زفاف لادياس لبهرام

تركنا لادياس شغلًا لوالدها الملك بعد شغل، وهمًّا بفؤاده الرقيق بعد هَم، وإن كان الطبيب الخاص قد اجتهد في التخفيف عليه، حتى أقنعه أن الأميرة ليست مهتلسة العقل؛ بل هي كما يقول الأمير بهرام، مضطربة الوجدان من شدة ما قاست في أسر اللصوص.

إلا أن مقالة الطبيب لم تصدق ولا أغنت من حقيقة الحال شيئًا، فإن هذيان الفتاة كان يزداد من اللحظة إلى الأخرى، وكان اختلال الشعور، يظهر عليها كل الظهور، وعلى الخصوص كلما وقعت عينها على الأمير بهرام، أو دخلت معه في كلام؛ إذ تتذكر حينئذٍ حقيقة الحوادث وتشتاق رؤية منقذها، فلا تجد في بهرام منه إلا مشابه طفيفة، لا تأسو جراحها ولا تبل صداها.

وكان الملك يرى ذلك على فتاته فتزداد آلام فؤاده، ويود في نفسه لو كانت هلكت من أول الأمر، ولم ترد إليه كما هي الآن، جسم ولا روح، وروح ولا حياة، وحياة ولا شعور.

ولهذا كانت لا تمر ساعة حتى يدخل عليها، أو يأمر بها فتخرج إليه، فيمتحنها فيجدها في كل ما تقول، وتفعل كما كانت قبل الاختفاء وأعقل، إلا في أمر واحد وهو الاعتراف للأمير بهرام بمنته عليها بالإنقاذ.

أما بهرام فقد خشي من أول يوم ظهور صاحب الحق بغتة، فيعطي حماس كنزه الذي وجده، ولا يعطي هو إلا الفضيحة والعار، فعمد إلى حيلة مِن أحسن ما يُتخذ في مثل هذه الأحوال؛ ذلك أنه أوعز في اليوم الثاني إلى الطبيب الخاص بصوت رنين الذهب الفارسي، أن يشير على الملك بتزويج الأميرة في الحال، لعل الألفة إذا انعقدت بينها وبين خطيبها بصفة فعلية؛ تخرج أعصابها من أسر الأوهام.

فتوجه الطبيب توًّا إلى الملك واستأذن عليه، ثم بذل له النصيحة مزخرفةً مقبولة، فلم يكن من الملك عندئذٍ وهو في موقف الغريق إلا أن أبقى الطبيب في حضرته، ثم أمر بمجلس الشورى الأعلى للمملكة فانعقد للحين.

فلما تكاملت هيئة المجلس أشار بوليقراط لطبيبه أن يتكلم، فقام فألقى على الملأ خطابه، شرح فيها الداء ووصف الدواء ملحًّا في طلب الزواج ووجوب تعجيله، حتى أقنع المجلس كل الإقناع، فقرر قبولَ إشارته بالإجماع، ثم ضرب اليوم الخامس من وصول الأمير والأميرة إلى العاصمة، موعدًا للاحتفال بعقد النكاح في الهيكل الأعظم.

وما كاد المجلس ينفضُّ حتى صدرت الإشارةُ السلطانية، لكل ذي شأن بين رجال المملكة بالعمل الذي يرسم له في مثل هذه الظروف ويفرض عليه.

وانقضى اليومان الباقيان في تهيئة معدات القران، وترتيب حفلات المهرجان، حتى إذا كان صبح اليوم الخامس يوم العقد لبهرام على لادياس، تحرك موكب الزفاف بالعروسين حاشدًا فاخرًا رهيبًا، أولُهُ في أرحاب القصر السلطاني وآخره في ساحة الهيكل الأعظم.

ثم وصلت المركبة العالية فاستقبلها على أبواب الهيكل الملك بوليقراط، وكان قد سبقها إليه يُحيط به الكهنة العظام وسائر وجوه الدولة الفخام، وهنالك نزل العروسان يختالان في أبهى الحلل، يغيران بزينتهما الشمس في رونق الضحى، فمشيا يجتازان سور الهيكل وطرقاته، وهي كأنها بيوت النمل من زحمة الشعب عليها.

وكان الملك قد أمر في مساء الليلة التي أسفر صبحها عن يوم القران السعيد، بالإفراج عن المساجين فخرجوا مئات يؤدون شكر هذه المنة بالدعاء لجلالته في الهيكل وخارج الهيكل، ويتيمنون بطلعة من هي السبب في هذه المزحمة الكبرى.

