المُواطِن مُفكِّرًا

١

عُدتُ من اليابان أحمل معي الدراسات التي أعددتُها في هدوء الحياة هناك، حيث ركَّزتُ على الخطاب العربي المعاصر بادئًا بالخطاب الديني، فاشتركت في الكتاب السنوي الثامن، قضايا فكرية، والذي يُحرِّره الأستاذ «محمود أمين العالم» (١٩۲۲–٢٠٠٩م) وكان موضوعه «الإسلام السياسي، الأسس الفكرية والأهداف». كتبت دراسة عن «الخطاب الديني المعاصر، الأسس الفكرية والأهداف العملية»، نُشِرت بعنوان «الخطاب الديني المعاصر، آلياته ومُنطلَقاته»، أدرس فيها الظاهرة التي يُسمِّيها أتباعها «الصحوة الإسلامية»، ويُسمِّيها آخرون «الإسلام السياسي». ويجب دراستها في إطار الخطاب الديني العام بشِقَّيه الرسمي والمُعارِض، وليس فقط في إطار خطاب الجماعات الإسلامية؛ لأن هذا الفصل يُوحي أن هذه الجماعات نبتٌ دخيل على الخطاب الديني؛ مما يجعل الحل هو «قطعها بالفأس». فردُّ فِكر هذه الجماعات إلى فقه الإمام «أحمد بن حنبل» (١٦٤ﻫ/٧٨٠م–۲٤١ﻫ/٨٥٥م)، أو «ابن تيمية» (٦٦١ﻫ/١۲٦٤م–٧۲٨ﻫ/١۳٢٨م)، وتلميذه «ابن القيم الجوزية»، هو عمليةُ قفز وظلم؛ لأن فكر الجماعات يمرُّ عبر الخطاب الديني المعاصر، وعبر الواقع الذي ينكوي به هؤلاء الشباب. ومن هنا ركَّزتُ على الخطاب الديني المعاصر بجناحَيه الرسمي والمُعارِض.

وسؤالي كان: هل هناك خلاف بين المُعتدِلين والمُتطرِّفين في الخطاب الديني؟ بالدراسة وجدتُ أن الخلاف يَكمُن في نقطتَين؛ تكفير الحاكم والمجتمع، والثانية في تغيير المُنكَر باليد. فالتكفير واضح عند المُتطرِّفين، وهو ضِمني خفي عند المُعتدِلين، حتى الدولة تستخدم التكفير كجزء من أيديولوجيتها في مواجهة المُعارِضين. ومسألة تغيير المنكر باليد؛ فيرى المُتطرِّفون أن التغيير يكون بأيديهم وفي الحال، والمُعتدِلون يُؤجِّلون تغيير المنكر حين تحين الظروف. ورصدت خمس آليات يستخدمها الخطاب الديني في تفكيره وفي طرح مفاهيمه، وإقناع الآخرين واكتساب الأنصار. وقد يَعذر مُخالفيه في مخالفته في بعضها؛ أولها: التوحيد بين الفكر والدين. توحيد بين فهم الإنسان وتفسيره وبين الإسلام، فيتحدث عن موقف الإسلام ورؤية الإسلام، وليس فهمه أو تفسيره وتأويله لموقف ورؤية الإسلام. على الرغم من أن الفكر الإسلاميَّ من بدايته يدرك أن هناك مجالًا للوحي ومجالًا للخبرة الإنسانية، فكانوا يسألون النبي إن كان ما قاله وحيًا من الله أم هو الرأي والمشورة. والخطاب الديني المعاصر في توحيده بين فكره وبين الدين كأنه ضمنيًّا يتحدث باسم الله. الآلية الثانية: رد الظواهر إلى مبدأ واحد، أو بمعنًى آخر اختصارها في جانبٍ واحد، فيختصر العلمانية مثلًا في مناهضة الدين، والماركسية في الإلحاد والمادية، والداروينية في حيوانية الإنسان، والفرويدية في الجنس؛ فيُلغي بذلك القوانين الطبيعية والاجتماعية والسياق الذي ظهرت فيه الظواهر.

آليةٌ أخرى للخطاب الديني: أن يعتمد على سلطة التراث والسلف، فيُحوِّل السلف واجتهاداتهم إلى نصوصٍ غير قابلة للنقاش وإعادة النظر، ويربطها بالدين ذاته، فتكتسب قداسته، وينتقي من التراث ومن السلف ما يتوافق مع فكره، ويُهمِل بل ويُلغي ما يتناقض مع فكره. وآليةٌ أخرى: اليقين الذهني والحسم الفكري؛ مما يجعله لا يتحمل أي خلاف جَذْري مع أفكاره، فهو يمتلك الحقيقة الشاملة الواضحة وإنِ اتَّسع صدره لبعض الخلافات الجزئية. الآلية الخامسة التي رصدتها: أن الخطاب الديني المعاصر يُهدر البعد التاريخي، فيُطابِق بين النصوص وفهمه لها، مُهمِلًا أن النصوص التراثية لها لغتها وعالمها الذي تنتمي إليه، ويُهمل حتى سياق الواقع المعاصر ومشكلاته وهمومه واختلافها عن هموم الماضي ومشكلاته وأسئلته.

الخطاب الديني وإن اختلفت أجنحته، المُعتدِل منها والمُتطرِّف، يُطابِق مُنطلَقاتهم الفكرية غير القابلة للنقاش. ورصدتُ مُنطلَقَين: الحاكمية، والنص. والبعض يرجع الحاكمية عند «سيد قطب» (١۳٢٤ﻫ/١٩۰٦م–١۳٨٦ﻫ/١٩٦٦م) إلى فترة التعذيب داخل السجون المصرية، ويُقارن بين كتاباته في نهاية الأربعينيات وما كتب في «ظلال القرآن» و«معالم في الطريق» بعد ذلك، لكن هذا التفسير لا يُفسِّر الحاكمية عند «أبي الأعلى المودودي» (١۳٢١ﻫ/١٩۰٣م–١٣٩٩ﻫ/١٩٧٩م) الذي لم يتعرض لما تعرَّض له «قطب» وأخذ عنه «قطب»، لكن مع تَعمُّقي في دراسة خطاب «قطب» وجدت أن كتاباته الأولى بها الأصول العامة التي سيطرت على الخطاب بعد ذلك. ومفهوم الحاكمية جزء من التجربة الثقافية للمسلمين؛ فالخطاب الديني في تراثنا كان حريصًا على نفي أي تعارض بين الوحي والعقل، واتفق الجميع تقريبًا على أن النقل يَثبُت بالعقل، لكن الخلاف فيما بعد، هل يستقلُّ العقل بعد ذلك أم يظلُّ يُمارِس فاعليته في فهم النصوص وتأويلها؟ والهجوم على التفكير العقلي ورفض الخلاف والتعددية — قديمًا وحديثًا — يُمثِّل أساسًا من الأسس التي تقوم عليها الحاكمية. الأساس الثاني لها: المقارنة الدائمة بين المنهج الإلهي ومناهج البشر؛ فوضع الإنساني مُقابِل الإلهي يؤدي إلى عدمية الجهود الإنسانية. والحاكمية يستخدمها الخطابان الديني وخطاب السلطة السياسي ضد مُخالفيهم.

المُنطلَق الثاني هو النص، والخطاب الديني يُهمِل البعد التاريخيَّ للنصوص الدينية؛ فهو يتَّفق على أن النصوص الدينية قابلة لتجدُّد الفهم واختلاف الاجتهاد في الزمان والمكان، لكنه لا يتجاوز فهم الفقهاء للتاريخية، بقصرها على النصوص التشريعية دون نصوص العقائد أو القصص. وعلى هذا المجال المحدود للاجتهاد، يُؤسِّس الخطاب الديني لمقولة «صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان»، ويُعارِض إلى حد تكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني؛ فالنصوص دينيةً كانت أو بشريةً محكومةٌ بقوانين ثابتة. وكونُ القرآن مُنزَّلًا من الله لا يُخرِجه عن الخضوع لهذه القوانين؛ فالله سبحانه يُخاطِب البشر بلغتهم، وبقوانين اللغة العربية الموجودة قبل تنزيل القرآن. هذه النصوص ثابتة في منطوقها، مُتغيِّرة في الفهم والقراءة. وحينما قال علماء أصول الفقه بأنه لا اجتهاد فيما فيه نص، فإن مفهوم كلمة نص عندهم تختلف عن مفهوم كلمة نص في لغتنا الآن، لكن الخطاب الديني بكل مستوياته، من مُعتدِل (حكومي ومُعارِض) ومُتطرِّف، يقفز على كل ذلك. وإذا كان خطاب الجماعات الدينية يبدو هو الأعلى صوتًا، فإنه في الحقيقة مجرَّد صدًى لمعطياتٍ سابقة، من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام؛ صدًى كان يتردد خافتًا طول الوقت، ثم ساعَد على تجسيمه واقعٌ مُتردٍّ يَعجِز أهل الحكمة فيه عن تحقيق أبسط المطالب الإنسانية للمُواطِن العادي، بينما يرتع أثرياء الانفتاح ورموز السلطة في كثير من مظاهر الفساد والخطيئة، الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. وإذا كان ثَمة شبهٌ بين شباب الجماعات الدينية والخوارج فإنه ينحصر في تلك المثالية التطهُّرية المفارقة للواقع، والتي تدفعهم للدفاع عن التصور والدعوة إليه حتى الموت/الاستشهاد.

٢

كان التعرُّض لقراءة اليسار الإسلامي في مُمثِّله «حسن حنفي»، المولود عام ١۳٥٢ﻫ/١٩۳٥م، وكيف تعامل مع التراث كنوع من نقد الذات من خلال نقد قراءة أستاذي، في دراسةٍ نُشِرت في مجلة ألف بالجامعة الأمريكية، في عددها العاشر، بعنوان «التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي». والتأويل هو علاقةٌ جدلية بين الدلالة والمغزى، بين الذات والموضوع. والتلوين هو الوثب على المعاني دون مراعاة هذه العلاقة الجدلية. وهذا الوثب يُنتِج قراءةً مُغرِضة. وليس معنى هذا أن القراءة المُنتَجة هي قراءةٌ بريئة، إنما هي حركةٌ بندولية بين الدلالة/الأصل وبين المغزى/الغاية. ومشروع «حسن حنفي» سواء في صورته سنة ثمانين، والتي كان يُسمِّيها في حواراتنا «المانيفستو» أو في مجلداته الخمسة التي نُشِرت عام ثمانية وثمانين تحت عنوان «التراث والتجديد». والعدد الوحيد من مجلة اليسار الإسلامي الذي كتب مُعظَمَه «حسن حنفي»، واحد وثمانين، هو إعلان عن حسن النوايا يتلفَّح بالمبدأ الشيعي التراثي؛ التقية؛ تقية في مواجهة الخطر السياسي. وقد اعتمد التوفيقية على المستوى الفلسفي، لكني وجدت أن التوفيقية هي ركنٌ أصيل في خطابه. ومزجُه، ولا نقول خلطه، بين السياسي والفكري والأيديولوجي والإبستمولوجي دون تأسيس للفرع على الأصل، لا يكفي تبريره بالحيرة بين دور العالم ودور المُواطِن.

نقطة الانطلاق في خطاب اليسار الإسلامي هي توصيفه للمرحلة الراهنة للأمة بأنها تُشبِه عصر النهضة الأوروبي. من هنا تتحدد الاستراتيجية المناسبة، بالإصلاح الديني والاتجاه الإنساني ونشأة العلم، وأن الخلاف بين جناحَي الأمة خلافٌ جَذْري فيما يرتبط بعلاقة كلٍّ منهما بالتراث؛ فالسلفية تُمثِّل الاتباع، والعلمانية تُمثِّل الابتداع، ويصبح الإبداع الذي يُمثِّله اليسار الإسلامي بتجديد التراث. وهذه نقطة خلاف لي مع الخطاب؛ لأنَّ تعامل جناحَي الأمة مع التراث يتركز في طريقة استعمال كلٍّ منهما للتراث؛ فهو عند السلفيين إطارٌ مَرجعي، وعند العلمانيين غطاء وسند، وفي الحالتَين فقدَ التراث وجوده الموضوعي لحساب التلوين الأيديولوجي والنفعي، وفشل كِلا الاتجاهَين في تأسيس معرفة علمية بالواقع أو التراث. خطاب «حسن حنفي» في تعامله مع التراث «يتردد بين أن يكون التراث فاعلًا والماضي أساس الحاضر، وبين أن يكون التراث مجالًا لفاعلية التجديد ويكون الحاضر أساسًا لفهم الماضي بمعنى تبادُل ثنائية الماضي/الحاضر، التراث/التجديد، مواقعها طبقًا لزاوية التناول والتحليل دون أن تتأسَّس العلاقة بينهما كما ينبغي على أساسٍ جدلي.»

