وحدة

١

– أريد أن أقول.

– قل هل منعك أحد؟

– أنتِ دائمًا تمنعيني.

– أنا؟

– أنتِ.

– ما منعتك عمري.

– أنت لا تسمعين ما أقول.

– أليس المهم أن تقول؟

– بل المهم أن تسمعي.

– في هذه المرة أريد أن أقول وأن تسمعي.

– ليس من عادتي أن أسمع.

– لقد سئمت القول بلا سماع.

– لن تقول شيئًا جديدًا.

– تزوجنا من زمن بعيد، وما عندك طبعًا قلته في الأيام الأولى.

– حدث بيننا شيء.

– لا يهم ما حدث.

– ولكني أريد أن أقول.

– فقل.

– وتسمعين؟

– لا شأن لك.

– فلا معنى للقول.

– أنت حر.

– لو كنت حرًّا لتكلمت، إن لك الحرية أن تقول.

– وأنا لي الحرية ألا أسمع.

– ما إصراركِ هذا؟

– لا أرى فائدة في قولك ولا في سماعي.

– كيف تحكمين على ما سأقول وأنت لم تسمعيه بعد.

– لقد خرجت من حياتي فكل حديث لا معنى له.

– ومع ذلك ليس هناك ما يمنع أن أقول وتسمعي.

– لقد رأيتكما.

– أنا لم أنكر هذا.

– فماذا تريد أن تقول؟

– فتاة هي …

– لا تقل، لا تقل.

– إذن فسأقول أنا ولك أنت أن تسمعي أو لا تسمعي.

وهبته حبي ووفائي ويخون.

طفلة كنت حين تزوجنا وبهرني منه حديث منمق وقوام رشيق ووجه وسيم.

وحين عرفت الحياة وجدته بلا ضمير ووجدت حديثه المنمَّق طلاء وبلا معنى ولا نبض، وكانت طفلتي قد جاءت؛ فكان لا يمكن أن أتركه، وقبلت أن أعيش معه وهو تافه وسخيف أما أن يصل الأمر إلى الخيانة، ولكن ما لي أغضب لخيانته كل هذا الغضب، ما دمت لا أحبه فما حرصي على وفائه. لعلني حريصة على كرامتي، وما شأن كرامتي ما دام يخفي عني خيانته؛ فكرامتي إذن سالمة لم يمسها أحد فحين كشفت ما كان خافيًا حينئذٍ.

– إني محامٍ.

– كنت.

– وما زلت.

– بل كنت.

– وللمحامين زبائن.

– هل أنت مصمم أن تقول؟

– كل التصميم.

– وماذا يضيرك ما دمت لا تتعب.

– أرادت هذه الموكلة أن تلتقي بي خارج المكتب فكان لا بد أن ألتقي بها، إن المحامي طبيب نفسي عليه أن يشعر زبائنه دائمًا أنهم في أمنٍ واطمئنان ما داموا في مكتبه وفي حمايته القانونية.

كل ما بلغك غير هذا كذب، لماذا لا تجيبين؟ أي إنسان لا يجوز أن يخبر الزوجة بما يصنعه زوجها حتى لو كانت هذه الأخبار صحيحة، إن للبيوت قدسية لا يجوز لأحد أن يحطمها، إن هؤلاء الذين كلموك عني إنما يريدون أن يحطموا البيت الذي بنيناه من أحلام طفولتنا ومن ظلال صبانا، ومن أوهام شبابنا ومن حقيقة وجودنا، ألا تذكرين؟ وإنما كنت تحبين أن تسمعي الذكريات وكنت تكملينها ما لك لا تكملين؟

