من غرب لشرق

۱

وصلت أنا ود. «أحمد مرسي» إلى مطار كنيدي بنيويورك، وفي انتظار الطائرة التي ستأخذنا إلى مدينة «فيلادلفيا» بولاية «بنسلفانيا»، فتحدَّثَت إليَّ إحدى السيدات المنتظرات في الصالة. ولم أفهم من كلامها شيئًا، فأصابني ذعر، على ما درسته بالجامعة الأمريكية. حاوَل «أحمد» أن يُخفِّف من ذعري، فقال إنه لم يفهم من كلامها شيئًا، وقال إن لهجتها غريبة عليه هو أيضًا وقد زار أمريكا من قبل. بالجامعة الْتقَينا الدكتور «توماس نيف»؛ أمريكي من أصلٍ لبناني، وهو المُشرِف على المنحة من قسم دراسات الشرق الأوسط بالجامعة، والذي أخبرني أن أحصل على دورة لغة إنجليزية بالجامعة، فذهبت ودفعت خمسمائة دولار من جيبي للدورة، ولم أستفد شيئًا، كلها مبادئ عامة أعرفها، فطلبت مستوًى أعلى. أخبرني المُحاضِر أن هذا أعلى مستوًى للغة الإنجليزية كلغةٍ ثانية. فطلبت أن تُرَد إليَّ نقودي؛ فلن أسمح لأحد أن يخدعني في بلاد «العم سام». رفض المُحاضِر؛ لأن الدورة بدأت وفات موعد استرجاع الاشتراك. شعرت أنني يُغرَّر بي، فذهبت إلى د. «توماس نيف» وقلت له: أنت أخبرتني أن آخذ هذه الدورة، وأنت الأستاذ المُشرِف، فيجب عليك أن تردَّ لي نقودي. فقال: أنا تصوَّرتُ أنك تحتاج إلى الدورة ككل الطلبة، فلماذا أدفع النقود؟ تدخَّلَت زوجته «جين» في الحوار ووجدتها تقول له: «توماس»، هو عنده حق، أنت الذي نصحته بهذا وأنت المُشرِف، وكلامك يؤثر، فيجب أن تدفع له النقود من جيبك الخاص. ودفع لي الخمسمائة دولار، فشعرت أنني في مجتمع لا يضيع فيه حق إذا سعيت وراءه.

عرَّفني د. «أحمد» على الكثير من الأساتذة، ومنهم دكتور مِصري في الأنثروبولوجي بجامعةٍ قريبة، «عبد الحميد الزيني»، له بأمريكا عمرٌ طويل، وكان لحواراتي معه أثرٌ كبير في توجيهي لقراءاتٍ كثيرة. لم يمكث د. «أحمد مرسي» كثيرًا؛ فقد تم اختياره مُستشارًا ثقافيًّا لمصر في إيطاليا، وكان مُترددًا في القَبول، لكني ألححت عليه بالقبول حتى قَبِل، فأصبحت أعتمد على نفسي. أخذت مكانًا مُتواضعًا في بيت سيدة عجوز في أجوار الجامعة، وبينما تُعطيني صاحبة البيت المِفتاح للمَسكن سألتني: أنت من أين يا بُنَي؟

– من مصر.

– مصر! ودي فين؟

– في أفريقيا — والتجهُّم على وجهها — هل تعرفين الأهرامات وأبو الهول؟ الحضارة المصرية لها سبعة آلاف عام.

– سبعة آلاف عام؟ هذا مُستحيل!

– مُستحيل ليه؟! دا تاريخ.

– على حسب «الإنجيل»، الحياة بدأت على الأرض منذ ستة آلاف عام فقط.

شعرت أنه لا طائل من الاستمرار في الحوار. الكثير من الأمريكيين يعتمدون على الإنجيل كمصدر لمعرفتهم التاريخية، كما يفعل كثير من المسلمين مع القرآن. وصُدِمت من تَقوقُع الأمريكيين وجهلهم بالعالم وتركيزهم على ما يحدث داخل حدود وطنهم، بل حتى حدود المدينة أو المنطقة التي يعيشون بها.

الهدوء والانتظام في الحياة الجامعية ساعَداني أن أقرأ في كتاب «الفتوحات المكية» الذي استعصى عليَّ في القاهرة بزحامها، فظلِلتُ عامًا كاملًا لا أتخطَّى الصفحات الثلاثين الأولى؛ سِحر الخطبة يجذبني للعودة إلى فك طلاسمها الرمزية، فوجدتني أدخل إلى عالم الصوفي الكبير «ابن عربي» بلا مُعوِّقات، عالم يستعصي دخوله دون إلمام بمعرفة واسعة بالتراث الإسلامي؛ فكل ثلاثة أسطُر تجد آيةً قرآنيةً يستشهد بها. كانت تُراودني دائمًا كلمة «تأويل»، وأريد أن أبحث عن معناها بالإنجليزية، فحاولت البحث عن Super interpretation أو Ultra interpretation، حتى اتصلت بأستاذي «حسن حنفي» الذي يُجيد عِدَّة لغات، فقال لي: Hermeneutic. وبدأت أجمع الكتب ذات الصلة، بالهرمنيوطيقا التي استخدمتها بمعنى «التأويلية»، فوجدت تراثًا كبيرًا من المُؤلَّفات، وكانت القراءة صعبةً ومُستغلِقة، وشعرت بفشل وعجز عن الفهم. كنت لا أبرح المكتبة إلا للتدخين، ومن شدة انجذابي توقَّفتُ عن التدخين، وأصبحت أمكث في المكتبة من الصباح حتى الحادية عشرة مساءً، لكني في نفس الوقت طالب في قسم الفولكلور، وعليَّ أن أحضر محاضرات وأكتب أوراقًا بحثية. وكان القسم يتعامل مع الفولكلور بمفهومٍ واسع؛ محاضرات في تحليل النصوص، وفي اللاهوت، والأنثروبولوجي. وكان الأستاذ يُعطي فكرةً عن المنهج الدراسي، وبعدها نلتقي في مسكنه للحوار. كان المناخ الأكاديمي والعلمي جميلًا، فدخلت في القراءة في اللغويات الحديثة، والسوسيولوجي، والأنثروبولوجي.

ذهبت إلى السوبر ماركت الضخم لقضاء بعض الاحتياجات، وكانت سيدةٌ عجوز تمرُّ بعربة مُشترَياتها، وبداخل العربة قِطَّتها الجميلة على أُهبة القفز من العربة، فأمسكت بها قبل أن تفعل. شكرَتني السيدة برِقَّة، وسألتني: من أين؟ فلمَّا أجبتها وجدتها تقول لي: لماذا لا تَقبَلون اليهود يعيشون معكم؟ فقلت لها: أظن أن اليهود الإسرائيليين هم الذين يرفضون أن يعيش الفلسطينيون معهم.

استمرَّت السيدة بحِدَّة: إنها «أرض الميعاد» التي ورِثها «إسحاق» عن أبيه «إبراهيم».

حاولت أن أتحدَّث بهدوء: هذا حق، إننا نتحدث عن «أرض ميعاد»، لكن إبراهيم كان له ولدان، «إسحاق» و«إسماعيل»، هل ترَين من العدل أن يصطفيَ «إبراهيمُ» «إسحاقَ» فقط ليَرِثه.

٢

بعد فترة عسرة بدأت مصطلحات ومفاهيم «الهرمنيوطيقا» تتفتح لي، وازدادت درجة فهمي. قرأت في الفلسفة الوجودية وعن العلاقة بين الأنا والوجود، وأدركت مدى اعتماد العلوم الاجتماعية والإنسانية على التفسير، تفسير الظواهر؛ مما يجعل نظرية التأويل — أي القواعد العامة التي تقوم عليها عملية التفسير — مهمةً في هذه العلوم؛ فهذه العلوم تحتاج إلى نظريةٍ تأويلية. وجدت إعلانًا في الجامعة عن برنامج تدريسي عن مادة التأويلية (الهرمنيوطيقا)، وكان التسجيل فيه بتصريحٍ خاص من الأستاذ، فذهبت أُقابله، وطلبت أن أدرس «الكورس»، فأخبرني أني الطالب الوحيد في الجامعة الذي فهم معنى هرمنيوطيقا وأهميتها. ولم يكن يعرف ماذا يمكن أن يفعل، فسألني لماذا أريد دراسة «الكورس». وبعد حوارٍ طويل قال: أنت عندك أسئلة من ثقافتك؛ أنت من ستُجيب عليها، ومعرفتك التي حصَّلتَها هي البدايات التي كان «الكورس» سيُساعدك فيها، والآن أنت تعرفها، فاستمِر.

أين تَكمُن الحقيقة؟ هي مشكلة «محيي الدين ابن عربي»، وهي نفس المشاغل والإشكاليات التي تتعامل معها نظرية التأويل. مشكلة «الذات والموضوع» والصلة بينهما. هل الحقيقة تَكمُن في الذات أم في الخارج أم في العلاقة بينهما؟ «ابن عربي» يرى أن الحقيقة تتشكل وتتلون كتَشكُّل الماء بشكل الإناء الذي يستقبله، وكتَلوُّن جلد الحرباء حسب لون السطح الذي تعيش عليه؛ فالحقيقة ليست خارج الوعي، لكنها نتاج العلاقة بين «الذات» و«الموضوع». وإشكال آخر؛ هل الحقيقة ذاتية بشكلٍ كامل أم يمكن التحدث عن تداخل بين «الذات والموضوع»؟ بدأت أشعر أن الحدود الفاصلة وهميةٌ بين اهتمامات الهرمنيوطيقا أو التأويلية، وما أقرؤه في الثقافة العربية الإسلامية وكتابات «ابن عربي». نعم هناك إجاباتٌ مختلفة باختلاف الثقافة واللغة، لكن هناك همومًا مشتركة. كلما قرأت في «ابن عربي» وفي تراث الهرمنيوطيقا الغربي، شعرت بالحاجة إلى نقل هذه المفاهيم والأفكار إلى اللغة العربية، وفكَّرتُ في الإعداد لأول مقال طويل أو دراسة قصيرة سوف أكتبها عن الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص.

الهرمنيوطيقا أو التأويلية قضيَّتها الرئيسية هي تفسير النص، بالتركيز على علاقة المُفسِّر بالنص، وهي مصطلحٌ استخدمه اللاهوتيون في تعاملهم مع الكتاب المُقدَّس عام ۱٠٦۲ﻫ/۱٦٥٤م، ويقصدون به القواعد والمعايير التي يتبعها المُفسِّر في تفسير النص، ويُفرِّقون بينها وبين عملية التفسير نفسها؛ عملية تطبيق هذه القواعد والمعايير. واتَّسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية … إلخ. والتأويلية في تركيزها على علاقة المُفسِّر بالنص لا تخصُّ فقط الفكر الغربي، بل لها وجودها في تراثنا العربي القديم والحديث. وعلاقتنا مع الفكر الغربي يجب أن تكون علاقة حوار جدلي؛ فلا نكتفي بالاستيراد والتبنِّي، بل ننطلق من همومنا الراهنة وواقعنا؛ فلا نلهث وراء كل جديد لمجرد أنه جديد.

فعلى مستوى تفسير القرآن في تراثنا القديم كان التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي أو التأويل. الأول يهدف للوصول إلى معنى النص كما فهِمه المعاصرون لنزوله، بجمع الأدلة التاريخية واللغوية. والتفسير بالرأي نُظِر إليه على أنه تفسيرٌ غير موضوعي؛ لأن المُفسِّر يبدأ من موقفه الراهن يُحاول أن يجد سندًا في القرآن لموقفه. الاتجاه الأول يتجاهل المُفسِّر ويلغي وجوده لحساب النص، بينما لا يتجاهلها الاتجاه الثاني. وفي واقعنا النقدي الحديث، المُعضِلةُ تتمثل في أن كل ناقد يعتقد أن تفسيره هو التفسير الصحيح، كما قصده المُؤلِّف، وانظر إلى الدراسات عن «نجيب محفوظ»؛ فهو عند ناقدٍ كاتبُ الاشتراكية الأول، وعند ناقدٍ آخر هو كاتب الإسلامية الروحية.

العلاقة بين الفن والأدب، أو الإبداع والعالم، منذ «أفلاطون وأرسطو» حتى العصر الحديث فيما عُرِف بالكلاسيكية، تُؤكِّد دور الواقع الخارجي على حساب دور الفنَّان أو المُبدِع من خلال المُحاكاة. وجاء تيَّار الرومانسية ليُؤكِّد دور المُبدِع على حساب الواقع، وركَّز على العمل الأدبي بوصفه تعبيرًا عن عالم الفنَّان الداخلي، فحوَّلت عملية نقد العمل الفني إلى انطباعية. ومع مرحلة الجَزر الرومانسي خطَت الدراسة الأدبية على يد «ت. س. إليوت» خطوةً جديدةً جعلت النص هو مِحور اهتمامها، مُنكِرةً علاقته بمُبدِعه أو الواقع؛ وذلك بالتركيز على تحليل النص وترك مجال علاقته بالمُبدِع أو الواقع لمجالاتٍ أخرى تدرسها غير النقد الأدبي. وجاءت البنيوية (البنائية) مُستفيدةً من مناهج علم اللغة، في البحث عن البنية التي تؤدي إلى اكتشاف نظام العمل الأدبي، فيَتمُّ تَجاوُز ثنائية «الذات والموضوع» بإخضاعها إلى فكرة النظام. من هنا دور التأويلية (الهرمنيوطيقا) لتركيزها على علاقة المُفسِّر بالنص، والتي أهملَتها كل النظريات.

قرأت عن جهد الألماني «شليرماخر» (۱۱٨٠ﻫ/۱٧٦٨م–۱۲٤٨ﻫ/۱٨٣٤م) بالخروج بالتأويلية من مجال علم اللاهوت ودراساته لتكون علمًا قائمًا بذاته. النص وسيطٌ لغوي ينقل فِكر المُؤلِّف إلى القارئ؛ ففيه جانبٌ موضوعي مشترك بين المُؤلِّف والقارئ يجعل عملية الفهم مُمكِنة. وأيضًا يُشير النص إلى الفكر الذاتي لمُبدِعه في طريقة استخدام المُبدِع الخاص للغة. والعلاقة بين الجانبَين علاقةٌ جدلية. وهدف القراءة هو فهم النص كما فهِمه مُؤلِّفه. ورغم النقلة المُهمَّة للهرمنيوطيقا على يدَيه ومفهومه عن الدائرة التأويلية، فإنه حِرص على وضع قوانين ومعايير لعملية التفسير تحاشيًا لسوء الفهم، فطالَب المُفسِّر أن يتباعد عن ذاته وأُفقه الراهن.