والاختلاف بين اليمين الديني وبين اليسار الإسلامي في نظرتهما للتراث، حيث إنَّ السلفيَّ يربط ميكانيكيًّا بين الإسلام والتراث بعد اختزال التراث في جانب منه دون جوانب، إلا أن اليسار الإسلامي يرى التراث نتاج الواقع والبشر؛ فهو تاريخيٌّ خارج دائرة المُقدَّس. لكن هذا الاختلاف على مستوى السطح، أما على مستوى البنية العميقة فيتَّفقان على تصور أن حل مشكلات الواقع الراهن يقبع في التراث؛ فاليمين يطرح شعار «الإسلام هو الحل»، واليسار الإسلامي شعاره تجديد التراث هو الحل. واليسار الإسلامي يرى التراث بناءً شعوريًّا. وهذا التصور هو أساس عمليات الوثب التي يقوم بها؛ فهناك اختلاف بين البناء الشعوري والبناء التاريخي، حيث يكون الفكر مستقلًّا عن الواقع، لكن التصور المثاليَّ للتراث المُفارِق للتاريخ والواقع يُحوِّل التراث إلى مُطلَق.

لكنَّ المَقتل الأساسيَّ لمشروع اليسار الإسلامي لتجديد التراث «الإبقاءُ على بنية العلم كما صاغتها العصور المتأخرة على غِرار البنية العَقَدية الأشعرية، مما سجن التجديد في إطار إعادة الطلاء وليس إعادة البناء.» فإنَّ وضعَ لافتات جديدة ذات دلالة عصرية إلى جانب اللافتات القديمة، جعل التجديد يَكمُن دوره في المتن، ووضعت النصوص القديمة في الحاشية، فتحوَّل التجديد إلى تلوين.

مشروع اليسار الإسلامي أقرب إلى الإخفاق منه للنجاح؛ لأخذه التراث كمَرجعيَّة، واعتباره أن قراءةً جديدة للتراث يمكن أن تُصلِح الواقع، والقراءة ذاتها كانت انتقائية؛ إعادة طلاء. إلا أن له بعض الإنجازات في التعامل مع التراث؛ بأن أعاد تأويل العقائد، وعقيدة الألوهية، خاصةً أنها محاولة من الإنسان لتجاوُز اغترابه في العالم. وأصرَّ على التعامل معها بوصفها تصوراتٍ ذهنيةً تُمثِّل مُوجِّهات للسلوك. وقد ركَّز على علاقة الوحي بالواقع في بعده الأفقي، وليس كاليمين الديني الذي يُركِّز على البعد الرأسي للعلاقة المُتمثِّلة في أصل الوحي ومصدر الرسالة. إن قراءتي ما كان لها أن تتمَّ إلا بالدور الذي قام به خطاب اليسار الإسلامي، من خلخلة الكثير من الثوابت والمُسلَّمات المُستقرَّة في وعينا الديني. وهذه القراءة هي محاولة لجذبه إلى آفاق إنتاج وعي علمي بالتراث والواقع في نفس الوقت بعيدًا عن التلوين وصولًا إلى أفق التأويل، في إدراك الواقع والتراث معًا.

دخلت عليَّ سكرتيرة قسم اللغة العربية بآداب القاهرة، تُخبِرني أن هناك شابًّا اسمه «أحمد النقيب» في انتظاري، لكنه في حالة من الهلع والدعاء وقراءة القرآن. سألتُها: «من أحمد؟» قالت: «طالب الماجستير الذي حوَّل الإشراف على رسالته إلى حضرتك لسفر أستاذه المُشرِف.» تساءلت: «وخايف من إيه؟» قالت: «مش عارفة، لكنه بذقنٍ طويلة، هو من الجماعات الإسلامية.» تنبَّأتُ بسبب خوفه. فسألَتني: «هل أُدخِله؟» قلت: «لا. أذهب إليه بنفسي.» ذهبت إلى مكان الانتظار وتعرَّفتُ إليه مباشرةً من وصف السكرتيرة له: «أهلًا يا أحمد، إيه رأيك نتمشَّى شوية لأني عايز أمشِّي رجليَّ؟» أحمد محسوب على تنظيم الجهاد، ودخل السجن. وعلى الرغم من أنه الأول على دفعته في المنصورة فلم يُعيَّن، فرفع قضيةً ضد الجامعة وكسبها فعُيِّن، لكن لضغط العمل في المنصورة حوَّل إشرافه إلى جامعة القاهرة، ورسالته عن نظرية اللغة عند «ابن تيمية». قلت له إنه من حقه أن يختار المُشرِف الذي يرتاح إليه، وعليه أن يُفكر في أي أستاذ يريد، وأنا أسعى مع إدارة القسم لتلبية طلبه. حاوَل أن يتكلم، فقاطعتُه قائلًا: هذا حقك، وهذا رَقْم تليفون بيتي، فكِّر أسبوعًا واتَّصِل بي، أخبرني بمن تريد. بعد أسبوعٍ طلب لقائي ليُخبرني أنه يريدني أن أشرِف على رسالته، فقلت: أحمد، أنا ليس لي دخل في فكرك الديني أو السياسي، أنت حر فيما تؤمن به، لكن أنت تحت إشرافي باحث، والباحث لا يبحث عن موقفٍ ما من موضوع البحث، بل هو يبدأ من أسئلة من نتاج بحثه، يعتصر المصادر والمراجع في سياقها التاريخي والاجتماعي بحثًا عن الإجابة؛ فإذا كنتَ تريد أن تكون باحثًا فيُسعِدني الإشراف عليك، وإن كنت تريد أن تكون داعيةً فابحث عن أستاذٍ آخر. قال مُسرِعًا: «باحث، أريد أن أكون باحثًا.»

٣

نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب كتابي «مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن» في سلسلتها «دراسات أدبية»، ليُباع بخمسة جنيهات وأربعين قرشًا. وشاركتُ في الاحتفالية التي أقمناها للذكرى العاشرة لرحيل أستاذي «عبد العزيز الأهواني»، وألقيتُ فيها بحث «قراءة النصوص الدينية، دراسة استكشافية» في شهر مارس سنة تسعين، ونُشِر في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد، عدد أربعة وعشرين، سنة تسعين. فبعد دراستي النقدية للفكر الديني يمينه ويساره، سعيت لدراسة أنماط الدلالة أو المعاني في النصوص الدينية، وخاصةً القرآن. نُشِرت بعد ذلك في الكتاب الدوري «قضايا وشهادات» في عدده الثاني، سنة تسعين؛ فالفكر في جوهره حركةٌ لاكتشاف المجهول، نبدؤها مما هو معلوم لنا سعيًا وراء المجهول، والفكر الديني أيضًا يخضع للقوانين التي تحكم الفكر البشري، وليس له قداسة؛ لأنه يدرس الدين المُقدَّس؛ فهناك فرق بين الدين والفكر الديني؛ فالدين بنصوصه المُقدَّسة الثابتة، أما الفكر الديني فهو الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتأويلها واستخراج معانيها ودلالاتها، لكن السؤال الحقيقيَّ هو: «كيف استطاع الفكر الديني المعاصر أن يُخفيَ هذا الفرق ويُشيع إطلاقيةً لاجتهاداته وفكره تُقارِب حدود قداسة الدين؟!»

وصلنا إلى هذا الحال بعد قرنَين من محاولة النهوض؛ لأن مشروع نهضتنا مشروعٌ تلفيقي بسبب هشاشة الطبقة الوسطى حاملةِ لواء النهضة، وتبعيَّتها الاجتماعية والاقتصادية؛ الأمر الذي أدَّى بها إلى التبعية السياسية؛ فخطاب النهضة ظلَّ يُبارِز نقيضه السلفي سجاليًّا بنفس السلاح، دون أن يسعى إلى تَجاوُز حالة السجال النفعي بإنتاج وعي علمي بالتراث، من هنا حالات التحول من مُفكِّرين، بتقدم العمر، من اليسار إلى السلفية. وعلى الرغم من النجاحات الجزئية لخطاب النهضة، حيث رفع غطاء القداسة عن الفكر الديني القديم والحديث، مع وضع بذور التعامل مع التراث كظاهرةٍ تاريخية، وبوصفه صراعًا بين تيارات واتجاهات، لكن أهل التجديد لم يُنتجوا وعيًا تاريخيًّا علميًّا بالنصوص الدينية، وظلُّوا مِثل أهل التقليد في ظل الرؤية اللاتاريخية للنصوص الدينية.

والوعي العلمي التاريخي يتجاوز أطروحات الفكر الديني قديمًا وحديثًا؛ فعلوم القرآن التي تربط الآيات بالواقع، مثل أسباب النزول، والمكي والمدني، والناسخ والمنسوخ … إلخ. لا بد أن نبنيَ على ذلك باستخدام إنجازات علوم اللغة، خاصةً في مجال دراسة النصوص؛ فالنصوص الدينية هي في الأساس نصوصٌ لغوية، الله تعالى استخدم لغة البشر بقواعدها وارتباطها بالثقافة ليُخاطِب البشر، وهذه اللغة العربية التي استخدمتها النصوص الدينية تنتمي إلى بنيةٍ ثقافية مُحدَّدة تمَّ صياغة النصوص تبعًا لها، ولكن للنصوص خصوصًا المُؤثِّرة منها فعاليَّتُها وقدرتها الخاصة في التأثير في الثقافة، بل وإعادة تشكيلها. وتفرقة عالم اللغة السويسري «فرديناند دي سوسير» (١٢٧٢ﻫ/١٨٥٧م–١۳۳۰ﻫ/١٩١۳م) بين اللغة والكلام؛ فاللغة هي النظام الدلالي للجماعة في كُلِّيته وشموليته بمستوياته الصرفية والنحوية والدلالية، وهي المخزون الموجود قبل الفرد الذي يستخدم هذه اللغة للكلام بها. والعلاقة بين اللغة والكلام علاقةٌ جدلية باستمرار. والنصوص لا تنفكُّ عن النظام اللغوي العام للثقافة، لكنها من ناحيةٍ أخرى تُبدِع شفرتها الخاصة التي تُعيد بناء عناصر النظام الدلالي من جديد، فيُضيف مُبدِعون بنصوصهم إلى اللغة ألفاظًا وتراكيب ومعاني، وتُقاس مدى إبداعية النصوص في الثقافة من تطويرها في النظام اللغوي. وهناك منطقةٌ مشتركة بين اللغة والكلام هي التي تجعل الكلام مفهومًا للمعاصرين للنص، وهي المنطقة المُشيرة إلى الواقع والتاريخ، وخارج هذه المنطقة تكون دلالات ومعاني الكلام والنصوص مفتوحةً وقابلة للتجدد مع كل قراءة جديدة وكل تغيُّر في أفق القارئ وعصره وثقافته.