أتذكرين يوم كانت دادة حميدة تلقي بنا معًا في البانيو عرايا ولم نكن نجد حرجًا في ذلك يومذاك، كنا نضحك وأرشك بالماء وتضحكين، ثم نستحم ونخرج وكأننا طفلان أو طفلتان لا يفرق بيننا جنس مختلف، أنت لا تسمعين لو كنت تسمعين لاحمرت وجناتك فقد كانت وجناتك تحمر دائمًا كلما ذكرتك ببانيو دادة حميدة، إذا كانت الأيام الطويلة لم تستطع أن تفرق بيننا أتستطيع ألسنة الناس، ألا تعرفين معنى مرور الأيام؟ إنها هذه الأيام التي تلقي الشيب إلى الرءوس وتلقي الغضون على الوجوه والترهل على الأجسام والضعف على الأبدان، هذه الأيام نفسها تمر على العلاقات الصادقة الأصيلة فتزيدها أصالة وتغرسها عميقة في صدر الزمن، فإذا الروحان مثلنا يصبحان حياة واحدة تنطلق أنفاسها من مصدر واحد قد اتحدت آمالها في الحياة واتحدت بينهما مصادر الرزق ومصادر الضيق ومصادر الفرح، لا لن أحدثك عن ابنتنا، إن كانت العلاقة بيننا لا تحتمي إلا بسهير فأنا لا أريد هذه العلاقة، لن أقول لك إن طلاقنا سيكون صدمة لسهير في بيت زوجها، أتصدقين هذه الخرافات وبنتنا الآن متزوجة، أتريني ما زلت شابًّا أصلح لهذا؟ كنت دائمًا تحبين سن الخامسة والأربعين لست صغيرًا على كل حال.

•••

لو علمت لماذا خنتِك، لن تتصوري الأسباب، إنك قاسية، إنك تطلبين الكمال من كل من حولك ولا يستطيع من حولك أن يهبوا لك الكمال، أعلم أنك قسوت على نفسك وكنت مثالية في كل ما تصنعين ولهذا أردت من الجميع أن يصبحوا في مثل مثاليتك، عذبت نفسك بالمثالية فلماذا لا تعذبين الآخرين؟ ولكننا نحن الذين حولك بشر نريد أن نخطئ كما يخطئ الناس، وأن نعيش كما يعيش الناس ونتمتع بالحياة بكل الحياة. بما في الحياة من خطأ وما فيها من صلاح، كرهت عنفك ومحاسبتك على كل صغيرة، كرهت هذا فيك وأعجبت به فيك أيضًا، أنت مثل أعلى أعبده ولا أريد أن أكون مثله، أتمنى أن أراه ولا أتمنى أن أكونه، ليتك تسمعين هذا الكلام ولكن كيف أقوله، إن فيه اعترافًا بما فعلت وقد تحصلين مني على كل شيء، ولكنك لن تحصلي على هذا الاعتراف.

•••

وأنت أيضًا لست صغيرة، الغيرة لا تتفق مع سنك، أصغر مني أعلم ذلك ولكنك لست صغيرة، لا إجابة، لا إجابة على الإطلاق، إن كنت مصممة على الصمت، فابتسامة أو تكشيرة أو هزة رأس، أي شيء يشعرني أنني هنا إنني أقول شيئًا.

– لو كنت حيًّا لأمتعني هذا الحديث، ما زال لحديثك طلاوته، ما زال حديثك يستطيع أن يعيدني إليك.

– لو كنت حيًّا؟! ألست حيًّا؟!

– ألا تعلم أنك مت؟

– مت، ألهذا الحد تكرهينني، هل استطاعت الأقاويل أن تجعلني ميتًا في نظرك؟

– لأنك مت.

– أنا الآن لست حيًّا؟!

– أتتصور نفسك حيًّا؟

– أليس هذا حقًّا؟

– ألا تعرف أنك مت؟

– لا تقولي هذا.

– إنها الحقيقة.

– ألست جالسًا الآن أمامك، ألا تسمعين حديثي وتجيبين.

– صوت من العالم الآخر.

– فأنا ميت إذن.

– هل تشك في ذلك؟

– بل إني واثق أني أعيش، إني حي ولكن لن أحيا معك ما دمت قد هنت عندك إلى هذه الدرجة.

– علم الله لم تهن ولكنها الحقيقة.

– إنها أمنياتك أنت.

– إنها الحقيقة.

– سأجعل منها حقيقة بالنسبة إليك؛ لن أعيش معك، لن ترى وجهي بعد اليوم. لن ترى وجهي بعد اليوم.