وفيلسوف التاريخ الألماني «ويلهلم ديلثي» (۱٢٤٧ﻫ/۱٨٣٣م–۱٣٢٨ﻫ/۱٩۱۱م) حاوَل تأسيس منهج موضوعي للإنسانيات بالتركيز على تحليل حقائق الوعي؛ فالتجربة الذاتية هي أساس المعرفة، والتأويلية عنده تدخل في إطارٍ أكبر من النص، تُركِّز على فهم التجربة كما يُفصِح عنها العمل الأدبي من خلال معايشة التجربة التي يُعبِّر عنها النص؛ فمن خلال المعايشة يفهم الإنسان نفسه، وليس من خلال التأمل العقلي، بل من خلال التجربة. وتركيزه على تجربة الحياة ودور المُفسِّر في عملية الفهم أثَّرا في فكرِ من أتَوا بعده.

الفيلسوف «مارتن هيدجر» (۱٣٠٥ﻫ/۱٨٨٩م–۱٣٩٥ﻫ/۱٩٧٦م) حاوَل إقامة التأويلية على أساسٍ فلسفي، أو يُقيم الفلسفة على أساسٍ تأويلي؛ فوعي الإنسان لوجوده يُفصِح عن نفسه خلال تجربةٍ حية وفَهمٍ آنيٍّ تاريخي يتشكَّل من تَجارِب يمرُّ بها الإنسان؛ فالأشياء تتجلى لنا، والعالم يكشف نفسه للإنسان من خلال عمليات مُستمرة من الفهم والتفسير، واللغة هي التجلِّي الوجودي للعالم. ونحن لا نلتقي النص خارج إطار الزمان والمكان، نلتقي به مُتسائلين هذه الأسئلة التي هي الأساس لفهم النص وتفسيره، لكن «هيدجر» أغفل الخاصية المُميِّزة للفن، وأهدر ذاتية المُبدِع في سبيل التجربة الوجودية.

و«هانز جادامر» الألماني أيضًا (۱٣۱٦ﻫ/۱٩٠٠م–۱٤٢۱ﻫ/٢٠٠٢م) في كتابه الماتع الذي أُعجبتُ به كثيرًا Truth and Method «الحقيقة والمنهج»، الذي أقام عملية الفهم على أساسٍ جدلي، ونَقَد الهرمنيوطيقا منذ شليرماخر مرورًا ﺑ «ديلثي»، وركَّز على عملية الفهم ذاتها؛ فالتاريخ ليس وجودًا مستقلًّا في الماضي عن وعينا الراهن، وحاضرنا ليس معزولًا عن تأثير التقاليد التي انتقلت إلينا عبر التاريخ؛ فالوجود الإنساني تاريخي ومُعاصر في نفس الوقت؛ فالتاريخية تَراكُم لخبرة الوجود في الزمن. واللغة لا تُشير إلى الأشياء، بل الأشياء تُفصِح عن نفسها من خلال اللغة. وقد أقام تأويليَّته مُتأثرًا بجدلية «هيجل» على أساسٍ جدلي مثالي، لكني أختلف معه بأن «الوجود الإنسانيَّ مشروط بلحظةٍ تاريخية مُعيَّنة، وبإطارٍ اجتماعي يُحدِّد شروط هذا الوجود وآفاقه؛ فالذاتي والموضوعي في حالة علاقة جدلية محكومة بالشروط الاجتماعية المادية والتاريخية التي تتمُّ فيها المعرفة». وتُعَد إقامة الهرمنيوطيقا عند «جادامر» على أساسٍ جدلي إضافةً حقيقية؛ ولكنَّها تحتاج لتأسيس الجدل على أساسٍ مادي.

وكتابات الإيطالي «بيتي» (۱٣٠٦ﻫ/۱٨٩٠م–۱٣٨٦ﻫ/۱٩٦٨م)، والفرنسي «بول ريكور» (۱٣۲٩ﻫ/۱٩۱٣م–۱٤۲٤ﻫ/۲٠٠٥م)، والأمريكي «هيرش» المولود في ۱٣٤٥ﻫ/۱٩٢٨م، الذين يُحاولون إقامة نظرية موضوعية في التفسير؛ وذلك بإقامتها على منهجٍ موضوعي صلب، لكنها لم تعُدْ عندهم فلسفة، بل علم تفسير النصوص، أو نظرية التفسير. «بول ريكور» ركَّز اهتمامه الأساسيَّ على تفسير الرموز، وفرَّق بين طريقتَين في التعامل مع هذه الرموز؛ الأولى هي اعتبار الرمز نافذةً نُطلُّ منها على عالم من المعنى، والثانية التي يُمثِّلها «فرويد وماركس ونيتشه» بالتعامل مع الرمز باعتباره حقيقةً زائفةً يجب ألا نثق فيها، بل نبحث عن المعنى المُختبئ وراءها. ويرفض الفهم البنيويَّ للغة على أنها نظامٌ مُغلَق من العلاقات لا يدل على شيءٍ خارجه. وهناك فرق بين اللغة والكلام؛ فاللغة تُمثِّل نظام الثبات، والمُتكلِّم يختار من الإشارات اللغوية واحدةً دون الأخرى، ويُقِيم بين الإشارات علاقات دون علاقات، من هنا يكون الكلام مصدر نظام التغير. والنص المكتوب يُشير إلى كاتبه، إلا أن له استقلاليةً في المعنى. وتصبح مَهمَّة المُفسِّر هي النفاذ إلى عالم النص وحل مستويات المعنى الكامن فيه؛ ظاهرًا وباطنًا، حرفيًّا ومجازيًّا، مُباشرًا وغير مُباشر. لكن «ريكور» أغفل علاقة المُفسِّر بالنص؛ نتيجةً لرد فِعله للبنيوية (للبنائية).

فرَّق «هيرش» بين المعنى والمغزى؛ فمعنى النص شِبه ثابت يمكن الوصول إليه من خلال تحليل النص، أما المغزى فمُتغيِّر، يقوم على العلاقة بين النص والقارئ. وفرَّق بين المعنى «القصد» الذي أراده المؤلف، والمعنى الكامن في النص. وما يعنينا هو المعنى الكامن في النص، ويمكن الوصول إليه من فحص الاحتمالات العديدة التي يمكن أن يعنيها النص. وهذه مَهمَّة الهرمنيوطيقا التي يتجاذبها اتجاهان؛ اتجاه التركيز على النص والمؤلف عند «بيتي» و«هيرش»، واتجاه يبدأ من موقف المُفسِّر الراهن باعتبار هذا الموقف (الوجودي) هو المُؤسِّس المعرفي لأي فهم عند «جادامر».

٣

شعرت بدفء العلاقة مع رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط «توم نيف» وزوجته «جين»؛ فقد عاشا في القاهرة سبع سنوات عندما كان «توم» يعمل بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. أول مرة تناولتُ العشاء في بيتهم، قالت لي: «شوف يا نصر أنا هعاملك مثل معاملة الأُسر في مصر، سأضع طعامًا في طبق، وإذا قلت كفاية شكرًا، سأستمر في وضع الطعام. العادة هنا عندما تقول كفاية، الناس تكف عن وضع الطعام، فلا بد تكون واضح بدون خجل، ولو كان فيه حاجة انت عايزها زي ملح أو «مستاردة» أو صودا ومش موجودة على الترابيزة، لا تستحي أن تطلبها. إيه الأخبار يا نصر؟ العصفورة قالت لي إنك خرجت للعشاء مع بنت من الجامعة؟» فقلت لها: أبدًا ما فيش حاجة بيننا، دا كان عشاء عادي.

فقالت: «هو انت مكسوف؟ إذا كان الموضوع مُحرِج لك ما فيش مشكلة؟» حاولت أن أشرح لها: «لا، أبدًا ما في إحراج، خرجنا وكان عشاءً عاديًّا لكن الكلام انقلب سياسة ونقاشًا حول مفاوضات السلام في كامب ديفيد، ومعاهدة «السادات وبيجن» الشهر الماضي. ولما عرَفَت أني ضد سلام مُنفرد بين مصر وإسرائيل، وضد تنازلات «السادات» في شروط المعاهدة، المُعلَنة منها والسِّرية، وهي كمان «يهودية».» ضحك توم زوجها، وعلا صوته: «خارج على عزومة عشاء مع بنت زي القمر، ورايح تتكلم في السياسية ومصر وإسرائيل، دا أنت طيب أوي يا نصر.»

حاولت أن أدفع ثمن العشاء، فاعتبرت دا تقليل من شأنها، ودخلنا في جدل تاني.

انخرطا الاثنان في الضحك، ووضعت «جين» مزيدًا من الطعام على طبقي، وانقلب العشاء حوارًا عن الوضع في البلاد العربية بعد معاهدة «السادات وبيجن».

أحاول التعرف إلى الناس، وإلى ثقافة وعادات وتقاليد في المجتمع الأمريكي. لاحظت التقسيم ليس فقط بين شمال «فيلي» — اختصارًا ﻟ «فيلادلفيا» — وجنوب «فيلي» بين البِيض والسُّود؛ فالمواصلات العامة: الأتوبيساتُ تجد البِيض يستخدمونها أكثر، والسُّود أكثر استخدامًا للمترو تحت الأرض. داخل النوادي الليلية للسود أجد نفسي بينهم، أستمتع بموسيقاهم. خرجت من النادي في طريقي إلى مسكني، وكان الوقت متأخرًا، حول مدخل المترو مجموعة من الشباب الزنوج، ولم يكن أحد بالطريق، التفُّوا حولي في دائرة. شعرت أنها النهاية. اقترب مني أحدهم، في الثامنة عشرة على الأكثر، وقال: أنت من أين؟

حاولت أن أكون هادئًا بقدر استطاعتي، وقلت: «من أفريقيا.» واستكملت: «أنا من بلدٍ اسمه مصر في أفريقيا.» قال: وماذا تفعل هنا؟

ما إن قلت «مُعلِّم» حتى بدأ يضحك بلهجةٍ ساخرة يُوجِّه حديثه إليهم: «مُعلم، مُعلم. وماذا تُعلم يا مُعلم؟» قلت بهدوء: «أُدرِّس اللغة العربية.» قال زعيمهم: «طيب يا معلم ادعونا لشراب في بيتك.»

– ولمَ لا؟ لكن الوقت متأخر، وأنا عندي دروس في الصباح، لكن إذا أحببتم تعالَوا نشرب شيئًا معًا، لكن لازم أذهب للسرير في أقرب وقت.

وجدت نوعًا من الاستغراب على وجوههم. ولم أصدق نفسي أني أدعوهم إلى مسكني، لكني كنت مرعوبًا أن أقول لهم «لا». أخذنا المترو، وطوال الرحلة وأنا أتصوَّرهم الستة وهم يدخلون مَسكني ويقتلونني. وصلنا إلى البيت، دخلنا، سألني أحدهم: «عندك إيه للشرب؟ أنا عايز بيرة.»

– في الواقع ليس عندي كحوليات؛ لأني لا أشرب … وقلت بصوتٍ خفيض مُتحسسًا: لكن ممكن نشرب شاي، وعندي عصير برتقال، أو لبن.

قال أحدهم مُتسائلًا: «ليه لا تشرب الكحوليات؟» وقال آخر بسرعة: «هو انت هوفا وتنس؟» من «شهود جهوفا» — بتعطيش الجيم — حاولت أن أشرح لهم أن شرب الكحوليات ضد المُعتقَد والتقاليد الإسلامية، وفي النهاية قدَّمتُ لهم ستة مشروبات مما عندي. وكانوا في أدبٍ جمٍّ داخل الشقة. سألوني بعض الأسئلة عما أدرس، وشكروني على الصحبة وانصرفوا.

وجدت بالمكتبة كتاباتٍ أخرى للكاتب الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» (۱٣٣۱ﻫ/۱٩۱٤م–۱٤۱۲ﻫ/۱٩٩٣م) غير الدراسة التي قرأتها له وأنا أُعدُّ رسالة الماجستير، Revelation as a Linguistic Concept in Islam عن مفهوم الوحي من منظورٍ لغوي في الإسلام، فوجدت له دراساتٍ أخرى، وكلها عن القرآن، وأرسلت إلى زميلٍ ياباني كان معي في جامعة القاهرة يدرس اللغة العربية، وطلبت منه أن يُصوِّر لي بقيَّة كتبه في اليابان، والتي لم أجدها بمكتبة جامعة «بنسلفانيا». والدور الذي قام به «إيزوتسو» بتطبيق منهج التحليل اللغوي على القرآن، ووجدت له قدرةً تحليليةً جميلة، وسمعت عن ترجمته للقرآن إلى اللغة اليابانية. وعلِمتُ أنه يُدرس في كندا، فقرَّرتُ أن أقوم بجولة في أنحاء الولايات المتحدة، أزور فيها جامعات ومكتبات أخرى للبحث عن مزيد من الكتب والدراسات عن التأويلية وعن الدراسات القرآنية وعلوم اللغة والنقد والفلسفة. كنت آخذ تذاكر أتوبيس أو قطار أو طائرة ذهابًا وعودة، فزُرتُ جامعة «كاليفورنيا» و«بيركلي» وجامعة «برنستون»، وذهبت إلى مكتبات في «نيفادا» و«أروجون»، وأنفقت الكثير من مالي على المواصلات، وعلى تصوير كتب من هذه المكتبات والجامعات، وذهبت لزيارة أستاذ عراقي بجامعة «هارفارد»، د. «محسن مهدي»، أستاذ الفلسفة الإسلامية بالجامعة، وله كتابات عن «ابن خلدون والفارابي»، وله تحقيق ﻟ «ألف ليلة وليلة». وتحدَّثنا عن موضوع دراستي للدكتوراه ودراسات الهرمنيوطيقا التي أقوم بها، وأُعجبَ كثيرًا بالأفكار التي طرحتها عليه، فعرض عليَّ منحةً للدراسة ﺑ «هارفارد» واستكمال الدكتوراه بها، لكن عقلي مُتعلق بطلابي الجُدد بمدرج ثمانية عشر. والحياة في أمريكا لم تجذبني، على الرغم من الزخم الفكري والمعرفي الذي تواصلت معه. ذهبت إلى كندا لمحاولة اللقاء بالأستاذ الياباني «توشيهيكو إيزوتسو» الذي انبهرت بدراسته عن القرآن، لكن لسوء حظي كان في رحلة إلى إيران في ذلك الوقت. عُدتُ بعد شهرَين من التَّجوال والتَّرحال داخل جوانب الولايات المتحدة، فلقيَني الأستاذ «توماس نيف»، وأمسك بذراعي وقال: «اختفيت فين يا نصر؟!»