لكن هل قدسية مصدر نصوص القرآن تجعلها لا تخضع لقواعد كلام البشر؟ فالله سبحانه يُرسِل رسالةً للبشر مُستخدمًا لغتهم بقواعدها. وإلهية المصدر لا تنفي بشرية الوسيلة التي تحمل الرسالة، وفهم البشر لهذه الرسالة هو الهدف لو دقَّقنا في نظرة النصوص الدينية الإسلامية لكلٍّ من القرآن الكريم والمسيح عليه السلام؛ فالقرآن كلام الله، وكذلك عيسى، عليه السلام، كلمة الله إلى «مريم» (سورة النساء: ١٧٧، آل عمران: ۳). والقرآن أُلقيَ على النبي محمد عليه السلام، كذلك عيسى (النساء: ١٧١). وتم الاتصال عن طريق وسيط في الحالتَين، هو المَلَك «جبريل» الذي تمثَّل للنبي في صورة أعرابي، وتمثَّل ﻟ «مريم» بشرًا (مريم: ١٧). فكلام الله تجسَّد في المسيحية مخلوقًا بشريًّا، وفي الإسلام تمثَّل نصًّا لغويًّا؛ أي عبر اللحم والدم في المسيحية، وعبر اللغة العربية في الإسلام. والفكر الديني الإسلامي يؤمن أن كلمة الله عيسى إلهيُّ المصدر لكنه بشر، ويُنكِر على الفكر الديني المسيحي تَصوُّر طبيعة مزدوجة إلهية وبشرية للمسيح، ويُصرُّ على بشريَّته في حين أنه ينظر إلى القرآن ذي الطبيعة المزدوجة أيضًا؛ فإلهية المصدر لكلام الله لا تنفي بشرية اللغة التي صِيغ بها، والهدف هو التواصل مع البشر برسالة وبلاغ وهداية ونور … إلخ من صفات القرآن لذاته. وموقف المعتزلة بتبنِّي بشرية النصوص الدينية، رغم أهميته، يظل موقفًا تراثيًّا تاريخيًّا دالًّا على بواكير وإرهاصات ذات مغزًى لتأسيس الوعي بطبيعة النصوص الدينية، لكنه يظل شاهدًا تاريخيًّا.

وجدت ثلاثة مستويات للدلالة في القرآن: دلالات ليست إلا شواهد تاريخية، لا تَقبَل التأويل المجازي، مِثل كل ما يتصل بتجارة الرقيق، ومِلك اليمين للمعاشرة، إلى جانب الزوجات الأربع، وجعل عقاب الجارية نصف عقاب الحُرة في الزنا، والتكفير عن الذنوب بعتق رقبة؛ لسقوط نظام العبودية ذاته. المستوى الثاني: دلالات قابلة للتأويل المجازي؛ فكلمة «عبد» في اللغة جمعها عبيد، لكن القرآن الكريم استخدم صيغة جمع جديدة، عِباد، تاركًا صيغة عبيد المُتأصِّلة في ثقافة الجزيرة العربية لتدلَّ على غير المؤمنين، في حين خُصِّصت «عباد» للمؤمنين، بالإضافة إلى إلحاح النصوص على المساواة بين البشر في الجزاء الديني، وألا تكون التفرقة على أساس الإيمان والعمل الصالح؛ فموقف الإسلام يتَّجه في اتجاه المساواة وإلغاء العبودية؛ فحين يستخدم الخطاب الديني العبودية أساسًا للعلاقة بين الإنسان والله لكي يُؤسِّس عليها مفهوم الحاكمية، مُهمِلًا أساس الحب والرحمة، حيث يستخدم الخطاب الديني آلية التضييق الدلالي في مفهوم العبودية بالعودة به إلى عبيد مُلغيًا العباد، والطاعة وليس الحب والرحمة. وكذلك يستخدم آلية التوسيع الدلالي على أساس مجرد التماثل الصوتي، عند تناوله مفهوم الحاكمية، بين «حكم»، وتعني التحكيم والفصل بين مُتخاصمين اختاروا تحكيمك طوعًا منهما، وبين «حكم» كما نستخدمها في عصرنا بمعنى الحكم الشامل في النظام السياسي.

المستوى الثالث من دلالات النصوص الدينية: دلالات قابلة للاتساع على أساس المغزى الذي يمكن اكتشافه من السياق الثقافي/الاجتماعي الذي تتحرك فيه النصوص، ومن خلال اتجاه حركة النص، من خلال علاقة الجدل بين المعنى والمغزى؛ فالمعنى هو المفهوم المباشر الذي يستنبطه المعاصرون للنص من منطوقه، ويمكن الوصول إليه من السياق اللغوي الداخلي والثقافي والاجتماعي، ويكون هذا المعنى ثابتًا نسبيًّا. أما المغزى فينطلق من المعنى، لكنه مُحصِّلة القراءة والخبرة بهموم العصر وصراعاته. باغَتَني خبر وفاة أستاذي الدكتور «عبد المحسن طه بدر» (١٩۳۲–١٩٩٠م) ليُعلِن رحيل جيل من العظام في حياتنا الثقافية وفي الجامعة.

أرسلت مقالتَين لمجلة «إبداع» التي تُصدِرها وزارة الثقافة، بعد تولِّي الشاعر «أحمد عبد المعطي حجازي» رئاسة تحريرها، نُشِرتا بشهرَي أبريل ومايو سنة تسعين، عن مفهوم النص؛ بحثًا في جوانب أخرى داخل الثقافة العربية الإسلامية. فالخطاب الديني المعاصر — حين يتمسك بالمبدأ الفقهي القديم «لا اجتهاد فيما فيه نص» في وجه أي محاولة للاجتهاد الحقيقي — فهو يعمل نوعًا من المخادعة الدلالية؛ باستخدام كلمة «نص» للدلالة على كل النصوص الدينية — القرآن الكريم والأحاديث النبوية — بصرف النظر عن وضوح دلالة النصوص وغموضها. عرضتُ التطور الدلالي لدلالة «نص» لغويًّا من الحسي إلى المعنوي، ثم إلى الاصطلاحي. النص هو الواضح وضوحًا لا يحتاج معه إلى بيانٍ آخر؛ فكل ما غمض أو احتمل أكثر من معنًى ليس بنص. وفي المقالة الثانية حاولت الكشف عن مفهوم الثقافة للنص من خلال تَتبُّع مفهوم التأويل؛ عودةً إلى استخدامه قبل الإسلام واستخداماته في النص القرآني، حيث ورد سبع عشرة مرةً في القرآن، ولم يُذكَر الدال «نص» مرةً واحدة. ووجدت أن الثقافة العربية تحمل مفهومًا للنص أوسع من مفهوم النصوص اللغوية، مفهومًا سيميوطيقيًّا، لكنه مفهومٌ يجعل السيادة للنصوص اللغوية على غيرها من النصوص. النص بالمفهوم المعاصر سلسلة من العلامات المُنتظِمة في نسق من العلاقات تُنتِج معنًى كليًّا يحمل رسالة، سواء كانت العلامات باللغة الطبيعية — الألفاظ — أم كانت علاماتٍ بلغاتٍ أخرى. وإذا كانت الآية علامةً والنص رسالةً فإن الكون كله — في الخطاب القرآني — سلسلة من العلامات الدالة — الآيات — على وجود الله وعلى وحدانيته.

أخذنا شقةً أنا وأحلام وبدأنا في فرشها. وتجددت خلافاتنا منذ عودتنا من اليابان، شكواها الدائمة من اهتمامي بطلبتي وطول الوقت الذي أقضيه معهم، فتضع نفسها دائمًا في وضع مقارنة بين اهتمامي بها وبهم، وفشلت كل محاولات أن أُشرِكها فيما أكتب وأفكر، فكانت تنسخ الأوراق على ماكينة الكتابة دون أن تُعِيرها اهتمامًا، فوضعت جهدي في الإنتاج الفكري والعلمي.

كتاب «غالي شكري» «الكشف عن أقنعة الإرهاب، بحثًا عن علمانيةٍ جديدة»، الذي أُخِذ من مادة ندوة «الدين في المجتمع العربي» التي عُقِدت في أبريل سنة تسع وثمانين بمشاركات «طارق البشري، وفهمي هويدي، وأحمد كمال أبو المجد» تحت اللافتة الدينية، و«محمد سعيد العشماوي، وميلاد حنا، وأنور كامل، وفرج فودة، وتوفيق حنا» تحت اللافتة العلمانية. قام «غالي شكري» بتحليل الخطاب. نشرت المقال بمجلة «أدب ونقد»، عدد يونيو، سنة تسعين. أردت أن أخطوَ خطوةً أعمق في تحليل هذه المادة التي أشار إليها الكتاب؛ فأنماط الخطاب العربي التي ذكرها، بتحليلها نجد وراءها بنيةً ذهنيةً واحدةً ناتجة عن سقوط مشروع النهضة بعد سلسلة الأزمات التاريخية التي مرَّ بها، لكن الانهيار سببه أن معادلة النهضة بُنِيت على تلفيقية بين التراث والوافد الغربي على أساسٍ نفعي براجماتي؛ لأن النخبة المفكرة هشَّة، نشأت في أحضان الإقطاع التابع للرأسمالية الغربية؛ فتحوَّلت النهضة إلى تبرير نقل التكنولوجيا الغربية باسم الإسلام. ومع سقوط المشروع الناصري سقطت معادلة النهضة ذاتها، ولم يبقَ غير السلفية التي عزَّزها الانفتاح، واشتداد ثروة البترول. وكان لقيام دولة إسرائيل دورٌ في تعميق أزمة مشروع النهضة؛ مما عجل بسقوط هذه المعادلة التلفيقية. الخطاب عاجز عن إنتاج وعي علمي بتاريخية النصوص الدينية وتعامل معها من منظورٍ سلفي، وارتفع صوت الراديو بخبر غزو القوات العراقية لدولة الكويت.

٤

مع سقوط الأقنعة، والتدخل الغربي المباشر في الأراضي العربية، وكشف الإرهاب عن وجهه القبيح في شوارع القاهرة باغتيال رئيس مجلس الشعب رفعت المحجوب في الثاني عشر من أكتوبر سنة تسعين، فأصبح الصراع على أشده بين الجماعات الدينية المُسلَّحة والسُّلطة، كتبتُ مقالًا نشرَته مجلة «القاهرة» في عددها يناير واحد وتسعين تحت عنوان «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، في مِلفٍّ للمجلة عن الثقافة. العقل العربي ظل مشدودًا طوال تاريخه إلى سلطة النص الديني والسلطة السياسية الحاكمة؛ فمنذ موقعة «صِفِّين» في عهد الإمام «علي بن أبي طالب» وتحوَّل الصراع من صراعٍ اجتماعي سياسي إلى صراعٍ حول معنى النصوص وتأويلها، وأصبح تأويل النص الديني شأنًا من شئون الدولة، وصار عالم الدين مُوظَّفًا في بلاط الخلافة؛ فأصبحت النصوص الدينية الإطار المرجعيَّ الأول والأخير لكل القُوى الاجتماعية والسياسية. من ناحيةٍ أخرى ظلَّت عين المُفكِّر والمُؤوِّل على اتجاه السلطة السياسية، سواء كان مُؤيِّدًا أم مُعارِضًا، فأصبح النشاط العقلي تبريرًا، وحينما يُضاف إليها (النصوص الدينية كمرجعيةٍ أولى وأخيرة) الانتماء إلى أيديولوجية السلطة تصبح نوعًا من التواطؤ. ومثال ذلك ما حدث أخيرًا في عملية الكويت من كل الأطراف. وفي القديم تواطأ المعتزلة — حينما اقتربوا من السلطة — بقمع المُخالِفين لهم، وتقديم تبريرات دينية وسياسية نتيجةً لبِنْيتهم الفكرية. ولا خلاص من هذا الموقف ولا استعادة للذاكرة إلا بالتعددية السياسية والفكرية، وترسيخ مبدأ الصراع الحُر الخلَّاق لكل الاتجاهات، والتحول من نظام الوثوب على السلطة إلى نظام التداول الديمقراطي الحق لها.

حقَّق كتاب «مفهوم النص» توزيعًا كبيرًا في مَعرِض الكتاب، وخُصِّصت ندوة لمناقشة الكتاب يوم الثامن عشر من يناير واحد وتسعين، الساعة الواحدة، تكلَّم فيها د. «شكري عيَّاد ود. جابر عصفور»، وكانت ندوةً قيمة لي في نقدهم للكتاب. ونشر د. «حسن حنفي»، عرضًا ومراجعة للكتاب في مجلة «فصول»، المجلد التاسع، فبراير واحد وتسعين. ونشر «جابر عصفور» مقالةً طويلة في مجلة «إبداع»، عدد مارس، بعنوان «مفهوم النص والاعتزال المعاصر»، وضع الكتاب في سياق مدرسة التفسير الأدبي للقرآن في جذورها القريبة من «محمد عبده إلى أمين الخولي وشكري عيَّاد ومحمد أحمد خلف الله»، ووضعها في جذورها القديمة التي تمتدُّ إلى المعتزلة، وأيضًا في السياق الثقافي المعاصر بتحدِّياته حين قراءة التراث. إلا أن «جابر» استطاع أن يُقدِّم نقدًا بنَّاءً وعميقًا للكتاب.

