كيف اهتدت ليلى إلى يوسف؟

انتهت المناجاة الروحية بين ليلى ويوسف، فهمَّت ليلى أن تنهض لتنطلق فقال لها: إلى أين؟

– تعود المادة إلى حيزها.

– للمواد نصيب من التفاهم أيضًا، فقبل أن تفارقيني أود أن أعلم من أرشدكِ إليَّ.

– الذي أعطاني مفتاح سجنك.

– إذن تعرفينه! فمن هو؟

– أنت تعرفه، وهو صديقك اليوناني.

– كيف عرفتِ أنه صديقي؟

– لأني رأيته معك غير مرة.

فاحمرَّ يوسف خجلًا؛ لأنه تذكر حين لمحها في المركبة مع أخيها من حانوت اللفائف، إذ كان جورجي آجيوس يكلمه، فأحجم عن التمادي في هذا الموضوع، وقال: كيف اتصل اليوناني بكِ؟

– جاء في هذا المساء إلى منزلنا يسأل عن عمي؛ لأنه يعتقد أن منزلنا منزله، وعمي يسكن في الطبقة التي فوقنا، ولم يكن في المنزل أحد غيري، وحالما رأيته عرفته اليوناني الذي يعرفك، فوددت أن أتسقط منه أخبارك؛ لأني قصدت مرة إلى حانوت اللفائف فلم أرَك فيه، فسألت صاحبه فقال: إنك خرجت ولم تعد، فقلقت عليك وصرت أود أن أرى من يعرفك لكي أسأل عنك، فلما رأيت ذلك اليوناني استبشرت، ولما دخل رحبت به فقال: «أود أن أرى المسيو بولس.» فقلت له: «لم يأتِ بعد فماذا تريد؟»

قال: «أود أن أخاطبه بأمر.»

فقلت: «ما هو الأمر لعلي أستطيع أن أفيدك شيئًا.»

فقال: «علمت أنه يبحث عن فتاة.»

فقلت: «نعم، فهل تعرف عنها شيئًا؟»

قال: «أعرف.»

فقلت: «وتريد أن تقول لعمي ما تعرف؟»

فقال: «نعم، بل إذا شاء أشاركه بالبحث عنها.»

فقال يوسف: ولماذا يبحث عمكِ عن الفتاة؟

فقالت ليلى: لأن قسيسًا جاء من الشام لهذا الغرض، ومعه وصية تنطق بميراث عظيم لها.

– يا للعجب!

واستمرت ليلى تروي قصتها، فقالت: فسألت اليوناني: «هل تريد أن تقول لي ماذا تعرف عن الفتاة؟»

فقال: «أعرف شخصًا يعرفها.»

– والحق أقول لك يا يوسف: إنه أول ما خطر لي أن هذا الشخص الذي يعنيه هو أنت.

فقال يوسف: لماذا خطر لكِ هذا الخاطر؟

– لأنه بعد أن ذهبت الفتاة من عندي لم أعد أسمع بخبرها فأسأت الظن بك، لا تنقم فالحق عليك.

– لقد تفاهمنا يا ليلى؛ فلم يبق من داعٍ للنقمة، ثم ماذا؟

– فقلت لليوناني: «وأنا أعرف من يعرفها، فمن هو الذي تقول: إنه يعرفها؟»

فتردد في الجواب قائلًا: «أود أن أقول هذا لعمكِ وحده.»

فقلت: «لا بأس من أن تقول لي أيضًا؛ لأني أعرف كل شيء وعمي يقول لي كل شيء.»

قال: «إذن أنتِ تبحثين مع الباحثين.»

فقلت: «نعم؛ لأن الفتاة كانت عندي بضعة أيام قبل اختفائها.»

ففكر الرجل هنيهة ثم قال: «أظن أنك تعنين بالذي يعرف الفتاة يوسف برَّاق.»

قلت: «نعم، وهل هو من تعنيه أنت؟»

قال: «نعم.»

قلت: «وبالطبع سألت يوسف برَّاق عنها.»

قال: «سألته فأبى أن يجيب.»