٢

لعلها كانت تختاره من تلقاء نفسها إذا لم تتعرض لما تعرضت له، كيف قَبِل أبوها هذا، أبوها رجل القانون الذي ظلَّ طول حياته يعلِّمها أن الحرية هي أثمن ما في الوجود، وأن حرية المرء هي حياته فإذا هي في سنها الباكرة تتنسَّم الحرية مع الهواء الذي تتنشقه، واثقة أنها تستطيع أن تمارس حريتها في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، وقد عاشت منطلقة سعيدة بحريتها سعيدة بثقة أبيها فيها، حريصة أن تؤكد له دائمًا أنه يضع ثقته بين يدين جديرتَين بها؛ فهي نقية دائمًا، تختار لنفسها أكرم مكان بعيدة كل البُعد عن مواطن الشبهات، لا تكترث كثيرًا بتضييق أمها عليها؛ فإنها يجب أن تسيطر عليها دائمًا، وتحب أن تحد من حريتها المنطلقة هذه في طبيعة لا تكلف فيها، وقد عرفت هي هذا في أمها؛ فهي تغفر لها قسوتها وتعيش حياتها كما تحب أن تعيش في حرية نقية صافية.

وهي في جمالها الرائع الأخَّاذ كفيلة أن تثير لدى الشباب ألوانًا من المطاردة، وهي سعيدة بهذه المطاردة وهي أكثر سعادة حين ترى نفسها تردهم جميعًا في كبرياء، وتدفعهم في عزة، لا يعنيها ماذا هي مثيرة حولها بكبريائها.

وحين أصبحت في الجامعة أحاط بها الزملاء برغباتهم الجامحة، وأحاط بها الزميلات بغيرتهم المجنونة فلم تعبأ بالرغبة من الفتيان ولا بالغيرة من الفتيات، وظلت كما تحب لنفسها أن تظل مترفعة كريمة على وئام تام مع ضميرها وحريتها.

واستطاعت الرغبة من الشباب والغيرة من الفتيات والكبرياء منها أن تُطلق حولها الأقاويل ضاربة مجنونة؛ فمنهم من يقول لها حبيب ولكنها خبيثة عميقة تستطيع أن تخفي أمرها، ومنهم من يقول مجنونة متكبرة، ومنهم من يقول إنها مبذولة لمن يشاء ولكنها تتظاهر بالعفة، ومنهم من يدَّعي أنها في أمسها القريب كانت معه، وأنه رأى من فجورها ما لم يشهده من المحترفات.

وتجد هذه الأقاويل طريقها إلى أذنيها؛ فالبنات يحببن أن يتظاهرن بالشفقة عليها، ويحببن أيضًا أن يتظاهرن بصداقتها، فإن الفتاة التي تستطيع أن تثير كل هذه الأقاويل تصبح صداقتها في أغلب الأمر شيئًا حبيبًا إلى نفوس الفتيات.

وكانت هذه الأقاويل تصيب من نفسها مكانًا قاسيًا، ولكنها كانت تستطيع دائمًا أن تتكبر عليها فكأنما الحديث عن فتاة غيرها لا تعرفها.

وإن كان قول الشاب الذي قال إنه كان معها قد أثار فيها غضبًا شديدًا، إنها تعرف هذا الفتى ولكنها لم تكلمه في حياتها أبدًا، ولقد حاول أن يتقرب منها بالطريقة الساذجة التي يحاول بها غيره فلم تكلِّف نفسها عناء صده بالحديث، وإنما أشاحت عنه وانصرف دون حديث؛ فهو من ذلك النوع الذي يحب أن يزهو دائمًا أن النساء أسيرات إشارته.

عِرض الفتاة بضاعة لا حارس عليها، يكفي أن يطلق هذا الأفَّاق قوله الرخيص حتى أصبح أحدوثة بين الطالبات والطلبة، وعن وهم دائمًا أكثر ميلًا إلى الهجوم منهم إلى الحق، لا يعنيهم ما يعرفونه عن كبريائي، وما يعرفونه عن هذا الفتى من كذب وادعاء، وإنما يعنيهم أنهم أصبحوا أمام قالة جديدة حكاية مثيرة يرويها فتًى على أنه بطلها، وسنصدق الحكاية بلا تمحيصٍ ولا تفكيرٍ؛ فإن النفوس تريد أن تصدقها، وليذهب كبريائي إلى أي جحيم يشاء.

ويتجمع الفتيان والفتيات حول الشاب ويصف، وفي كل يوم يزيد في الوصف ويستطيع في خبث أن يغمز بعينه: لولا وجود الإنسان لسمعتم ما شئتم من التفاصيل.

