العملي غير النظري

ما هي إلا بعض الأيام حتى أعلن إفلاس فهد المهنَّد، فأسرع البنك الأميركاني، وطلب من يوسف براق أن يدفع مبلغ ألفي جنيه عن فهد هذا؛ لأنه كان قد ضمنها وكفله بها، فوقع يوسف في حيص بيص؛ لأنه ليس عنده من المبلغ جنيه واحد، فأبلغ جورجي آجيوس في الأمر، فأسرع هذا وأخذ الدفاتر إلى غرفته، وجعل يفحصها بمساعدة يوسف، ثم «جرد» المحل فظهرت له هذه النتيجة:

جنيه
٥٠٠
٢٠٠٠ بضاعة في المحل
٢٥٠٠ ديون للمحل بموجب الدفاتر يصعب جمعها
٤٥٠٠ الجملة
٢٠٠٠ ديون على المحل
٢٠٠٠ السند المكفول باسم يوسف
٤٠٠٠ ٤٠٠٠ الجملة

فطار صواب جورجي، وقال: كيف فعلت هكذا يا بني، أفي هذه المدة القصيرة تبيع بضاعة دينًا بقيمة ألفين وخمسمائة جنيه وتضمن ألفي جنيه، لقد ضاع رأس المال، قل لي لماذا ضمنت ذلك المنافق؟

– لأني لم أعلم أنه سيفلس.

– بالطبع لا تعلم؛ لأنه لا يقول لك.

– بل أخبرني أن ذلك القرض الذي يقترضه سيفرج أزمته لا محالة، وأنه سيفعل معي معروفًا كمعروفي إذا احتجت إليه، وأن التجار لا يستغنون بعضهم عن بعض، وقد توسل إليَّ توسلًا وقال لي أن أفعل هذا المعروف لأجل أطفاله إلى غير ذلك من ضروب التشفيق، فلم يسعني إلا أن أفعل معه المعروف وإلا فلا أكون إنسانًا، هل يطاوعني ضميري أن أرى محله يهوي إلى هاوية الإفلاس، وعائلته تصبح بعد ذلك في فاقة ولا أساعده بكتابة كلمتين في ذيل سند، إني أرق من أن أتنكص عن هذه المساعدة.

فلطم جورجي خديه، وقال: يا للسذاجة! هل تهدم مستقبلك لكي تبني مستقبل أطفال ذلك المنافق؟

– إنه مسكين، ماذا كان في يده؟ ظن أنه بذلك القرض يسد عجزه، ويصلح حال تجارته، ولكن المداينين تألبوا عليه ولم يرحموه فأفلس.

– إذا كان المداينون لا يرحمونه، فهل تفتديه أنت بنفسك؟ وهل تعلم أين ذهبت الألفا جنيه التي كفلتها أنت وستدفعها؟

– بالطبع ذهبت إلى خزائن المداينين القساة.

– كلا كلا، بل ذهبت إلى جيب ذلك المنافق، فهو لم يفِ منها دينارًا واحدًا وإلا ما أفلس.

– لا أصدق أنه يفعل ذلك؛ لأن عملًا كهذا يعد نهبًا واختلاسًا، ولا أعتقد أن الإنسان مهما خلا من المروءة ومهما كان لئيمًا يؤذي غيره ليغنم هو.

– لا تتفلسف، ذلك الخائن اختلسك لا محالة.

– يا لله! هل يستحل اختلاسي وأنا أصنع له معروفًا؟

– لا يستطيع أن يختلس إلا ممن يصنع له المعروف، وأما المداينون الذين لم يرحموه، فهم الذين يحصلون حقوقهم منه، رآك صادقًا طيب القلب سليم النية أي: غبيًّا غرًّا فاغتنم الفرصة لاختلاسك، هل تعرف أي اللحوم التي يأكلها البشر؟ لا تسكت، قل.

– يأكلون لحوم البقر والغنم.

– لماذا لا يأكلون لحوم الأسود والذئاب؟

– لعلهم لا يستلذونها.

– بل يستلذونها لو كانوا يستطيعون قيادتها كما يقودون الأغنام والأبقار، يسلم الذئب والأسد من يد الإنسان؛ لأنه أقوى منه، وأما النعجة فلأنها ضعيفة بين يديه يكون لحمها لذيذًا له، فليتك كنت ذئبًا أو أسدًا فما استطاع ذلك الوحش افتراسك، أما قلت لك: إن الناس وحوش ضوارٍ ينهش قويهم ضعيفهم؟ فليتك كنت وحشًا، ثم قل لي على من هذا الدين الوفير الذي لك؟

– على خياطين متعددين.

– لماذا لم تبع القماش نقدًا؟

– لأنهم تعذروا على الدفع فذاك جاءني يقول: إنه إذا لم يشتغل لا يقدر أن يشتري، ولا يقدر أن يشتري لأنه ليس معه دراهم، ولا يكون معه دراهم ما لم يشتغل، فبعته بالدين لكي يشتغل ويفي.

– فذهب واشتغل وقبض وأودع في جيبه، وماذا قال لك الآخر؟

– قال: إن له دينًا وعما قليل يحصل على دينه ويدفع.

– فحصل وأودع في جيبه، والآخر؟

– قال: إن عنده عائلة تعيش من تعبه وليس عنده بضاعة، فرقَّ له قلبي وأعطيته.

