ضمير يدمع

كانت الساعة العاشرة حين دخل جورجي إلى المنزل الذي أوى إليه يوسف وهيفاء، فاستقبلاه باسمين متهللين، أما هو فكانت عيناه تتقدان كأن في نفسه ثورة، فلما جلس قال له يوسف: أراك مضطربًا فهل حدث أمر؟

– لم يحدث إلا كل خير، وإنما أود أن أعلم أمرًا.

– ماذا؟

فقال جورجي موجهًا الخطاب إلى هيفاء: هل أنت نادمة على هربك يا هيفاء؟

– بل أنا ممتنة لك وليوسف؛ لأنكما خلصتماني من الويل الهائل.

– لقد كذبت عليك يا هيفاء كذبتين، وضميري يعنفني بشدة عليهما.

فأبرقت أسرة يوسف وقال: الحمد لله لقد بُعث ضميرك من قبره.

وقالت هيفاء: ما هاتان الكذبتان؟

– الكذبة الأولى حين كنت في ثوب قسيس ينوي أن يكللك إكليلًا كاذبًا، وقد أنجاك من شر هذه الكذبة هذا الفتى.

فجحظت عينا هيفاء، وقالت: إذن لم يكذب ظني؟

– لا، لم يكذب، أنا هو ذلك القسيس الشرير، وأما الكذبة الثانية فكانت هذه الليلة إذ قلت لك: إن الذي سيكللك ليس قسيسًا بل هو مثلي، والحقيقة أنه قسيس.

– إني أشكر لك الكذبة الثانية التي محت شر الكذبة الأولى؛ لأني لم أكن راضية عن الزواج من ذلك الشرير، وقد آليت على نفسي أن أنتحر قبل أن أدخل معه إلى غرفته؛ لأني تصورته شيطانًا رجيمًا، وتصورت أمي الحية التي أغوت حواء، وقد أدركت قصدها الشرير. ولكني لم أستطع النجاة من يدها؛ لأنها كانت تذعرني بتهديداتها، وتوهمني أن الحكومة تضعني تحت سلطتها بالرغم مني؛ لأني لم أزل قاصرة ولم أبلغ بعد السن التي أكون فيها حرَّة التصرف بنفسي.

– ولكن يوسف لا يصدق أنها أمك؛ لأن الأم مهما كانت شريرة لا تضحي بابنتها هكذا، فهل هي أمك حقيقة؟

– كلَّا بل هي خالتي، وصرت أشك الآن بأنها كذلك؛ لأن الخالة لا تقل حنانًا عن الأم ولا سيما إذا ربَّت.

– من هي أمك يا هيفاء؟

– آه، لا أعرف لي أمًّا؛ لأني لم أفتح عيني بصيرتي في هذا العالم إلا وأنا في حضن هذه الشريرة، ولكن قيل لي: إنها ليست أمي، وهي أقرَّت لي بأني ابنة أختها، وأنها لا تعرف أبي وأنها كانت في مصر، وحين رجعت إلى سوريا كانت أمي تحتضر، فأخذتني وربتني، وفي هذا العام جاءت بي إلى هنا بغتة من غير أن أدري شيئًا.

– ولكن ما اسم أمك؟

– قيل لي: إن اسمها حنة.

– وهل تعرفين شيئًا عن أبيك؟

– قيل لي: إن اسمه خليل وأنه مات، هذا جل ما أعرفه؛ لأن خالتي كانت تتنقل بي من بلد إلى بلد، وحيث نكون أرى أني غريبة، وليس من ينبئني عن أبويَّ وأهلي.

– وماذا تعرفين عن خالتكِ.

– لا أعرف شيئًا؛ لأنها سرٌّ لا يدرك ففي أول وعيي كانت تسمَّى ندرة الزعفران، ثم لما انتقلنا إلى بلد آخر قالت: إنها تود أن تنتسب إلى زوجها المصري الذي مات، وأوصتني ألا أذكرها إلا باسم نديمة الصارم، كما كانت تسمى في مصر، وتهددتني بشدة إذا كنت أذكر غير هذا الاسم.

– إذن أنت لست آسفة على فراق هذه المرأة؟

– بل إني مسرورة بالابتعاد عنها، ولكني لا أزال أخاف شرها، وأنا وحيدة لا أم لي ولا أب ولا قريب.