– أنت كذاب.

صوت انبعث من شابٍّ بينهم، والتفتت إليه العيون منكرة عاجبة؛ فقد تعودوا أن يسمعوا هذه الأحاديث من ملقيها هذا دون أن يفكر أحد في وضعها موضوع الاختبار ليحكم عليها آخر الأمر بالصدق أو بالكذب، فما هذه النغمة الجديدة؟ ومنذ متى يفكر واحد منهم في مقدار الحق فيما يسمع؟

– أنا كذاب؟! وما شأنك؟

– أنت كذاب لأن ما تقوله لم يحدث، وحقير؛ لأنه لو كان حصل لكان الأولى بك أن تستره.

– خطبة عظيمة في مكارم الأخلاق.

– الفتاة التي تروي عنها نعرفها جميعًا وهي لم تسمح لأحد أن يأخذ عليها إشارة غير كريمة.

فهي حريصة أن تكون سمعتها في الكلية أحسن سمعة، وهي جميلة، بل هي أجمل فتاة نعرفها، ولو شاءت لوجدت الأصدقاء من كل مكان، ومن الطبيعي أنها إذا أرادت أن تلهو، فإنها ستبحث عن شاب في أي مكان غير الكلية التي حرصت دائمًا أن تكون فيها شريفة، أنت كذاب.

وكأنما أفاق الجمع الملتف حول القصة والحوار إلى هذه الحقيقة البسيطة الساذجة، إنها حقيقة لو أراد أي شخص منهم أن يفكر فيما يسمع لوصل إليها دون جهد يذكر، ونظروا إلى الفتى الذي كان يروي فوجدوا البهتة على وجهه، إنه في موقف جديد عليه؛ فقد ظل طول عمره يروي فيجد المتعة في وجوه السامعين ولم يجد معارضة في يوم من الأيام، ونظر حوله فوجد الوجوه جميعًا تنتظر جوابه وهي أقرب ما تكون تصديقًا لهذا الهجوم الذي شنَّه عليه زميله، كان ذهنه مشغولًا بخلق القصة ولم ينشغل أبدًا في خلق الحجج التي تدل على صدقها؛ فحين واجهه هذا الإنكار وجد نفسه في صحراء من الدهشة ولم يجد شيئًا يقوله، فغر فمه وحملقت عيناه وانطفأ عن وجهه وهج الحماسة وجفَّ ريقه، وراح يدور بعينيه حوله، فإذا العيون التي كانت منذ لحظات ساجية مستمتعة بما تسمع تصبح عيونًا متسائلة متَّهمة قاسية محتقرة، كانت تريده أن يكون صادقًا، كانت تريده يحمل الدليل على ما يقول حتى تصبح متعتهم حقيقية لا أثر فيها للخداع، خداعه لهم وخداعهم هم لأنفسهم، ولكنه خذلهم بهذا الصمت وهذه الحيرة، وهذه الحماسة المنطفئة، وهذا الصمت الذاهل الحيران، وهذا الوجوم الكسيف الخزيان. طال صمته فألقى بعينيه إلى الأرض آخر الأمر واستدار للجميع في يأسٍ قائلًا في صوت يحاول أن يحمل التهديد فلا يحمل إلا الهزيمة: طيب.

وينصرف لتعلو في سمعه عند الباب قهقهات عالية ساخرة، ويلتئم الجمع حول المنتصر فيجدون الفتى غير معتز بانتصاره.

– أنتم جميعًا شركاؤه والفتيات منكم خاصة، كيف تأمن أي واحدة منكن أن يقول عنها مثل هذا القول؟

وينصرف الفتى المنتصر في غضب، وينتقل الحديث جميعه إليها فتجد في نفسها راحة واطمئنانًا، إن الدنيا ليست بالسوء الذي كانت تتصوره، إن هذا الفتى الذي دافع عنها حاول أن يقيم معها صداقة فردته هو أيضًا ولكنه شريف.