حتى إذا بلغت الحفلةُ تمامها، وأخذت الرسوم فيها نظامها، ولم يبق إلا صدور الإشارة السلطانية للكهنة بالشروع في العمل، لم يدر الناس إلا بصوت جمهوري مسمع قد خرج من بعض جهات الهيكل، فتفزع الجمع والتفت الملك ومن حوله، فحين آنس صاحبُ الصوت منهم ذلك قام يتراءى لهم بكل عيانه.

ثم قال: أنا الساموسي كلكاس، أشهد أمام الآلهة والناس، وأعلم أن الشهادة دين، وأن ليس على الآلهة يمين، وأن كتمان الشهادة، جبن وبلادة، وجرم كجرم الكذب وزيادة، فيا أيها الناس لا تغتصبوا حُقُوق الغير، ولا تنالوا السوي بضير، وأدُّوا لكلٍّ أمانته، ورُدُّوا إلى كل بضاعته.

وقال الناس: تكلمْ أيها الرجل. قل … أوجز … أَدِّ الشهادة.

قال كلكاس: أيها الناس إن العجلة مذمومة، وإن عواقب التسرُّع مشئومة، فأمهلوني أخبركم اليقين، وآتكم بالعجب بعد حين.

قال الناس: هذا مجنونٌ … هذا مهتلس العقل … خذوه … أخرجوه.

وكانت الأميرةُ لما ذكر اسم كلكاس عَرَتْها هزةٌ لم تكن بالعهود، وتحنت على أبيها فطلبت منه أن يستمع مقالةَ الرجل إلى آخرها، وأن يعلي محل شهادته، فحين برز الجُند إلى كلكاس ليخرجوه من الهيكل، أشار لهم الملك أن يكفوا، ثم أمر بالرجل فقدم بين يديه.

وعندئذٍ حققته الأميرة وعرفه الأمير كذلك فاضطربا، وبَدَتْ على الأولى علامات الدهشة والأمل، وعلى الثاني دلائلُ الحيرة والارتباك.

فسأل الملك كلكاس قائلًا: من الرجل، وما عملك، وما تلك الشهادة؟

قال كلكاس: عبد جلالتكم الساموسي كلكاس خادم الأمير بيروس.

قال الملك: بيروس؟ وكيف أفلتَّ من حبالة الحكومة يا خائن؟

قال كلكاس: لأنفعك في مثل هذا اليوم يا مولاي.

قال الملك: وأين نفعك؟ … هات … أَدِّ الشهادة، وحذار من الكذب.

قال كلكاس: أعلم يا مولاي أَنَّ هذا الأمير ليس هو منقذ الأميرة، كما كذب عليك ويكذب الآن على الآلهة.

قال الأمير بهرام: أنت الكاذب لا أنا أيها السوقة النذل.

قال كلكاس: السوقة النذل تعرفه مولاتي الأميرة، فأنا أترك لها الكلام.

قالت الأميرة: بل تكلم أنت يا كلكاس، فما عليك من باس.

قال كلكاس: ولكن منقذ الأميرة الحقيقي هو البطلُ حماس، الجهنمي حماس، المارد حماس، إني لا أذكرُهُ يا مولاي إلا وترتعد فرائصي وأكاد أذوب في ثيابي رعبًا.

قال الملك: حماس؟ إذن أنت يا لادياس عاقلة ونحن المجانين، اسمع لما يقول كلكاس يا أورستان.

قال أورستان: إني أكاد أُجن دهشًا يا مولاي، وأتمنى على الآلهة أن يكون هذا الحديث صدقًا.

وفي هذه الأثناء أقبل رجلٌ مِنْ أقصى الهيكل يخترق الجمع حتى إذا اقترب من الملك وأورستان، دخل في حديثهما مندفعًا فقال: وأنا يا مولاي عبدك الساموسي مندراس، أزكي شهادة كلكاس.

قال الملك: ومن أنت أيضًا؟

قال مندراس: أحد أصحاب بيروس يا مولاي والوحيد الباقي منهم، اضطررت أنا وصاحبان لي من العصابة إلى النجاة يوم الموقعة على زورق مثقوب لبعض الصيادين، فنزل رفيقاي في الطريق مفضلين المسير برًّا إلى بلادهما، وبقيتُ أنا وحدي في الزورق إلى أن أسرني بحارة الملك، فزُججت في السجن، فلبثتُ فيه أيامًا ثم أخذت بنصيب من عفو الملك بالأمس عن المسجونين.

