تمهيد

مرحبًا بكم في العصر الحديدي
بعد أن زحف المحاربون الدُّوريون الشرِسون من الشمال بقوةٍ كاسحة حامِلين أسلحةً لامعةً من الحديد الحاد، تمكنوا من وضْعِ نهايةٍ سريعة للحضارة الميسينية بُعَيد عام ١٢٠٠ قبل الميلاد. وغرقت اليونان في أول عصر مُظلم يراه العالَم. ووفقًا للمؤرخ اليوناني ثوسيديديس، فقد حدَثَ ذلك بعد ثمانين عامًا فقط من حرب طروادة.1
تبنَّى علماء الآثار والمؤرخون الأوائل الذين عملوا في اليونان الحديثة مفهوم «الغزو الدُّوري». ووفقًا لسيناريوهاتهم، فقَد جلَبَ الغزاة معهم أنواعًا جديدة من المشابك والدبابيس المُزخرَفة، والمدافن، والفخار، والأهم من كل ذلك، سيوفًا مصنوعةً من الحديد.2 وأصبحت هذه القصة جزءًا من الرواية الراسخة في الكتب المدرسية عن اليونان القديمة، ولا تزال تظهر على نحوٍ بارز في العديد من المؤلَّفات، ومن ذلك أحْدَث طبعة من «موسوعة كولومبيا الإلكترونية»، التي تنصُّ على ما يلي: «استمرت الإمبراطورية التجارية الميسينية والتأثير الثقافي اللاحق من عام ١٤٠٠ إلى عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، عندما أدَّى غزو الدوريين إلى فترة من الانحدار لليونان.»3

ومع ذلك، فمِن المحتمَل أن هذا لم يحدث قَط.

•••

جرى التشكيك في وجود الغزو الدُّوري منذ فترةٍ طويلة، وتحديدًا في عام ١٩٦٦، من علماء مثل ريس كاربنتر من كليَّة برين ماور، ولا يزال موضع تشكُّك حتى اليوم. ولقد وُصِف هذا الوضع بأنه «وضعٌ مُحير لغزوٍ دون غزاة»، و«سراب علمي»، و«وضع استثنائي ومُتناقض، لا توجَد فيه أيُّ أمارةٍ على وجود غزاة معادين». ولقد عبَّر جوزيف تينتر، الباحث البارز في مجال انهيار الحضارات، عن هذا الوضع بطريقةٍ لطيفة، قائلًا: «ببساطةٍ شديدة … لقد ترك الدوريون أثرًا أثريًّا ضئيلًا لدرجةٍ تبعث على الفضول»، في حين قال البروفيسور جريجوري ناجي، المدير السابق لمركز الدراسات الهيلينية بجامعة هارفارد، إنه «ليس هناك حاجةٌ إلى افتراض وجود «غزوٍ دوري» … هذا بافتراض أن الدوريين كانوا في الواقع موجودين بالفعل «هناك» في بيلوبونيز، كركيزةٍ سكانية.»4
في الواقع، لا يتطلَّب أيٌّ من «الأدلة» المذكورة أعلاه وصولَ شعبٍ جديد لتفسير وجوده، ومن المعروف الآن أن بعض ما يُسمَّى بالابتكارات كان قد بدأ بالفعل في العصر البرونزي، ومن بين ذلك سيوف ناوي الثاني وأبازيم قوس الكمان. ولقد ظهرَت ابتكارات أخرى، مثل إتقان تكنولوجيا صناعة الحديد، بعد تدمير القصور، وليس قبل ذلك أو في الوقت نفسه، كما سنرى أدناه. وعلاوةً على ذلك، استمرَّت صناعة الفخَّار على الطراز الميسيني مدةَ قرنٍ ونصف آخَر بعد أن بدأت الأمور في الانهيار، حتى منتصف القرن الحادي عشر قبل الميلاد.5
وهناك أيضًا أدلةٌ مهمة على الاستمرارية خلال هذه الفترة، على الرغم من الفشل المفاجئ والكامل للأنظمة السياسية والاقتصادية التي كانت قائمةً في البَر الرئيسي لليونان خلال العصر البرونزي. على سبيل المثال، اقترح الاختصاصيون اللغويون أن بعض سِمات اللهجة الدُّورية يمكن اكتشافها بالفعل في لُغة النصوص المكتوبة ﺑ «النظام الخطِّي بي» التي استخدمها الميسينيون، وهي صيغةٌ قديمة من اللغة اليونانية. وعليه، فربما ببساطةٍ كانت مجموعات مختلفة من الناطقين باليونانية نجَت من الانهيار العظيم؛ قد تحدثت باللهجات المُختلفة، وليس غزاة قادمون من أماكن أبعد.6
وعلاوةً على ذلك، لا يوجَد تدفُّق كبير للسكان الجُدد. الواقع أن أعمال المسح الأثري قد أشارت إلى العكس تمامًا؛ فقَدْ حدَثَ انخفاضٌ حادٌّ في عدد السكان على البر الرئيسي لليونان بعد الانهيار مباشرةً. وحاليًّا تُعتَبر التقديرات الأولية، التي أشارت إلى انخفاض عدد السكان بنسبةٍ تتراوح بين ٧٥ و٩٠ في المائة من القرن الثالث عشر إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد، مرتفعةً بعضَ الشيء، ولكنَّ التقييمات الحالية تتراوح بين ٤٠ و٦٠ في المائة، فيما يتعلَّق بالانخفاض؛ حيث انخفض عدد السكان، المُقدَّر بنحو ٦٠٠ ألف نَسمة قُرب نهاية العصر البرونزي، إلى نحو ٣٣٠ ألف نَسمة في العصر الحديدي المبكِّر، على البَر الرئيسي لليونان.7
ولكنْ، لم يمُتِ الجميع؛ فقد انتقل بعض الناجين ببساطة إلى مناطق جديدة في اليونان كانت غير مأهولة بالسكان من قبل، ولكنها ربما كانت تُعتبَر حينئذٍ أماكن أكثرَ أمانًا للعيش فيها من الأماكن التي كانوا فيها من قبل. وربما انتقل آخرون إلى أماكن أبعد، فهاجروا شرقًا إلى مناطق مثل قبرص أو كنعان، أو غربًا إلى إيطاليا أو سردينيا أو صقلية.8