وتمر الأيام ولا يحاول أن يتقرَّب منها، إنها تعرف أنه يحس بنظراتها الشاكرة تلقيها إليه من بعيد ويروغ هو من هذه النظرات؛ فقد قال ما يعتقد أنه الحق وهو لا يريد منها شكرًا، وتأبى هي أن تقدم شكرها في حديث؛ فهي لا تريد أن يرى زملاؤها أن بينها وبينه أي علاقة ولو كانت هذه العلاقة مجرد حديث.

ودون أن تحس هي ودون أن يحس نشأت العلاقة، فيها إكبار من الناحيتَين وفيها شكر من جانبها، بل فيها من جانبها معنًى أكبر من مجرد الشكر، لقد أحست أن هذا الشاب قد أعاد إليها ثقتها في الناس. إن فيهم سوءًا ولكنهم ليسوا جميعًا أشرارًا، أحبَّته من ومضات خاطفة في عينيه أحست أنه يحبها؛ فهي لم تدهش حين تقدم إلى أبيها يريد أن يخطبها، ولكنها دهشت أن أباها لم يسألها عن رأيها وإنما عرفت أنه صرفه دون قبول، تقول أمها إنه فقير لا يملك إلا مرتبه حين يُعيَّن. تلك الحجة التي يراها الآباء دائمًا مقنعة، والتي يراها الأبناء دائمًا سخيفة.

كان رفض أبيها مؤلمًا بالنسبة لها، كيف ينهار هذا التمثال الذي أقامته له في نفسها، لقد ظل طول حياتها يعلِّمها أن الحرية هي أثمن ما يملكه الإنسان، ثم هو في لحظة واحدة يسلبُها كل حريتها وهي أهم ما يعرض لفتاة في حياتها، انهار تمثال أبيها، إنها تعلم أنه يلين أمام أمها في أمور كثيرة، ولكنه من المبادئ الأساسية التي يؤمن بها لا يلين، فكيف قبِل أن يعتسف حق ابنته في اختيار شريك حياتها؟ وكيف قبِل أن يرده دون أن يسألها؟

إن هذا الذي رده أبوها هو الشخص الوحيد الذي تريد بحريتها الكاملة أن تتزوج منه، وشباب الدنيا جميعها بعد ذلك سواء، ما دامت لن تتزوج هذا الشاب فليكن الزوج من يكون.

وحين أقبل زوجها هذا: ما رأيك؟

– لا رأي لي.

– فأنت إذن موافقة.

– إذا كان عدم إعطاء الرأي موافقة فأنا موافقة.

واعتبرت أمها هذا الحديث القصير موافقة، وتمت مراسيم الزواج وأبوها بعيد عن الموضوع جميعًا وكأنه لا يعنيه.

وحين أصبحت في بيت زوجها تبينت هول ما حدث لها، لقد قضي عليها.

– قالت لي أمك إنك وافقت.

– هل سألتني أنت؟

– وهل تكذب أمك في مثل هذا؟

– إنك علَّمتني الحرية وسلبتها مني، ليتك لم تعلمها لي حتى لا أفجع فيها وفيك وأنت تسلبها مني.

– هل سلبت حريتك؟

– منذ رفضت زميلي الذي جاء يخطبني.

– إنها أمك.

– وأنت أبي.

– حسبت أنه لا يهمك أن أرفضه.

– ولماذا لم تسأل؟

– كنت في شقاق مع أمك وخشيت أن تظن أنني أقف إلى جوارك للخلاف الذي بيننا.

– وأنا الضحية.

– لم أتصور أن في الأمر تضحية.

– ولماذا لم تسأل؟

– أخطأت.

– وحياتي هي الثمن.

– ألا تقبلين اعتذاري؟

– وماذا يفيد الآن؟

– قد نستطيع أن نُصلح ما فسد.

– كيف وقد متَّ؟

– أنا متُّ؟!

– ألم تمت؟

– من هذا الذي يحدثك؟

– وهم أو شبح.

٣

– حتى أنت، حتى أنت، حتى أنت، لقد أعطيتك كل حبي.

– وأعطيتك كل حبي.

– لم تطلبي شيئًا إلا قدَّمته.

– كنت سعيدًا وأنت تقدم لي ما أريد.

– وكنت سعيدة وأنا أقدم لك ما تريدين.

– كنت أحب أن أجد لحبي صدًى عندك.

– ولكنك كنت كثيرًا ما تشك فيَّ.