قال الملك: وهل تعرف هذا الأمير؟

وأشار إلى بهرام، فدنا الرجلُ من الأمير وحَقَّقَهُ، ثم عاد، فقال: هذا أولُ عهدي برؤيته يا مولاي.

قال الملك: ولكنه يزعمُ أنه منقذُ الأميرة.

قال الرجل: أسأل الآلهة ألا يسلطوا عليه منقذها الحقيقي فوا رأسك لو شهد هذا الناعم أهوال ذلك اليوم، لشاب قبل أوان المشيب.

وبينما الرجلُ في الكلام سُمعت ضجةٌ عظيمةٌ خارج الهيكل كادتْ تقلقل دعائمه، ثم تلا هذه الضجة زحامٌ شديدٌ على أبواب الهيكل، فأرسل الملك من يأتيه بخبر ذلك، فاندفع الرسول يشق عباب ذلك الجمع الحاشد، ولكنه ما بلغ الباب خارجًا حتى لقيه عليه داخلًا رجل غائب الرأس في أكاليل الغار، كأنه القمر المنير بِشْرًا وجمالًا، أو الأسد الفتيُّ مهابة وجلالًا، فتنحى الرسول حتى تجرد حماس عن سلاحه وكان الناس قد انشقوا نصفين وانقسموا صفين، فتمهد الممر للبطل المصري فقصد نحو بهرام لا يلوي على أحد سواه، حتى إذا صار منه وجهًا لوجه صاح يقول له: هل تم العقد بعد أيها السوقة النذل؟

قال كلكاس: لقد قلتها له قبلك فلم يصدقني يا سيدي حماس، ولكن ليطمئن قلبك فقد حلت دون تمامه، ولولا ذلك لجئت في الزمن الأخير.

وكانت لادياس قد عرفت حبيبَها من أول نظرة، فلا تسل عن فرحها به وشدة سكرها من فرط السرور، ولكنها تركت كلمة الفصل في الموقف لوالدها الملك.

وكان أورستان قد عرف حماس أيضًا بمجرد النظر إليه، فهمس في أذن الملك بذلك، ثم دار بينهما حديثٌ قصيرٌ كانت نتيجتُهُ أن أورستان تقدم حتى استقبل الأميرة، وخاطبها بصوت يُسمع الملأ، فقال: باسم مولاي الملك أسألك يا مولاتي الأميرة: هل هذا منقذك حماس؟

الأميرة: نعم هو بعينه.

قال أورستان: وهل ترضين أن يكون قرينك الكريم.

قالت الأميرة: بعد مشيئة جلالة الملك.

قال أورستان: كذلك شاء الملك فتقدموا أيها الكهنةُ العظام، وأَدُّوا عملكم بيُمن وسلام.

قال بهرام: ولكني أيها الوزير لا أزال على دعواي بإنقاذ الأميرة، وإني أنا نجيتها من الغم لا هذا الرجل، وقد وعدني الملكُ بالقران فلا يفكه من وعده إلا قرار القضاء، إن كان في البلاد شرائعُ ولها قُضاة.

فحين سمع الملك والشعب هذه العبارة حاروا ودهشوا، وتحولتْ أبصارُهُم إلى حماس ينظرون ما يكون من جوابه، فالتفت الفتى إلى مُنازعه وقال: البلاد أيها الأمير عامرة بعدل الملك ملآنة من قضاته العادلين، ولكن مسائل الشرف والشهامة يفصل فيها بطريق الشرف والشهامة، فإن كان ولا بد فإن السيف بيننا وهو خير الحاكمين.

قال بهرام: وأنا قابل حكمه.

قال حماس: إذن فاخرج بنا خارج الهيكل، وهناك تعطي السعادة من تشاء وتمنع من تشاء.

فاستحسن الجميع عمل حماس هذا، وخرج الرجلان توًّا يتبعُهُما نفرٌ مِن ضباط الملك، وخلق كثير من نُظَّار الحروب وعشاق المعارك، وبقي الملك والأميرة وسائر وجوه المملكة في الهيكل ينتظرون المبارزة.

