مقدمة محرِّر السلسلة
في هذا الكتاب الرابع من سلسلة «نقاط تحوُّل في التاريخ القديم»، يواصِل إريك إتش كلاين القصةَ التي رواها في الكتاب الأول. ففي كتابه «١١٧٧ق.م: عام انهيار الحضارة» (٢٠١٤، طبعة منقَّحة ٢٠٢١)، روى القصة الرائعة لانهيار حضارات العصر البرونزي في مكانٍ تلوَ الآخَر في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأدنى. لقد كان عام ١١٧٧ نقطةَ تحوُّل، كما أوضح، ولكنْ ماذا حدث بعد ذلك؟ في كتابه الذي بين يدَيك، «ما بعد ١١٧٧ق.م: نجاة الحضارات»، يوجِّه ذكاءه الاستقصائي نحوَ هذا السؤال. وهي قصة رائعة حقًّا.
يسعى كلاين في هذا الكتاب وراء هدفٍ كبير، وهو يسعى إلى تحقيقه بقوةٍ وشغف. فهو يتناول أحد الموضوعات الأساسية في مجال دراسة التاريخ؛ وهو صعود الحضارات وسقوطها. ولكنَّه يفعل ذلك من خلال اتباع نهجٍ جديد؛ فهو لا يسعى إلى تفسير الصعود والسقوط، بل يسعى إلى تفسير السقوط والنهوض. كيف تتصدَّى المجتمعات للانهيار أو التهديد بالانهيار؟ لماذا يستمر بعضها في حين تنهار مجتمعات أخرى؟ ما الذي يجعل بعض الحضارات مرنةً حين نجِد حضاراتٍ أخرى هشَّة؟ للإجابة على هذه الأسئلة، يشرع كلاين في مسحٍ شامل للمجتمعات القديمة من اليونان إلى بلاد الرافدين.
في سردٍ نثري واضح للغاية ومُفعم بالذكاء، يقدِّم كلاين في كتاب «ما بعد ١١٧٧ق.م.» مزيجًا رائعًا من علم الآثار والتاريخ وعلم المناخ والنظرية الاجتماعية. يتناول الكتاب مجموعةً كبيرةً ومتنوعةً من الحضارات: الآشوريين والبابليين والكنعانيين والمصريين واليونانيين والحيثيين والإسرائيليين والفينيقيين. إنه يفعل ذلك بأسلوبٍ بارع، لا يستطيع سوى قِلَّة من العلماء أن تُضاهيه في نِطاقِه. يستعين كلاين بمعرفته الواسعة بالآثار ليقرب القارئ شخصيًّا من القِطع الأثرية والمواقع، ومن النقوش والمسلَّات إلى السيوف، ومن المعابد إلى المقابر. هناك لحظات درامية، من بينها طعنةُ سكين في رقبة أحد الملوك الفراعنة، واكتشاف عظامٍ ما قد تُمثِّل امرأةً تم التضحية بها في قبرِ مُحارب. وتزيِّن صفحاتِ الكتاب مجموعةٌ من الشخصيات، من ملوك وفاتحين قُدَماء إلى قرونٍ من العلماء الذين ينخرطون في معركةٍ أكثر تحضرًا، وإن لم تكن أقلَّ حماسة، حول التاريخ ودوراته.
ويتوصَّل كلاين إلى استنتاجٍ مُثير للاهتمام، مفادُه أنَّ القرون التي أعقبَت انهيار العصر البرونزي؛ لم تكن «عصرًا مُظلمًا» كما تقول الكتب الدراسية. بل إنها في واقع الأمر تمثِّل فترةً من الإبداع والابتكار. فكان محو الأمية بين الجماهير، واستخدام الأدوات والأسلحة الحديدية، واختراع صك العملات، وظهور الدويلة-المدينة اليونانية من بين الأحداث الثورية التي شهدها ذلك العصر. ويُدرك المُتخصِّصون في تلك الفترة هذا، ولكنَّ الرسالة لم تصِل إلى عامة الناس بعدُ. لذا، يقول لنا كلاين هنا إننا كفانا حديثًا عن العصر المُظلِم؛ وعلينا ببساطةٍ أن نُطلق على هذه الفترة تسمية العصر الحديدي.
وهذه نتيجة مُبشِّرة، وخلاصةٌ مُرحَّبٌ بها؛ لأنَّ كتاب «ما بعد ١١٧٧ق.م.» ليس كتابًا أكاديميًّا فحسب. فهو يركِّز على موضوع يُخاطبنا اليوم. ففي عصرٍ يتَّسم بالابتكار ويتقدَّم بوتيرةٍ سريعة وسلسلةٍ من الأحداث المُزعِجة في جميع أنحاء العالَم — وباء، وحرب، وحرائق غابات، وذكاء اصطناعي — لا يوجَد وقتٌ أفضل من هذا للتأمُّل في كيفية تعامُل أسلافنا (أو فشلهم في التعامُل) مع التغيير والكوارث.