– كنت أخشى أن يكون حبك لي مبعثه البحث عما أقدم لك.

– هناك من هو أغنى منك ولم أقدِّم له حبي.

– إن الغيرة هي الثمن الذي يدفعه المحب في مقابل هنائه بحبه.

– ولكن على حساب ثقته بمن يحب.

– أكنتِ تريدينني محبًّا لا يغار؟

– كنت أريد حبيبًا يهب الثقة ثم يخاف.

– أهذا ما أغضبك؟

– لا، لقد تعوَّدت منك هذه الوساوس.

– إن الصلة بيننا لم يكن يحميها إلا الحب.

– وهل هناك أقوى من الحب؟

– القلوب تتغير.

– فهل تمنع الغيرة تغيرها؟

– والمرأة تتغير.

– وهل تمنع الغيرة تغيرها؟

– أنا لا أملك الوساوس تثور في نفسي.

– الواثق بنفسه يملك وساوسه.

– هل يريد أحد أن يخاف؟

– القوي يتحكم في طبائعه.

– لكل إنسان ضعفه.

– تستطيع دائمًا أن تثق بنفسك.

– وبغيري؟

– إذا وثقت بنفسك وثقت بغيرك.

– بكل الناس؟

– بمن تحب.

– فإن أحببت من لا يحبني.

– فأنت غبي.

– هل أنا غبي؟

– إذا أحببت من لا تحب فأنت غبي.

– أعظم أذكياء العالم أحبوا من لا يحبونهم.

– لم يكونوا يعرفون أنهم غير محبوبين.

– خادعوا أنفسهم.

– كنت أخاف أن أخادع نفسي.

– أن تخادع نفسك خير من أن تثيرها.

– أحببتك بجنون.

– وأنت تعلم أنني أحببتك بجنون.

– لقد جئت لي كموكلة.

– كانت سمعتك كمحامٍ كبير.

– وكسبت قضيتك.

– لقد كنت على حق.

– فأنا لست بارعًا إذن.

– كنت بارعًا في اختيارك لي.

– أحسست أنك في فراغ.

– حين يتوفى الزوج تصبح الزوجة في فراغ.

– ولكني أنا أيضًا كنت في فراغ.

– كان فراغًا عاطفيًّا.

– كنت محتاجًا إليك.

– وكنت محتاجة إليك.

– قضيت معك أروع لحظات حياتي.

– وإنها أروع لحظات حياتي.

– لقد وهبت لي الكثير.

– وأنت وهبت لي الكثير ثم …

– ثم ماذا؟

– مللتني.

– أنا؟

– تركتني بين الموت والحياة.

– كان لا بد أن أسافر في عمل.

– وحياتي.

– إن عملي يتوقف عليه مصائر الآخرين، إنها مسألة ضمير.

– ألم يعاتبك ضميرك في أمري؟

– تركتك بين يدي الأطباء.

– ولكني وحيدة.

– وماذا كنت أصنع؟

– وأنا وحيدة بسببك.

– طبيعة حياتنا تحتِّم عليك الوحدة.

– ألم تفكر في أمري؟

– ماذا كنت أصنع؟

– سؤال العاجزين.

– فأجيبي أنت.

– كنت تستطيع على الأقل أن تأتي لي بممرضة.

– لماذا لم تقولي؟

– مثل هذا لا أقوله أنا.

– إنك دائمًا كنت تطلبين ما تريدين.

– إلا هذا.

– لماذا؟

– إنها صحتي وحياتي يجب أن ترعاها أنت دون أن أقول.

– كنت مشغولًا بعملي، ولم يخطر لي هذا ببال.

– لو كان أمري يعنيك لخطر هذا ببالك.

– لا يجوز أن تحاكميني على فكرة خطرت لك ولم تخطر لي.

– ثم عدت من السفر.

– لست أدري أي شيطان أخبر زوجتي بعلاقتنا.

– فهو حرصك على زوجتك إذن.

– بيتي وكياني وسمعتي.

– وحبك؟

– كنت أطمئن عليك.

– وهل اطمئننت؟

– لقد كنت دائمًا حريصة على بيتي.

– كنت أحسب حياتي عندك غالية.

– أنت تعرفين أنها غالية.

– كنت أحسب.