فقلت: «هل أنكر أنه يعرف أين هي؟»

فقال: «بل أقرَّ أنه هو الذي خبأها، ولكنه لا يريد أن يدل عليها.»

فقلت: «إذن هو محتظيها.»

فقال: «كلا، بل هو ينكر ذلك.»

فقلت: «إذن لماذا يخفيها؟»

فقال: «لا أدري قصده.»

فقلت: «لو كنت أجتمع بيوسف لحظة واحدة لكنت أكشف أسراره؛ فهل تدلني أين أجده؟»

فسكت الرجل وبعد هنيهة قال: «لا أدري.»

ولكن سكوته رابني، فقلت: «لا تنكر عليَّ، تعرف أين يوجد، فإذا كنت تقول لي أعدك أني أستخرج منه الحقيقة بسؤال واحد.»

فقال: «لا أدري على ماذا تتكلين في استجوابه، فقد جربت كل طريقة فلم أنجح.»

فقلت: «أما أنا فواثقة بالنجاح كل الوثوق؛ لأن لي طريقة ليست لغيري، فأين أجده؟»

ففكر الرجل هنيهة ثم قال: «أود أن أعرف أمرًا، هل أنتم واثقون أن الفتاة، التي تبحثون عنها هي نفس الفتاة التي خبأها يوسف؟»

فقلت: «نعم، هي نفسها، وتدعى هيفاء، وأمها تدعى نديمة الصارم، وقد عرفنا أنها مختفية عن أمها، ولم يبق علينا إلا أن نكتشف مقرها.»

فقال: «وهل عرفتم أن يوسف برَّاق خبأها؟»

فقلت: «نعم؛ ولهذا نبحث عن يوسف برَّاق، وإذا لم نجده فنبحث عنك لأنك تعرفه.»

فقال يوسف: هل كنتم تعلمون كل ذلك حقيقة؟

فقالت ليلى: كلَّا، وإنما أنا استخرجت هذه الحقائق من اليوناني بدعوى أني عارفة أكثر مما يعرف، والحقيقة أننا لم نؤكد حتى الآن إن كانت هي نفسها الفتاة المقصودة، وإنما رجحنا ترجيحًا يقارب التأكيد، ومتى اجتمعنا بالفتاة أمكننا أن نستجوبها لنعلم شيئًا عن حقيقة أمها، وما إذا كانت أمها فعلًا أو خالتها؛ لأن تلك المرأة نديمة لم تزل سرًّا؛ ولهذا لما عرفت من قول جورجي أنك أنت خبأتها صرت أود الاجتماع بك بدعوى البحث عن الفتاة، ولما أكدت لليوناني أني أستطيع استخراج الحقيقة منك إذا دلني عليك، فكر هنيهة طويلة ثم قال: «أقدر أن أدلك عليه ولكن لي شروطًا.»

فقلت: «ما هي شروطك؟»

فقال: «لا أدري إذا كنت تستطيعين القيام بها.»

فقلت: «أستطيع أن أنفذها حرفًا حرفًا مهما كانت.»

قال: «هل تقسمين أنكِ تبرين بوعدك؟»

قلت: «أبر وأقسم.»

قال: «لا أقدر أن أقول لك شروطي هنا.»

فقلت: «أين إذن؟»

فقال: «في أي مكان غير هذا، فهل تستطيعين أن تخرجي من هذا المنزل، وبعد ذلك نذهب إلى حيث تشائين؟»

قلت: «أخرج إذا كان الخيار لي.»

وفي الحال نهضت وارتديت ثوبي بسرعة، وخرجت مع الرجل وأنا بين الخوف والأمل، والشك واليقين، ومشينا إلى شارع عباس وهو يمشي إلى جنبي، فقلت: «قل شروطك.»

قال: «قبل كل شيء أقسمي لي أنك لا تقولين كلمة مما أقول لك.»

قلت: «أقسم لك أني لا أقول.»