ببساطة، على الرغم من أكثر من قرن من الحفريات حتى هذه النقطة، لم يتمَّ الكشف عن أيَّ دليلٍ قاطع على الغزو الدُّوري. إنه أسطورة أو تقليد أدبي ابتكرَه كُتَّاب يونانيون قدماء ليفسِّروا، جزئيًّا، كيف ظهرَت عدَّة لهجات مختلفة من اللغة اليونانية المنطوقة والمكتوبة خلال الألفية الأُولى قبل الميلاد، لكنه أمرٌ غير مدعوم بأي دليلٍ مادي.

•••

إذا كان العلماء قد نحَّوا جانبًا فكرةَ الغزو الدُّوري وتجاهلوها واعتبروها غير جديرة بالاعتبار لعدة عقود، فمِنَ المنطقي أن يتساءل المرء: لماذا لا تزال تُناقَش؟ الحقيقة هي أنه على الرغم من تشكُّك العلماء في الغزو الدُّوري، فإن الإيمان به خارج مجتمع الأكاديميين الصغير لا يزال قائمًا. تقول سارة موريس، وهي أستاذة في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، متحدِّثةً عن «شبح الدوريين المُستمر»، إنه «بقدْرِ ما يُنْكِر المُتخصِّصون المحترفون في التاريخ واللغة وعلم الآثار الآن وجود الدوريين؛ فإنهم لا يزالون راسخين … في الكتب المدرسية والقاعات الدراسية. بعبارةٍ أخرى، لم تتوافق بعدُ الممارسات التعليمية — من المناهج الدراسية، إلى الكتب المدرسية ومواد الدورات الدراسية — مع أحدث ما جاء به العلماء».9
وبدلًا من مفهوم «الغزو الدُّوري»، يُفضِّل المُتخصِّصون في العصر الحديدي الآن مناقشةَ فكرة أن بعض الهجرات ربما حدثَت داخل اليونان نفسها، حيث انتقل الناجون من الانهيار إلى مناطق جديدة، وبعيدًا عن قِلاع العصر البرونزي.10 وقد يبدو الأمر، حرفيًّا، مجردَ مسألةِ دلالات، ولكنَّ هناك اختلافًا شاسعًا بين نوعَي الحركة — أي: الهجرات في مقابل الغزوات — فالأُولى عادةٌ سلمية، وتمتد أحيانًا على مدى فتراتٍ زمنية كبيرة، في حين أن الثانية تُشير إلى حدثٍ عرَضي عنيف وأكثر فجائية؛ ينطوي على دخول غرباء إلى المنطقة. والواقع أنَّ مثل هذه الهجرة للسكان الناجين شائعةٌ، من حيث ما يحدُث بعد انهيار نظامٍ ما، كما حدث في أواخر العصر البرونزي. وحدَثَ مثالٌ جيد آخَر في جنوب غرب أمريكا حوالي عام ١٣٠٠ ميلاديًّا، حيث هاجَرَ السكان بأعدادٍ كبيرة من منطقة فور كورنرز جنوبًا إلى وادي ريو جراندي بعد أزمةٍ مناخية شديدة.11