فذرفت دمعتان من عيني جورجي، فقال له يوسف: إني أستغرب أن تدمع عيناك.

– ليست عيناي تدمعان يا يوسف، ولكن ضميري يدمع.

– أين كان ضميرك قبل الآن؟

– أما قلت لك: إنه ذهب مع عائلتي؟!

– عجيب أن يرجع.

– بل عجيب أن تتعجب، وأنت قلت: إنك سترد لي ضميري، فهل نسيت؟ أما أنا فلن أنسى.

فتنهد يوسف وقال: الحمد لله.

ثم قال جورجي: تقولين يا هيفاء إنه ليس لك أب ولا أم ولا قريب تحتمين به … فهل تريدين أن تسري نفسي بأن تقبليني أبًا وأمًّا وقريبًا؟

فأطرقت هيفاء، فقال لها: إني فاقد كل سعادة وهناء في هذه الحياة، فهل تريدين أن تخلقي لي سعادة؟

– لو أستطيع.

– تستطيعين إذا أردتِ أن أكون لك كل شيء تتمنينه.

– إني أحتاج إلى أب يا سيدي، ولم أرَ حنو الأب في حياتي إلَّا الآن، فأنا ابنتك.

فهمَّ جورجي أن يعانقها، ولكنها نفرت منه مزمهرَّة فامتنع والدمع يذرف من عينيه، وقال ليوسف: هل تريد أن تكون أخًا لهيفاء يا يوسف؟

– أما أنا اقترحت ذلك عليك؟ إني ابنك منذ الآن، ولا أظنك تغدر بابنك يا أبتاه.

فلم يتمالك جورجي نفسه؛ لأن الدمع تفجر من عينيه تفجر الماء من صخرة، وفي الحال نهض بدعوى أنه خارج لقضاء حاجة، ودخل غرفة الحمام وأطلق لدموعه العنان، وما هي إلَّا هنيهة حتى سمع وقع أقدام، فنهض مسرعًا وكفكف دموعه وعاد فوجد يوسف يتمشى في وسط الغرفة كأنه قلق، فقال له: تعال اجلس.

فقال يوسف: يكاد ينقضي الهزيع الثاني من الليل، ونود أن نبتَّ أمرًا.

– أي أمر؟

– أمر هيفاء، أين تبيت الليلة؟

– تبيت الليلة هنا.

– يستحيل.

– لماذا؟

– لأنها لا تبيت إلا مع سيدة.

– بل تبيت مع أبيها وأخيها، وأي سيدة أعطف عليها منهما؟!

فتردد يوسف بالجواب، وقال: ولكن هذا لا يليق.

– ما زلت جبانًا، لماذا لا يليق؟

– لأن الناس لا يعرفون أنها ابنتك وأختي.

– كفى أن نعرف نحن، ومتى حان الوقت يعرف الناس ذلك، أليست لك ثقة بنفسك؟! لا تبيت هيفاء إلا حيث نبيت نحن وأنا المسئول.

فسكت يوسف مفحمًا، ثم قال: وهذا المنزل؟

– هو منزلي الليلة؛ لأن صاحبته عجوز يونانية، وهي صديقتي، وابنتها في سفر، وقد طلبت منها أن تخليه الليلة، وغدًا ندبر أمر كل منا، فاطمئن.

– ولكني أخاف مغبة هذا التدبير.

– إذن أنت جبان القلب سيئ الضمير ضعيف الثقة فلا تصلح لي ابنًا، دعنا من هذا الموضوع ولنبحث في أمر أهم.

– ما هو؟

– ماذا تنوي أن تعمل أنت؟

– سأبحث عن خدمة.

– بل تشتغل بتجارة.

– ورأس المال؟

– هذا هو.

وتناول جورجي من جيبه ورقًا ماليًّا بقيمة ألف وخمسمائة جنيه، والتحويل الذي أخذه من جميل مرمور، ودفع الكل إلى يوسف.

فلما اطلع يوسف على التحويل رمى به وبالأوراق إلى الأرض، وقال: لا أمسُّ مال السحت.

فعبس جورجي به قائلًا: ما زلت حيوانًا.

– إني لكذلك.

– إذن لا تعش بين الناس؛ لأنك لا تقدر أن تعيش بينهم إلا إذا كنت إنسانًا، فخذ الأوراق كلها واسمع نصح أبيك، وغدًا نبحث بتفاصيل التجارة.

