فأزهرت وردة أيضًا.

فبقي جورجي ساكتًا هنيهة، ثم وقف يريد الخروج، فقال له يوسف: إذا قررتم تنفيذ قضائكم عليَّ فلي عليكم شرط واحد.

– ما هو؟

– هو أن تنفذ القضاء أنت وحدك.

– تعني أنك تريد أن تجمع كل الجمر على رأسي.

– لا، بل أريد ألا تمتد إليَّ يدٌ دنسة، فهل عندكم فرقٌ إذا كان الموت واحدًا؟

ففتح جورجي الباب، فقال له يوسف: أرجو منك معروفًا واحدًا.

– ما هو؟

– هو ألا تدعني أرى غيرك.

فأقفل جورجي الباب وهو يكفكف دموعه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