المبارزة

لا يجول في نفس القارئ عند سماع هذا اللفظ ما كان يجول في أنفُس الساموسيين؛ إذ هم في الهيكل ينظرون ويسمعون، من أن القتال لا بد أن يسفر عن مصرع بهرام، وانتصار حماس عليه لأول وهلة، وحال الصدمة الأُولى. وهذا لأنه لم يعهد في بهرام أنه بطل شديد وكمي صنديد، وأن الذي جعل فيه مشابه خلقية من حماس قد خلقه كذلك على مثاله في ثبات الجأش وشدة البأس؛ بحيث لا يستخف بشأنه، ولا ينزل به كثيرًا عن قرنه، والآن نصف المبارزة فنقول: لما صار البطلان خارج الهيكل ولم يعد يؤخذ عليهما حمل السلاح، ومراس النزال والكفاح، اتفقا على أن يجعلا ميدان الهيكل ساحة الملتقى لقربه من محفل الزفاف.

فحين بلغاه اختارا السلاح لا مصريًّا ولا فارسيًّا ولكن يونانيًّا؛ ليكون أقرب للعدل وأجلب لتكافؤ القوى، فوقع الاختيار على الحسام البتار، ثم التف حولهما الشهود كالحلقة المفرغة من فرط الزحام، وشدة الاستحكام، وعندئذٍ بدأ القتال فترك حماس لمبارزه الوثبة الأولى فحمل عليه بهرام بحد الحسام حملة يجفل عن مثلها الحمام، فتنحى حماس فضاعت وطأتها الثقيلة على الهواء، ثم وقف الأمير يلتقي ويتقي وحماس أمامه كالنمر المغضب يروح ويجيء ويصول ويجول، وهو لا يتمكن منه في حركة من الحركات، ولا يغني عنه منه الثبات في الوثبات، حتى عِيلَ صبرُهُ لهذا الحال، وظن أنه غيرُ قادرٍ على خصمه، ورأى الناس عليه ذلك؛ فأوجست الأنفس خيفةً ودب الروع في القلوب.

وكان بهرام أول أمره يبارز براز المستقبل المستميت، حتى إذا نظر إلى سواعد الخصم وقد كَلَّتْ ومَلَّتْ، ورأى الخور يأخذ عليه في القتال مأخذًا، عاوده الأمل بالحياة وثاب إليه الرجاءُ بالمستقبل، فازداد قوةً على قوة، واستجمع كالأسد ليعقب الوثبة القاضية.

وفي هذه اللحظة زأرت الأُسُود في قفصها فملأ دوي زئيرها الآفاق، وجرى ذلك في خروق مسامع الفتى فنفر كالليث الجريح، وتَرَنَّمَ يقول بلسان فصيح:

تُعَيِّرُني الأسود بأن قلبي
يخور ولا يساعد ساعديَّا
وقلبي لو رأته الأُسْد يومًا
وجسمي في الثرى لرأته حيَّا
يفوز الخصم بي في كل آن
وكنت بأن أفوز به حريَّا
فما في صدره ما عند صدري
ولا في كفه ما في يديا
ولكن غادة أخذت فؤادي
لينصرني فرديه إليا

وعلى أثر هذا النشيد تصادم البَطَلَان، والتقى الخصمان، فكانت الدائرةُ أول الملتقى على حساميهما؛ إذ تحطما من شدة الصدام.

ثم طارا عن أيديهما إلى فضاءٍ بعيد، وكان سكر القتال قد أعماهما وأصمهما فلم يشعرا بما أصاب السيوف، ولا طلبا سواها لاستئناف الضراب بل اكتفيا بالسواعد، وما هي إلا هنيهة حتى تماسا فتمازجا فاتحدا، وكان حماس في هذه الأثناء قد شبك يديه من خلف ظهر الأمير، فلم يدر الناس إلا بهما كليهما قد سقطا متحدين كما كانا في حال القتال.

وعندئذٍ أقبل الملأ عليهما يحركونهما وهم لا يشكون أنهما فارقا الحياة، أو أن أحدهما بالأقل قد مات، وفي الواقع ما لبث حماس أن خلص جسمه من ذراعي الأمير، وكان كأنه منهما بين ناب الليث والظفر من قوتهما قبل الموت وجمدوها بعده، فنهض الفتى قائمًا بين تهليل الشعب وهتافه، فكان أول ما أتى على إثر هذه الإفاقة أنه جثا عن رأس القتيل ثم قَبَّلَه مِنْ فوق جبينه البارد، وهو يبله بعبراته ويقول: «إلى الحياة الأبدية أيها البطل العظيم، فوا حرمة الآلهة ما وجدت في البشر نظيرك، ولا عهدت في السباع مثيلك.»