(١) هل كان حقًّا عصرًا مُظلمًا؟

إذا كان من الممكن الآن إثباتُ أن تفكير العلماء السابق حول الغزو الدُّوري لليونان غيرُ صحيح، فما الذي قد نكون مُخطئين فيه أيضًا في وصف القرون التي أعقبَت مباشرةً انهيار العصر البرونزي، والتي أطلق عليها العلماء منذ فترةٍ طويلة «عصر الظلام الأول»؟ في الواقع، نحتاج إلى السؤال: هل كان حقًّا عصرًا مظلمًا؟ هل هذا وصفٌ دقيق لمَا كانت عليه الحياة في جميع أنحاء المنطقة، في أعقاب الانهيار، خاصة إذا لم يكُن الغزو الدُّوري قد حدث قَط؟

قبل ثلاثة عقود، وصف نيكولاس كولدستريم، من جامعة لندن، هذه الفترة في اليونان بأنها «عصر أُمِّية تامة، وفي معظم مناطق بحر إيجه، عصر فقر، وسوء اتصالات، وعزلة عن العالَم الخارجي.» ورغم أن عالِم الآثار ويلي كولسون، الذي كان يكتب في الوقت نفسه تقريبًا، وافق ذلك الحين على أن التصوُّر العام هو أن هذه الحقبة كانت «مُتدنِّية في جودة الفن والحياة … زمن بدائي وفقير»؛ فإننا لا نملك تعريفًا جامعًا جيدًا يمكن أن يتَّفِق عليه جميع العلماء.12
يُعَرِّف قاموس «ميريام وبستر» عصر الظلام بأنه «الوقت الذي تمرُّ فيه الحضارة بانحدار». ويُورد مِثالَين؛ الأول: «الفترة التاريخية الأوروبية من حوالي ٤٧٦ ميلادية إلى حوالي ١٠٠٠ ميلادية» (وهو ليس موضوع الاهتمام هنا)، والثاني: «الفترة التاريخية اليونانية التي امتدَّت من ثلاثة إلى أربعة قرون من حوالي ١١٠٠ قبل الميلاد» (وهو محورُ تركيزي هنا). وهذا يُضيف تعريفًا عامًّا يتضمَّن «حالة ركود أو انحدار.»13
في الواقع، يمكن استخدام المعايير التي استخدمها عالِم الآثار بجامعة كامبريدج كولين رينفرو في عام ١٩٧٩ لتحديد انهيار النظام كمعايير لتحديد عصر الظلام (الذي قال رينفرو إنه يعقب دائمًا انهيار النظام)، من منظورٍ مجتمعي صارم. وتشمل هذه المعايير انهيارَ التنظيم الإداري المركزي، واختفاء الطبقة النخبوية التقليدية، وانهيار الاقتصاد المركزي، والتحرُّك الاستيطاني، وانخفاض عدد السكان. وإلى هذه المعايير، كأعراضٍ إضافية لعصرٍ مُظلم تحديدًا، أودُّ أن أُضيف فقدان الكتابة، وتوقُّف تشييد العمارة الضخمة.14
جدول ١: التغيرات المجتمعية الدالَّة على انهيار النظام وعصر الظلام اللاحق.
المظهر أثناء/بعد الانهيار
الاقتصاد المركزي ينهار
الإدارة المركزية تنهار
النخب التقليدية تختفي
المستوطنات تنتقل/تتحرك
عدد السكان ينخفض
الكتابة تُفقَد
العمارة الرائعة تختفي