– ومع هذا فقد سمحت زوجتي للمجلات أن تتكلم في الموضوع.

– وهل يهمك هذا؟

– سمعة المحامي في غاية الأهمية.

– كل شيء مهم عندك إلا صحتي.

– ألا يمكن أن تكون أشياء كثيرة مهمة في وقت واحد؟

– على أن تكون صحتي أهم شيء عندك.

– أنت تعرفين أنها أهم شيء عندي.

– تركتني وأنا بين الموت والحياة.

– ظروف قاسية.

– عذر الضعاف.

– ألا ترحمين؟

– وماذا تفيد رحمتي الآن؟

– ألا تعرفين ماذا تفيد؟

– لقد فات الأوان.

– لم يفت.

– لعلي كنت أقبل عذرك، لو لم تكن …

– لو لم أكن ماذا؟

– لقد مت.

– أنا مت؟

– لقد مت.

– أهي مؤامرة مدبرة؟

– الموت لا يحتاج إلى تدبير المؤامرات.

– إذن فأنا ميت.

– ميت؟

– أنت ترين هذا.

– إنها الحقيقة.

– الحقيقة؟!

– ميتًا أو حيًّا لن أراك ولن تريني بعد اليوم.

٤

هو الملجأ الأخير ليس لي غيره، لا يستطيع هو الآخر أن يدعي موتي، أنا الذي صنعته من السهر الطويل والجهد الشاق والضمير اليقظ والعلم والدراسة والفن، صنعته وجعلت اسمه على كل لسان، مكتبي، إذا ذُكر اسمه للمتهم فهو أمن، ولصاحب الحق فهو عدل، لم أقبل فيه قضية إلا كنت راضي الضمير عنها، فارغ هو الآن، موعد المكتب لم يأتِ بعد، الوكيل لم يأتِ والزبائن لا تجيء إلا بعد موعد المكتب بساعة أو أكثر، ما أعظم ما قمت به، هذه القضايا القديمة كلها تحمل الأعمال الرائعة التي قدمتها في ساحة العدالة، وفي فن المحاماة وفي خدمة الحق. بل إلى أن القضايا التي لم أقبلها كانت أعظم وأضخم. لا أنسى تلك القضية التي اجتمع فيها خمسة شباب ليقتلوا رجلًا عجوزًا، وجاءني أخو أحدهم يدعوني للمرافعة عن أخيه، وقرأت القضية ووجدت الظروف جميعًا تشير إلى موكلي بالاتهام، كان مجرد المرافعة في القضية مهمًّا بالنسبة لي؛ فقد كنت في ذلك الحين محاميًا ناشئًا يبحث عن القضايا الهامة ليصنع بها اسمه في سجل كبار المحامين، وقد جاءني هذا الموكل لصلة كانت تربط بيني وبين أسرته، وكان طامعًا ألَّا أغلو في الأتعاب وقد كنت خليقًا ألا أتقاضى شيئًا على الإطلاق. فمثل هذه القضايا يدفع فيها المحامون أتعابًا، ولم تكن أصابع الاتهام التي تشير إلى موكلي تهمني في شيءٍ، كل ما كان يهمني هو الحقيقة، لقد أحسست أن موكلي اشترك في الجريمة، أحسست بهذا إحساسًا اقترب من اليقين، فحين جاء الأخ يسألني إن كنت سأقبل القضية سألته ذلك السؤال الذي لا يجوز لمحامٍ أن يسأله لمتهم أو قريب لمتهم، ذلك السؤال المباشر الصريح القاطع: هل ارتكب أخوك الجريمة؟

وأطرق الأخ لحظة كأنما كان السؤال لكمة عنيفة موجهة إليه ثم رفع رأسه في حزنٍ وأسًى.

– نعم.

وهدمت نعم كل آمالي أو معظمها؛ فقد أردت أن أخاطب الأمانة في نفس هذا الأخ.

– لقد أقسمنا اليمين ألا نكذب فدفاعي عن أخيك سيكون قائمًا على طلب التخفيف بناء على الشهادات التي قدمت للمحكمة لإثبات الجنون، وأعتقد أن هذا هو خير سبيل للدفاع، أنا لن أدَّعي أن أخاك بريء، إن رأيت أن أسير في الدعوى على هذا النحو فأنا تحت أمرك، وإن رأيت أن نبحث عن محامٍ آخر يحاول نفي التهمة جميعًا فهذا إليك.