فتنهد جورجي وقال: لا تصلح تاجرًا يا بني بل محسنًا، والمثل يقول: نصف الطريق ولا كله، فالأفضل أن يتصفى المحل وما يبقى منه من المال تحسن به على من تحسن، وإنما أود أن تتعلم من هذا الحادث درسًا قد تستفيد منه في المستقبل، فاعلم أن الناس في مثل حرب والحرب تسوِّغ للمحارب أن يستعمل كل سلاح تصل إليه يده، وإلَّا تغلب عليه خصمه وقتله، فإذا كان الكذب ينجيك من غدر الغادرين فلا خير في الصدق، وإذا استطعت أن تهضم من غير أن تتعرض لخطر فاهضم، وإذا استطعت أن تدوس غيرك لكي ترقى إلى قمة فاطحنه تحت رجليك، وإلا فعل بك ما يجب أن تفعله به أنت، افعل كل ما تستطيع أن تفعله بشرط أن تحايد ما يسمونه قانونًا؛ لئلا تسعى إلى حتفك بظلفك.

– وقانون الضمير؟ كيف أستطيع أن أحايده؟

– الضمير؟ اقتله قبل أن يقتلك.

فصاح به يوسف: كفى يا هذا كفى، فما أنت أبي ولا أنا ابنك إذا كنت تود أن أتلقى منك هذا الدرس الشرير.

فنظر فيه جورجي غاضبًا، وقال: إذن ابقَ نعجة يا بني، ابقَ نعجة، إني أبكيك حيًّا لأنك ميت يتحرك ليس إلا.

وبعد سكوت هنيهة قال يوسف: قضيت عهد الصبى وأنا أربي نفسي لكي أكون صالحًا، فهل تريد أن تحولني في ساعة إلى إبليس رجيم؟ لا أطيق ذلك.

– آه، ليت الناس كلهم مثلك فتسهل عليك معاملتهم، ولكن ما داموا كلهم أبالسة يجب أن تكون إبليسًا مثلهم؛ لكي تستطيع أن تعاملهم.

ففكر يوسف هنيهة ثم قال: أقول لك يا أبي: إني لست مثل الناس، ولا أقدر أن أكون مثلهم فلا أعاملهم ولا يعاملونني، والحق معك ما أنا تاجر بل أنا عامل، فيجب أن أطلب خدمة حيث أجد.

فهزَّ جورجي رأسه، وقال: إذن تكون أداة في معمل، والميكانيكي يصنع منك الآلة التي تعمل مسيرة وتعمل جهد قوتها، فإن صلحتَ عضاضة جعلك عضاضة تحمل الأثقال، ومتى انكسرت هذه العضاضة رمى بها بين الحطام المهملة وصنع غيرها، فهل تريد أن تكون كذلك؟

ففكر يوسف وقال: لا أرى وجه الشبه بيني وبين العضاضة.

– أنا أريك، خذ مثلًا، كان فتى مثلك يشتغل في معمل فكان عاملًا ثم جعل يترقى حتى صار ناظرًا، ولكن صاحب العمل لم يرقِّهِ إلا حين ثبت له أنه ينتفع من خدمته عشرة أضعاف أجرته، وفي ذات يوم حصل اختلال في الآلة، فانتثر بعض أدواتها، وأصابت هذا الناظر في وجهه ففقأت عينيه، وشوهت وجهه، ولم يعد يستطيع أن يقوم بواجباته، فاضطر صاحب المعمل أن يرقي غيره إلى وظيفته وأعطاه تعويضًا حقيرًا، فلزم الرجل بيته وكان فيه ميتًا في شكل حي، وقد ظلمه الذين كانوا يطيلون عمره بإحسانهم؛ لأنهم كانوا يطيلون عمر شقائه، هل رأيت وجه الشبه الآن؟

– ولكن هذا نادرٌ لا يقاس عليه.

– لا بأس من أن نضرب عنه صفحًا، ونعود إلى الذي خلفه في منصبه، فإنه بذل جهده في إرضاء صاحب المعمل، وبعد عام أصيب بمرض صدري من جراء إجهاد قواه، واضطر أن يستعفي ليستشفي فلم يجد من مكافأة صاحب المعمل ما يسد حاجات الاستشفاء شهرين، فكان نصيبه نصيب سلفه، وهكذا تبدل على تلك الوظيفة في ذلك المعمل خمسة، وصاحب المعمل يتنعم متمتعًا بتعبهم.

– إنك تريني من الدنيا الوجه المظلم يا أبي.

– أريك الحقيقة، هذا مصير السواد الأعظم من العمال والمستخدمين.

– وما قولك بالذين ترقوا حتى بلغوا المناصب العالية، وصاروا أصحاب أعمال؟

– معظم هؤلاء وحوش ضوار يحسنون الحرب فقد استوطأت أقدامهم أمثالك، فسحقوهم وصعدوا إلى تلك المناصب، فإن كنت تعدني أن تكون وحشًا ضاريًا أبشرك بنيل المناصب العالية، لقد خدمت في بنك وفي مصلحة حكومة، أما شعرت أن غيرك كان يسحقك تحت قدميه؛ لكي يرتقي عليك؟

فبقي يوسف صامتًا مفكرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