وعُدَّ الكتاب مقدمةً في الأصول التي ينبني عليها التفسير. وطرح أسئلة مِثل ما مفهوم الكتاب للنص، وأن الدراسة داخلة في إطار آليات القراءة التطبيقية وليس أصول القراءة النظرية على نحوٍ يجعل كتاب «مفهوم النص» دراسةً في كيفية فهم طائفة من أهل السلف، وسؤال ما الإسلام؛ هل هو الإسلام كنصٍّ إلهي أم الإسلام من حيث هو نصوص ثوانٍ بشرية يتمُّ إنتاجها من النص الأول.

زاد انخراطي في النشاط الثقافي العام والتدريس داخل الجامعة من الشقة بيني وبين زوجتي «أحلام»، حتى أصبحنا نعيش معًا وكأننا لا نعيش معًا، شِبه مُنفصِلَين في نفس السكن؛ لأزمة المساكن.

كان لتصرُّفات النخبة المُثقَّفة خلال أزمة احتلال قوات «صدام حسين» للكويت، وبحثها عن المهدي المُنتظَر، فكتبت مقالةً نشرَتها مجلة اليسار في عددها الرابع عشر من أبريل واحد وتسعين بعنوان «المهدي المُنتظَر والعقل المأزوم»، تناولت فيها تَطوُّر الفكرة في الفكر العربي الإسلامي، ولها مثيل في اليهودية والمسيحية كفكرة المسايا أو المسيح المُخلِّص المُنتظَر. وتناولت الفكرة عند الشيعة المُغالين والمُعتدِلين، مثل الإمامية الاثنَي عشرية والزيدية، وعند الصوفية. وقد أفهم تعلَّق البُسطاء والعامة بالفكرة، لكن ماذا عن المُثقَّف المعاصر الذي انخدع بالنُّظم الديكتاتورية العربية؛ لأنها ترفع شعارات العدل والحرية، فأغمض العين عن ممارساتها الفعلية وانخرط في التبرير الذي وصل عند البعض إلى حدود التواطؤ النفعي؛ المُثقَّف الذي يُعادي الإمبريالية والصهيونية لكنه يتصور أن قيادة الحرب ضدها يمكن أن تكون ناجزةً بالديكتاتورية التي تسحق الإنسان، وتُصادِر كل حقوقه أو تُؤجِّلها لأجلٍ غير مُسمًّى بدعاوى زائفة نعلم جميعًا أنها ترتبط باستقرار النُّظم الفاشية، وإحكام سيطرتها على رقاب العباد؛ المُثقَّف الذي يزعم أنه يُفكر تفكيرًا علميًّا ويسقط في وهدة ميثولوجيا المهدي المُنتظَر، ويُعيد إنتاجها برطانة مُسوح علمية تكشف أزمة العقل العربي؟

نشرت دار «سينا» للنشر كتابًا صغيرًا لي بعنوان «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، الذي نشرتُ جزءًا منه في مجلة «الاجتهاد»، بيروت، العدد الثامن، سنة تسعين، تناولت فيه مفهوم الوسطية الذي يُذكَر على أنه السمة الجوهرية لتجربة المسلمين، وهو مفهومٌ أصَّله «الإمام الشافعي» (١٥٠ﻫ/٧٦٨م–۲٠٤ﻫ/٨٢١م) في مجال الفقه والشريعة أو مجال أصول الفقه، وأصَّله في مجال العقيدة أو أصول الدين «الإمام الأشعري» (ت: ۳۳٠ﻫ/٩٤۲م)، واستنادًا لهما أصَّله الإمام «أبو حامد الغزالي» (ت: ٥۰٥ﻫ/١١١١م) في مجال الفكر والفلسفة، وهو شافعيُّ المذهب في الفقه، أشعريٌّ في أصول الدين. وهذا الكتاب ليس دراسة في أصول الفقه، بل دراسة في نظرية المعرفة كما يطرحها فكر «الشافعي» من خلال علم الفقه؛ أي دراسة الأصول النظرية التي أقام عليها «الشافعي» وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية، كدراسة في منهجه في التفكير بالمعنى الفلسفي للمنهج.

بدأت الدراسة من داخل الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، بوضع فكر «الشافعي» في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه، وفي مجال أصول الفقه، من خلال الصراعات الفكرية بين أهل الرأي وأهل الحديث في الفقه والشريعة، وعلى مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من «المُشبِّهة والمُرجِئة»، والصراع الشعوبي بين العرب والفُرس. وطريقة ترتيب الإمام الشافعي للأصول الأربعة للإسلام، وتأسيسه اللاحق منها على السابق؛ فالسُّنَّة تتأسس مشروعيتها — أي بوصفها مصدرًا ثانيًا للتشريع — على الكتاب، وعدَّهما جزءًا عضويًّا دلاليًّا واحدًا بأدلةٍ نصِّية مُنتزَعة من المنطوق أو المفهوم، وعليها بنى «الشافعي» الإجماع؛ فأصبح نصًّا تشريعيًّا. ويأتي الأصل الرابع القياس/الاجتهاد ليُصبح استنباطًا من النص، المُركَّب من الأصول الثلاثة السابقة، فتمَّ تدشين تحويل اللانص إلى نص لا يقلُّ في قوته التشريعية والدلالية عن النص الأساسي الأول، ألا وهو القرآن؛ وما يؤدي إليه ذلك من تضييق مساحة الاجتهاد/القياس بعقله بوثاق النص بإحكام.

أعدَّت كلية آداب القاهرة مؤتمرًا علميًّا كبيرًا عن د. «طه حسين» في ظل مرور مائة عام على ميلاده، وكنت في اللجنة المُنظِّمة للمؤتمر، وقد تعوَّدتُ على المؤتمرات والتجهيز لها. ولفت نظري دكتورة عضو باللجنة المُنظِّمة للمؤتمر من قسم اللغة الفرنسية، سألها أحد الدكاترة عن الحمام، وآخر عن قلم، فكانت حادَّةً في الرد عليهما. اشتركتُ في المؤتمر بمحاضرة عن «طه حسين». وبعد إلقائها اقتربَت مني هذه الدكتورة، وسألَتني إن كان يمكنها أخذ نسخة من المحاضرة، فأعطيتها لها وتعرَّفت إليها؛ د. «ابتهال يونس»، مُدرس حضارة فرنسية وحضارة مقارنة بالكلية. بعد انتهاء المؤتمر أقامت اللجنة المُنظِّمة حفلة عشاء صغير على مَركب بالنيل، فكانت فرصةً أوسع للتعرف إليها. دخلَت عليَّ المكتب في الكلية بعد أن قرأت نص المحاضرة، وكانت لها تعليقات ونقاط كتبَتها على الهامش، ودخلنا في نقاشٍ طويل وعميق حول «طه حسين» ودوره في الثقافة المصرية.

ازداد اقترابنا خلال رحلة لمدريد ببداية شهر مارس بجامعة غرناطة للمشاركة في ندوةٍ أخرى عن «طه حسين». أتينا لتناوُل الغداء، فقالت ابتهال لصديقتها: «المانيو فيه سمك اليوم كمان.» فقلت لها: «هو انتم تشمُّون السمك عن بعد زي القطط، أمس أيضًا قُلتما فيه سمك وفعلًا طلع سمك، كيف عرفتِ أنه فيه سمك؟» ضحكت وبلهجةٍ مُتواضعة قالت: «على الترابيزة سكينة سمك، فهذا معناه أنه هناك سمك.» قلت مباشرةً: «سكينة سمك؟هو فيه حاجة اسمها سكينة سمك؟!» شعور جميل بالسعادة والمتعة للقدرة على النقاش والحوار معها في أي شيء.

٥

أجْرَت معي الصفحة الثقافية بجريدة «الأهرام» التي يُشرِف عليها الأستاذ «سامي خشبة»، في سلسلة حواراتها الأسبوعية تحت عنوان «مفكر مصري جديد»، وأجراه معي الصحفي النابه «محمد حربي»، نُشِر على أسبوعَين يوم واحد وثلاثين من مايو والسادس من يونيو سنة إحدى وتسعين. أنا لست صاحب مشروع فكري بالمعنى المُتعارَف عليه، أنا باحث أُحاول تقديم قراءة علمية للتراث بدراسته في سياقه التاريخي والاجتماعي. وشرحت أن فكرة الوسطية التوفيقية للإسلام هي فكرة نتاج ظروف تاريخية وليست صفةً جوهرية للعقل الإسلامي، كما يقول الخطاب الديني المعاصر. ونقدتُ فكرة الحرية عند المعتزلة كفكرةٍ تاريخية مُرتبطة بعصرها؛ فمفهومهم للحرية كان في مواجهة القدر وليس في مواجهة الواقع الاجتماعي، مُطوِّرًا فِكرتي عنهم في رسالة الماجستير؛ فالمعتزلة كانوا يُمثِّلون لي إطارًا مرجعيًّا خلال كتابة مفهوم النص. اتصلت بي د. ابتهال تُعلِّق على حواري في «الأهرام»، وقالت: «أنا فاهمة يا دكتور نصر إن محمد حربي يقول: حوار مع مفكر مصري جديد. مفكر عظيم يا سيدي، لكن يقول مفكر شاب، دي مبالغة لا تُقبَل.» قالتها بطريقةٍ جعلتنا ننخرط في الضحك.

ذهبت مع «هدى وصفي وجابر عصفور» لزيارة الأب متَّى المسكين في خلوته، بدير الأنبا مقَّار على الساحل الشمالي، في حرارة الصيف. كنت مشغوفًا للقائه ومعرفة آرائه خصوصًا منهجه في التأويل والمدخل الطويل لشرح وتفسير إنجيل «يوحنا» الذي كتبه. تشعَّب الحوار معه إلى تجربته الروحية من الصيدلة إلى الرهبنة سنة ثمانٍ وأربعين، مرورًا بآليات الشرح والتفسير وتأويل الرموز الدينية في الكتب المُقدَّسة، ومشاكله مع «البابا شنودة» في نهاية عصر «السادات»، والحصار الذي مُورِس ضده، وتجربته في زراعة الصحراء واستصلاح أكثر من ألفَي فدَّان في دير أنبا مقَّار بوادي النطرون والساحل الشمالي. والرجل مُحاوِر من الطِّراز الأول يُجيد الاستماع والإنصات والتعبير عن نفسه بهدوء وثقة وتواضع العلماء وثقة الواصلين وهدوء أهل اليقين. نشَرْنا جزءًا من هذا الحوار في العدد الثاني عشر من مجلة «ألف» عام اثنَين وتسعين، بما يتوافق مع موضوع مِلف المجلة. وقمت بجمع أبحاثي التي نُشِرت مُتفرقةً خلال فترة الثمانينيات لتخرج في كتابٍ تنشره الثقافة الجماهيرية في طبعة شعبية بجنيهٍ واحد، عن سلسلة كتابات نقدية، عدد أغسطس واحد وتسعين، تحت عنوان «إشكاليات القراءة وآليات التأويل».

ساءت الأوضاع في الجامعة، يا لَبُؤس الحياة الأكاديمية والصراعات، لدرجة صعوبة تسجيل رسالة «علي مبروك» للدكتوراه تحت إشراف «حسن حنفي» في قسم الفلسفة لعِدَّة دورات، وقال «جابر عصفور»: «لو قسم الفلسفة لا يريد تسجيلها، فلنُسجلها نحن في قسم عربي.» التغيرات التي أدخلتها الدولة على الجامعة بوضع نظام الفصلَين الدراسيَّين «الترم» بقرارٍ إداري، دون أن تُرتِّب المؤسسة الجامعية لذلك، فأصبح الأستاذ يقوم بوضع امتحانَين وتصحيحهما؛ مما أخذ من وقته وجهده، بل وأدخلت نظام الانتساب الموجه بمصروفات، فتضاعفت أعداد الطلبة. قَبِل قسم اللغة العربية ستمائة طالب لقسمٍ يسع مائة، وزادت لتصل لألف، فأصبحتُ أُلقي محاضرة لطلبة الانتظام، وأُعيدها لطلبة الانتساب. ولأنني لا أُلقي محاضرةً مكتوبة فالتفاعل مع الطلبة يُضيف إلى المحاضرة، فأصبح الطلبة يحضرون كل محاضرة؛ مما ضاعَف الأعداد التي لم تجد مكانًا لها لتجلس. في ظل هذا أُلغيَت مادة البحث، لكني كنت أُصرُّ عليها، وكنت سعيدًا أن يشترك سبعة عشر طالبًا بأبحاث من ضِمن ألف. هذا الوضع استنزف الأساتذة؛ مما أدَّى إلى نوع من الغضب، فهدَّد الأساتذة بالإضراب، فحذفت الدولة كل الزيادات من رواتب الأساتذة، وقرَّرَت إدارة الجامعة تجديد المكتبة، ولم تبدأ أعمال البناء إلا أثناء العام الدراسي وكأننا في ورشة. زِد على ذلك الكتاب المُقرَّر، وتحديد حجم الكتاب وعدد الساعات. والطامَّة في دعم الكتاب الجامعي، طالبتُ وطالَب غيري أن يكون الدعم بوجود نسخ من الكتاب في مكتبة الجامعة، بدلًا من دعم كل طالب ببعض الجنيهات.