– عملت رحلة في أرجاء أمريكا.

– هل زرتَ جامعات؟

– بالطبع، ومكتبات أيضًا، وأتيت بأحمال من الكتب التي صوَّرتُها وجمَعتها.

– طيب، سأدفع لك كل تكاليف الرحلة، أحضِرْ لي وصولات التذاكر والفواتير؛ لأن الذي كنت تفعله هو جزء من منحتك الدراسية، ولا أعدُّه مَضيعةً للوقت.

شعرتُ بعاطفةٍ ناحية سكرتيرة تعمل في الجامعة اسمها «جانيت» من أصولٍ يونانية، شديدة الفخر بأصولها. كنَّا نستمتع بالحديث إلى بعضنا بعضًا، في الصباح الباكر، في أنحاء الجامعة، حتى إني عرضت عليها الزواج، لكنها قالت: «نصر أنا عارفة مدى ارتباطك ببلادك، ودراستك وأبحاثك، وأنا لا أقدر أذهب معك إلى مصر، موضوع الارتباط دا لا ينفع ولا بد أن نُحكِّم العقل والمنطق، ولو نشأت علاقة بيننا سنتعذَّب نحن الاثنَين.»

٤

كنت أستعدُّ للخروج إلى الجامعة، حينما فتحت خطابَ صديق لي من مصر يُعزِّيني في وفاة أختي الكبرى «بدرية أم علاء» في الأربعين (۱٩٤۰–١٩٨٠م)، لم أُصدق السطور. لقد كنت أتحدَّث إليهم في قحافة منذ فترة بسيطة وسألت عنها، وقال لي أبناؤها إنها بالسوق. جلست على أقرب مقعد في ساحة الجامعة، ولا أعرف ماذا أفعل. كنت مشدوهًا، وجرت في ذهني سنواتنا معًا، وحبها للمدرسة التي حرَمها منها أبونا، وزواجها الأول، حتى زواجها من ابن عمنا «السيد أبو زيد»، وأبناؤها. اقترب مني أستاذٌ مِصري من جامعة عين شمس، وما إن رأيته حتى انخرطتُ في البكاء. ذهبت إلى مدير المركز «توم نيف» وحكيت له ما حدث. هدَّأ من نفسي وقال: «يا نصر، والدتك أخفَت عليك لحمايتك، وهي أقوى منك، ورُجوعك سيقلب عليهم الألم. هذا هو التليفون اتَّصِل بهم، واعرف ما حصل. ولو أردتَ أُعطيك التذكرة لتُسافر فافعل، لكن سفرك هيعمل إيه؟ زي ما أنت قلت إن الوفاة حدثت من مدة.» اتصلت بأخي في قحافة، وسألته عن أختنا، قال: إنها في السوق. فقلت بحِدَّة: لسه هتكدبوا عليَّ؟! فقال بصوتٍ مُتأثِّر: نصر، أمك لم تُرِد أن تُؤلِمك لأنها عارفة تعلقك بأم علاء، ولم يحدث شيء، لم تمرض، كانوا بيجهزوا حاجات العيد، وفجأة السر الإلهي طلع، سكتة قلبية، وهي في عز شبابها. الله يكون في عون أولادها وزوجها. وأمك حلفتنا كلنا إن ما أحد يقول لك، وبعدين هتيجي تعمل إيه؟ هتقلب عليها المواجع، أنت كمِّل دراستك ومذاكرتك، وتعالى، وأنت في غربة، وكنا مش عايزين نزعلك عليها، وأمك منذ الخبر وهي بتبكي طول الوقت.

تبقَّى لي في المنحة خمسةُ أشهُر، كنت أودُّ أن تمرَّ بسرعة. لم أعُدْ أستطيع ولا أُطيق الوجود هنا، وسأضع همِّي في استكمال العمل في رسالتي للدكتوراه. اتصلتُ ﺑ «جابر عصفور» أطمئنُّ منه على الأحوال في القسم، فأخبرني بالمجلة الجديدة التي ستُصدِرها الهيئة العامة للكتاب لتكون مجلةً للنقد الأدبي، والتي يدعمها رئيس الهيئة الشاعر «صلاح عبد الصبور» (۱٩٣۱–۱٩٨۱م)، وسيرأس تحريرَها د. «عز الدين إسماعيل»، و«جابر عصفور ود. صلاح فضل» نائباه. وطلب مني أن أُسهِم في العدد الأول الذي سيَصدُر بنهاية العام. كنت قد بدأت في قراءة كتاب «أدونيس» (۱٩٣٠م) «الثابت والمُتحوِّل»، فكتبت مقالي: «الثابت والمُتحوِّل في رؤيا أدونيس للتراث.» للعدد الأول من مجلة «فصول» الفصلية، عدد أكتوبر، سنة ثمانين. منذ أن ألقى «طه حسين» حجرًا في الشعر الجاهلي، وبدأت النظرة الديناميكية الحية للتراث. ومع هزيمة يونيو (۱٣٨٥ﻫ/۱٩٦٧م) ازداد الاهتمام بالعودة للتراث. والعودة للماضي تبدأ من هموم الواقع؛ فهناك علاقةٌ جدلية بين الباحث وواقعه وبين التراث. لا شك أن للتراث وجودًا، على المستوى الأنطولوجي أو الوجودي، كان مُنفصلًا في الماضي، لكن على المستوى المعرفي الإبستمولوجي هناك تواصل. التراث موجود في حياتنا بأشكالٍ مُتعددة، والعلاقة بين الماضي والحاضر وبين الباحث والتراث علاقةٌ جدلية. ولا توجد قراءةٌ بريئة؛ بمعنى أنها لا تبدأ من هموم وأسئلة يطرحها الواقع على الباحث. وعلى الباحث الواعي أن يُوائم بدقة بين رؤيته وحقائق التراث. ووعيه بطبيعة هذه العلاقة هي العاصم من الشطح أو الوثب بعيدًا. من هذا المُنطلَق قرأت كتاب «أدونيس». وإشكالية التراث عنده ردُّ فِعل لتوظيف الثقافة السائدة للتراث؛ خدمةً لأهدافها. وبما أنه مُفكرٌ «طليعي» فقد فرَّق بين الثقافة السائدة والثقافة الطليعية التي يُمثِّلها، وهذا الموقف من الواقع شكَّل نظرته للتراث. وعلى المستوى التطبيقي نفَرَ من الماضي نُفوره من الثقافة السائدة. دراسة التراث في هذه الحالة لا تكون علاقة إخصاب، بل علاقة هدم وليس علاقة تجديد. وثنائية «الإبداع والاتباع» ناتجة من كونه شاعرًا، فينظر إلى التراث على أنه مادةٌ مُحايدة يستخدمها، فللمُبدِع أولوية على التراث؛ فتَصوُّرات «أدونيس» للعلاقة بواقعه وبالتراث أوقعَته في الانتقائية والتحيز غير المُنضبِط منهجيًا. إن إنجاز هذه الدراسة الحقيقيَّ هو إدراك العلاقة بين عناصر التراث ومستوياته، وإن كانت قد وحدت بطريقةٍ ميكانيكية أحيانًا بين هذه المستويات.

٥

تجدَّد جرحُ فقدِ أختي «بدرية» بعودتي. أمي كانت قد عادت إلى قحافة، لكن لقاء ابن عمي وأرمل أختي «السيد أبو زيد»، ورؤية أوضاعه مع أطفاله، جدَّد الأحزان وقلَّب المَواجع. ولم يكن يعرف شيئًا عن البيت وعن الأطفال؛ فقد كانت تحمل عنه كل شيء. فقرَّر أن يتزوج، وفاتَحَني في الموضوع. وكانت أمي في حالةِ غضبٍ كبير منه لعدم احترامه لذكرى أختي، في نظرها. ربما أمي تُقارِن نفسها به لرفضها الزواج بعد أبي، وعكوفها على تربيتنا. أمي رفضت تمامًا حضور مناسبة زواجه، كنت مُقدِّرًا وضعه وحاله، فذهبتُ أُهنِّئه. اقترب مني وقال: «أنت لا تعرف مجيئك دا معناه إيه بالنسبة لي يا «نصر»، «بدرية» تركت فراغًا كبيرًا في حياتي وحياة الأولاد، واحنا هنعمل حفل على الضيق كدا احترامًا لذكراها.» نظرت إليه وأنا أبتسم وقلت له: «لا يا سيد، دا أول فرحة لعروسك، وهي ذنبها إيه، لازم تفرح ليلة عرسها، ودعواتي لك ولها بالسعادة.» وجدت نظرة امتنان في عينَيه. وباركت لعروسه وانصرفت.

بدأت أمي وأخواتي في الإلحاح عليَّ في الزواج؛ فقد بلغت السابعة والثلاثين، وبدأت محاولات أمي وأخواتي في البحث عن عرائس لي، حتى ظهرت «أحلام» زميلة أختي «كريمة» في العمل بجامعة القاهرة، وتم الزواج بسرعة. وكنت قد حصلت على شقة من المساكن الشعبية في الدور السادس؛ مما سهَّل عملية الزواج، وكانت فرحة أمي كبيرةً يوم الفرح، حتى إنها قامت ورقصت، وكانت من المرَّات القليلة التي رأيتها تضحك، وكأنها تقول لنفسها إنها أدَّت المَهمَّة، وعبرت بأُسرتها إلى بر الأمان. حاولَت «أحلام» أن تُوفِّر جوًّا من السكينة والهدوء في البيت، وحاولتُ بقدر الإمكان أن أُشرِكها في اهتماماتي الفكرية. أنهَت أختي الصغرى «آية» دراستها الجامعية، وقرَّرَت وخطيبها الزواج مباشرةً، والذهاب إلى السعودية للعمل. وبزواجها تمَّت مَهمَّتي؛ ثلاثة وعشرين عامًا منذ وفاة والدي.

بدأتُ أُركِّز على الانتهاء من كتابة رسالتي للدكتوراه حتى أناقشها. وما إن انخرطتُ في الكتابة حتى باغتَني خبر وفاة أستاذي المُشرِف على رسالة الدكتوراه؛ «عبد العزيز الأهواني» (۱٩۱٥–۱٩٨٠م). لم يُقدِّم لي يومًا إجابة بل سؤالًا أدخل به في عالمٍ جديد وأعود إليه بعد مدة بإجابات، فيلقاني بسؤالٍ آخر. رحل بعد سبع سنوات معًا، يتركني والرسالة لم تكتمل بعد. لكن الدكتور «محمود علي مكي» (۱٩٢٩م) أخذ مكانه في الإشراف على الرسالة وأصبح خير مُعِين. وبدأت أحضر ندوة الثلاثاء ببيت د. «شكري عيَّاد» (۱٩٩٩–۱٩٢۱م) التي كانت خير معين في كتابة الفصل التمهيدي للرسالة، من مناقشة الأفكار مع مُرتادي ندوة الثلاثاء. وقرأت أجزاءً من البحث على أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر» (۱٩٣٢–۱٩٩٠م) لأخذ رأيه.

هناك فجوة بين المُنطلَق النظري الذي تقوم عليه دراستي للدكتوراه والتطبيقات التي أقوم بها؛ فعلى المستوى النظري هناك علاقةٌ جدلية بين المفاهيم النظرية والنصوص التي يقوم بتأويلها «ابن عربي»، لكن الإجراءات التي طبَّقتُها في الرسالة كانت تُسلِّم ضِمنيًّا بهيمنة تصورات «ابن عربي» الفلسفية على تأويله للنصوص الدينية التي تستجيب استجابةً سلبية لتنطق بما يريده؛ فقد ركَّزتُ على تحليل مضمون خطاب «ابن عربي» دون التركيز على بنية الخطاب؛ مما أدَّى لإهدار الدلالة الكلية للخطاب. ومما جعلني أُهمِل سياق حياة وخطاب «ابن عربي»، وأكتفي ببعض عناصر الخطاب السطحية المنتجة للدلالة الأيديولوجية، أني أريد أن أعيد كتابة الرسالة مرةً أخرى كي أُركِّز على قضايا التأويل عند «ابن عربي» لتكون هي متن الرسالة، وفلسفته هي الهامش؛ لأني استغرقت في شرح فلسفة «ابن عربي» بالرسالة أكثر من اهتمامي بقضايا التأويل.

دخلت على الدكتور مكي، وما إن رآني قال: «أين الرسالة، لماذا لم تطبع؟ لقد أجزت الرسالة للطبع.» قلت: «لكني لم أُجِزها بعد.» وحاولتُ أن أشرح له قلقي وما أفكر فيه. قاطعني قائلًا: «اطبع الرسالة، أنا ما صدقت أنك وصلت للشاطئ، لن أتركك تغرق في بحار «ابن عربي» مرةً أخرى، اطبع واستفِض بدراسات في المستقبل، «ابن عربي» بِحارُه واسعة، أخذَت الكثير ومرَّت أعمارهم ولم يخرجوا.» وفشلت كل محاولاتي معه، فبدأت بهمةٍ أُنهي الفصل التمهيدي. وكنت أُحاول أن أُعدِّل بعض الصياغة كلما تناقشت مع زوجتي؛ حتى يستطيع القارئ العادي أن يصل إلى المعنى. وانخرطت في نقاشٍ طويل مع «جابر عصفور» منذ عودتي من الولايات المتحدة. استفدت من نقاشنا في الكتابة. وعاونني الصديق العزيز «سيد البحراوي» في مراجعة العمل وكتابة قائمة بالتصويبات. وقد انتهي «محمود عبد المنعم أبو هشيمة» من نسخ معظم أجزاء الرسالة بخط يده، واستكملت أنا الباقي، وقامت «أحلام» بعبء تصوير نسخها لكي تُوزَّع على اللجنة المناقشة. صدر العدد الثالث من مجلة «فصول» في شهر أبريل سنة إحدى وثمانين، وبه دراسة لي بعنوان «الهرمنيوطيقا ومعضلة تفسير النص» لتكون أول دراسة تعرض لفلسفة «الهرمنيوطيقا» أو التأويلية باللغة العربية. استُقبلَت الدراسة بتَرحاب ونِقاشٍ كبير في ندوة الثلاثاء في بيت الدكتور «شكري عيَّاد».