قال: «إن أهل الفتاة — أعني أمها وخطيبها — يبحثان عنها كما تبحثون أنتم، وقد اعتقدوا أن يوسف اختطفها واحتظاها؛ ولهذا سوغوا لأنفسهم أمرًا قد لا يسوغ، وكلفوني بهذا الأمر لقاء مبلغ كبير فاغتررت بالمبلغ وأنفذت الأمر؛ ولا سيما لأنه لا أذى فيه لأحد، ولكن فيه مصلحة لهم …»

فخفق فؤادي لهذا الخبر، ولكني لم أبدِ جزعًا وقلت: «إذا كان الأمر كما تقول، فيحق لهم أن يفعلوا كل وسيلة للاهتداء إلى الفتاة، فما هذا الأمر؟»

قال: «طلبوا إليَّ أن أتملق يوسف؛ لأنهم علموا أني صديقه وأن أقوده إليهم بأي حيلة، فاحتلت عليه وأخذته إليهم موثقًا، فجعلوا يستجوبونه متوعدين تارة، وواعدين أخرى فلم يفلحوا باستجوابه.»

فقلت: «ولماذا لم يعرضوا الأمر على دائرة البوليس؟»

فقال: «لأنهم اعتقدوا أن يوسف ينكر كل شيء فلا تفيدهم دائرة البوليس أمرًا، ولعل عندهم أسبابًا أخرى لا أعلمها، ففضلوا أن يأسروه ويتهددوه، وهكذا كان.»

فقلت: «ويوسف لا يزال أسيرًا؟»

فقال: «نعم، وأنا الذي سلمته، ولو لم أكن قد قبضت المبلغ الوافر لندمت.»

فقلت: «والآن ماذا تشترط عليَّ إذا أرشدتني إلى سجنه؟»

قال: «أشترط عليك أولًا أن تشترطي على يوسف أن يغتفر لي؛ ولا سيما لأننا لم نقصد أذاه بل مجرد استجوابه، وما كان التهديد إلا تهويلًا فقط.»

فقلت: «حسن، أعدك بذلك.»

فقال: «وله بعض المبلغ الذي قبضته إذا أراد، بقي لي شرط آخر وهو أنه متى أقر بمكان الفتاة تخبرينني عنه، حتى أدل أهلها عليها وآخذ المبلغ الآخر الموعود به، وبعد ذلك لكم أن تفعلوا ما شئتم.»

قلت: «وأعدك بذلك، فأين يوسف الآن؟»

فتناول مفتاحًا من جيبه، وقال: «هذا مفتاح ثانٍ للمنزل قد اختلسته لمثل هذه الحاجة، فخذيه الآن واذهبي إلى المنزل وهناك لا تجدين أحدًا الآن غير يوسف، فافعلي ما تستطيعين.»

قلت: «هذا هو المفتاح، فأين المنزل؟»

فضحك وقال: «ما هو القسم الذي تقسمينه أنك تبرين بالوعد؟»

فأقسمت له يمينًا مغلظة حتى وثق بي تمام الثقة، فدلني على المنزل ووصفه لي وصفًا دقيقًا وقال: «اذهبي الآن إذا كنت تريدين إذ لا تجدين هناك غير السجين.»

فقلت: «أين أراك بعد الآن؟»

قال: «لا ترينني بعد الآن إلا في غرفتي في فندق «كذا»، فإن كنت تبرين بوعدك تجدينني هناك.»

ولما افترقنا استأجرت أوتوموبيلًا وجئت إليك.

فتنهد يوسف الصعداء، وقال: والآن هل تبرين بوعدك لجورجي؟

– لقد انتهت مهمتي يا يوسف؛ لأني لست باحثة عن هيفاء، فدع الباحثين عنها يبحثون حتى يجدوها.

– إذن لا تذهبين إلى جورجي؟

– بل أذهب إليه وأقول له: إن يوسف لم يقل لي أين الفتاة، ولا أكون كاذبة إذا قلت له كذلك، فهل قلت لي يا يوسف؟

– وهل تريدين أن تعرفي أين هيفاء؟

– لا.

– الآن أعجب بكبريائك يا ليلى.

ثم افترقا جسدين لا روحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