لقد تحوَّل حُلم الجامعة الذي سعيتُ إليه في الستينيات إلى كابوس. وعلى الرغم من ذلك كنت مُتحمسًا للعمل والكتابة والمشاركة. انفعلت على ابن أختي الذي عاد من السعودية، وفي أول يوم له داخل المدرسة في مصر رفض الجلوس بجوار طالب لأنه مسيحي. وكل ما تعلَّمه هناك أن المسيحيَّ كافر. قلت له: «لماذا عدت إذن؟ لماذا لا تعود للعيش هناك؟» لقد تم تجريف المجتمع من العقل، ومن تَديُّنه الذي نشأنا عليه، وعلى العلاقة بين المسلمين والمسيحيين. دخل المجتمع في حالة غيبوبة، ولا سبيل للخلاص إلا بالحرية على كل الأصعدة، من حرية العقل والتفكير مرورًا بالحريات الشخصية والسياسية.

كتبتُ مقالًا نشر بمجلة «العربي» الكويتية في أكتوبر واحد وتسعين، كعرضٍ نقدي لكتاب د. «زكي نجيب محمود» (١٩۰٥–١٩٩۳م) بعنوان «حصاد السنين وأمثلة التنوير المكبوتة»، السؤال الذي يشغلني: ما الذي جعل حصاد التنوير فقيرًا إلى هذا الحد الذي وصل إليه واقعنا؟ أبحث عن الأسئلة المُضمَرة والمكبوتة؛ الأسئلة المقهورة إلى حد التحريم. أنقد الخطاب بهدف تَجاوُزه لتأسيس خطاب تنويري لا يتجاهل هذه الأسئلة، نازعًا قناع التحريم، مُسلِّطًا عليها ضوء العقل. خطاب التنوير أسيرُ اللحظةِ التاريخية التي وُلِد في رحمها في القرن التاسع عشر، مُحاصَر بين تناقضاته مع بعض أطروحات نموذجه الغربي وهجومه وبين نقيضه السلفي الذي يرى في كل ما يأتي من أوروبا قضاءً على الذات وانتهاكًا للأصالة، لا يستثني إلا الناتج التكنولوجي المُيسِّر لشئون الحياة اليومية. «زكي نجيب محمود» يُدرك أن أزمة العقل هي المسئولة عن عثرات التنوير في بلادنا؛ فخطاب التنوير شديد الجرأة في نقد الواقع وفي نقد تاريخنا الثقافي والفكري والأدبي، لكنه يقترب على استحياء من تراث فكرنا الديني. وعجزَ خطاب التنوير أن يُحدِث وعيًا علميًّا حقيقيًّا بالتراث خصوصًا التراث الديني، فلجأ إلى موقفٍ تبريري؛ لأنه وقع بين سَنْدان الخطاب السلفي النقيض ومِطرقة الخطاب الاستشراقي، فأصبح الدفاع عن التراث الديني لا نقده أو تحقيقُ وعي علمي بدلالته إحدى مهامِّه بوضعه في دائرة الوجدان.

سعى خطاب التنوير إلى التلفيق بين الأصالة والمعاصرة؛ مما جعله يبحث دائمًا عن حلولٍ وُسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي. خطاب «زكي نجيب محمود» مُهتمٌّ بقضية المنهج الفكري ووضوح اللغة والمصطلحات، ونظرته ديناميكية للماضي والتراث، ففرَّق بين المعقول واللامعقول وانحاز للمعقول؛ مما مهَّد الأرض للوصول إلى تاريخية التراث الديني؛ التاريخية التي تنزع عنه القداسة. ونادى بوضوح الأفكار الذي جعلنا ننتقل من تحليل الفكر إلى تحليل الخطاب؛ فالإنسان وَحدةٌ واحدة.

علماء الدين الحكوميون، في نقدهم لشباب الجماعات الدينية، يَتحجَّجون بألا يتحدث في الدين من لم يتخصَّص فيه، كما لا يتحدث في الطب غيرُ طبيب. وعلى الجانب الآخر يتطوَّعون بإصدار الأحكام في كل شيء، فكتبت مقالًا نُشِر في مجلة «أدب ونقد»، عدد نوفمبر واحد وتسعين، بعنوان «إعطاء العيش لخبَّازه أو العودة لمحاكم التفتيش»؛ فاختصاص رجل الدين في شئون العقيدة لا يسمح له أن يزجَّ بنفسه فيما لا يُحسِن، ويقف عند حدود الرأي ولا يتجاوز ذلك إلى إصدار حكم؛ لأن الناس تتوهَّم أن ما يَصدُر عنه من أحكام هي أحكامٌ دينية لا تَقبَل النِّقاش ولا المراجعة.

علمتُ بخبر وفاة والد د. ابتهال، فذهبت أنا وأحلام للعزاء، وكانت قد زارتنا في البيت أكثر من مرة، وتوثَّقت صداقتنا، وكنت مُعجَبًا بالحوار والنِّقاش والمناقرة المستمرة منها.

٦

في مجال اهتمامي بالخطاب العربي المعاصر عرَضتُ عرضًا نقديًّا كتاب دكتور مهندس «محمد شحرور» «القرآن والكتاب»، الصادر من دار الأهالي للطباعة في طبعته الثانية سنة تسعين، فكتبت مقالًا لمجلة «الهلال» بعنوان «لماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟» في عدد أكتوبر واحد تسعين. وأنا لا أُنكِر مشروعية القراءة المعاصرة للتراث، لكن لا بد من شروط لمثل هذه القراءة لكي تكون قراءةً تأويليةً مُنتِجة، وليست تلوينيةً مُغرِضة؛ فالقراءة المُغرِضة تسعى إلى التلفيق بين طرَفَين؛ أحدهما ثابتٌ راسخ بديهي فكريًّا، والثاني طرَفٌ مُتحرِّك قابل للتشكيل وإعادة القراءة والتأويل لينطق بكل ما تريده هذه القراءة. وهي عكس القراءة التوفيقية التي تقوم على حركةٍ بندوليةٍ متبادلة، يتبادل فيها الطرفان التفاعل لكي يصلا إلى حالة من التصالح أو التوافق.

فلماذا طغت التلفيقية على كثير من مشروعات تجديد الإسلام؟ وهل الإسلام هو إطارنا المرجعي الوحيد في كل الشئون التي تطرحها علينا حركة الحياة؟ فأين مجال الخبرة الإنسانية؟ وأين فاعلية العقل الإنساني المستقل؟ لقد أصبح همُّ القراءة العصرية أن تكتشف في النصوص الدينية ما هو معروف سلفًا؛ فكتاب «محمد شحرور» يسعى إلى حل إشكالية شمول المعاني الدينية لكل المعارف الإنسانية، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لكن الإسلام ذاته واقعةٌ تاريخية في زمن ومكان معروفَين، وسياقٍ اجتماعي وسياسي معروف، ونصوص القرآن نزلت مُتواترةً على بضعة وعشرين عامًا؛ فعبر الفهم العميق لتاريخية الكتاب، وكشفِ ما هو جزئي ولحظي في تعاليمه، وتميزها عما هو مستمر ومتواصل، وليس عبر أن نكون عالةً على عقول الآخرين. هم يكتشفون ويخترعون، ونحن نبحث عن هذه الاكتشافات في نصوصنا الدينية لنتعالى عليهم بوجودها عندنا من مئات السنين. رد د. «محمد شحرور» على المقال في عدد شهر يناير اثنَين وتسعين، يُشكِّك في مفهوم التاريخية، وحسنًا فعل، فرددتُ عليه في عدد مارس فصَّلتُ فيه مفهوم التاريخي والتاريخية، ومفهومَي المعنى والمغزى ودورهما في دراسة التراث والنصوص الدينية، نُشِر في مجلة «ألف» بعددها الثاني عشر سنة اثنتَين وتسعين، مع جزء من حوارنا مع الأب «متَّى المسكين»، ودراسة لي بعنوان «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» صدَّرتُها بمقولة «ابن عربي» التي أراد أن يحلَّ بها إشكاليات الفكر الديني، وليس الإسلامي فقط: «الأمر محصور بين رب وعبد؛ فللرب طريق، وللعبد طريق؛ فالعبد طريق الرب؛ فإليه غايته، والرب طريق العبد؛ فإليه غايته.» أردت أن أتعمَّق أكثر مما فعلت من قبلُ في دراسة أساس مبحث المجاز في الصراعات السياسية والاجتماعية والفكرية، خلال دراستي للماجستير، ودراستي عن الأساس الكلامي — نسبة إلى علم الكلام — لمبحث المجاز. هنا درجةٌ أعمق لإشكالية المجاز والنزاع حول الحقيقة، ومن أين تبدأ في الماضي وفي حاضرنا؛ فمن يبدءون من عالم المحسوس المُدرَك باعتباره عالم الحقيقة الموضوعي، والذي نقيس عليه ما هو غائب وغير مُدرَك بالحواس، فنقيس الغائب على الشاهد، ويكون العبد طريق الرب وإليه غايته، حسب تعبير «ابن عربي»، وعلى هذا الطريق سار المعتزلة والفلاسفة العقلانيون، فجعلوا الهدف من رسالة الله هو الإنسان والعالم، والله سبحانه وتعالى تنزَّل بِرُسل وأنبياء، والإنسان هو الغاية؛ فيَتمُّ الوحي وَفْق آليات الإنسان، بلغته ومن خلال ثقافته بما يتضمَّنانه من مجاز، وتغير في الدلالة من المحسوس إلى المجرد، من المدرك إلى المعقول، من الشاهد إلى الغائب؛ فعالمنا هو الحقيقة، وفي عالم الغيب يكون المجاز.

الطريق الآخر هو طريق من بدءوا من الله، أصل الوجود، فيكون الرب طريق العبد، فإليه غايته؛ فالوجود حركةٌ دائرية تبدأ من أصلٍ واحد هو الله، تخلَّق عنه الوجود بالتجلِّي أو بالفَيض، أو بالخلق من مادةٍ قديمة عند آخرين، أو بالخلق من عدم؛ فخلق الله العالم والإنسان. والهدف هو عودة الإنسان إلى الله، وما اللغة إلا وسيط. ويكون عالمنا هو المجاز، والحقيقة هناك. ولكلا التصوُّرَين سند من نصوص الكتاب والسنة. ولم تهدأ المحاولات والمشروعات الفكرية التي تسعى لجمع التصوُّرَين في منظومةٍ فكرية واحدة، من «أبي الحسن الأشعري» (ت: ۳۳۰ﻫ/٩٤۲م) إلى «أبي حامد الغزالي» (ت: ٥۰٥ﻫ/١١١١م) إلى «ابن عربي» (ت: ٦٣٨ﻫ/١٢٤٠م)، لكن السؤال هو: لماذا أخذ كل طرف بجانب من الظاهرة الدينية؟

الحياة بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية هي المُفسِّرة للخلافات الفكرية، وبالأخص الدينية؛ بين من يُصرُّون على الحياة في العالم، وبين من يرَون هذا العالم مجرد مَعبر أو مجاز للعالم الآخر؛ عالم الحقائق الأزلية الثابتة. حاولتُ دراسة هذه الإشكالية من أجل الكشف عن امتدادات هذه الرؤى التراثية في الخطاب الديني المعاصر، فوجدت أن ربط مركبة اللغة والمجاز بقاطرة الدين والعقيدة هو المسئول دون شك عن حالة الارتباط والتشوش في فهم الظاهرة جزئيًّا، لكن المسئولية الشاملة تقع على عاتق ربط مركبة الحياة بمستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية والاجتهاد فيها، بعجلة الدين والعقيدة. وهو ربطٌ ليس أصلًا في العقيدة، بل حدث في ظل صراع اجتماعي وفكري في تاريخنا.