العقد

وكان نبأُ انتصار حماس على الأمير بهرام وقَتْله إياه بالساعد لا بالحسام قد نقل إلى الهيكل في حينه، فسُرَّ الملك ومن معه به سرورًا لا مزيد عليه، وأنه لم يعدل عشر معشار ما استحوذ على الأميرة من الفرح والحبور.

فصدرت الإشارة حينئذٍ بعودة البطل حماس إلى الهيكل، فعاد بين خلقٍ لا يُحصى ممن شهدوا الموقعة، وهو يكاد ينوء بأكاليل الغار، ويختفي فيما ينثر عليه أينما سار، من ورق الغصون والأزهار، فلما تراءى شخصه آيبًا قُوبل في الداخل بمثل ما لقي في الخارج من ثناء الناس وإعجابهم، وإشارتهم إليه أينما توجه بالبنان.

حتى إذا اقترب من الملك تقدم بوليقراط فصافحه ثم قبله وهناه على ما نال من عظيم الفوز وباهر الانتصار، وحذا عظماء المملكة بعد ذلك حذو سيدهم فَتَقَدَّمُوا واحدًا بعد واحد فصافحوا بطل اليوم والأمس وهنئوه بما أوتي من صفات الشجاعة الجلائل.

وبعد ذلك أشار الملك إلى الكهنة أن يعملوا عملهم، فاعترضه حماس قائلًا: «إنني أعد مصاهرة الملك من أشرف النعم وأَجَلِّ السعادات، ولكني أتمنى على جلالته أن يجعلني على وعد منها الآن، حتى أستوفي الشرطَ الأولَ من شُرُوط القران، أما العقد فلا يكون إلا في آخر هيكل من الهياكل الأربعين اليونانية، التي سأبنيها لعروسي الفخيمة في بلادي ووطن آبائي وأجدادي.»

فلم يبق في نفس أحدٍ من الحضور تلقاء هذا الشمم العالي شكٌّ أن بين جنبَي الفتى نفس ملك عظيم، وأن رجلًا يكون بهذه الصفات النادرة، وعلى هذا الجانب من شرف الأخلاق، يسير عليه إذا عقد العزم أن يقول ويفعل، إلا أنه لم يَسَعِ الملكَ — على إثر ذلك — إلا قبول إشارة حماس على ما فيها من التطوح في الآمال، والتطرف في الثقة من الحال والمآل، فأجاب صهره بأنه راضٍ بما قضى به، وأن لادياس منذ اليوم وديعة لدى أبيها يطلبها متى شاء.

ثم انفض المجلس وخرج الملك ويده في يد صهره وهُما يتحادثان، ثم صعدا في المركبة السلطانية فسارت بهم تشق عباب الجماهير من أهالي ساموس وهم بين المهابة في حماس وإكبار، حتى بلغت القصر، وهنالك هُيئت له المقاصير اللائقة بمكانه من نسب الملك، وحمل إليها جميع ما تشتهي النفس من دواعي الراحة وفرط النعيم، ثم عرضت من بعد ذلك عليه أن يقيم بها ما شاء، ويرحل عنها متى شاء، فرغب الفتى في أن تكون مدة إقامته في ضيافة الملك شهرًا من الزمان.

كلمة على حماس

كان المصريون قد فقدوا كرامتهم من زمن في أعيُن الأمة الساموسية وسائر الأُمم الأجنبية؛ وذلك بسبب ما اشتهر عن فرعون أبرياس (ملك مصر يومئذٍ) مِن نقضه عهده مع الملك سيدياس ملك يهودا من بلاد فلسطين، وكان قد عاهده أن يمده بجيوشه لحماية مملكته من غارة الملك بختنصر، حتى إذا أغار الأشوريون على بلاد سيدياس لم تكن جنود مصر وصلت لتنجد الضعيف على القوي، فوقع بيت المقدس في قبضة بختنصر، فنشأ عن ذلك فُقدان كرامة المصريين في أعيُن الأمم المعاصرة، بعد أن كانوا إلى ذلك الحين المثال المحتذَى بين الشعوب في كرم العهد ورعاية الذمام.