وصمت الأخ قليلًا في تلعثم وهو يقول: سر في الدعوى على النحو الذي يرضيك، وفرحت يومذاك ولكن ما لبث فرحي أن تبدد؛ فقد علمت أن الأخ قد وكَّل محاميًا آخر، تبدد فرحي ولكن ما أسرع ما ملكني شعور بالسعادة الطاغية، ذلك الشعور الذي يمتلك من قدَّم تضحية في سبيل مبدأ، شعور رائع كثيرًا ما أحسست به وأنا أقيم صرح هذا المكتب.

شعرت به كلما رفضت قضية كهذه، وشعرت به كلما حاول أحدهم أن يجعل من المحاماة مهنة وساطة رخيصة.

لعل هذا النوع من الشعور أعظم في إسعاده من كسب قضية؛ فكسب القضية يقترن فيها الجهد بالفرح، وتوقع الكسب مع الجهد يجعل الكسب نتيجة قريبة الاحتمال، فالفرح بها لا يكون كبيرًا، أما مغالبة النفس وهي أعظم عدو للإنسان ورفض المال الذي نحتاج إليه، رغم حاجتك إليه.

أما هذا فإنه يشيع في النفس نوعًا من الرضا والسعادة والاطمئنان إلى نفسك والثقة بها، وأهم ما يحتاج إليه المرء في حياته أن يطمئن إلى نفسه ويثق بها، يثق بأنها تستطيع دائمًا أن تكون أبية مُترفِّعة فيها كبرياء القناعة واعتزاز أصحاب المبادئ.

ماذا حدث لي حتى بدأت أترافع عن نفسي، لا أدري ماذا حدث، لا أريد أن أذكره وهل أملك إلا أن أذكره؟ وماذا يهمه؟ فما دام مكتبي هذا باقيًا لي فكل ما عدا ذلك عبث، أستطيع أن أعيد إلى حياتي كل هؤلاء الذين رفضوا حياتي فهم أيضًا قد صنعتهم بمكتبي، وأستطيع أن أعيد صنعهم إذا شئت، زوجتي، السنين الطويلة والطريق الذي قطعناه مع الآمال الهشة الواهنة حتى أصبحت الآمال حقائق وهي في شموخها الصاعد وفي ترفعها الأبي وفي مثاليتها الرائعة القاسية. وإني أحبها وأكبرها وأجلُّها في كل لحظة في حياتي، إني أعتز بها، أمثل هذه أستطيع أن أعيد صنعها؟ أن أعيد صنع الحياة التي قطعتها معها، ابنتي نبض قلبي وحبي وضعفي وقوتي، في ثقتها بنفسها وبحبها لي تقطع الحياة حرية ونقاء. كيف استطعت أن أجعلها ترفض حياتي، كيف؟ كيف، وكيف تعود إلى مثل هذه البنية.

حبيبتي، لحظات السعادة المزغردة الطاغية، لحظات المتعة الوضيئة في حياتي، القلب، والقلب ينبض واحد، والمخاطرة والخاطرة تتآلفان لهما خاطرة واحدة، مخاوفي عندها أمن وآلامي عندها إلى زوال، ومع ذلك بقي لي مكتبي.

ماذا حدث؟ لقد أوغل الليل ولم يأتِ الوكيل. ولم يأتِ الزبائن، لعل الوكيل في مكتبه ولعله لا يعرف أنني بحجرتي. أبدًا إنه لم يأتِ. لم يأتِ والحجرات فارغة، لا أحد في الأوراق على مكتب الوكيل، إنها ليست أوراقًا إنها مجلات، مجلات. فضيحة شائنة؛ زوجة محامٍ كبير تطلب الطلاق لأن زوجها يخونها. زوجة محامٍ كبير ترفض البقاء مع زوجها الخائن، زوجة محامٍ كبير في قضايا الجنايات …

إنه من أسهل الأمور عليَّ أن أعرف على الفور إن كنت حيًّا أو كنت ميتًا ولكن، إذا كان هؤلاء يرون أنني ميت فالأمر بعد ذلك سواء، لا حاجة بي إلى البحث، الأمر سواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