٧

لم يُغادِرنا عامُ واحد وتسعين دون صدور حكم محكمة أمن الدولة طوارئ، بالسجن ثمانيَ سنوات على الكاتب «علاء حامد»، بعد قرار مجمع البحوث الإسلامية ضد روايته، ومصادرة مباحث المُصنَّفات الفنية لها، وحبسه بسجن طرة بعد فصله من وظيفته، ليأتي عام اثنَين وتسعين بمطالبة الكاتب «فرج فودة» رئيسَ الجمهورية في لقائه مع الكُتاب في افتتاح مَعرِض الكِتاب، بوضع قانون للإرهاب. وشَهِد المَعرِض محاولة مصادرة كتب المستشار «محمد سعيد العشماوي» من قِبَل لجنة أزهرية. شاركتُ في ندوة «الثقافة العربية والموقف من التراث» التي حاضَر فيها «جابر عصفور وحسن حنفي وجمال الغيطاني» يوم سبعة يناير، لتُعقَد في اليوم التالي مناظرةٌ احتشد لها الآلاف، بعنوان «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية»، شارَك فيها د. «محمد أحمد خلف الله، ود. فرج فودة» مُمثِّلًا للتيار المدني، والشيخ «محمد الغزالي» ونائب المرشد العام للإخوان المسلمين «الهضيبي، ومحمد عمارة»، وأدارها صديقي د. «سمير سرحان» رئيس الهيئة العامة للكتاب. أصبح الجو الثقافي مشحونًا جدًّا بين الجبهتَين. ونُشِر نص المناظرة مع استبدال العنوان إلى: «مصر بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية».

أصبحتُ مُمزَّقًا بين مشاعري الدفينة تجاه «ابتهال»، فأكتشف كل يوم ما يُقرِّبني إليها، نلتقي يوميًّا في الجامعة منذ بدء الدراسة. حرَصتُ على أن أُخفيَ مشاعري نحوها؛ فأنا أعتزُّ بصداقتها، ولا أريد لشيءٍ أن يُعكِّر صفوها وسُموَّها العميق. عاتبٌ على نفسي، مجرد التفكير في التصريح لها، فارِقَ السن؛ فهي في سن أختي الصغيرة آيات، لا أقول ابنتي. شابَّةٌ عذراء وأنا مُتزوِّج ولا أُنجب. سألَتني عن سبب حزني، فتعلَّلتُ بذكريات من مرحلة الطفولة. مبهورٌ أنا بعزمها وقوة شخصيتها. تأخذني إلى عالمٍ جديد وأماكن مُبهِرة. في يومٍ خريفي جميل أمام بوَّابة الكلية، كنَّا في انتظار بعض الأصدقاء، متأخرين، في طريقنا إلى مناسبةٍ ثقافية، نتجاذب أطراف الحديث، فقلت لها بصوتٍ طفولي مازح: غريب أوي يا «ابتهال»، مع كل صداقاتك وعلاقاتك ولسه مافيش ارتباط ولا حتى خطوبة؟ قالت بمزاح: ليه عندك عريس؟

– ربما.

– هو انت بقيت خاطبة؟!

– إيه رأيك في واحد زيي؟

– زيك؟ ولَّا أنت؟

قلت بتردد: أنا. فُوجئت بصوتها بدون تَردُّد: موافقة. وصمت بيننا الحوار، ولم نعرف أين يذهب بعد ذلك. عِدَّة أيام وتشجَّعتُ أن أفتح معها الكلام مرةً أخرى: «ابتهال، لما كلمتك عن الزواج لم أكن أمزح.» قالت بنبرةٍ واثقة: «مين قال إنك بتمزح، وتعجبت ليه أخذت منك الوقت الطويل دا كله علشان تقولها؟»

– يمكن لأني مستكترك على نفسي، ولا أستاهلك.

لم أصدق أُذني، إنها تُبادلني نفس المشاعر. شعرتُ أن صخرةً كبيرةً بدأت تَنْزاح عن صدري، كلماتها كانت نجاتي وعَوني في أن أتَّخذ القرار الذي خشيتُه منذ زمن، فجلست مع «أحلام» لأُخبرها أنه من الأفضل لها ولي أن ننفصل، أو بمعنًى صحيحٍ أن يصبح انفصالنا رسميًّا. تركت لها الشقة التي فرشناها، واقتسمت معها مُدَّخَراتي النصف بالنصف دون أن تطلب.

بدأت أعرف أكثر عن «ابتهال» وعن أسرتها، وأكتشف أصولها التركية، ومكانة والدها عليه رحمة الله، كان سفيرًا ومُستشارًا للغة الفرنسية، أحد تلامذة «طه حسين»، ودفعة «نجيب محفوظ». عاشت طفولتها بين فرنسا والنمسا. أخبرَتني «ابتهال» بما حدث بينها وبين والدتها حين علِمَت بموضوعنا، ورفضت فكرة ارتباطنا تمامًا. طلبتُ أن أتواصل بوالدتها، والتي كانت مُهذَّبة جدًّا، لكن حادَّة كسِكِّين. سألتُها عن سبب اعتراضها، قالت: «مقدرش أقولك، لازم تفهم لوحدك.» حاولتُ الاتصال بأخيها الذي يصغرها، فكان يتكلم معي وكأنه يتحدث عن طفلة وليس عن الدكتورة «ابتهال»، البالغة التي يمكن أن تتَّخذ قرارها بنفسها في أمور حياتها.

ذهبنا إلى محل المجوهرات واشترينا دبل الخطوبة، ولبستها في المحل، وعادت إلى البيت ورفعت إصبعها بالدبلة إلى والدتها، وقالت إنها خُطِبت، وإننا سنتزوج بعد انقضاء رمضان. حينما شعرت الأسرة أننا مُصمِّمان على الزواج لم يجدوا مَفرًّا، فاقترحت الأسرة أن نُقيم فرحًا، فقالت «ابتهال»: «اعملوا فرح كبير وادعوا معازيم، لكن مش هنحضر.» فلم يكن معنا نقود. اشتريت لها خاتمًا، وعقدنا الزواج في الرابع من أبريل. ذهبنا لنتصور صورة الزواج، ومعنا والدتها طوال الطريق لم تُوجِّه كلمة لي ذهابًا أو إيابًا. جلسنا في بيت أسرتها قليلًا، ثم توجَّهنا إلى شقةٍ صغيرة حصلنا عليها من المساكن في ضاحية ستة أكتوبر النائية بالدور الأرضي. حينما اجتمعنا في شقتنا وأغلقنا بابنا، شعرت برغبةٍ جارفة للبكاء، بكاء حبستُه داخلي سنواتٍ منذ وفاة والدي، حملٌ كبير حملتُه على أكتافي مع والدتي، عليها رحمة الله؛ فالآن تبدأ حياتي، الآن أعيش.

٨

قبل الزواج انتهيتُ من مقال نشرَته مجلة «أدب ونقد» في شهر مارس سنة اثنتَين وتسعين، بعنوان «التراث بين الاستخدام النفعي والقراءة العلمية، سُلطة النص في مواجهة العقل»، كنت قد ألقيتُه في مؤتمر «التراث وآفاق التقدم في المجتمع العربي» بمدينة عدن باليمن في الثالث من فبراير الماضي. شغلني السؤال: لماذا حين يُذكَر التراث يتبادر إلى الذهن الدين أو الفكر الديني؟ ولماذا يُلحُّ علينا هاجس التراث هذا الإلحاح المُؤرِّق، والذي يكاد يجعلنا أمةً فريدة في تَعلُّقها بحبال الماضي كلما مرَرْنا بأزمة؟ لقد قامت ثقافتنا المعاصرة باختزال التراث في الإسلام الذي أصبح هو الهوية التي إذا تخلَّينا عنها ضِعنا. وتم اختزال الإسلام في الفهم الأشعري المُسيطِر لقرون، والفهم المعتزلي مُهمَّش. وتم اختزال الآخر الغربي في الغرب المُعتدي الغازي المحتل، أو الغرب المُتقدِّم المُتحضِّر المُعلِّم؛ فهذه النظرة للتراث وللغرب لا خروج لنا من أَسْرها إلا بإدراك تاريخية التراث بعمقه إلى ما قبل الإسلام، وتعددية رُؤاه وتوجهاته؛ أي بإنتاج وعي علمي بالتراث في سياقه التاريخي، وكذلك بإدراك تركيبة الآخَر، وأن الغرب الغازيَ لا يُمثِّل الإنجاز الحضاري، ولا نحصر الإنجاز الحضاري له في العلم والتكنولوجيا فقط، بل كلاهما ثمرة لشجرةٍ أعمق وأوسع.

كلمة تراث لم تَرِد في النص القرآني بالمعنى الذي نستخدمه الآن، لكن الكلمة التي وردت تُعبِّر عن معنى التراث كما نستخدمها هي كلمة السُّنَّة، وجاءت تعني طريقة حياة الناس أو الشريعة التي ارتضَوها في الماضي؛ لذلك فسنة الرسول الكريم هي أقواله الشارحة والمُبينة لما ورد مُجمَلًا في تعاليم القرآن، وما سواها من أقوال وأفعال يجب أن يُدرَج في سياق الوجود الاجتماعي؛ أي تفرقة قدمائنا بين سنة الوحي وسنة العادات. والسؤال هو: هل كل ما ورد في كتب السنن والأحاديث مع افتراض صحته جميعًا ونِسبته للنبي، هل يدخل في جانب الدين المُقدَّس؟ «الإمام الشافعي» هو من بدأ وضع الأسس الفكرية والفقهية لإدماج السنة في الدين، وإعطائها استقلالية التشريع، ومن بعده «الأشعري» الذي ناهَض فكر المعتزلة وأسَّس لسلطة النقل في مواجهة تيَّارات أخرى تُحاوِل تأسيس سلطة العقل دون إهدار مجال فاعلية النصوص. وأتى «الإمام أبو حامد الغزالي» ليُكمِل نفس الخطوة في مجال الفكر والفلسفة. تكوَّن مَوقفان من سنة السابقين أو التراث، يلوذ أحدهما مُحتميًا من تَقلُّبات الزمن والتاريخ وتغيراتهما بالتراث، وآخر يهتمُّ بحاضره وواقعه دون أن يُغفِل فعالية التراث أو يتجاهلها. لكن الصراع حُسِم قديمًا لصالح النقل وضد العقل؛ لأسبابٍ تاريخية وسياسية واجتماعية وليست فكرية. هكذا تحدَّدت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سلطة النصوص عبر النقل، وأصبحت مَهمَّة العقل محصورة في توليد النصوص من نصوصٍ سابقة. هذه الآلية هي المسئولة عن جعل التراث الديني الإطار المرجعيَّ الوحيد للعقل العربي، بالإضافة لمفهوم شمولية الدين.

الجانب الآخر: إشكالية علاقة العقل العربي بالآخر الغربي. فالاستشراق كذراعٍ فكرية للاستعمار رسمَ صورة لنا بأننا مسلمون دينًا ووطنًا، وأنَّ سر تخلفِنا وانحطاطنا هو الإسلام؛ فشرعَ المفكرون المسلمون يدافعون عن الإسلام بأن سبب تخلفنا هو البعد عن الإسلام، وما تقدَّمت أوروبا إلا بقيم الإسلام؛ فالعقل العربي تقبَّل رؤية الاستشراق أن الإسلام هو هُويَّته، لكنه رفض ربط التخلف بالإسلام. وانخرطنا في رد فِعل ولم نبحث عن أسئلتنا نحنُ النابعة من قضايانا، بل دافَعنا بأن تمَّ الفصل بين الإسلام والمسلمين، وإعادة تفسير تعاليم الإسلام لينطق بقِيَم التمدين والحضارة كرد فِعل لما طرحه الغرب؛ فمارَس خطاب النهضة التجديد على أساسٍ نفعي لتحقيق مَهمة تَقبُّل المدنية الأوروبية. والخطاب السلفي يعتمد نفس الأساس النفعي في تأويل الإسلام والتراث لرفض المدنية الأوروبية. في كلتا الحالتين تم إنتاج وعي زائف بكلٍّ من التراث والحضارة الأوروبية، وبهذا الوعي الزائف أصبح العربي يحيا في الغالب تاريخًا غير تاريخه، سواء كان لحظةً ماضية في الزمان الأوروبي أو في زمانه التراثي، ولم يبقَ له في لحظته الراهنة سوى التبعية للغرب على مستوى الحياة المادية، باستيراد التكنولوجيا والاتباع لإحدى لحظات الماضي على مستوى الوعي، دون أن نبحث عن الأسباب الحقيقية للتقدم والتطور والنهوض بردِّها إلى عملية تحرير الإنسان وتحرير عقله.