على أن خيانة الملك هذه كانت أَشَدَّ تأثيرًا في رؤساء الجنود المصرية أنفسهم منها في الأجانب؛ لأنها إنما تَمَسُّ كرامة الجيش مباشرةً وتوصل الأذى إلى شرفه الرفيع.

وكان حماس من ضباط الطراز الأول في الجيش، وله سطور في سجل الانتصارات المصرية، وكان قد اتصل أخيرًا بخدمة الملك الخصوصية، فأُتيح له أن يطلع على نوايا أبرياس، نحو الملك سدياس، وما يضمر من خذلانه والتخلِّي عنه ساعة الشدة، فعارض في ذلك أشد المعارضة، وكان وحده في معية الملك لسان الجيش والمدافع عن شرفه وكرامته، حتى إذا أَخْفَقَ مسعاه لم يجد بدًّا من الاستقالة فاستقال.

رأيت ملكًا بلا استقامة
لا صدق فيه ولا سلامة
فعفت باب الأُمُور حتى
خرجت بالعز والكرامة

وكانت أحاديث لادياس في ذلك الحين قد ملأت الآفاق، وأخذ الشجعان في كل البلاد يشتغلون بأمرها وينظرون إليها عن جوهرة في صدف الأخطار، لا يغوص عليها إلا كل مخاطر عنيد جبار.

وإذا كان حماس في جُملة مَن بلغتهم أوصاف الفتاة، وما يعترض دون اقتناصها من الصعوبات، التي تكاد تكون من المستحيلات، لم يلبث أن زينت له البطالة ركوب هذا المسلك الوعر، والتماس المزيد من الشهرة في اصطياد عنقاء ساموس، فاشترى لهذه الغاية مركبًا ثم سافر عليها قاصدًا الجزيرة، فالتقى في طريقه بمراكب أورستان، وكان من أمره المعروف بعد ذلك ما كان.

هذه كلمةٌ نُوردُها عن حماس، وهو على أبواب مصر، ليعلم القارئ كيف كانت صفات الفتى، وهو في عنفوان صباه، وما كان عليه من قوة العزيمة، وثُبُوت الإرادة وشدة الإقدام، إلا أَنَّ المدةَ التي ارتاح إلى أن يُقيمها في قصر الملك ضيفًا كريمًا على بوليقراط وأهل بيته ورجال حاشيته، كان من شأنها أن تحدث تَغَيُّرًا عظيمًا في أخلاقه وأطواره، لا بد تَظهر نتيجتُهُ في مستقبل الأيام، فَإِنَّ التمدُّن اليوناني وهو أدبيٌّ محضٌ كان أجمع لشمل اللذات، وأوعى لصنوف الطيبات، وأسمى بالقوى العقلية لعلى الدرجات، من الحضارة المصرية التي هي بعكس الأُولى محض مادية، لم توف قسطها من الفُنُون الجميلة، ولم يرزَق أصحابها هبة الفكر الجليلة.

فكان حماس من قصر الملك في معرضٍ جامعٍ لأسمى مظاهر تَمَدُّن اليونان القديم، وأبهى مجالي عزهم والنعيم؛ حيث التفت فوجد حوله عقولًا في درجة عالية، وأفكارًا في منزلةٍ عظمى، ولغةً مملوءة من الحياة قادرةً على الغايات، وفنونًا جاوزتْ في الجمال حد الجلال؛ من نقشٍ وتصويرٍ وغناءٍ وموسيقى وشعرٍ وخطابة، إلى غير ذلك مما هو الصبغة الخاصة بالمدنية اليونانية القديمة، فلا غرو أن يكون للفتى من ذلك كله خير مدرسة متممة لما هو عليه من الأخلاق المصرية القويمة.

حتى إذا أوشك الشهر ينقضي، ولم يبق إلا أن يستعد حماس للسفر عائدًا إلى بلاده، أمر الملك بثلاث من السفن السلطانية، فهيئت ركابًا له تحمله إلى حيث يريد الذهاب.

ولما كان يوم الرحيل ركب في واحدة منها، بين خلقٍ لا يُحصى من الشعب الساموسي خاصة، مشيعين ضيفهم العالي بالقُلُوب والأبصار، ثم تحركت الفلكُ تشق به العباب وتغالب التيار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