فامتثل يوسف صاغرًا كأنه يشعر بقوة تتسلط على عقله، ثم التفت جورجي إلى هيفاء، وقال: إنكِ تعبة يا ابنتي فقومي إلى سريرك في الغرفة الثانية، ولكني أود أن تنهضي غدًا وما أنت هيفاء.

فنظرت فيه مستغربةً وقالت: ماذا أكون إذن؟

– تكونين وطفاء ولا يعرفك أحدٌ إلا بهذا الاسم، قومي يا ابنتي إلى سريرك.

فنهضت هيفاء ودخلت إلى الحجرة، فوجدت سريرين واضطجعت في أحدهما.

ثم قال جورجي ليوسف: وأنت تنام في السرير الآخر يا يوسف.

– يستحيل أن أنام في غرفة هيفاء.

– بل تنام حارسًا لأختك، وأنا أنام في هذه الغرفة على المقعد حارسًا لكما.

– إنك تطلب مني أمرًا ينفر منه ضميري.

– متى كنت سيئ النية هكذا؟ لا تبرهن لي على أنك أخ هيفاء إلا إذا نمت في غرفتها.

فأفحم يوسف ودخل إلى الغرفة مقدمًا رجلًا ومؤخرًا أخرى.

أما هيفاء ففي نصف ساعة كانت تغط في نومها، وأما يوسف فلم يستطع أن ينام؛ لأن الهواجس كانت تلعب في رأسه، ولكنه كان يتحاشى أقل حركة؛ لئلا تصحو هيفاء أو تذعر.

ولما كانت الساعة نحو الثالثة شعر يوسف بحركة خفيفة في الباب، ثم انفتح فرأى شبحًا يدخل منه متسرقًا، فبقي كامنًا في سريره ليرى ماذا يكون من أمره، فرآه يتقدم بكل هدوء حتى صار عند سرير هيفاء، ثم رآه انحنى فوق السرير عند قدميها، فجزع وما رأى نفسه إلا واقفًا على الأرض، وأسرع في الحال وقبض على الشبح ودفعه إلى الوراء، فاندفع الشبح معه بكل هدوء إلى أن صار كلاهما خارج الغرفة، حيث تبينه يوسف في الرحبة التي لا يزال المصباح الضئيل مضيئًا فيها، فإذا هو جورجي، فقال له: هل من غدر آخر؟

– لماذا تقول هكذا؟

– ماذا كنت فاعلًا؟

– كنت أقبل ابنتي؛ لأنها لا تنفر مني وهي نائمة، ألا يحق لي ذلك؟

– ولكنك انحنيت عند قدميها.

– نعم؛ لأني لا أستحق أن أقبل وجنتيها، وأخاف أن تلهبها أنفاسي فتصحو مذعورة.

وكان يوسف يرى الدمع ينسكب بغزارة من عيني جورجي فسكت معتبرًا، ثم أقعده على المقعد قائلًا: إني مدهوش من أمرك.

– ما الذي يدهشك؟

– أرى فيك شعور الأب الحقيقي، فمن أين لك هذا؟

– منك، أما قلت لي: إنك ترد سعادتي، فقد رددتها وأنا الآن أتمتع بها.

– وهذه الدموع؟

– دموع السرور واللذة، فلماذا تحرمني سعادتي؟ هل ندمت على ما نفحتني؟

– فلم يتمالك يوسف دموعه أيضًا، وقال: هل تحبني كما تحب هيفاء؟

– إذا كنت تأذن لي بقبلة تعلم.

وأمسك جورجي بيدي يوسف، وهو لا يزال واقفًا واجتذبه إليه وعانقه، وهو يقبل خده قبلة لا نهاية لها، والدمع يتدحرج من عينيه ونفسه يتصعد ويتصوب حتى شعر يوسف بمثل حرارة بخار، ثم ما لبث أن تراخت ذراعا جورجي عن صدر يوسف، واستلقى على ظهره ويوسف يتأثر شديد التأثر من هذا الخفقان الذي لم يفهمه.

ثم جلس يوسف إلى جانبه وهو يقبض على كفه، وقال: أحمدكِ يا قوة القوى؛ لأنكِ استجبتِ صلاتي إذ أنبتِّ نبتة حب في أرض مجدبة، واستخرجتِ ماءً من صخرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