٦

بمُدرَّج واسع في كلية الآداب، عمَّ الحضور من الأهل والأصدقاء، وأمي وزوجتي، وفي ليلةٍ رمضانية حارَّة بشهر يوليو، وفي ظل ظروف احتقان سياسية صعبة تمرُّ بها مصر، الْتَقى أعضاء لجنة المناقشة بأروابهم السمراء. بدأ الدكتور «محمود علي مكي» المُشرِف، بصوته الرخيم وخصلات شعره الجافَّة التي يمتزج فيها البياض والسواد وبشرته الداكنة، يقول: نجتمع في إحدى الليالي اليتيمات من شهر رمضان المُبارَك ليلة التاسع والعشرين المُوافِق الثلاثين من يوليو سنة إحدى وثمانين، ولعلها تكون ليلة القدر، لمناقشة رسالة الطالب نصر حامد رزق عن التأويل عند قطب من أقطاب الفكر الصوفي، «محيي الدين ابن عربي»؛ لنيل درجة الدكتوراه في علوم اللغة العربية. ويُسعِدني أن يُشارك في مناقشة الباحث اليوم الأستاذُ الدكتور «شكري عيَّاد» الذي لا أحتاج إلى التعريف به؛ فهو باحث له شأنه المعروف في ميدان الدراسات العربية، وخصوصًا ما يتعلق منها بالفن، والتصوف فِكر وفن. ويُسعِدنا أن يكون معنا أستاذٌ جليل آخر، له في التصوف جولاتٌ كثيرة علمًا وعملًا، الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني. وأترك الكلمة للطالب ليُقدِّم تلخيصًا للبحث مع مراعاة الوقت، فليتفضَّل.

بدأت الحديث بقولي: «فليسمح لي الأستاذ الدكتور «مكي» وأساتذتي الأجلَّاء بالوقوف دقيقةً حدادًا على أستاذي المرحوم «عبد العزيز الأهواني».» ثم بدأت: إن دراسة الدكتوراه بشكلٍ ما استكمال للماجستير لدراسة جانب آخر من تراثنا في تعامله مع النص الديني، من خلال علاقة المفسر بالنص في التعامل مع الفكر الصوفي؛ فتعرَّضتُ لفلسفة «ابن عربي» في جوانبها المُتعددة لكي أكشف عن فلسفته في تأويل النص الديني. وانقسمت الدراسة إلى تمهيد وثلاثة أبواب. في التمهيد تعرَّضتُ لمغزى دراسة قضية التأويل عامة في ثقافتنا الراهنة، وتطوُّر مفهومي للتأويل من المفهوم العام الذي انطلقت منه بأفضلية التفسير لموضوعيته عن التأويل لذاتيَّته، وتعرَّضتُ للدراسات السابقة عن «ابن عربي». وفي الباب الأول عن التأويل والوجود، حلَّلتُ مراتب الوجود المختلفة عند «ابن عربي». والوجود عنده خيال، مِثل ما يرى النائم. لكل مرتبة من مراتب الوجود فصل من الفصول؛ ففصلٌ عن الخيال المطلق، وفصل عن عالم الأمر، وآخر عن عالم الخلق، ثم الأخير عالم الملك والشهادة، وكل هذه المستويات من الوجود لها ظاهر وباطن.

الباب الثاني عن التأويل والإنسان. وهناك مستوياتٌ ثلاثة في تصور «ابن عربي» لعلاقة الإنسان بالوجود. الأول علاقة الإنسان بالعالم؛ جوانب التشابه والاختلاف بين الإنسان والعالم. والثاني دراسة الجانب الباطن من الإنسان الذي خُلِق على الصورة الإلهية، وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كلَّ الأسماء الإلهية. وفي الفصل الثالث تعرَّضتُ لمعضلة المعرفة الإنسانية. وفي الفصل الأخير تحليلٌ للعلاقة بين الحقيقة والشريعة، من خلال رحلة «ابن عربي» التأويلية التي تنتظم الوجود والنص معًا. في الباب الثالث والأخير: عن القرآن والتأويل، وهو تحليل للعلاقة بين القرآن والوجود، وتَماثُل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة في الباب الأول وتَماثُلها مع مراتب العارفين في الباب الثاني. وهذا التماثل عند «ابن عربي» يقوم على أن الوجود هو كلمات الله المرقومة، والقرآن هو كلمات الله الملفوظة. في الفصل الثاني من هذا الباب الأخير خصَّصتُه للغة والوجود، فحلَّلتُ مفهوم «ابن عربي» للغة في جانبَيها الإلهي والإنساني. والفصل الأخير من الرسالة كان لقضايا التأويل؛ حلَّلتُ فيه التنزيه والتشبيه والمُحكَم والمُتشابِه والجبر والاختيار والثواب والعقاب، كنماذج لتأويل «ابن عربي».

«إن هذا البحث مَدِين بأجمل ما فيه إلى كلٍّ من د. «أحمد مرسي» الذي زامَلني في رحلة أمريكا في بدايتها، وكان نِعم العون والصديق، والمرحوم د. «عبد الحميد الزيني» أستاذ الأنثربولوجي بجامعة «تمبل» لنقاشي معه وتوجيهه لي، وكذلك الأخ والصديق أستاذي د. «عبد المحسن طه بدر»، وإلى د. «جابر عصفور» والدكتور «سليمان العطار» على نِقاشهما الذي أفادت منه الدراسة كثيرًا. وأخصُّ بالشكر ندوة الثلاثاء في بيت د. «شكري عياد»، والتي كان للنقاش فيها أكبر الأثر في كتابة تمهيد هذه الرسالة. ولا يفوتني أن أشكر أهلي، وبالأخص أمي — لم أتمالك نفسي وبدأت تخرج مع عينيَّ دمعة وتنهيدة بكاء في صوتي وأنا أذكُرها — التي عانت معي الكثير حتى نَصِل إلى هذا البَر؛ فهي الدفء وهي الوطن؛ فإليها أحني رأسي وأُهديها هذا العمل، وإلى زوجتي «أحلام» التي قامت بمشقة بتصوير الرسالة، ورضيَت أن يُشاركنا «ابن عربي» أُسرتنا البسيطة. وإلى روح أستاذي الجليل وأبي المرحوم الأستاذ الدكتور «عبد العزيز الأهواني»، أُهدي أجمل ما في هذا العمل إليه. وشكرًا.»

ضجَّت القاعة بتصفيق الحضور، وبدأ د. «شكري عيَّاد» المناقشة، وصوته سعيد مُتذكرًا ما حدث معه ومع زميله «محمد أحمد خلف الله» في أربعينيَّات القرن العشرين وأستاذهما «أمين الخولي»، حين اضطُرَّ «شكري عيَّاد» نفسه إلى تحويل دراساته من الدراسات الإسلامية إلى الدراسات البلاغية — بنظارته السميكة، وضحكته العالية، وروح الدعابة التي لا تُفارِقه — قال: أخطاء الرسالة المطبعية قليلة، وهذه قائمة بها، لكن أنت في التمهيد هاجمتَ الباحثين السابقين عليك في فكر «ابن عربي» الذين حاوَلوا قياس فكره بمقاييس الفلسفة الغربية. ما رأيك في أنك فعلتَ نفس الشيء؟ فأنت حاولت جذبه إلى فلسفة الهرمنيوطيقا، لا أدري لماذا.

فقلت: معضلة القراءة هي مجال اهتمام التأويلية، حاولتُ أن أرى الطريقة التي يتعامل بها «ابن عربي» مع النص القرآني، فحاولت دراسة تأثير النص القرآني على مفاهيم «ابن عربي» مثل مفهوم البرزخ مثلًا.

– أنت كتبتَ دراسةً جميلة عن الهرمنيوطيقا منذ أشهُر، وأنا مَدِين لابننا «جابر عصفور» أنْ أعارني بعض كتبكم الحديثة التي تختالون بها على الناس — ضجَّت القاعة بالضحك — في المجلات والندوات، وقلتَ إن فيها شيئًا جليلًا، خصوصًا ما يدخل في اجتماعية المعرفة، وأنا هنا أنطلق من مُنطلَقٍ اجتماعي معرفي معين، وهذا لم يتم عندك «هرمنيوطيقيًّا» لكي تُعالِج تفسير «ابن عربي» لهذا النص الديني. أنت في حاجة لهرمنيوطيقية الكتاب المقدس وليس لهرمنيوطيقا عامة؛ لأن العامة ستدعوك إلى دراسة الكتاب في سياقٍ فكري واجتماعي معين. ولو أنك لم تلفظ المنهج التاريخي بالجملة لكان أمكنك ربط «ابن عربي» بعصره وثقافة عصره.

– أعترف أن دراسة «ابن عربي» تحتاج إلى دارسين.

– يجب أن تعترف أيضًا أن هذا التركيز على فلسفة «ابن عربي» كان أولى أن تُنفِقه على مسألة التأويل، لكن كتاباته الغزيرة أوقعَتك في بِحاره؛ فمِحورُ البحث هو منهجه في التأويل، والباقي يكون مكانه في الحاشية. أنا أُحاول أن أستعيدك إلى قسم اللغة العربية، فلا أعرف ماذا سيفعلون بك في قسم الفلسفة؛ فأنت مُعزَّز مُكرَّم في قسم اللغة العربية. وعندي نقطتان قد ينفعانك في دراساتك في المستقبل؛ لأن العمر لم يعُدْ يُمهِلني لدراستَيهما؛ أولًا: الحيرة؛ حيرة «ابن عربي» أمام النص. الحيرة فكرة ومنهجية عند «ابن عربي». النقطة الثانية: كلامه عن الحروف ودلالات الحروف.

ثم أثنى عليَّ وعلى الدراسة. وبدأ د. أبو الوفا مناقشته، فتحدَّث بدماثة خُلقه وصوته وصوفيته الجمَّة، وشاربه الخفيف المُهندَم. ولم يكن يرتدي بدلةً كاملة ورابطة عنق مِثل د. «شكري»، ود. «مكي». فقال: أتعبَتني هذه الرسالة؛ لأنها من الرسائل القليلة التي بُذِل فيها جهدٌ جدير بالتقدير. الباحث جريء؛ فنحن المُتخصِّصين في التصوف نجد صعوبة في فهم كلام «ابن عربي»، فما بالكم بباحثٍ اقتحم الميدان؟! أُعجبتُ بشخصية الباحث وبجرأته في استخراج النصوص وتحليلها. الموضوع جديد فيما كتبه الباحث عن القرآن والتأويل وعن الألفاظ. لم يتعرض أحد من الباحثين لهذا الجانب؛ ﻓ «ابن عربي» عالم في اللغة، وقد استفدت شخصيًّا من هذا الفصل الأخير. أنا عندي ملاحظاتٌ عامَّة. أتَّفق مع أستاذك «شكري عيَّاد» أنك أطَلتَ في الأبواب الأولى، كنت ممكن تضع الجزء الأخير في الأول والباقي تشير إليه في الهامش، أنت اعتمدت على المصادر الأصلية ونتاج «ابن عربي» غزير، وأنت أحضرت نصوصه بدقةٍ شديدة؛ مما جعل صفحات الرسالة تكبر، لكن أنا أعتب عليك موقفك من دكتور أبو العلا عفيفي في التمهيد. أبو العلا عفيفي دا، مصر لم تُنجب مثله، وكان ممكن ينفعك جدًّا في ربط «ابن عربي» بثقافة عصره. أنت وقفت مع «ابن عربي»، ومجلس الشعب حاكَم «ابن عربي» أخيرًا، ومن حقك تنقده، وإلا حاكمك مجلس الشعب أنت الآخر. مثلًا في تعبير تجديد الشريعة، من فضلك بلاش تجديد الشريعة.

– العبارة تتحدث عن تجديد الفهم.

– وانت أغفلت نقد «ابن تيمية» ﻟ «ابن عربي»، وله نقدٌ كبير، وأنا أتَّفق مع الدكتور «شكري»، كنا نحتاج تفاصيل أكثر من ذلك في نماذج التأويل عند «ابن عربي»، وأنا أُعبِّر عن إعجابي واكتسابنا اليوم باحثًا جديدًا ومُهمًّا في أدب التصوف.

ثم تحدَّث الدكتور «مكي» وقال: الفضل في هذا العمل يرجع إلى هذا الغائب الحاضر العظيم «عبد العزيز الأهواني»، الذي أشرف على رسائل تربط بين الفلسفة والتصوف. الباحث استهواه «ابن عربي»، فأصبح عربيًّا — نسبةً ﻟ «ابن عربي» — وقد أشفقت على «نصر» من غزارة إنتاج «ابن عربي»، لكن «نصر» لم يفقد الرؤية العامة ولم يَتُه في الغابة.

ثم خلَت اللجنة لمناقشتها السِّرية، وعادت وقرأ الدكتور «مكي» القرار: اجتمعت اللجنة المُكوَّنة من الأستاذ الدكتور «محمود على مكي» مُشرِفًا، والأستاذ الدكتور «شكري عياد» مُناقِشًا، والأستاذ الدكتور «أبي الوفا التفتازاني» مُناقِشًا، في تمام الساعة التاسعة مساء الثلاثين من يوليو، التاسع والعشرين من شهر رمضان ١٩٨١م، وبعد المناقشة العلنية، قرَّرَت اللجنة منح الطالب «نصر حامد رزق» درجة الدكتوراه في الآداب من قسم اللغة العربية بمرتبة الشرف الأولى. انفجرت روحٌ جميلة على المكان من فرحة في عيني أمي وأسرتي، وصعِدتُ على المِنصَّة أُسلِّم على أعضاء اللجنة، وأتى المُصوِّر الذي أخذ لنا صورة معًا، وقال: «الكاميرا تأخذ بعض الوقت حتى تشحن لأخذ الصورة التالية، ممكن تكملوا مناقشة الرسالة.» ابتسمنا حتى التقط الصورة التالية لنا.

٧

على الرغم من حالة الاختناق السياسي التي تمرُّ بها البلاد، فإن الشعور بلقاء الطلاب الجُدد، والدخول إلى مدرج ثمانية عشر، أشعرني بسعادةٍ غامرة. ومن اليوم الأول أُوضِّح للطلبة أن المحاضرة طريقٌ ذو اتجاهَين، وأني أتعلَّم من نقاشهم بقدر تَعلُّمهم مني، إن لم يكن أكثر، ودون نقاشهم وأسئلتهم فالمحاضرة لن تُحقِّق هدفها. وأتذكَّر شعوري مع الدكتور «حسن حنفي» وأنا طالبٌ مِثلهم. وبدأت في ترجمة بعض النصوص المهمة إلى اللغة العربية من الإنجليزية، فترجمت دراسة «هيرش» عن «اتجاهات في التقييم الأدبي»، للعدد الثاني من مجلة ألف للبلاغة المقارنة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة؛ ودراسة «أندرية جبسون» «ملاحظات عن القصة والفكاهة»، للعدد الثاني من المجلد الثاني من مجلة «فصول». وبدأت أعد لبحث عن مفهوم المجاز (من تشبيه وكناية واستعارة) للكشف عن جذوره المعرفية في علم الكلام أو علم أصول الدين عامَّةً، وربطه بالتصورات الدينية عن الله والعالم والإنسان، وبين تصور طبيعة اللغة وعلاقاتها بالعالم، وبين هذا كله وعلم البلاغة العربية، حتى أتى قرار رئيس الجمهورية رقم ٤٩٠ لسنة ۱٩٨۱م في يوم ثمانية سبتمبر، وقد رفض عميد الكلية د. «حسين نصار» التوقيع على الخطاب المُوجَّه من رئيس الجامعة «حسن حمدي» باستلام الخطاب، بنقل بعض أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين والمعيدين إلى جهاتٍ خارج الجامعة: «أبعث إلى سيادتكم بصورة من قرار السيد الأستاذ الدكتور وزير التعليم والبحث العلمي بتحديد الجهات التي ألحقوا بها تنفيذًا للقرار الجمهوري سالف الذِّكر، رجاء التفضل بالإحاطة والعمل بمقتضاه.» فنُقِل د. «حسن حنفي» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، ود. «عبد المنعم تليمة» إلى وزارة التأمينات الاجتماعية، ود. «جابر عصفور» إلى وزارة التأمينات، د. «عبد المحسن طه بدر» إلى وزارة التعمير، «سيد البحراوي» إلى أمانة الحكم المحلي، ود. «نصر حامد أبو زيد» إلى وزارة الشئون الاجتماعية، و«صبري المتولي» إلى أمانة الحكم المحلي.

ثار جدل بين المنقولين: ماذا نفعل؟ فاقترح البعض رفض تنفيذ النقل، فقلت لهم: «كمُوظَّفٍ قديم وخبرة في دواوين الحكومة، بعدم تنفيذك النقل تُعطي للدولة الفرصة على صينية من ذهب بفصلك من العمل. لا بد أن نُنفِّذ النقل، وبعد ذلك نعمل ما تريد. وأنا ذاهب لتنفيذ النقل.» أكثر من ستين أستاذًا صدرَت قرارات بنقلهم خارج الجامعة بدعوى إسهامهم في أحداث الفتنة الطائفية. وكان التركيز على كل من له رأي وموقفٌ سياسي في الجامعة من الأحداث الجارية، وأكثر من ثلاثة آلاف من زعماء المعارضة السياسية من كل التيَّارات قد تم اعتقالهم. بعد يومَين ذهبتُ إلى ديوان عام وزارة الشئون الاجتماعية، إلى شئون الأفراد، لكي يُسلِّمني عملي، فجاء بعد قليل وقال: سيادة الوزيرة آمال عثمان عايزاك تشرَّف في مكتبها نظرتُ إلى الموظف وقلت: «لكن أنا مش عايز، سلِّمني العمل وبعد ما تسلمني العمل أكون موظف تحت رياستها، بعد ذلك تأخذني لها زي ما تحب، لكن أنا مش موظف تحت رياستها.» ابتهج وجه الموظف، وكأنه شعر بنشوة أن يكون هذا تصور موظف تجاه رئيسه، بل الوزير المسئول. أخذ الأوراق، وبدأ يقرأ فيها وقال: ده مكتوب هنا إنك معاك دبلوم صنايع سنة ستين، ودكتوراه. دبلوم وتذاكر وتنجح وتبقى دكتور ويفصلوا واحد مُكافح زيك؟ دي بلد خربانة.

– سيبك أنت من الكلام ده، أنا حصلت على الدكتوراه لكن لم تأتِ الدرجة الوظيفية بعد، هتسوِّي حالتي على درجة مدرس مساعد بالماجستير، ولا درجة مُدرس بالدكتوراه.

– لا ماجستير ولا دكتوراه، أنت أحسن لك تدخل بدبلوم الصنايع، دبلوم سنة ستين، تبقى درجة وكيل وزارة، لا مؤاخذة مع الاحترام للدكتوراه.

سلَّمني العمل وأعطاني إقرارًا، فقلت: «طيب فين مكان عملي؟ فين مكتبي؟»

– بقولك إيه، ما توجعشي قلبنا، أنت عارف إنهم جابوك هنا، شوية وتمر الهوجة وترجع المياه لمجاريها، وبعدين يا عم هم اللي فصلوا «طه حسين» كانوا حد افتكرهم، تيجي تاخذ مرتبك وتروح تألفلك كتاب وريح نفسك، وكل ما تيجي الوزارة عدي عليَّ نشرب شاي.

حاولتُ أن أُقنِع أمي أن انتقالي إلى وزارة الشؤن نوعٌ من الترقية، ولكي أُثبِت لها ذلك كنت أعطيها مَبلغًا كل شهر، فزِدتُه، على الرغم من أن راتبي نزل إلى النصف، وزاد حمل الأعباء. «جابر عصفور» سعى للسفر إلى السويد، وساعَده صديقه «محمد عطية عامر» رئيس قسم الدراسات العربية في جامعة استوكهولم.

شهرٌ وتمَّ اغتيال الرئيس «السادات» في ساحة العرض العسكري. بعد حادث الاغتيال وقبل العيد بيومَين جاء بعض الأصدقاء لزيارتي، وصاح أحدهم قائلًا: «الراجل اللي كان مضايقك في عيشتك مات يا عم.» وما إن سمعت أمي ما قال حتى سألت عمن ضايَقني في عيشتي، وكانت حزينة على قتل «السادات»، فلما عرفت بقرار النقل دعت على «السادات».

عُدتُ إلى الجامعة، التي لم تكُن نفس الجامعة التي تركتها منذ أشهُرٍ أربعة فقط، زُرِع الخوف في الطلبة، هم نفس الطلبة، لكن تغيَّروا. أُلقي المحاضرة ولا يسأل أحد، ولا يستفسر أحد، ولا يتكلم أحد. الخوف خلقَ حالة من التوتر. شعرت بحالة عجز عن التواصل مع الطالب؛ فلا قيمة للتدريس داخل الجامعة. شعرت بأن أرجاء المدرج تدور بي، حتى سقطت على أرضيته. أُخذتُ إلى البيت، وأخبرني الطبيب أني أُعاني من حالة تَوتُّر بَشِعة. أخذت إجازة شهر، وقرَّرت أن أستقيل؛ فالجامعة لم تعد مكانًا صالحًا للتعليم أو للنقاش أو للبحث. فقرَّرت أن أذهب شهرَين إلى فرع جامعة القاهرة بالخرطوم، وكانت هذه الخطوة هي وسيلة خروجي من الأزمة التي مررت بها؛ فطلبة السودان على الرغم من فقرهم، وعوَزِ العيش، أعادوا لي الثقة في القدرة على التواصل مع الطلبة؛ كانوا مُهتمِّين بالسياسة، وشغوفين للسؤال والنقاش، طوالَ الشهرَين جعلوني أستعيد نفسي، وقرَّرت أن أقضيَ شهرَين كل عام في فرع جامعة القاهرة في الخرطوم.

انتهيت من كتابة بحث عن الأساس الكلامي — نسبة إلى علم الكلام — لمبحث المجاز في البلاغة العربية، أستكمل فيه الأسئلة التي تولَّدت من دراسة الماجستير، هذه المرة أُركِّز على لماذا انقسم المفكرون العرب إلى من يُثبِت المجاز بأشكاله في اللغة أو من يُنكِره، وما مَغزى هذا الاختلاف في تصور كل فريق عن اللغة وأصلها، وما الإطار الفلسفي والفكري. ولن أفعل كما فعلت الدراسات السابقة بالقيام بعملية تقييم لجهود السابقين؛ فسوف أسعى للفهم والتفسير من خلال وجهة نظرهم. انقسم الموقف من وجود المجاز في القرآن إلى ثلاثة اتجاهات؛ اتجاه يعتبر أن المجاز قرين الكذب، ويجب أن يُنزَّه القرآن عن وقوع المجاز فيه. ولأن القرآن الكريم نزل على لغة العرب وطرقهم في التعبير، فنفَوا وجود المجاز في اللغة العربية أيضًا. ويرفض مثلًا «ابن القيم الجوزية» (ت: ٧٥۱ﻫ/۱٣٥۱م) تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، وهو يرفض أن تكون اللغة اصطلاحًا بين الناس توافقوا عليه، بل هي توقيف من الله ليست نتاجًا بشريًّا، بل هبة من الله للبشر؛ وعلى هذا الأساس فالنقل مُقدَّم على العقل عندهم، والمعرفة مسارٌ هابط من الله إلى الإنسان.

أما المعتزلة فالمعرفة عندهم تسير في اتجاهٍ صاعد من العقل البشري مُتأمِّلًا في ذات الإنسان وفي الكون وصولًا إلى معرفة الله بصفاته من التوحيد والعدل، مُعتمِدين بقياس الغائب المُجرَّد، غير المُدرَك بالحواس على الشاهد المحسوس، بهدف الوصول إلى معرفة الله بصفاته، ثم معرفة أوامره ونواهيه، التي تؤدي بالإنسان إلى الثواب وتُنجِّيه من العقاب. ووسيلتهم لهذه المعرفة العقلُ الذي يبدأ من المحسوس مُستخدمًا البديهيات ليصل إلى معرفةِ ما غاب عنه. ولكي يكون للكلام دلالة، فلا بد من المواضعة المتفَق عليها في الكلام قبلًا، ويُضاف إليها معرفة قصد المتكلم حتى نستطيع فهم رسالته. وهذه المواضعة هي التي تنقل الاسم من معنًى إلى معنًى آخر، من هنا يأتي المجاز. وقد استفضت في شرح منهجهم في رسالتي للماجستير.

الاتجاه الثالث الأشاعرة، قالوا إن الكلام صفةٌ قديمة لله، وقدَّموا الشرع على العقل، لكنهم جعلوا للعقل دورًا اجتهاديًّا استنباطيًّا لفهم الشريعة.

كل هذه الجهود كانت الأساس الذي بنى عليه البلاغيون، حتى صاغ «عبد القاهر الجرجاني» (٤٧۱ﻫ/۱۱٠٧م) الفارسي التصورات النهائية لمفهوم المجاز وأقسامه؛ فيبدأ بالتفرقة بين أدلة العقول ودلالة اللغة. وهذا الفصل بين الدلالة اللغوية والعقلية يرتدُّ إلى تصور للغة باعتبارها مجموعةً من الألفاظ تدل على أشياء ومفاهيم خارج الذهن البشري؛ ولذلك يُفرِّق «عبد القاهر» بين مجازٍ يقع في ألفاظٍ مفردة، وهو مجازٌ لغوي، وبين مجاز يقع في التركيب أو نَظْم الكلام، وهو مجازٌ عقلي. وتحدَّث عن أسبقية الاستخدام الحقيقي للغة على الاستخدام المجازي، ويُؤكِّد على ضرورة وجود علاقةٍ ما بين الاستخدام الحقيقي والاستخدام المجازي لألفاظ اللغة. إن الخلافات بين هذه الفِرق حول قضية المجاز واللغة انتهت جميعًا إلى إخضاع مفاهيم المجاز واللغة للقضايا العقلية الخلافية بينهم، وأثَّر «عبد القاهر» في جهود المتأخرين ﮐ «السكاكي والخطيب القزويني»، وبُذورها تعود إلى كتب المُتكلِّمين باتجاهاتهم المختلفة. نُشِرت هذه الدراسة ضِمن كتاب تذكاري عن أستاذي «عبد العزيز الأهواني»؛ دراسات في الفن والفلسفة. وبدأت المشاركة في أنشطة أسرة «مصر» بالجامعة التي أخذت مني وقتًا ومجهودًا في عمل نشاط ثقافي حقيقي مع الطلبة لنقد الأوضاع الفكرية الحالية، وحالة الأمة، فنقرأ قصائد «أمل دنقل»، والتي كأنها كُتِبت الآن؛ فها هي إسرائيل تحتلُّ عاصمةً عربية، ولكن الأسرة حُوربت حربًا شَرِسة لنشاطها الفكري المختلف عن الأنشطة الترفيهية للأُسر الأخرى.

٨

عدم الإنجاب وضع ضغوطًا كثيرة على زوجتي، وأمي تسأل في كل مناسبة أو غير مناسبة. امتُقِع وجهها حين أخبرتُها أنها لن ترى أبناءً لي؛ لأني لا أُنجب لضعف الخصوبة عندي. منذ أن عادت إلى قحافة، بعد زواج أخي الصغير، بدأت صِحتها تعتل. أزورها كل أسبوع. وبمساعدة صديقي الحميم «أحمد مرسي»، والذي كان على علاقة بالطبيب «إبراهيم بدران»، أكبر مُتخصِّصي القلب في مصر، وقد قَبِل مشكورًا أن يذهب إلى القرية للكشف عليها وفحصها بعناية. قال لي: «شوف يا نصر، الست والدتك ليس عندها حاجة خطيرة، هي صمامات القلب، وممكن نعمل عملية تغيير الصمامات، لكن هذه السيدة كأنها قرَّرت أن تموت، شعرت أن رسالتها قد تمَّت، فممكن العملية تنجح مائة بالمائة طبيًّا، لكن الأهم هو رغبة المريض في الحياة. وهي ست تحب النظافة والتطيب؛ فلو دخلت المستشفى، ولم تلقَ رعايةً نظيفة ممكن نفسيًّا تموت، فأحسن ألا تتبهدل جراحيًّا.»

دخلت عليها وكان وجهها شاحبًا من تأثير المرض، حاولت أن أُحيِّيها، فطلبت مني نقودًا فقلت: «فيه إيه يا ست أم نصر، كل ما تشوفيني تطلبي فلوس، هو محمد قصَّر معك؟ ولا أنتِ نويتي تتزوجي؟» فقالت: «إنت بتغلبني ليه؟ أنا ربِّيتكم وتعبت، وعادي إني أطلب منكم فلوس.»

– ما فيش حاجة لكن هو حد قصَّر معك، وبعدين أنتِ لازم تأخذي بالك من أكلك، أنت غالية علينا، ولا أنتِ زعلتي منا.

– أنت أحسن ما تجيش تزورني، خليك في مصر وريحني، هو انت هتمشيني على مزاجك، آكل إيه ولا ما كُلشي إيه؟

تحسبًا لأي مكروه مُفاجئ، عملت جمعية مع بعض الأصدقاء، أقبضها الأول. وصلت يوم زيارتي الأسبوعية من القاهرة، فوجدت حشدًا من الناس يجلسون أمام البيت، توجَّهت إلى حيث توجد، وحاولت أن أكشف عن وجهها الساكن الآمن، وقبَّلت جبينها. آه يا أمي، وشريكة مشواري، مشيناه ربع قرن، كنتِ في الخامسة والثلاثين وأنا في الرابعة عشرة، أنفقتِ شبابك وجمالك وصحتك حتى تصل المركب إلى شاطئ الأمان، وفارَقتِنا قبل أن نردَّ بعضًا من عطائك. ماذا أخذتِ من هذه الحياة؟ أعطيتِ بلا انتظار لعائد. شعور ليس مِثلَه شعور، حتى يوم فراق أبي. رغبة شديدة في البكاء تمالكَت نفسي، وذهبتُ إلى أخي محمد لأُعطيَه نقود الجمعية لإجراءات الدفن والعزاء، فقال: «أمك امبارح بالليل نادت عليَّ، وقالت يا محمد لو مت صلوا عليَّ الجمعة، وعايزة صوان ومقرئين مشهورين وجنازة محترمة.» وأخرجَت خمسمائة جنيه وأعطتها لي تكلفة الجنازة. أدركت من حياة هذه السيدة زيف مسألة الرجل والمرأة في ثقافتنا، وفي فهمنا للنصوص الدينية وتأويلها للتمييز بين الرجل والمرأة، وقوامة الذكر على الأنثى؛ فكفاحها بعد موت زوجها، وخروجها للعمل حتى تستطيع العبور — بأسرة من ستة أطفال — إلى شط الأمان، في نموذجٍ يضعف عنه الكثير من الرجال، حتى أدبنا العربي لا يحتفي بهذه الأم المكافحة التي تُواجِه الحياة، ويكتفي فقط بصورة الأم التقليدية.

٩

قامت دار التنوير اللبنانية بنشر رسالتي للماجستير في طبعتها الأولى سنة اثنتَين وثمانين، تحت عنوان «الاتجاه العقلي في التفسير»، ونشرت سنة ثلاث وثمانين رسالتي للدكتوراه تحت عنوان «فلسفة التأويل»، وقد لاقى الكتابان استحسانًا لهاتَين الدراستين الأكاديميتين. ونشرت ترجمتي في مجلة «فصول» بمجلدها الثالث، العدد الثالث، لدراسة «إيكيناوم أو هنري» عن «نظرية القصة القصيرة». وكان الروائي «إلياس خوري» قد أصدر كتابه النقدي الثالث «الذاكرة المفقودة» عن مؤسسة الأبحاث العربية بلبنان، عام ثلاثة وثمانين، فقدَّمت عرضًا نقديًّا للكتاب في مجلة «فصول» بمجلدها الرابع، العدد الأول، سنة أربع وثمانين. المؤلف يطرح قضيته في المقدمة ثم يترك القارئ يُعاني البحث عن الإجابة وسط تفاصيل واهتمامات تُغطي نشاط المؤلف عشرة أعوام في الصحف والدوريات؛ فيبدأ بتحديد معنى عنوان الكتاب «فقدان الذاكرة» من الواقع العربي المُتجسد العيني؛ الحروب اللبنانية التي ليست إلا حالةً عربيةً شاملةً تُنبئ عن انهيار المشروع الحداثي العربي؛ مشروع تحديث للدولة لا تحديث للمجتمع. وبين النموذج الغربي والنموذج العربي الإسلامي القديم، ضاع الحاضر. والمؤلف يتجاهل أن الثقافة وإن كانت في جوهرها انعكاسًا للواقع، إلا أن لها استقلالها الخاص وحركتها الذاتية النابعة من قوانينها، وكذلك الأدب والإبداع.

مُعضِلة المنهج عند «إلياس خوري» في المساواة بين مستويات الواقع/الثقافة/الأدب، وتحليله لأزمة الثقافة، يتجاوز قوانين الثقافة وفعاليتها الخاصة، وتظهر جليةً حين يتعرض لأزمة النقد، حيث يُساوي بين الكتابة النقدية والكتابة الإبداعية، بل يتجاوز ذلك إلى نفي الوظيفة الثقافية الاجتماعية للنص الأدبي، كما نفاها عن الممارسة النقدية. كل شيء وصل في وعي المؤلف إلى حالة من الفوضى والعدمية عبَّر عنها على المستوى السياسي بسقوط النظام، وعلى المستوى الثقافي بفقدان الذاكرة، وعلى المستوى الأدبي بموت المؤلف. والحل الذي يطرحه علينا هو حلٌّ مستورد؛ فمفهوم موت المؤلف الغربي واستبقاء الشكل مرتبط بأيديولوجيةٍ تبريرية للنظام الرأسمالي الاستعماري. ومما يجعل استيراد هذا الحل وقوعًا في أَسْر التبعية وتجاهلًا مُتعمَّدًا لمُعطَيات الواقع وظروفه — تكريسًا للضياع والتشتت وفقدان الذاكرة الذي وعدنا المؤلف بتحليل أسبابه من أجل تجاوزه — يصعب الحديث عن أزمةٍ واحدة في النقد العربي الحديث؛ فهناك تيارات ومناهج متعددة بتعدد القُوى التي تتبنَّى وتقف خلفها، وحتى المنهج النقدي الواقعي الذي أتبنَّاه يُعاني أزمةً لا يمكن توحيدها مع أزمة اتجاهات أخرى كالبنيوية مثلًا؛ فأزمة منهجه تنبع من حاجته إلى التأصيل والتعميق الذي يمكنه من زيادة فعاليته في التعامل مع النصوص، إنما أزمة تيار البنيوية في غُربته عن واقع الإبداع والثقافة العربيَّين.

فليس للتراث بمجالاته وجودٌ مستقلٌّ خارج وعينا المعاصر. أما الوجود الفيزيقي العيني على رفوف المكتبات، فليس هو ما يعنينا، بل وجوده في معرفتنا وفي وعينا الثقافي. هذا الوجود غير مستقل. من هذا المنطلَق كتبتُ دراسةً لمجلة «فصول» في مجلدها الخامس، العدد الأول، عن مفهوم النَّظم عند إمام البلاغيين العرب «عبد القاهر الجرجاني»، المُتوفَّى عام ٤٧۱ﻫ/۱۱٠٧م، في ضوء الأسلوبية، من خلال قراءة كتابَيه «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز». في هذه القراءة أحاول ألا أُغفل المنطق الداخليَّ الخاص بالتراث من جهة، ولا أتعامل معه بمعزلٍ تام عن الوعي المعاصر من جهةٍ أخرى؛ قراءةٍ للبحث عن المغزى الذي يُثرى من خلاله وعيُنا النقدي المعاصر، قراءةٍ لا تقف فقط عند المعنى الذي كان كامنًا في عقل «عبد القاهر». وهذا ما فعله «عبد القاهر» نفسه مع التراث البلاغي السابق عليه.

مدارس الأسلوبية تبحث عن خصائص النصوص الأدبية، و«عبد القاهر» قضيته التي تشغله في كتابَيه المذكورَين هي التفرقة بين مستويات الكلام، من الكلام العادي حتى الكلام المُعجِز، مرورًا على الكلام الأدبي، فنجد دفاعه عن علم الشعر. لكن علينا أن نُدرِك أن المُحرِّك ﻟ «عبد القاهر» هو قضية إعجاز القرآن. وهو لا يَقنع بأن إعجاز القرآن خارج النص ذاته، أو في صدق إخباره عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل، أو الإعجاز في بعض خصائصه الأسلوبية والبلاغية. إعجاز القرآن عند «عبد القاهر» يَكمُن في النص ذاته؛ في آياته، ويمكن اكتشاف هذا الإعجاز والوصول إليه في كل عصر. ويبدأ «عبد القاهر» بالصفات المشتركة بين الشعر والكلام العادي بانتمائهما إلى مجال اللغة، واللغة مجموعة من القوانين الوضعية على مستوى المفردات (الألفاظ) أو على مستوى التركيب (الجملة). والألفاظ عند «عبد القاهر» دوالُّ على معانٍ جزئية لا تكتسب دلالتها الكاملة إلا إذا دخلت في علاقاتٍ تركيبية مع غيرها من الألفاظ. وبالتدقيق نجد عنده مفهومًا ضمنيًّا للتفرقة المعاصرة بين اللغة والكلام؛ النظام اللغوي القارُّ في وعي الجماعة الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية، أما الكلام فهو التحقُّق الفعلي لهذه القوانين في حدثٍ كلامي بعينه. ومفهوم النَّظم عند «عبد القاهر» يقترب إلى حدٍّ كبير من مفهوم الأسلوب، ويصبح النظم الذي يضع علم النحو قواعده هو علم دراسة الأدب أو علم الشعر، وعلم الشعر عنده يقوم على أساسٍ لغوي مكين.

و«عبد القاهر» لا يجعل قوانين النحو المعيارية، من الخطأ والصواب، هي القوانين التي تُحدِّد الفصاحة والبلاغة؛ فالألفاظ هي الخيوط التي تتآلف وَفْق قواعد خاصة لتصنع ثوبًا، وقوانين النحو هي الأصباغ التي تُفرِّق بين ثوب وثوب. والمعنى عنده مُحصِّلة تفاعُل دلالي بين معاني الألفاظ من ناحية، ومعاني النحو التي أقامها المتكلم بين الألفاظ من ناحيةٍ أخرى. مفهوم النَّظم عند «عبد القاهر» يُماثِل مفهوم العلاقات السياقية عند علماء اللغة المعاصرين، ومفهومه ﻟ «المعنى» و«معنى المعنى» يُماثِل مفهوم العلاقات الاستبدالية. وإذا كان علماء اللغة المعاصرون لا يفصلون بين المستويَين، وينظرون إلى المعنى الدلالي للنص على أنه مُحصِّلة لتفاعل هذَين النوعين من العلاقات، فإن «عبد القاهر» يفصل بينهما أحيانًا، ويُدرك ترابطهما أحيانًا أخرى؛ فهو لم يكن ليستطيع — ولا تثريب عليه في ذلك — أن يتجاوز تجاوزًا كاملًا حدود ثقافته وعصره.

١٠

الخلافات بدأت تظهر بيني وبين «أحلام» بسبب طبيعة عملي، وبسبب احتفائي الدائم بطلابي والوقت الذي أقضيه معهم، فتشعر أني أُفضِّل الطلاب عليها، وكنت أحاول بقدر الإمكان أن أُشرِكها فيما أعمل وما أهتمُّ به. اقترب مني أحد أساتذة الكلية في تردُّد، سألني إن كنت أقبل السفر إلى اليابان لتدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا. لم أتردد أو حتى أفكر؛ فرُبَّما لن تُتيح لي الظروف السفر إلى اليابان على نفقتي الخاصة. وكان الأستاذ مُستغربًا من موافقتي السريعة، في الوقت الذي كان السفر إلى الخليج أفضل لجمع المال. وكانت اليابان قد افتتحت قسمًا للغة اليابانية بجامعة القاهرة سنة أربع وسبعين، وعلى أثره افتُتح قسم للغة العربية بجامعة أوساكا على سبيل التعاون بين الجامعتَين. وكان الدكتور «عبد المنعم تليمة» هو أول من ذهب، وبعده أستاذٌ آخر قرَّر العودة فورًا. كنت أريد أن أتعرَّف على تَجرِبة الشرق بعد تَعرُّفي على تجربة الغرب في رحلتي إلى أمريكا.

سافرت أنا وأحلام في مارس سنة خمس وثمانين. وأول شيء فعلتُه هناك هو أن بحثتُ عن صديقي وزميلي الياباني «محسن أوجاسا وارا» الذي قضى سبع سنوات في القاهرة يدرس اللغة العربية، وجدته يُدرِّس في إحدى الجامعات اليابانية: كيف حالك يا «محسن»؟

– أنا بخير يا «نصر»، كيف حال الأسرة الكريمة، وحال الست أم نصر؟

– لقد تُوفِّيت منذ ثلاثة أعوام.

– أنا آسف، لم أعرف، كانت ست عظيمة، أنا فاكر زيارتنا لقريتكم، وحزنها الشديد لبعدي عن أهلي. كانت تُعاملني كأم. ما رأيك أن نذهب معًا إلى قريتي لترى الريف الياباني؟

– الريف الياباني! طبعًا دا أنا أتمنى أن أرى اليابان على حقيقتها في الريف.

لم أشعر في اليابان بنفس الغُربة التي شعرت بها في المجتمع الأمريكي، على الرغم من حاجز اللغة التي فشلتُ تمامًا في تعلمها؛ فالجلوس على الأرض مثل طريقتنا في القرية، وقاعدة الحمام التي تُشبِه حماماتنا، عجزُ اللغة جعلني أهتمُّ بالعلامات ودورها في الثقافة اليابانية؛ طقوس الأكل وألوانه الساحرة الجميلة، لكني لم أستسغ الطعم، فتشبع العين وتجوع البطن، لمن اعتاد الأكلات المصرية التي نتذوَّقها بكل حواسنا. التقاليد اليابانية في البيت. أما الجامعة فعالمٌ غربيٌّ كامل. كان عندي وقتٌ كبير للانخراط في أبحاثي وكتاباتي، والنظر إلى أحوال مصر من بعيد؛ فالبعد يجعل الصورة الكلية أكثر وضوحًا، بعيدًا عن تقلبات وضجيجِ ما هو يومي وآني.