شاركت في ندوة بمدينة إشبيلية الإسبانية بعنوان «الأندلس مُلتقى ثلاثة عوالم»؛ وذلك لبحث عن دور الأندلس في تشكيل الصبغة الفكرية لفلسفة «محيي الدين ابن عربي» الصوفية. وفي أثناء إعدادي للدراسة تنبَّهتُ إلى سيطرة البنية القرآنية كنموذج ونمطٍ سردي على بنية كتاب «الفتوحات المكية». ولا أقصد مجرد الحضور الطاغي للاستشهادات القرآنية المباشرة وغير المباشرة، بل أعني تَعمُّد «ابن عربي» الانتقال من موضوع إلى موضوعٍ آخر تقليدًا للبنية القرآنية التي يتحرَّر فيها السرد من وحدة الموضوع تحررًا تامًّا. وشاركت بها في مؤتمر «الحضارة الأندلسية» بكلية آداب القاهرة في الحادي عشر من شهر يناير اثنين وتسعين، أُعيد فيها النظر إلى خطاب «ابن عربي». وطلبَت مني مجلة «الهلال» المشاركة في ملف لها عن التصوف، في عدد شهر مايو اثنين وتسعين، فكتبتُ «محاولة قراءة المسكوت عنه في خطاب ابن عربي».

في دراساتي السابقة عن «ابن عربي» حلَّلتُ خطابه بالوقوف عند ما يقوله، لكن لا بد من قراءةٍ تحفر درجةً أعمق، تتلمَّس الدلالات الضمنية الكامنة والمُستقِرَّة وراء مستوى المعاني الظاهرة؛ بأن ندرس مستوى المسكوت عنه؛ فقد وقعنا كباحثين بدرجاتٍ مُتفاوتة في شراك القراءة الاستنباطية التأويلية الذاتية، التي تُسيطر فيها فلسفة «ابن عربي» على تأويله. وكانت لإشارات الأستاذ «ميشيل شودكيفيكس» المُستعرِب الفرنسي في نهاية عرضه النقدي لرسالتي للدكتوراه، حافزٌ على الاهتمام ببنية خطاب «ابن عربي»؛ فبينة أي خطاب تتحدد من مستوياتٍ أهمُّها مدى تَوافُق البنية أو مخالفتها لما هو سائد. لا يتوقف تأثُّر نص «ابن عربي» أو تناصُّه بالنص القرآني عند حدود البنية الخارجية فقط، بل يندمجان ويتراكبان في مستوياتٍ مُتعددة من السياق، حتى لَيَصعب على القارئ في كثير من الأحيان فصل صوت «ابن عربي» عن الصوت القرآني في النص. ويبدو أن «ابن عربي» لا يُحاوِل فحسب مُحاكاة جماليات النص القرآني، بل إبداع نص جديد يدخل القرآن في نسيج بنيته جزءًا مُؤسِّسًا، هذا الطموح الإبداعي هو الذي أثار وما يزال غيظَ الفقهاء ورجال الدين. «ابن عربي» يستحق قراءةً شاملةً تفصيليةً تكشف أبعاد كل ذلك، وأتمنَّى أن أقوم بها يومًا ما.

تقدَّمتُ إلى لجنة الترقيات بالجامعة للترقية إلى درجة «أستاذ»، يوم تسعة مايو سنة اثنتَين وتسعين، بكتاب «نقد الخطاب الديني»، في طبعة دار الثقافة الجديدة، وكتاب «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية»، وبحث «إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني» كنصٍّ مكتوب على الآلة الكاتبة على وَشْك النشر، ودراسة باللغة الإنجليزية: «الإنسان الكامل في القرآن»، ومعه مُلخَّص بالعربية نُشِر في مجلة جامعة «أوساكا» في اليابان، وبحث «التأويل في كتاب سيبويه» المنشور في مجلة «ألف»، ومقال «سلطة النص في مواجهة العقل»، ومقالان بمجلة «إبداع»: «مفهوم النص، الدلالة اللغوية»، والثاني «التأويل»، وبحث «مركبة المجاز من يقودها؟ وإلى أين؟» المنشور في مجلة «ألف»، ومقالي عن «ابن عربي» في مجلة «الهلال»، ومقال «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد» ألقيتُه في ندوة «إشكاليات التكوين الاجتماعي»، ومقال مجلة «القاهرة» «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، والمقدمة التي كتبتُها لترجمتي لكتاب البوشيدو. انتهى الطالب أحمد النقيب تحت إشرافي من رسالته للماجستير التي كنت راضيًا عنها، وبدأت تذوب تحيُّزاته مع تطبيقه منهجًا نقديًّا في دراسته، وشُكِّلت لجنة لمناقشة رسالته من أستاذ في اللغويات وآخر في العقيدة. وفي قاعةٍ كبيرة بالجامعة لكي تكفيَ الأعداد الكبيرة التي أتت لحضور المناقشة، امتلأت بالسلفيين بلحاهم الطويلة، وسيداتٍ مُنتقِبات، فعلَّق أحد الأساتذة على المشهد قائلًا لي: «أنت أحضرتنا هنا لنُغتال ولَّا إيه؟!» وكانت زوجتي «ابتهال» الوحيدة من النساء الحاضرات بغير غطاء رأس، وتجلس خلفها زوجة أحمد تحمل طفلهما الرضيع. لاحظت «ابتهال» أثناء المناقشة احتياجها لتُرضِع وليدها، فأخذتها إلى أحد المكاتب.

٩

اشتدَّ الاحتقان في المجتمع المصري، وتفاقَم بوصول عمليات العنف الإرهابي لشوارع القاهرة، فسلكَت السُّلطة طريقَين؛ طريق التفاوض مع الجماعات الدينية المسلحة بين مجلس شورى جماعة الجهاد، داخل السجن بقيادة عبُّود الزُّمر، وكبار ضُباط مباحث أمن الدولة، لكنَّ السُّلطة اتَّجهت أيضًا إلى تجنيد المُثقَّفين في معركتها ضد الإرهاب والتطرف بدعوة من «أسامة الباز»، مستشار الرئيس، لمجموعة من المُثقَّفين والكُتاب والمفكرين الذين اشتهروا بروح المعارضة والنقد. وفي هذا السياق حدثت عملية إحلال رؤساء تحرير جُدُد لمجلات وزارة الثقافة، بهدف استيعاب رموز المعارضة الثقافية في العهدَين السابقين لمُثقَّفين تعرَّضوا للاضطهاد بدرجات في العهد السابق، وكانوا شديدي النقد للمُثقَّفين الذين تعاوَنوا مع نظام «السادات» بدعوى التغيير من الداخل؛ فها هم أنفسهم تتغير وجهة نظرهم حين بدَت لهم مخاطر الإرهاب بمدينة القاهرة. حركة سريعة للمُثقَّف من أجل إطفاء الحريق الذي يكاد يلتهم السلطة؛ فليس لدى المثقف وقت لإنجاز صيغته التنويرية من خلال تحليل واعٍ ونقد خلَّاق، بل نُهلِّل للتنوير المُعلَّب سابق التجهيز ونرفع أعلامه وشعاراته. وهذا التحرك لا يختلف في بنيته عما يفعله النقيض السلفي، حتى إن «جابر عصفور» بدأ يكتب: «من التنوير إلى الإظلام، ولماذا ينتكس التنوير؟!» في مجلة «إبداع». ما تفعله السلطة مجرد تَوجُّه نفعي للخروج من أزمتها. وها هو ود. «مصطفى هدَّارة» يُرسِل رسالة لرئيس الجمهورية كبلاغٍ في رؤساء تحرير المجلات الثقافية، ونشرَتها مجلة «إبداع» عدد أبريل اثنين وتسعين.

بينما يخرج الكاتب «فرج فودة» من مكتبه بمدينة نصر السادسة مساء الثامن من يونيو بصحبة ابنه وصديق، وقد فتح عليهم النارَ عُضوان بالجماعة الإسلامية يركبان دراجةً بخارية ليُقتل «فرج فودة». لقد استهدف الإرهاب المفكرين أيضًا. عكفتُ على دراسة فكر النهضة في القرنَين الماضيين في بحث نُشِر بمجلة «القاهرة» أكتوبر اثنين وتسعين، بعنوان «مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق». لقد قامت معادلة النهضة عندنا على محاولة التوفيق بين التراث العربي الإسلامي، والذي تم ضمُّه وتوحيده بجوهر الإسلام، وبين التراث الأوروبي الغربي، والذي تم تركيزه في الاكتشافات العلمية وثمارها التكنولوجية؛ فأصبح الإسلام مَرجعًا لتقبُّل الوافد الغربي، ولعِب التراث الغربي دور المِعيار لسلامة فهم الإسلام ومشروعية تأويله؛ ﻓ «رفاعة الطهطاوي» (١٢١٤ﻫ/١٨٠١م–١۲٨٩ﻫ/١٨٧۳م) كان مشغولًا بالتصالح مع أوروبا التي كانت في وقته بمثابة الخصم المُتفوق علينا، وليست بعدُ العدوَّ المُستعمِر، لكن التعارض بدأ يتبلور مع انكشاف الوجه الاستعماري للاحتلال الأوروبي.

ومع التعارض كانت الحاجة إلى التوفيق بين الطرَفَين، والذي تم بالتفتيش داخل التراث عن مُبررات لقَبولِ ما هو صالح من مُنتَجات الغرب العقلية والفكرية والاجتماعية والسياسية. وهذا ما قام به «جمال الدين الأفغاني» (١۲٥۲ﻫ/١٨٣٨م–١٣١٣ﻫ/١٨٩٧م) و«محمد عبده» (١۲٦٤ﻫ/١٨٤٩م–١٣٢١ﻫ/١٩٠٥م) بالبحث عن النافع من تراثنا الذي يمكن أن يلتقيَ مع النافع في نتاج الحضارة الأوروبية، وإن كان مفهوم النافع اتَّسع قليلًا من منافع مادية إلى منافع فكرية وعقلية، لكن ظلَّ مبدأ المنفعة هو المُسيطِر، مع ازدواجية النظر إلى الغرب كقوة احتلال، وأوروبا القرن الثامن عشر، وعصر الأنوار؛ فوقع العقل العربي بين من يَنشُدون الاندراج في سياق الثقافة الأوروبية ناظرين إلى أوروبا عصر الأنوار، وبين من يَنشُدون الانسلاخ عن الشيطان الأوروبي الغربي، مُحتمين بالهُويَّة الإسلامية ناظرين إلى أوروبا الاستعمارية المُتأهِّبة بجيوشها وأساطيلها لابتلاع العالم الإسلامي عامة، والعربي بصفةٍ خاصة.

ازدادت الازدواجية تعقيدًا؛ لأن التراث الإسلاميَّ العقلاني المُؤهَّل للتواصل مع أوروبا عصر الأنوار هو التراث الاعتزالي، وتراث «ابن رشد» على المستوى اللاهوتي والفلسفي، و«الرازي» و«ابن الهيثم»؛ فهو تراثٌ مُهمَّش في ثقافتنا. من هنا نفهم التردد عند «محمد عبده» بين أخذه بمفهوم الأشاعرة عن التوحيد، وجاوره بمفهوم العدل عند المعتزلة، والذي يُتيح تفسير السببية التي يقوم عليها العلم التجريبي الحديث، وتردده في مسألة قِدم القرآن وخلقه؛ المفهوم الذي حُذِف في الطبعة الثانية من كتابه «رسالة التوحيد» نتيجةً للتردد بين مفاهيم الأشاعرة والمعتزلة. ونُلاحِظ التردد في منهجية «طه حسين» (١٣٠٥ﻫ/١٨٨٩م–١۳٢٩ﻫ/١٩٧٣م)؛ فالقراءة المُتعمِّقة لكتابه «في الشعر الجاهلي» تكشف تجاورًا بين منهجَين لم يتم التركيب بينهما؛ منهج الشك عند «ديكارت»، ومنهج علماء الحديث في نقد الرواية كما يتمثل في نقد «محمد بن سلَّام الجُمحي» للشعر (١٣٩ﻫ/٧٦٥م–٢۳۲ﻫ/٨٦١م)، لكن التناقض الحقيقي في منهج «طه حسين» تجده في مسألة اعتبار القرآن مرجعًا تاريخيًّا للحياة الجاهلية وإنكار نفس المرجعية بالنسبة لقصص الأنبياء. وحدثت عنده انتقالة لمعادلة النهضة قليلًا عن جيل «محمد عبده»، حيث أصبح الغرب عند «طه» أداةً منهجية لتحليل التراث وفهمه ونقده.