يلاحِظ جوزيف تينتر أن الانهيار المنهجي لحضارةٍ أو مجتمعٍ ما يُعتقَد عادةً أنه يؤدي إلى نهاية «السماتِ الفنية والأدبية للحضارة، ومِظلةِ الخدمة والحماية التي توفِّرها الإدارة.» ونتيجةً لهذا، كما يقول تينتر: «ينخفض تدفُّق المعلومات، ويقلُّ التبادُل التجاري بين الناس ويقلُّ تفاعُلهم، وينخفض التنسيق بشكلٍ عام بين الأفراد والجماعات. وينخفض النشاط الاقتصادي … حين تَشْهد الفنون والأدب انحدارًا كميًّا كبيرًا يؤدي غالبًا إلى عصرٍ مُظلِم. وتميل المعدلات السكانية إلى الانخفاض؛ ولأولئك الذين بقوا، ينكمش العالَم المعروف.» يُنظَر إلى كلِّ هذا عادةً باعتباره حدثًا مخيفًا، أو «جنة ضائعة حقًّا». ولكن وفقًا لتينتر، فإن الانهيار الاجتماعي السياسي حدثٌ طبيعي للغاية، بل ومِن المتوقَّع حدوثه في المسار العام لحياة أغلب المجتمعات المُعقدة.15
ولعلَّه ليس من المُستغرَب إذن أنَّ الشاعر اليوناني هسيود في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد رَثَى حالَه؛ لأنه كان يعيش خلالَ مِثل هذه الفترة. وكتب: «ليتني لم أكُن بين رجال الجيل الخامس، بل ليتني كنتُ قد مِتُّ قبل ذلك أو وُلِدتُ بعده. فالآن أصبحنا حقًّا عِرقًا من الحديد، والرجال لا يرتاحون مُطلقًا من العمل والحزن في النهار، ومن الهلاك في الليل؛ حيث تُنزِل الآلهة عليهم متاعب شديدة.»16 ومنه، إلى جانب الاستخدام المتزايد للمعدن الجديد، حصلنا على لقب «العصر الحديدي» لهذه الفترة، كبديلٍ لتسمية «عصر الظلام» التي تُستخدَم كثيرًا.
فهل كان هذا إذن عصرًا مظلمًا؟ أم ينبغي لنا أن ننظر إلى هذا الأمر الآن باعتباره شيئًا آخر، وخاصة إذا كنَّا لا ننظر إلى المجتمعات فحسب، بل أيضًا إلى الأفراد الذين شكَّلوا هذه المجتمعات؟ وكما تساءل جيمس سكوت من جامعة ييل مؤخرًا: ««ظلام» لمَن؟ وفي أيِّ الجوانب؟»17

هذا هو السؤال الذي تتمحور حوله استكشافاتنا. كيف كانت حال أولئك الذين عاشوا في أعقاب الانهيار، وكيف كانت الحال مختلفةً في كل منطقةٍ من المناطق المُتضرِّرة؟ وما الذي تطلَّبه الأمر للبقاء على قيد الحياة؟ هذا ما سوف نبحثه في الفصول العديدة القادمة، ونحن نتتبَّع كلًّا من المجتمعات والمناطق — أحيانًا بشكلٍ سطحي؛ لكنْ غالبًا بتفصيلٍ كبير، حسبما تسمح الأدلة — من خلال التقلُّبات والمُنعطَفات التي شهدَتها من القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن قبل الميلاد قبل أن ننتقل إلى تحليلاتنا. لذا، هيا نبدأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