فكتبت دراسة بالإنجليزية عن السيرة النبوية؛ سيرة شعبية، نُشرت في مجلة جامعة أوساكا، عدد واحد وسبعين، ونُشِر نصها العربي بعد ذلك بمجلة الفنون الشعبية بالقاهرة، عدد ثلاثة وثلاثين، ديسمبر سنة إحدى وتسعين. حاولت أن أنظر إلى السيرة النبوية من منظور دارسي الأدب الشعبي، رغم الحساسية الدينية المرتبطة بذلك عند دارسي الأدب الشعبي، لكن هذه الدراسة مُهمة لدراسة الدين الشعبي في ثقافتنا الذي يُقابِل مفهوم الدين الرسمي أو الدين النظامي. من هنا تعرَّضتُ للسيرة النبوية ليس بوصفها نصًّا دينيًّا بل بوصفها سيرةً لأهم بطل في تراثنا الديني؛ البطل النبي؛ وذلك من خلال الجزء الأول من سيرة «ابن هشام». والتعامل مع السيرة النبوية بوصفها سيرةً يحتاج إلى مهارات بألا نُجزِّئ النص ولا نستبعد منه شيئًا، فنتعامل معه في كليته بخلاف تَعامُل المؤرخ أو عالم الدين. وفصَّلتُ في مظاهر التشابه بين السيرة النبوية والسيرة الشعبية، مِثل المزاوجة في القص بين الشعر والنثر، ومثل ذِكر نسب كل شخصية بغضِّ النظر عن أهميتها في الأحداث، وكذلك ملاحظة أن «ابن هشام» لخَّص وركَّز في الروايات التي أخذها عن الراوي الأصلي «ابن إسحاق» الخصيصة الرابعة؛ ألا وهي الإسناد في الروايات. وقسَّمتُ السيرة إلى وحداتها القصصية الأولى، ولاحظت دور الحُلم — الرؤيا — وتفسيره في السيرة مما يحتاج إلى دراسةٍ مستقلة أتمنَّى أن أقوم بها في المستقبل.

ودراسة عن نظرية التأويل عند الإمام «أبي حامد الغزالي» بالإنجليزية أيضًا، نُشِرت في نفس المجلة في العدد اثنَين وسبعين، ومقالة طويلة لمجلة «فصول» عن مفهوم النص في علوم القرآن، لكنها ضاعت في البريد. وشاركت مع د. «سيزا قاسم» لوضع كتاب يكون مقدمة لعلم السيميوطيقا، أو علم العلامات، يحوي ترجمات لدراساتٍ مختلفة في هذا المجال. وأقوم بترجمة «مشكلة اللقطة» ﻟ «يوري لوتمان» (۱٩٢۲–۱٩٩٣م)، ولآخرين «نظريات حول الدراسة السيميوطيقية للثقافات». حاولت الاتصال بالأستاذ «توشيهيكو إيزوتسو» (۱٣٣۱ﻫ/۱٩۱٤م–۱٤۱٢ﻫ/۱٩٩٣م)، وكان قد دخل في عملية انعزال وانقطاع عن التواصل مع العالم، فأشار عليَّ البعض أن أرسل له رسالة ربما يستجيب، فأرسلت له رسالةً أُخبره فيها أني باحث في التراث العربي والإسلامي ومن المُعجَبين بدراساته وأبحاثه عن القرآن، وأتمنَّى أن أتواصل معه، لكني لم أتلقَّ أيَّ إجابة منه. ووجدت له كتاب دراسة عن سيميوطيقا العلامات في اللغة والثقافة اليابانية.

لم أنطلق من موقف يُقيِّم الثقافة اليابانية، بل حاولت أن أقترب من منطقها الداخلي، أن أتعلم الحكمة وراء هذه الثقافة والقيمة الجوهرية. ذهبت إلى مسرح «الكابوكي»؛ مملٌّ جدًّا، لكني حاولت أن أكتشف الدينامية الثقافية ودور العلامات فيها، بل إني قضيت أسبوعًا في أحد المعابد البوذية أعرف وأدرس المعتقَدات الدينية في اليابان. الغُربة جعلتني وزوجتي نتحاشى الصدام بقدر الإمكان. كنت مشغولًا بكيفية تعامل المجتمع الياباني مع تراثه، وكيف تعامل مع تحدِّي الحداثة الغربية، فوجدت كتابًا مكتوبًا بالإنجليزية عن «البوشيدو، المُكوِّنات التقليدية للثقافة اليابانية»، كتبه دبلوماسيٌّ كان سفير اليابان في أمريكا «إينازو نيتوبي»، كتبه بالإنجليزية يُعرِّف فيه القارئ الغربيَّ بالتقاليد اليابانية، فقمتُ بترجمة الكتاب إلى العربية. واكتشفت بعد إتمام الترجمة أن هذا الكتاب قد تُرجِم من قبلُ سنة ثمانٍ وثلاثين، وقدَّمَت حفيدة المؤلف الترجمة لي. ولما اطلعتُ عليها وجدت أن المُترجِم لم يكن يتحدث الإنجليزية، بل استعان بصديقٍ فرنسي يعرف الإنجليزية، فمضيت في استكمال ترجمتي، لكن ثقافتنا تقف نفس الموقف من التجربة اليابانية؛ فبعد خمسين عامًا من الترجمة الأولى تظلُّ تَجرِبة اليابان أسطورةً لنا. وهذا يعكس وضع ثقافتنا.

الترجمة ليست عملية نقل، بل هي في الأساس الأول إجراءُ حوارٍ ثقافي يتجاوب في مضمونه مع إشكاليات ثقافتنا. وهذا الكتاب يتحدث عن علاقة الحاضر بالماضي حيث التواصل الثقافي والفكري في وعي الأمة، وهذا المفهوم يستدعي إلى الذهن نقيضه اللافت في ثقافتنا العربية؛ مفهوم الانقطاع بين الحاضر وتراث الماضي على مستوى الوعي. ومحاولات الوصل بين القديم والجديد في ثقافتنا ما تزال في بدايتها، لكنها تُعاني واقعًا اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا يُكرِّس التبعية. وأيضًا العلاقة بالتراث الغربي الأوروبي عامَّةً والأمريكي بشكلٍ خاص. والكتاب دفاعٌ ضد هجوم المُستشرِقين من مُواطنٍ ياباني تحوَّل إلى المسيحية وتزوَّج من أمريكية، وكان عضوًا في جمعية أصدقاء بَعثات التبشير؛ فلا يُعَد بأي صورة من الصور مُعاديًا للثقافات الغربية، لكنه يُدافِع عن تقاليد ثقافته اليابانية بدون أي استعلاء أو رفض، لكن موقف المُثقَّف العربي من ثقافة الغرب يميل إلى الإحساس بالنقص بدرجاتٍ مُتفاوتة، بدءًا من «الطهطاوي» حتى المُثقَّف المعاصر؛ لذلك كانت الرحلة في ثقافتنا دائمًا من الداخل إلى الخارج. «الطهطاوي، طه حسين، ثم توفيق الحكيم، ثم لويس عوض، ومحمد مندور» … إلخ. ونحن نحتاج إلى أن نفتح نافذة على اليابان الحديثة نُحاوِرها ونتفاعل معها لنفتح نافذةً أخرى غير نافذة الغرب.

والكتاب أيضًا يُعالِج دور الدين في صنع الحضارة وتشكيل الثقافة؛ فموقف المُثقَّف المُنفصِل عن تراثه وثقافته لحساب التراث والثقافة الغربيين خلقَ موقفًا نقيضًا، مُتمثِّلًا في التعصب للتراث والتقاليد، لا بالمعنى الثقافي العام بل كما يتمثل في الدين بالمعنى الأخلاقي والشعائري. وهذا الموقف الدفاعي يُحوِّل التراث إلى مجموعة من الثوابت التي لا تخضع لأي شكل من أشكال التطور، ولا تتجاوز حدود المكان والزمان؛ وبذلك يُختزَل التراث في العقيدة والدين بعد أن تحوَّل الدين ذاته إلى مجرد مجموعة من الشعائر، ونسقٍ من الأوامر والنواهي، ونظام للتحليل والتحريم؛ وهو في العمق تَجاوُب مع مفهوم الاستشراق عن الإسلام، وهو مفهومٌ استورده المُثقَّف العربي العلماني من الغرب. وقد انحصر اتجاه الإسلام الحضاري بين مِطرقة السلطة مُستخدمةً الأزهر، والجماعات الدينية مُستخدمةً سلاح التكفير، فأصبح السؤال: ما الدين؟ وما الإسلام؟ لا يجرؤ أحد على طرحه، لكنه سؤالٌ يجب أن يُطرَح ويُسهِم الجميع في الحوار إذا أردنا أن نخرج من ورطتنا الراهنة. كلنا نتحدث عن الإسلام وعن التراث الإسلامي وكأننا نتحدث عن مفهومٍ واضح متفَق عليه، وليس الأمر كذلك على الإطلاق. وتَجرِبة اليابان قد تكون مُفيدةً لنا في ذلك الأمر. والأمر الأخير الذي يمكن أن يُفيد ثقافتَنا من هذا الكتاب: الفروسية وتقاليدها كما يُعبِّر عنها «البوشيدو». وقِيَم الفروسية موجودة في التراث العربي، مثل الشرف والإحساس بالعار أو الخجل وقيم الرجولة والاستقامة والعدل. وهي قيمٌ تنحسر عن واقعنا الذي يُسيطر عليه التُّجَّار سيطرةً شِبه تامة. تاجرٌ يتَّصف بالفُجر والخداع والجبن والقسوة ليس التاجر الذي يريد أن يبنيَ وطنًا، بل تاجرٌ يريد أن يُحقِّق مكسبًا بأي طريقة؛ مما يجعل البعض يتعاطف مع صورة الإقطاعي القديم عند مقارنتها ببشاعة صورة التاجر الذي يحكم مصر. جهودٌ مُضنِية تُبذَل لتفريغ ذاكرتنا وتجزيء تاريخنا كأننا نُولَد كل عقد من الزمان ميلادًا جديدًا من العدم، فنحيا بلا ذاكرة وبلا تاريخ، ويبدو الواقع الآني دائمًا ظاهرةً فريدةً تحتاج إلى تفسير.

كتبتُ مقدمةً طويلة لترجمةٍ تضع هذا الكتاب وتلك التجربة في سياق الثقافة اليابانية، وفي سياق هموم ثقافتنا العربية المعاصرة خلال القرنَين الماضيَين، تحدَّثتُ عن الثقافة وإشكاليات الترجمة، وناقشت مسألةَ أن الحرب مع إسرائيل هي المسئول الأول والأخير عن تخلف المنطقة العربية، ومسألةَ أن سبب نجاح وتقدُّم اليابان هو تبنِّي نموذج التنمية الرأسمالي الغربي؛ التبرير الذي يُقدِّمه دُعاة انفتاح السداح مداح. نعم هناك تأثيرٌ غربي تكنولوجي واضح على الحياة اليابانية، لكن هناك فرقًا بين نمط التأثر باستيراد المُنجَز المادي وتطويره طبقًا للحاجة المحلية، دون أن يتحول الاستيراد إلى حالة إدمان؛ فالمُواطِن الياباني يرتدي «الكيمونو» جالسًا على الحصير «التاتامي»، ينام على الأرض مُفترِشًا «الفوتون»، يأخذ حمامه «الأفورو» بالطريقة التقليدية، وهو نفس المُواطِن الذي يتعامل مع أعقد مُنجَزات التكنولوجيا الحديثة في عمله وفي حياته الخاصة؛ فالتكنولوجيا أدوات لتسهيل الحياة لا للتظاهر الكاذب أو الوجاهة الفارغة. وكيف انتقلنا في بلادنا من مجتمع البناء والتعمير والكفاح إلى مجتمع الوساطة والانتهازية وبيع كل شيء، حتى التراث والتاريخ، فبدَّد الخونة كل شيء. بدَّدوا الوطن في اتفاقية الصلح المهين، وبدَّدوا التاريخ بتحويل العدو إلى صديق، والطامع إلى حليف. وبدَّدوا حُلم فقراء الوطن من عُماله وفلَّاحيه، وباعوه لسماسرة الانفتاح بأبخس الأثمان. نُشِرت الترجمة والتقديم بعد ذلك تحت عنوان «البوشيدو، المُكوِّنات التقليدية للثقافة اليابانية»، في بغداد، دائرة الشئون الثقافية، عام اثنَين وتسعين.

وكتبت دراسةً ضمَّنتُها في كتابي مع د. «سيزا قاسم» لكتاب «أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة، مدخل إلى السيميوطيقا»، ودراستي كانت بعنوان «علم العلامات في التراث، دراسة استكشافية»، عرضت فيه أن ثقافتنا الراهنة يتقاسمها اتجاهان، يتعامل أحدهما مع ثقافة الغرب على أنها ثقافة التقدم والحضارة، وعلينا أن نُقلِّدها تقليدًا أعمى، واتجاهٌ ثانٍ يأخذ رد الفعل النقيض، فيحتمي بالتراث، يُكرِّر مقولاته ويتبنَّى بعض مفاهيمه دون الوعي بأن هذه المفاهيم كانت استجابةً لهموم الواقع الذي كان يحياه الأسلاف. والاتجاهان يُهدِران ظروف الواقع ويتجاهلان الحاضر بالتوجه صوب الغرب، أو صوب الماضي. «ولا خلاص من هذا المأزِق إلا بأن يكون الحوار النابع من موقفنا الراهن هو وسيلتنا للتعامل مع الغرب وثقافته من ناحية، وللتعامل مع مفاهيم تراثنا وتصوراته من ناحيةٍ أخرى»، في عمليةٍ تهدف إلى مزيد للفهم للتراث والوعي به واستكشاف جوانبه التي يمكن أن تُساعدنا السيميوطيقا على اكتشافه.