الدافع النفعي المباشر حول عملية التوفيق بين طرفَي معادلة النهضة إلى عملية تلفيق؛ فقد احتفظ كلٌّ من الطرفَين بتمايزهما، بحيث إذا أمكن إسقاط أحد طرفَي المعادلة، احتفظ الطرف الآخر بكل قوته وجبروته، وهذا ما نلمسه الآن من الانحسار بين التبعية الكاملة للغرب اقتصاديًّا وسياسيًّا وفكريًّا بالشروط الاستعمارية، وبين السلفية الرجعية الكاملة؛ فالتبعية تُفضي إلى الديكتاتورية والاستغلال ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة، وتُفضي السلفية إلى نفس النتيجة لكن باسم الدين والتراث في مجال تحقيق الهوية الخاصة؛ فحين يتبنَّى السياسي مشروعًا فكريًّا ويطلب من المفكر معاونته في تحقيقه على أرض الواقع، فيُبرِّر المفكر الغايات النفعية المباشرة للسياسي في الحالة الأولى، ويُبرِّر السياسي الوسائل والغايات في الحالة الثانية؛ فإن هذه هي آفة النهضة؛ لأن المشروع الفكريَّ وُلِد في رحم المشروع السياسي، «فعجز المفكر عن قطع الحبل السُّرِّي الواصل بين إنتاجه الفكري وممارسة السياسة — سواء كان في صفوف المؤيدين أو المعارضين — جعل عين الممارسة الفكرية على اليومي والآني والمباشر، ولم تتحرك داخل حدود الفكري الجوهري والعلمي إلا قليلًا.» ولهذه التلفيقية في تاريخنا القديم أمدٌ بعيد.

وسواء تحدَّثنا عن معادلة النهضة في بُعدها السياسي من «محمد علي» إلى «جمال عبد الناصر»، أو بُعدها الفكري من «رفاعة الطهطاوي» إلى «حسن حنفي»، فهي عمليةٌ نخبوية تستبعد الجماهير استبعادًا تامًّا من المشاركة. ولا سبيل إلا بالخروج من حكم النُّخب العسكرية أو القبلية أو الطائفية المُستنِدة إلى حقوق الوراثة المُرتكِزة على مبدأي القوة والقهر؛ وذلك بالديمقراطية بمعناها الشامل، ديمقراطية العقل، وديمقراطية الحياة، بحق البشر المُتساوي في جني ثمار الناتج القومي، وديمقراطية السياسة بحق تداول السلطة والمشاركة فيها عبر المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية. إن وصاية المُثقَّف والسياسي تنتهي كلتاهما إلى نتيجةٍ واحدة؛ الديكتاتورية السياسية المُطلَقة من جهة، وكهنوتية الفكر من جهةٍ أخرى؛ فالوصاية تُفضي إلى تثبيت الوعي الناقص وتأييده.

١٠

نشرَت مجلة «أدب ونقد» في نوفمبر اثنين وتسعين مقالي «قراءة التراث في كتابات أحمد صادق سعد»، و«أحمد» كاقتصادي قام بقراءة كتاب «الخراج» ﻟ «أبي يوسف» (١١۳ﻫ/٧۳٨م–١٨۲ﻫ/٨٠٩م) تلميذ «أبي حنيفة»، وقراءة «أحمد» تُمثِّل تيَّار القراءة الواعية للتراث بوصفه استجابةً لظروفٍ تاريخية موضوعية لم تَعُد قائمة، خلافًا للمنهج التقليدي الذي يعتمد التراث إطارًا مرجعيًّا شاملًا يتحول معه الخطاب إلى ترديد مقولات وعظية إرشادية؛ فالتوصُّل إلى أن الإنتاج والموارد في مجتمع العصر العباسي — عصر «أبي يوسف» — كانت وقفًا على الطبقة الحاكمة والسلطات الاقتصادية مركزةً في يد الخليفة. و«أبو يوسف» بعكس أستاذه «أبي حنيفة» تبنَّى أيديولوجية السلطة، فاختفى من فِكره مفهوم التطور الاقتصادي ودور السوق، لكن دراسة «أحمد صادق سعد» لم تستطع تفسير كثير من الظواهر الاقتصادية في مجتمع «أبي يوسف».

عدتُ إلى دراسة آليات الخطاب الديني المعاصر من خلال الدراسة التي قدَّمتُها في مؤتمر «النص والسياق» بكلية آداب القاهرة في أكتوبر سنة تسعين، ونُشِرت الدراسة بمجلة «القاهرة» في يناير ثلاثة وتسعين، والذي يأخذ من تأويل نصوص القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف آليةً من أهم آلياته على الإطلاق في طرح مفاهيمه وأفكاره؛ فالتأويل المُنتِج لدلالة النصوص يتطلب اكتشاف المعاني بتحليل مستويات السياق المختلفة. والخطاب الديني يتجاهل بعض هذه المستويات إن لم يتجاهلها جميعًا؛ من أجل بحثه عن دلالةٍ مُحدَّدة مُسبَّقًا، فهل قُدسية مصدر النصوص الدينية يجعلها لا تخضع لنفس قوانين التكوين والبناء للنصوص غير الدينية، طبعًا دون أن يتطابقا؟ ﻓ «عبد القاهر الجرجاني» (ت: ٤٧۱ﻫ/۱۱٠٧م) وصل في دراسته لقضية إعجاز القرآن إلى أن دراسة الشعر والنصوص الأدبية عامة، واكتشاف قوانين تشكيلها، وكيفية إنتاجها للدلالة، مدخلٌ ضروري لا غِنى عنه لدراسة النصوص الدينية. وإن كان «عبد القاهر» قد وقف في اكتشاف القوانين عند حدود الجملة أو قوانين النَّظم، فأنا أستلهم مَغزى إنجازه بالنسبة لهمومنا المعاصرة. في الدراسات اللغوية الحديثة، حيث المُرسِل والمُستقبِل يجمعهما نظامٌ لغوي مشترك مستقل وموجود قبلهما، المُرسِل يستخدم هذا النظام بطريقة فيُنتِج نصًّا، والمُستقبِل له إطارٌ تفسيري يقوم من خلاله تقييم الرسالة، فهل يمكن فهم النصوص الدينية — القرآن خاصةً — خارج السياق الثقافي المعرفي للوعي العربي في القرن السابع؟

المستوى الثاني: السياق الخارجي؛ سياق التخاطب، العلاقة بين المُرسِل والمُستقبِل؛ فإذا كان التركيز في النص على المُرسِل، فإنه يكون نصًّا أقرب للترجمة الذاتية، وإن كان التركيز على المُستقبِل يصبح نصًّا أقرب للتعليمي، وإذا تم التركيز على شفرة النص يكون أقرب للنص الأدبي.

المستوى الثالث: الداخلي. وقد توقَّف القدماء في علم المناسبة بين الآيات والسور عند حدود اكتشاف علاقات اجتهادية ذهنية أو لغوية. والقرآن ليس نصًّا مُوحَّدًا، بل منظومة من النصوص. الجانب الثاني هو سياق الخطاب أو القول؛ فللقصِّ سياق، الأمر/النهي، سياق الترغيب والترهيب، سياق الوعد والوعيد، سياق الجدل والسِّجال، أو سياق التهديد والإنذار، وسياق الوصف، سواءٌ وصف مشاهد الطبيعة أو وصف الجنة والنار، وسياق العقائد والتشريعات.

المستوى الرابع: السياق اللغوي. ولا يقف عند حدود الملفوظ وحده أو دلالة الفحوى، بل يتَّسع ليشمل دائرة الصمت والمسكوت عنه في بنية الخطاب.

المستوى الخامس: سياق القراءة التي هي في جوهرها عملية فك شفرة وليست مجرد سياق إضافي خارجي للنص؛ فالنص لا تتحقق نصيته دون القراءة، من هنا يكتسب القارئ الضمني المُتخيل في بنية النص ومشروعيته.

فمثلًا، قضية الحاكمية في الخطاب الديني المعاصر في تأويل آيات سورة المائدة ٤٤، ٤٥، ٤٧: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون * … الظالمون … الفاسقون. فالسياق يفرض النظر إلى الآيات من ٤۱–٥٠؛ فهي تُمثِّل وحدةً سرديةً واحدةً دون اجتزاء. الدلالة الثانية من دلالات إهدار السياق هو عملية التوسيع الدلالي لصيغة الفعل «يحكم»، بحيث يدل على المفهوم السياسي الحديث للحكم المرتبط بالدولة الحديثة، في حين أن كلمة «حكم»، بمعنى الفصل بين الخصوم في مشكلةٍ خلافية جزئية، وهناك أيضًا تجاهل أسباب النزول، وهو سياقُ خلافٍ حدث بين اليهود نتيجة التزييف والفساد والانحراف؛ مما ألجأ البعض منهم إلى الاحتكام إلى النبي، والنص يُخيِّر النبي بين أن يحكم بينهم أو يُعرِض عنهم ويُهمِلهم كما في الآية ٤۲. إهدار السياق يُحوِّل النصوص الدينية بالتركيز على جانب المتكلم إلى مرجعيةٍ شاملة للحياة، وتصبح كل مجالات الخبرة الإنسانية فاقدةً المشروعية، وتتحوَّل كل صراعاتنا ومعاركنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى معارك دينية نخوضها على أرض تأويل النصوص. وهذا يُزيِّف الوعي. إن ترسيخ مفهوم الشمولية عن طريق قراءة كل تطورات الوعي الإنساني تُولِّد نوعًا من القناعة بامتلاك كتابنا المُقدَّس لكل ما وصل إليه الإنسان، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، مما يُرسِّخ سلطة الماضي وهيمنته على الحاضر؛ وبذلك يرسخ مفهوم الحاكمية، وهي الصياغة الحديثة لمبدأ شمولية النصوص.

أقامت مؤسسة «الهلال» احتفاليةً كبيرة بمناسبة مئوية مجلتها بدار الأوبرا في الرابع عشر من سبتمبر اثنين وتسعين. وفي المسرح الصغير كانت جلسة «الإسلام والعصر» التي أدارها د. «أحمد هيكل» وزير الثقافة الأسبق، وكان البحث فيها للمستشار «طارق البشري»، ألقَت البحث نيابةً عنه الصحفية د. «سلوى أبو سعدة»، وكانت بعنوان «الإسلام والعصر ملامح فكرية وتاريخية»، جاء فيها أن الإسلام هو أحكام الله المُنزَّلة، ونصوصه ليست تاريخية. أما الفقه الإسلامي فهو اجتهادات البشر، وهي قابلة للصواب والخطأ. فعلَّقتُ وعبَّرتُ عن اختلافي مع كثير من الكُتاب الإسلاميين؛ أن النصوص الدينية لا تاريخية، وأكَّدتُ على تاريخيتها وعلى إنسانية الوحي، ورفضت الربط بين العلمانية والإلحاد، وقلت إن ورقة المستشار «البشري» تُهدِر إشكالية النهضة و«تُسبِّب صدامًا بين العقل الإسلامي والمجتمع»، وإن الإسلام أحد عناصر تراث هذا المجتمع، وليس كل تراثه. فأثنى د. أحمد هيكل على منهجي في التناول. وطبعت طبعةً من كتابي «نقد الخطاب الديني» عن دار المنتخب العربي، في بيروت بلبنان، وسعت دار سينا لنشر طبعة أخرى منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