علم العلامات يتعامل مع اللغة باعتبارها نظامًا من العلامات الدالة، تُقارِن بينها وبين غيرها من العلامات كإشارات المرور والأزياء؛ فإن مفهوم العلامة وطبيعتها يُعَد هو المفهوم الأساسيَّ في هذا العلم، ويُقابِله في التراث مفهوم «الدلالة». درست العلاقة بين الدال والمدلول على مستوى الألفاظ. وعلماء المسلمين اتفقوا على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها علاقةٌ وضعية؛ أي يُتواضَع عليها، لكنهم اختلفوا على أصل المواضعة؛ هل هي من الله في البدء، أم هي في الأساس بشرية؟ حتى وصلنا إلى «عبد القاهر الجرجاني» (ت: ٤٧۱ﻫ/۱۱۰٧م) الذي فَهِم العلاقة بين الدال والمدلول على أنها علاقة بين الصوت والمفهوم الذهني الذي يُشير إليه، لكن «عبد القاهر» كان محكومًا بعصره، وبالقضية التي تُحرِّكه وهي إعجاز القرآن؛ لذلك حين يتحدث عن أن العلامات اللغوية لا تُنبئ بذاتها عن المعاني العقلية، بل تدل عليها وتُشير بالمواضعة والاصطلاح، بخلاف الفهم المُعاصر الذي لا يفصل بين الدال والمدلول، بل يعتبرهما وجهَين لعملةٍ واحدة. وعند المُتصوِّفة الوجودُ من أرقى مراتبه إلى أدناها ليس إلا تجلِّيات ومظاهر لحقيقةٍ واحدة باطنة هي الحقيقة الإلهية؛ فقد حوَّل «ابن عربي» (ت: ٦٣٨ﻫ/۱۲٤٠م) الوجود كله إلى نصٍّ دالٍّ يُشير إلى قائله ويدل عليه، واللغة أحد مظاهر تجلِّي هذا النص. وعلم العلامات يمكن أن يساعد كثيرًا في دراسة جوانب التراث المختلفة، مثل كتب تفسير الأحلام في تراثنا ودلالاتها الثقافية. نشرَت دار إلياس العصرية الكتاب، وبه ترجمتان لي مع الدراسة.

١١

دراسة تراثنا من خلال علاقة المُفسِّر بالنص؛ بدراستي تأويل المُتكلِّمين المعتزلة للنص القرآني في الماجستير، ومن خلال دراستي لفكر «ابن عربي» المُتصوِّف وتَعامُله مع القرآن، لمستُ دور النص القرآني ذاته في تشكيل مفاهيم «ابن عربي». منذ هذه الملاحظة وأنا مشغول بسؤال عن: هل هناك تصور في الثقافة العربية الإسلامية عن طبيعة النص؟ فقد تم التعامل مع النص القرآني في تاريخنا بأنَّ كل فِرقة تجذبه إلى مفاهيمها وتصوراتها، حتى في عصرنا الحديث؛ فمن محاولات جذب الإسلام للمفاهيم الاشتراكية وللعدالة الاجتماعية في الخمسينيات والستينيات، إلى المفاهيم الرأسمالية في السبعينيات في زمن الانفتاح الاقتصادي، وأن الله قد رفع بعضنا فوق بعض درجات، مما يشجع الرأسمالية؛ ومن دين الجهاد والحرب مع العدو الصهيوني، إلى دينِ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها في السبعينيات؛ فلا بد قبل الحديث عن طريقة التعامل مع النص أن نبحث عن مفهوم لهذا النص؛ عن طبيعته. ونقاشي مع طلابي في جامعة القاهرة الأم، في شتاء سنة اثنتَين وثمانين، حين أهديتُ إليهم هذا العمل؛ «اعترافًا بأن التعلم في الجامعة ذو اتجاهَين».

البحث عن ماهية النص هو بحث عن ماهية القرآن، ولا طريق للتعامل مع التأويلات النفعية الأيديولوجية دون الوقوف على مفهوم الثقافة لطبيعة النص القرآني، والبحث في طبيعة القرآن قد توقَّف منذ عشرة قرون، لكن لا سبيل للخروج من أزمة ثقافتنا في تعامله النفعي مع نصوص القرآن دون بحث هذا السؤال. وقد تجنَّبَت كل محاولات التجديد التعامل مع هذا السؤال أو الاقتراب منه جزئيًّا، ولا سبيل للخروج من التطاحن بين السلفية والتجديد الحالي دون تكوين وعي علمي بالتراث؛ فالتجديد على أساسٍ أيديولوجي لا يقلُّ خطورة عن التقليد. والبداية كما أتصوَّرها من العلوم التي أنتجَتها الثقافة الإسلامية حول القرآن. ومن خلال عملية الجمع الذي تم في مواجهة خطر الغزو الصليبي على العالم الإسلامي، في كتابَي «البرهان في علوم القرآن» ﻟ «الزركشي» (ت: ٧٩٤ﻫ/۱٣٩٣م) وكتاب «السيوطي» بعده بأكثر من قرنٍ «الإتقان في علوم القرآن» (ت: ٩۱٠ﻫ/۱٥٠٥م). وسوف أركِّز على مفهوم النص بين علوم القرآن المختلفة مما يربط الدراسات الإسلامية، وهي دراساتٌ تنتظم علومًا كثيرةً مِحورُها النص، سواء كان نص القرآن أو نص الحديث النبوي، ودراسة النص من حيث كونه نصًّا لغويًّا في بنائه وتركيبه ودلالته وعلاقاته مع نصوصٍ أخرى في ثقافةٍ مُعيَّنة مجالها في الفكر المعاصر هو الدراسات الأدبية.

فمع مصدر القرآن الإلهي وقدسيته عندنا كمؤمنين به يظلُّ نصًّا لغويًّا؛ فقد درَسه اللغويون والنحاة والبلاغيون بحثًا عن الإعجاز، وهي مقدمةٌ تمهيدية لعلوم الفقه وأصوله وعلوم القرآن، ودرسه المتكلمون لإثبات النبوة … إلخ؛ مما يجعل الدراسات الإسلامية ليست علمًا خاصًّا، بل مفهومًا يتَّسع لكثرة من العلوم والتخصصات. والبحث عن مفهوم للنص في التراث يُساعد في تحديد مفهوم موضوعي للإسلام يتجاوز الطروح الأيديولوجية؛ بحثًا عن ماهية الإسلام. انطلقت من الحقائق التي صاغتها الثقافة العربية حول النص القرآني، وأيضًا من المفاهيم التي يطرحها النص ذاته عن نفسه من جهةٍ أخرى. والنص القرآني تشكَّل في الواقع والثقافة خلال أكثر من عشرين عامًا، وألوهية مصدره لا تنفي واقعية محتواه ولا انتماءه لثقافة البشر؛ لأن القرآن يتحدث عن نفسه أنه رسالة، والرسالة تُمثِّل علاقة اتصال بين مُرسِل ومُستقبِل من خلال شفرة أو نظام لغوي، والدراسة العلمية يكون مَدخلها هو الواقع الذي ينتظم المُستقبِل الأول للنص وهو الرسول عليه السلام، وعرب الجزيرة والثقافة التي تتجسد في اللغة. والنص في هذه المرحلة وبتلك الصورة مُنتَج ثقافي؛ ليصبح بعد ذلك نصًّا مُنتِجًا للثقافة، العربية الإسلامية؛ لكونه النص المُهيمِن على هذه الثقافة، مُستخدِمًا منهج التحليل اللغوي، بادئًا بما هو معلوم وُصولًا لكشفِ ما هو مجهول؛ من الحسي صعودًا.

في الباب الأول من الكتاب بفصوله الخمسة تركيزٌ على دور الواقع والثقافة التي نزل فيها نص القرآن في تشكيل وجوده، من خلال دراسة مفهوم الوحي وعلاقته بالثقافة العربية، وتقبُّل العرب لفكرة تواصُل البشر مع غير البشر، ثم المُتلقِّي الأولُ للنص وتجربةُ حياته وتعامُل النص معه، ودور يُتمِه الذي شعرت به أنا أيضًا في فقد أبي، وتعامُل نص القرآن مع هذا اليتم. كذلك عِلما المكي والمدني في علوم القرآن، ثم علم أسباب النزول، ثم علم الناسخ والمنسوخ. ودور هذه العلوم في إبراز صلة النص القرآني مع الواقع وتعامله معه.

في الباب الثاني تناولت دور القرآن وآلياته في علاقته مع النصوص الأخرى في الثقافة العربية، وطُرُقه في إنتاج الدلالة والمعاني، من خلال خمسة فصول: فصل عن الإعجاز، وفصل عن علم المناسبة بين الآيات والسور، وفصل عن الغموض والوضوح، وفصل عن العام والخاص، ثم فصل عن التفسير والتأويل.

الباب الأخير يُحاول الكشف عن التحول الذي تم لمفهوم النص ووظيفته في الثقافة العربية، والتحول الذي ساد هذه الثقافة حتى عصورنا الحديثة، بدراسة فكر «أبي حامد الغزالي» (٤٥٠ﻫ/۱٠٥٨م–٥٠٥ﻫ/۱۱۱۱م) الذي قام بدورٍ خطير في صياغة المفاهيم والتصورات التي كُتِب لها الشيوع والاستقرار في مجال الفكر الديني، في محاولة لكشف أسباب بداية عزل النص عن الواقع وعن حركة الثقافة، والكشف عن جذور كثير من الأفكار والمفاهيم الشائعة في الخطاب الديني والمعاصر. بعد الانتهاء من كتاب مفهوم النص، جمعت الأبحاث والدراسات التي ألَّفتُها خلال السنوات الخمس الماضية، وتقدَّمتُ إلى الترقية إلى درجة أستاذ مُساعد للجنة الترقيات، وحصلت على الدرجة. وآثرت أن أقضيَ عامَين زيادة باليابان؛ لما أتاحته لي من جوٍّ ساعدني على البحث والدراسة، ولأن تدريس اللغة العربية بجامعة أوساكا لم يكن يأخذ من وقتي الكثير. وزُرتُ ماليزيا، والتقيتُ جماعة «قاسم أحمد» التي تروج لمفهوم أن الإسلام هو القرآن وحده، والتعرف على تجربة المسلمين هناك، وحالة النهوض الاقتصادي عندهم.

١۲

كتبت مقالةً لمجلة الفنون الشعبية نشرَتها في مارس سنة سبع وثمانين عن «الفوازير، وظيفتها وبناؤها اللغوي». وكتبت دراسةً عن الإنسان الكامل في القرآن باللغة الإنجليزية، نشرَتها مجلة جامعة أوساكا باليابان بعددها السابع والسبعين، سنة ثمانٍ وثمانين. وقمتُ بدراسة لجانبٍ آخر من تراثنا، نشرَتها مجلة ألف بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في عددها الثامن سنة ثمانٍ وثمانين، عن آليات التأويل في كتاب «سيبويه» (۱٤۰ﻫ/٧٥٨م–۱٨٠ﻫ/٧٩٧م)؛ التأويل بمعنى كيفية معالجة «سيبويه» في كتابه «الكتاب» للغة بوصفها نصًّا بالمعنى السيميوطيقي، كيف حاوَل اكتشاف آليات اللغة كنص وُصولًا إلى دلالة هذا النص ومَغزاه. لقد عاب اللغويون العرب المعاصرون على القدماء مِعياريَّتهم وأحكامهم التقييمية في دراسة اللغة؛ فقد وضع النحاة القدماء تعليلاتٍ ما هي إلا تأويلات وتفسيرات لشرح الظواهر اللغوية لتصنيفها بهدف الكشف عن نظام اللغة وصولًا إلى حكمة واضعيها، لكن يجب علينا أن ندرك أن جهد النحاة القدماء جزء من نظامٍ ثقافي عامٍّ تحكمه رؤية للعالم ذات طبيعة غائية، وكان درسهم اللغوي يُواجِه مشكلات لا تُواجِه المعاصرين، لكن الإشكال أن اللغويين في محاولة دراستهم للغة يستخدمون اللغة في التعبير عن دراساتهم أيضًا؛ فألفاظٌ مِثل الفعل والمفعول والمضارع والفتحة والحزم … إلخ علاماتٌ في اللغة دالة، لكنها في البحث اللغوي تتحول إلى مفاهيم تحليلية؛ أي تمَّت لها عملية إعادة تفسير أو تأويل نقلَتْها من مجال الكلام إلى مجال اللغة، بالإضافة إلى أن اللغويين كان عليهم أن يتعاملوا مع القرآن باعتباره النص المعيار الذي يُمثِّل النظام اللغوي بدقة، ولم يكن ممكنًا للنحوي منهم أو اللغوي أن يضع قواعده دون أن يكون نص القرآن نُصْب عينَيه.

وقد أخذت مفهوم «العامل» عند «سيبويه»؛ وهو مفهومٌ ذهني لتفسير ظاهرة علاقة كلمة بكلمة داخل الجملة، وتصنيف الكلمات إلى عوامل ومعمولات أو مُتأثِّرات، وهي رؤيةٌ تقوم على تصورٍ ذهني أن كل أثر لا بد له من مُؤثِّر، وكل فعل لا بد له من فاعل، وكل معلول لا بد له من علة. وناقشت مفهوم القياس وأركانه الأربعة عند «سيبويه»، واختلافه عن القياس في الفقه؛ فالنحوي لا ينقل حكمًا من نص بل يستنبط بالتأويل والمقارنة أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين ظواهر اللغة. وتناولت مفهوم الشذوذ في حالة الخروج على القاعدة والنظام. وأدركت أن مفاهيم «سيبويه» في «الكتاب»، خاصةً مفاهيم التقييم، تحتاج إلى دراسةٍ دقيقة متتبَعة لكل أحكامه. هذه الدراسة تقف موقف الدفاع عن النحو التقليدي أمام موقف المعاصرين المُنادين بالمنهج الوصفي؛ لأن هجومهم «ينبع من نظرةٍ تجزيئية تفصل علم النحو وسائر علوم الثقافة، ومن جهةٍ أخرى ينبع من موقفٍ تأويلي ضِمني يتخفَّى تحت شعاراتٍ برَّاقة. والهجوم على تأويلات النحاة دون فهم الدوافع والأسباب يعوق فهم طبيعة القضايا والمشكلات التي ساهمت في بناء العلم، وفي تحديد تصوراته ومفاهيمه؛ وهذا يؤدي إلى نتائج وخيمة يمكن تَلمُّس آثارها في محاولات تجديد النحو العقيمة.» هذا عن التأويل في كتاب «سيوبه» وأهميته، أما التأويل الخفيُّ في كتب الدارسين المُحدَثين — والذين يُنكرون التأويل ويُهاجمونه — فله حديثٌ آخر. إنَّ سنواتي الأربع في اليابان كانت سنوات إنتاج فكري، وحان وقت العودة للجامعة الأم. كان انطباعي عن اليابانيين أنهم لا يُعبِّرون بملامحهم عن مشاعرهم، لكني فُوجئت في مطار أوساكا بطلاب قسم اللغة العربية الذين درَّستُ لهم خلال السنوات الأربع؛ مائة طالب يَصطفُّون صفَّين، ويرفعون لوحةً مرسومًا عليها قلبٌ مكتوب به جملة باللغة العربية، ومُوقَّع عليها منهم جميعًا، وغنَّوا لي أغنيةً يابانيةً جميلة. كانت حفاوةً بالغةً منهم، ووداعًا أحمله في قلبي. وعُدتُ إلى مصر في مارس تسعة وثمانين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